كل إنسان يبحث عن السعادة، ولسعادته مصدر أو مصادر.
أما الشخص الروحي، فسعادته مركزة في الله وحده، هو مصدرها. وكلما سما الإنسان في الروحيات، يصل إلى وضع، يكتفي فيه بالله، فيشبع الله حياته، بحيث لا يحتاج معه إلى أي عزاء عالمي، أو عزاء مادي. ويصير الله بالنسبة إليه هو الكل في الكل.
إحدى الخطايا التي وقع فيها آدم وحواء، أنهما بحثا عن مصدر السعادة خارج الله، فظنا أن السعادة تكون في المعرفة، معرفة الخير والشر، أو تكون في العظمة والكبرياء، فلم يكتفوا بالله...
وهذه طريقة الشيطان، في محاولته أن يتلف نقاوة أي قلب، أن يدخل إليه هدفًا غير الله، أو رغبة أخرى.
وكما قدم لآدم وحواء، الثمرة والمعرفة، قدم للمسيح رغبات أخرى: كل ممالك الأرض وسلطانها، عظمة حمل الملائكة له، الخبز... ولكن المسيح رفضها كلها. كان مكتفيًا بالآب.
إن الرغبات هي اللعبة التي كثيرًا ما يلعب بها الشيطان في محارباته.
فما الذي يفرحك أنت ويسعدك، الله أم رغبات أخرى؟ وهل يمكنك الاكتفاء بالله، أم تضيف إليه شيئًا.
إن القديسين الذي عاشوا في البراري والقفار وشقوق الأرض، في وحدة كاملة، كانت سعادتهم في الله وحده، لا يشعرون بحاجتهم إلى شيء آخر إلى جواره، حقًا إن القلب المرتفع فوق مستوى الرغبات، هو حصن لا ينال.
فإن قَدَّم الشيطان رغبة للإنسان مستقلة عن الله، يبدأ أن يعكر صفو قلبه، ويفقده سلامه، ويحاول أن تحتل الرغبة القلب المخصص لله...
أما أنت فهل هدفك هو الله، أم لك هدف آخر؟
أم أصبح الله بالنسبة إليك وسيلة تحقق أهدافًا أخرى؟
كثيرون لا يرون الله إلا وسيلة توصلهم إلى رغباتهم. حينما يصلون، يقدمون رغبات كثيرة، يطلبون من الله أن يحققها لهم، دون أن يكون الله هو رغبتهم الوحيدة.
متى يصلي الإنسان ويقول: أريدك أنت يا رب، وليس سواك.
كما سبق داود وصلى قائلًا: "طلبت وجهك، ولوجهك يا رب ألتمس. لا تحجب وجهك عني" (مز8:27، 9).
هل هناك هدف في قلبك إلى جوار الله؟ قد جعلته بمحبتك له بديلًا لله؟ هل دخل شيء جديد إلى قلبك
ما مشكلة اليهود بالنسبة إلى المسيح؟
لم يكن المسيح هو هدفهم، إنما كان هو الوسيلة التي توصلهم إلى الحكم والاستقلال وإرجاع إمبراطورية داود وسليمان. مجرد وسيلة تخلصهم من الحكم الأجنبي، لذلك لما رفض المسيح أن يصير ملكًا، خابت آمالهم فيه، وبدأوا يتآمرون على صلبه...
يهوذا عاش مع المسيح، ولكن المسيح لم يكن هدفه، وإنما كانت له رغبات أخرى غير المسيح الذي عاش معه...
أما القديسون الذين كان الرب هو هدفهم، فإنهم استطاعوا أن يتركوا كل شيء من أجله... انظروا إلى بولس الرسول كيف قال "خسرت كل الأشياء وأنا أحسبها نفاية لكي أربح المسيح" (في8:3) وبطرس الرسول في قوله للرب "تركنا كل شيء وتبعناك" (مت27:19)...
إبراهيم أبو الآباء، لأن هدفه كان هو الله وحده، فإنه لم يجد صعوبة في إطاعة أمر الرب لما قال له "أترك أهلك وعشيرتك وبيت أبيك، واذهب إلى الجبل الذي أريك إياه" (تك1:12). ولكن لما دخلت محبة النسل إلى قلب إبراهيم واشتهاها كشهوة، فإنه حينئذ لجأ إلى الطرق البشرية، إلى هاجر (تك3:16، 4) وقطورة (تك1:25).
ولما رآه الله متعلقًا بالنسل، قال له "خذ ابنك وحيدك الذي تحبه نفسك إسحق وقدمه لي محرقة" (تك2:22)... ولكنه لما نجح في هذا الامتحان منحه الرب النسل كنجوم السماء ورمل البحر.
يا ليت كل إنسان يفتش نفسه ليعرف ما الذي يوجد في قلبه إلى جوار الله أو بديلًا عن الله. وهل هذه رغبات أم أهداف. وهل يملك عليها أم تملك عليه.
لوط كان يعيش مع إبراهيم، في حياة الغربة والعبادة، الخيمة والمذبح. ولكن دخلت إلى قلبه رغبة الأرض المعشبة، ليصير له غنم كثير، حينئذ اختار أرض سادوم، وبدأ يفقد روحياته، وأخيرًا خرج من سادوم بلا شيء. وفقد كل شيء اقتناه...
الأرض المعشبة صارت الهدف الأول، وصار الله في المركز الثاني، لذلك خسر كل شيء... العشب، والأغنام، وزوجته وأملاكه وأصهاره...
سليمان الحكيم، دخلت الرغبات إلى قلبه، ومهما اشتهته عيناه لم يمنعه عنهما (جا2: 10)... وأخيرًا كادت تضيعه. ثم افتقده الرب فشعر أن الكل باطل وقبض الريح (جا1)...
إن الله يعطي درسًا للناس كل يوم بذكري الموت...
كلما يموت إنسان، يرون إنه خرج من العالم بلا شيء. ترك كل ما اقتناه، وكل من حوله، وكل ما يحبه. بل ترك العالم كله، ليقف أمام الله... أنطونيوس الشاب الغني - تعلم الدرس من موت أبيه، فهل نتعلم نحن أيضًا كلما نسمع عن موت إنسان...
نتعلَّم أن العالم يبيد وشهوته معه، كما يقول الكتاب (1يو2: 17).
موسى النبي كسر كل رغبات العالم وآماله ومغرياته، حينما ترك قصر فرعون وحسب عار المسيح غِنَى أفضل من كل كنوز فرعون" (عب11: 26). كان الله بالنسبة إليه هو الهدف، وليس الغني والإمارة "لذلك سهل عليه أن يترك كل تلك الأمور العالمية.
إن الشيطان يحرص جدًا أن يجعل للإنسان هدفًا غير الله، حتى في أمور الخدمة والصلاة.
قد تبدأ الخدمة، ويتركك الشيطان تخدم، ولكنه يشترك معك، ويقدم لك نصائحه. وربما باسم الأمانة في الخدمة، يجعلك تنهمك في الخدمة انهماكًا لا يبقى لك فيه وقت للصلاة والتأمل والقراءة الروحية... ثم ما يلبث باسم الغيرة المقدسة، أن يجعلك تنتقد وتدين وتغصب وتثور وتتخاصم مع غيرك وتتحارب... وتكون الشيطان قد وصل إلى غرضه مع تركك في الخدمة... المهم أن الله لم يعد كل شيء بالنسبة إليك.
بدأت الخدمة وسيلة توصل إلى الله، ثم تحولت إلى هدف.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
وفي الصلاة أيضًا نفس الوضع.
قد يصلي إنسان ومن حرارة صلاته، يسبح في تأملات روحية جميلة. ولا يسهل على الشيطان أن يمنعه عن الصلاة. ولكنه يمدح عمق تأملاته، ثم يقنعه بأن هذه التأملات نافعة للخدمة. ومن الخسارة عدم تسجيلها، لئلا تنسى. فإذا به يترك الصلاة، وينشغل بتدوين التأملات. ويترك الله ويهتم بالخدمة وبالمعرفة... وتصبح الخدمة هي الهدف والله فيما بعد!!
إن خطة الشيطان هي أن يقدم لك بدائل عن الله.
وعلى قدر إمكانه يحرص أن تكون البدائل مقبولة منك.
بالنسبة إلى الخاطئ، يقدم له شهوات العالم. وبالنسبة إلى البار، يقدم له إنهماكات الخدمة، ومطالب العمل داخل الكنيسة، حتى ينسبه الله، ونفسه...
الابن الضال، قدم له الشيطان محبة الحرية، والمال، والميراث والتمتع مع أصدقائه في عيش مسرف، أما الابن الأكبر، الذي كان يخدم أباه سنين هذا عددها، ففي انهماك الخدمة، أبعده عن عشرة الآب ومحبته...
الإنسان العاقل يفحص نفسه بين الحين والآخر، ليعرف أين هو سائر... كما كان يفعل القديس أرسانيوس... ويفحص ما هو مركز الله في حياته، وهل هو الكل في الكل، أم قد نسيته النفس وسط المشغوليات...
سعيد هو الإنسان الذي يحتفظ بالله. كالهدف الوحيد في حياته، ويجد لذة في الله، ولا يتخذه وسيلة موصلة لرغباته...
إن الآية التي تقول "يا ابني اعطني قلبك" تكملها الآية التي تقول "تحب الرب إلهك من كل قلبك" (تث6: 5)...
وغلطة الكثيرين، أنهم مع اعترافهم بأن القلب لله، لا يقدمونه كله، إنما يضعون فيه الكثير إلى جوار الله... أنواع محبات تنافس الله... وقد تأتيهم محبة خاطئة في ثوب فضيلة... أو تأتيهم المحاربة بأسلوب تدريجي لا يشعرون به.
احترس من الأهداف الجانبية، في حياتك الروحية:
اهتم بالتقييمات، لأنها تحدد تصرفاتك.
لو جعلت تقييمك للصلاة، أهم من تقييمك للعمل أو الخدمة، لوضعتها في مكانتها اللائقة، واهتمت بممارستها، غير معتذر بالوقت أو المشغوليات. إن مثل هذا الاعتذار، يعني أنك تضع هذه المشغوليات في تقييم أكبر...
وقد تكون (الذات) في المكانة الأولى بالنسبة إلى الإنسان، وحينئذ تقود تصرفاته في طريق خاطئ
حاول أن تُعَدِّل وتُغَيِّر تقييماتك في شتي أمور الحياة.
قد تقول إنك لا تجد وقتًا للصلاة، أو تصلي وأنت سائر في الطريق، ذلك لأن تقييم خشوع الصلاة لم يأخذ مركزه في حياتك... وفي صلاتك...
أما إذا تولى عدو الخير هذا التقييم، فإنه يربك حياتك...
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/god-and-man/nothing-besides-god.html
تقصير الرابط:
tak.la/vx5aqkv