الباب السادس: عندي عليك أنك تركت محبتك الأولى (رؤ 2: 4)
في رسائل السيد المسح إلى ملائكة الكنائس السبع، قال:
(اكتب إلى ملاك كنيسة أفسس... أنا عارف أعمالك وتعبك وصبرك... وقد احتملت ولك صبر، وتعب من أجل اسمي ولم تكل. ولك عندي عليك أنك تركت محبتك الأولى. فاذكر من أين سقط وتب...) (رؤ2: 1-5).
عبارة: عندي عليك (تدل على أن الله يعاتب أحباءه).
ولولا أنه يحب ذاك الشخص ما كان يعاتبه... بل كان يحمله إلى مصيره.
وهو هنا في هذا العتاب، يذكر لملاك أفسس أعماله الطيبة، قبل أن يذكر ما يؤاخذه عليه... إن الله يعاتب من كانت له محبة من قبل. ولكنها الآن قلت عن ذي قبل.
لم يذكر له أخطاء معينة، لخصها كلها في عبارة واحدة أنه ترك محبته الأولى...
يكفي أنك لم تعد تحب كما كانت من قبل. وهذه العبارة قد توجه إليك من الله أو من الناس، من بعض أصحابك... (عندي عليك أنك...) أي لي شيء أعاتبك عليه. مثلما قال الرب في العظة على الجبل (إن قدمت قربانك على المذبح، وهناك تذكرت أن لأخيك شيئًا عليك...) (مت5: 23). أي أنه يمسك عليك شيئًا.
العجيب أن عبارة "تركت محبتك الأولى" يقولها الرب لإنسان له مكانة كبيرة جدًا.
إنه لا يقولها لشخص ضائع، أو خاطئ، ولا لإنسان عادي، وإنما لملاك كنيسة، لشخص كائن في يمين الرب، وله جهاد في الكنيسة، وقد احتمل، وله صبر، وقد تعب من أجل أسم الرب ولم يكل، عجيب أن إنسانًا من هذا النوع، محبته تضيع كل هذا يرينا أنه يجب أن نكون حريصين ومدققين، نلاحظ أنفسنا مهما كبرنًا...
ونلاحظ هنا أنه يقول للملاك: اذكر من أين سقطت.
على الرغم من تعبه الكثير من أجل الله، إلا انه يقول له (سقطت... وتب...) شيء عجيب، أن ملاكًا كهذا يحتاج إلى التوبة... ليس معني هذا أنه أرتد!! كلا ولكن مجرد تركه لمحبته الأولى، اعتبر سقوطًا.
عبارة محبتك الأولى، تعني أنه بدأ علاقته مع الله بداية طيبة.
كان له حب، ولكنه لم يستمر. والله هنا لا يدعوه إلى أن يتعلم الحب في حياته، إنما يدعوه أم يرجع إلى المحبة التي كانت له من قبل...
حقًا، كم من إنسان بدًا التوبة بحرارة شديدة جدًا، ولكنه بمرور الوقت فقد حرارته. ويبحث عنها الآن فلا يجدها. أو أنه بدأ الخدمة بغيرة مقدسة للغاية، ثم فترت غيرته شيئًا فشيئًا. في بدء حياته في التوبة، بدأ بانسحاق قلب عجيب، وباتضاع شديد. بل كان يدخل الكنيسة في شعور عميق بعدم الاستحقاق. يقول في نفسه (من أنا حتى أقف مع هؤلاء القديسين؟)... خطاياه القديمة كانت تملأ عينيه بالدموع وتملأ قلبه بمشاعر المذلة والانسحاق. وبمرور الوقت صار من التائبين، ثم من الخدام، ثم من القادة الذين يديرون الكنيسة. ويبحث عن نفسه فلا يجدها. ويسمع الرب يقول له (تركت محبتك الأولى)...
يا ليتك كنت قد احتفظت بمحبتك بمجرد نقط البدء.
هنا نرى عجبًا... المفروض أن الإنسان الذي يبدأ بداية طيبة، يظل ينمو ويزداد، حتى يصل إلى الكمال الممكن... أما أن إنسانًا يبدأ حسنًا ثم يقل ويقل، وينحدر إلى أسفل. حتى يقول له الرب أنك تركت محبتك الأولى... فإن هذا الأمر يدعو إلى الأسى حقًا...
قد تُعَاتِب شخصًا على ترك محبته الأولى، فيقول لك: كيف هذا؟ هل أنا أخطأت في حقك في أي شيء؟! وأنت تجيب: المسألة ليست مسألة خطأ، وإنما مشاعر...
إنها أمور تحس... وليس مسألة نقاش واقتناعات.
إنه يسلم عليه، ولكن ليس بالحرارة السابقة... يقابله بعبارة طيبة، ولكن ليس بالفرح القديم. لا يفرح بالوجود معه... لا يسعى إلى لقياه... ليس له نفس الاشتياق القديم، ولا اللهفة القديمة. حقًا إنه لا يخطئ إليه ولكن في نفس الوقت، ليس له مشاعر الحب. لا يظهر الحب في لهجته، ولا في صوته، ولا في عينيه، ولا في ملامحه، ولا في ألفاظه، ولا في حرارته. هل تظنون أن الحب يقرأ ويكتب ويقال؟ إنه يحس...
هذا بالنسبة إلى الناس، وبالنسبة إلى علاقتك بالله أيضًا، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى.
أنت تصلي، ولكن بدون اشتياق إلى الله. لست في صلاتك مثل داود الذي يقول (باسمك ارفع نفسي إليك يا الله، كما تشتاق الأرض العطشانة إلى الماء) (محبوب هو اسمك يا رب، فهو طول النهار تلاوتي). تصلي ولكن لا حرارة في الكلام، ولا اشتياق، ولا رغبة في البقاء مع الله.
لك الصلاة، ولكن بدون صلة!! كلام...! مجرد كلام!
وكما قال الرب (هذا الشعب يكرمني بشفتيه، أما قلبه فمبتعد عني بعيدًا) وتقف تصلي، وأثناء صلاتك يقول لك الله (عندي عليك أنك تركت محبتك الأولى). تقول له: هل أنا يا رب قصَّرت في صلاتي؟ أو قلَّلت مزاميري أو تأملاتي أو قراءاتي؟ جدولي الروحي منتظم... يقول لك إنك تصلي، ولكن ليس بمحبتك الأولى...
نقطة أخرى في المحبة، وهي الثقة...
صديق يقول لك: في محبتك الأولى كنت تثق بي كل الثقة. حاليًا تشك في المحبة في التصرفات، تشك في علاقتي بك... قديمًا لا تحتمل كلمة رديئة تقال على الآن أنت تحتمل! كنت لو تسمع كلامًا ضدي، بكل قوة تدافع... أما الآن فإنك تسمع ولا تدافع، أو تطلب باقي الكلام وتصدق وتشك. وجائز أن تنضم للمقاومين.
مع الله أيضًا، يبدأ الإنسان حياته بثقة كاملة.
يثق به، وبمواعيده، وبمحبته، ورعايته ومعاملاته، وصلاح مشيئته. حتى إن أصابته التجارب، يقول (المر الذي يختاره الرب لي خير من الشهد الذي اختاره لنفسي)... حاليًا، إذا لم تعد المحبة كما كانت من قبل، يبدأ العتاب: لماذا يا رب تعاملني هذه المعاملة؟ لماذا أصلي ولا تستجيب؟ لماذا نذرت نذرًا ولم يتحقق ما طلبته؟ لماذا رفعت قداسًا ولم أحصل على نتيجة؟ لماذا لم أحصل على الوظيفة، أو على الترقية؟ لماذا سمحت أنني أرسب؟
لم يبق سوى أن تعاتب الله، وتقول له: عندي عليك، أنك تركت محبتك الأولى...!!
ويجيب الله: أنت الذي فقدت الثقة، أو فقدت الإيمان...
نقطة أخرى: في محبتك الأولى، لم تكن تفضل شيئًا ولا أحد على الله. كانت الأولوية له.
هو الأول وقبل كل شيء، بل هو كل شيء... أما الآن فتقول له: إن أنا وجدت وقتًا يا رب، فإني أصلي وأقرأ وأتأمل... وإن وجدت عندي قوة وصحة، حينئذ سأصوم واخدم... وإن بقي عندي فائض بعد سداد كل احتياجاتي ومطالبي، ففي تلك الحالة سأدفع العشور أو البكور. وإلا فعذري في كل ذلك معي، ويصبح الله في أخر القائمة!! ما الذي حدث؟ أين أفضلية الله وأولويته في ترتيب اهتماماتك؟!
لقد تركت محبتك الأولى. تغيرت عن وضعك القديم. ينظر إليك الله يقول: ليس هذا الإنسان الذي كنت اعرفه منذ سنوات.
إنك إنسان آخر لست نفس الشخص الذي كان يحبني ويفرح بي. لقد تغيرت وتركت محبتك الأولى. مع أنك تعبت من أجل اسمي ولم تكل. لكنك تتعب، من غير حب مثل إنسان له نشاط هائل في خدمة الكنيسة واجتماعاتها، وفي كل لجانها ولكن أين وجود الله في قلبه؟ لا وجود ولا حس.
كزوجة لا تشعر بمحبة زوجها نحوها، ومع ذلك هو دائم العمل، ودائم الغياب وإن عاتبته، يقول لها أنا أكد وأتعب من أجلك. لأصرف على البيت. وهي تسأل عن العاطفة فلا تجدها... صحيح تعبت من أجل اسمي ولم تكل... لك خدمة ولكن بغير حب.
يشبه هذا الوضع، الابن الكبير، في قصة الابن الضال.
لقد قال لأبيه (ها أنا أخدمك سنين هذا عددها، وقط لم أتجاوز وصيتك) (لو15: 29). ومع ذلك لم تكن مشاعره مع أبيه. وكانت مشيئته ضد مشيئة الآب... ورفض دخول البيت، ورفض الاشتراك في فرح أبيه بأخيه، ووصف أباه بالظلم، والبخل (قط تعطني جديًا لأفرح مع أصدقائي... ولما جاء ابنك هذا...) وهكذا كان يشك في محبة الآب...
أحيانًا أشخاص تكون لهم العلاقة الظاهرية، وليس لهم العلاقة القلبية ومشاعرها...
كصديق قديم يقابل صاحبه، ليس حبًا في اللقاء، إنما خوفًا من أن تنقطع العلاقة تمامًا... إذ لم يبق من هذه العلاقة سوى خيط رفيع، لا يريد له أن يقطع... فالمقابلة مجرد رسميات... كشخص يذهب إلى العمل لمجرد أن يوقع بالحضور، ولكن لا رغبة له في العمل. أو آخر يحضر حفله لزميله، لئلا يتأثر أو يعاتبه على عدم الحضور، ولكن بدون شعور...
إنسان يتحرك -حتى في روحياته- بطرية روتينية.
يصلي، يصوم، يقرأ، يتأمل، يحضر إلى الكنيسة، يعترف، يتناول... ولكن أين محبة الله؟ لا وجود لها في كل ممارساته هذه... سلسلة واجبات روحية! يخشى أن يمتنع عنها لئلا يوبخه ضميره ولكنه لا يعملها بحب... تركت محبتك الأولي الاشتياق القديم إلى الله... وكأن الله الذي يقول (يا ابني أعطني قلبك) (أم 23: 26). أين الاشتياق القديم إلى الله... وكأن الله يقول لك: لست أنت الذي كنت أعرفه من قبل...
كنت أعرفك نارًا تتقد. أما الآن فمجرد ماكينة تدور... آلة تدور وتنتج. ويمكن أن تتحرك بالريموت كنترول، دون أن تلجأ إلى روح الله ليحركها...
عذراء النشيد كانت له محبة كبيرة تمثل علاقة الكنيسة أو النفس البشرية بالله. ثم جاء وقت، وقف فيه الله على بابها يقرع ويقول (افتحي لي يا حبيبتي يا حمامتي يا كاملتي. فإن رأسي قد امتلأت من الطل، وقصصي من ندي الليل) (نش5: 3، 3). وللأسف هي تجيب (خلعت ثوبي، فكيف ألبسه؟ غسلت رجلي فكيف أوسخهما)!!
أين المحبة الأولى؟ حاليًا توجد مكانها أعذار...!
حاليًا نعتذر عن صلتنا بالله، ونقدم عوائق وتبريرات. عندما تكون محبتنا لله متقدة، لا نبالي مطلقًا بالعوائق بل ننتصر عليها. ولكن حينما تقل المحبة، تبدأ الأعذار في الظهور.
ونحن شُبَّان في الخدمة، ذهبنا لنفتقد شابًا تخلف فترة طويلة عن اجتماع الشبان، فوجدناه قد وقع في عادة التدخين، وأخذ أحدنا يشرح له أضرار التدخين، وآخر يكلمه عن القدوة الصالحة، وثالث يقنعه بآيات وبراهين. ولكن واحدًا منا كان يتكلم دائمًا بأسلوب روحي، قال له (أريد أن أسألك سؤالًا واحدًا: هل أنت تحب الله كما كنت تحبه من قبل؟!)
حقًا، عندما تقل المحبة: يبدأ الإنسان أن يحتاج إلى الآيات والإقناعات والبراهين...
أيام زمان، كنت تلقي نفسك على الله إلقاءًا، أما الآن فإنك تناقش... كل نصيحة وكل توجيه وكل أمر. تريد أن تقتنع... وربما ترفض الإرشاد كأنه غير مقبول... والحقيقة أنه ليس الإرشاد غير المقبول، وإنما المحبة غير موجودة... حتى الآيات تريد لها تفسيرًا يناسب رغباتك... أما في أيام المحبة الأولى، فلم تكن فقط تطيع كل الأوامر، إنما حتى الإرشاد... حتى مجرد أن تشعر أن هذا التصرف غير مقبول، لا تعمله...
ومع الله، أي شيء تشعر أن الله لا يرضى عنه، ترفضه بغير حادة إلى إقناع...
أنت غير محتاج أن تعرف الحكمة من الوصية، يكفي أنها وصية، قلبك هو الذي يقودك إلى الله. وليست حكمتك البشرية وعقلك البشري...
نقطة أخرى في العلاقة مع الله، وهي المشغوليات:
حينما تقل محبتك لله، تصبح مشغولياتك عذرًا تبرر به بعدك عنه.
أصبحت تنشغل بغيره، أعمالًا أو أشخاصًا... وتفضل هذه المشغوليات عليه والعيب ليس في المشغوليات، إنما في قلة محبتك. إذا لم تكن هكذا قبلًا... ولكن محبتك لله ظلت تقل حتى لم تبق من علاقتك بالله سوى الإيمان... وما يتعلق بهذا الإيمان مجرد رسميات أو شكليات... كإنسان يقابل صاحبه فيقبله.
إنها قبلة، ولكن بغير حب. مجرد مظهر...
كثيرًا ما يحدث في المقابلات وفي الزيارات، وحتى في الكنيسة، نقبل بعضنا بعضًا. ولكن لا تمتزج القبلة بمحبة. إنها قبلة رسمية، وليست قبلة عاطفية.
مثال ذلك -من ناحية أخرى- إنسان يعترف أمام أب الاعتراف، ولكن بغير انسحاق، بغير ندم بغير توبة... أو إنسان يدخل إلى الدير أو إلى الكنيسة، ولكن بغير خشوع... أو إنسان تحت عبارة الأبوة والبنوة التي تربطه بالله، ينسى نفسه... وقد يدخل إلى الكنيسة وكل اهتمامه ليس في صلته بالله، وإنما في مُراعاة النظام بين المُصَلِّين...
وتسأله عن انشغاله فيقول لك (الغيرة المقدسة)... الغيرة يا أخي تكون -قبل النظام- على مدى صلتك بالله.
في بدء الحياة مع الله، كان الإنسان منشغلًا بالله، أما الآن فهو منشغل بخطايا الآخرين... ليست المشكلة هي موضوع الإدانة، بل ترك محبته لله، وأصبح - حتى داخل الكنيسة - ينشغل بالناس.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/love/left.html
تقصير الرابط:
tak.la/fzf2p24