الحياة الروحية معناها أن يكون الله وحده مالئًا كل حياتك. فإن وضعت شيئًا إلى جواره، لا بُد ترتبك روحياتك، وقد يكون أول ما تضعه هو ذاتك!
لما حارَب الشيطان أبوينا الأولين آدم وحواء، ووجد أن الله كل شيء في حياتهما، بدأ فوضع ذاتهما إلى جوار الله، فقال "تصيران مثل الله، عارفين الخير والشر" (تك5:3)، ولما بدأت الذات تظهر وتكبر، أخذ الله يختفي من حياتهما...
الإنسان إذا بدأ يركز على نفسه، فلا يستطيع أبدًا أن يركز على الله. فمن الخير إذن أن يجرده الرب...
هكذا حدث مع أيوب الصديق، حينما ركز على نفسه وقال "حينما كنت أخرج إلى الباب في القرية، وأهيئ في الساحة مجلسي. رآني الغلمان فاختبأوا، والأشياخ قاموا ووقفوا. صوت الشرفاء اختفى، ولصقت ألسنتهم بأحناكهم. لأن الأذن سمعت فطوبتني، والعين رأت فشهدت لي..." (أي 7:29-11). وهكذا أخذت الذات تظهر...!
فبدأ الله يجرد هذا القديس من كل شيء: من المال والأملاك والأولاد والصحة، حتى بقى الله وحده له لأن في هذا كل الخير له. واستطاع أيوب حينئذ أن يقول "بسمع الأذن سمعت عنك، والآن رأتك عيناي" (أي 5:42).
ويونان النبي أيضًا -في إحدى المرات- وقفت ذاته لتحجب الله عنه: أرسله الرب إلى نينوى لينادي عليها بالهلاك. وكان يعلم أن نينوى إذا سمعت نداءه ستتوب ولا تهلك، فتسقط كلمته. لذلك هرب من الرب... ثم اغتاظ حتى الموت لما خلصت المدينة ولولا أن الرب صالحه لضاع بسبب الذات...! (يون4).
كذلك لوط، لما وضع أمامه الغِنَى والأرض المُعْشِبَة، ولم يجعل هدفه الله وحده، حينئذ رضى أن يسكن في سادوم، ويعذب نفسه البارة يومًا بعد يوم (2بط8:2)، حتى فقد كل شيء، وكاد يهلك لولا افتقاد الله له بملاكين يخلصانه...
إن البار لا يضع أهدافًا أخرى إلى جوار الله في قلبه، بل يكون الله هو هدفه الوحيد، يرفض ما عداه.
لقد مضى الشاب الغني حزينًا، لأن محبة المال كانت تكمن في قلبه إلى جوار الله على الرغم من أنه كان يحفظ الوصايا منذ حداثته!
ولكي يبقى الله وحده في قلبك، قال الرب:
"لا يقدر أحد أن يعبد ربين، أو يخدم سيدين".
لذلك نجد قديسًا مثل أبينا إبراهيم، لم يسمح لأية محبة أن تفصله عن محبة الله، حتى المحبة الطبيعية لابنه الوحيد، الذي يحبه، إسحق. فلما صدر له الأمر الإلهي بتقديم هذا الابن محرقة، بكر إبراهيم صباحًا جدًا، وأخذ ابنه مع الحطب والسكين... (تك3:22).
ولكن لعله من الأمور المخزنة، أن نجد بعض الأمور المقدسة، يمكن أن تفصل الإنسان من الله، إذا تحولت إلى هدف بدلًا من الله، وكسرت وصايا الله بسببها؟!
لقد اشتهى أبونا يعقوب شهوة صالحة هي البكورية والبركة. ولكن إذ تحولت هذه الشهوة المقدسة إلى هدف في قلبه، بينما كان يجب أن يكون الله هو الهدف الحقيقي، حينئذ لكي يصل يعقوب إلى هدفه لجأ إلى الكذب والخداع وتضليل أبيه الذي فقد بصره! وفي كل هذا الخداع لم يكن الله أمامه...
مثال ذلك أيضًا، من يفقدون الله بحجة الدفاع عن العقيدة!
وفي سبيل العقيدة، يلجأون إلى الشتائم والقسوة والصراعات الدامية، ويخطئون في القول وفي المشاعر وفي الوسائل. ويمتلئون بالحقد والكراهية نحو مخالفتهم في الإيمان! وفي كل ذلك لا يضعون الله أمامهم، لأن الله محبة. وهكذا فعل الأريوسيون الذين اتهموا القديس أثناسيوس ظلمًا، وتسببوا في نفيه أكثر من مرة!
بل قد يتحول الإيمان عند البعض إلى هدف، وينفصل عن الله!
وقد يكسرون كل وصايا الله، للوصول إلى هذا الهدف!!
ليس الدفاع عن الإيمان خطأ، بل هو فضيلة! ولكن الخطأ هو فقدان الله كهدف، وجعل الدفاع عن العقيدة هدفًا، مع وسيلة خاطئة، تفقد الله خلالها!
من هذا النوع أيضًا، الذين من أجل الله يخدمون، ثم تتحول الخدمة إلى هدف. ينسون في سبيله الله!!
وإذا بالخدمة تتحول إلى ساحة عراك، يتبادل فيها الخدام الاتهامات والخصومات، وتصبح الخدمة مجالًا للعداوة، ويفقد الخدام نقاوة القلب وصفاءه، ذلك لأن الخدمة أصبحت هدفًا منفصلًا عن الله، وعن وصايا الله وعن عشرته!!
ولهذا السبب نجد كثيرًا من الأجواء الدينية غير صافية، فيها الخصام، وفيها الغضب، وفيها الشتائم، وفيها البعد عن الروحيات، وليست هي -كما أرادها الله- صورة له.
ويتحوَّل الدين إلى مذهبية، وتتطاحن المذاهب...!
وفي كل هذا نبحث عن الله فلا نجده، ونبحث عن صورة الله في الإنسان فلا نجدها، لقد اختفى الله كهدف.
لا تظنوا أن الشيطان يعمل فقط في دور الملاهي...؟
بل يمكنه جدًا أن يدخل إلى دور العبادة ويعمل. ويمكنه أن يحفظ آيات الكتاب المقدس ويجادل في اللاهوتيات، ويلبس ملابس علماء الدين، ويقدم صنوفًا من البدع والهرطقات...! ويمكنه بهذا أن يحول المجال الديني إلى شعلة من نار... لخدمته!
وهكذا تصير الخدمة هدفًا، بدلًا من الله، فيخطئ الخادم...
كذلك يمكن أن تتحول الخدمة إلى مجال لظهور الذات.
مَن يكون الأول...؟ ومن يكون الرأس؟ من يدير، ومن يدبر، ورأى من يكون الأفضل...؟ ويمكن أن تصبح الخدمة مجالًا للشهرة، ومجالًا للشعبية، مجالًا للظهور... وفي كل ذلك يبدو أن هدف الخادم قد تحول. فبعد أن كان هدفه هو الله، أصبح هدفه هو (الذات).
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
لذلك عليك أن تفحص نفسك باستمرار:
هل تحوَّل الهدف عندك؟ هل ما يزال الله هو هدفك؟ ما مركز الله في حياتك؟
هل يملأ حياتك؟ أم في علاقتك مع الله، هناك فراغ داخلك تحتاج أن تملأه برغبات أخرى؟ هل الله يشبعك، ومعه لا يعوزك شيء؟ هل أنت شبعان بالله؟ وهل هو بالنسبة إليك كل شيء، أم هو بعض من أهداف ورغبات عديدة في داخلك؟ هل خيرات الله هي التي تسعدك، أم الله ذاته؟
احترس لحياتك. فما أسهل أن يتركك الشيطان تسير في طريق الله، وتصلي وتخدم الله، وتقرأ الكتاب وتعظ وتبشر. ثم يدخل إليك الذات. وإذا بهذه الوسائط المقدسة تتحول إلى أهداف، أو إلى وسائط لإرضاء الذات! ولا يصبح لله وجود حقيقي في حياتك؟!
وإذا بك في مجال العمل الروحي تنظر إلى ذاتك، ماذا أنت؟ وماذا تصير؟ ومتى تصير؟ وكيف، ومَن يعترضك؟ وكيف تقوَى عليه؟ وإذا بكلمة (أنا) تشغل وقتك وفكرك وقلبك! ليتك تقف وتسأل: ما مركز الله في حياتك؟ هل تزال (الأنا) تخفيه؟
هناك من يخدم في الكنيسة من أجل محبته لله، ثم تجرفه المشاغل فلا يجد وقتًا لله. ثم تصبح الخدمة له هي كل شيء، وينسى الله. وحينئذ يجف ويذبل، فاقدًا هدفه!
أما أنت فتمسك بالرب، وارجع إلى محبتك الأولى.
وليصبح الرب محبوبًا في فمك، تغني له في كل يوم أغنية جديدة. ويصبح الرب سبب خفقات قلبك، يكون هو أحلامك بالليل وآمالك بالنهار، بل هو حياتك كلها.
اجلس إذن إلى نفسك، وناقشها، وصحح وضعك...
انظر: هل الله هدفك، أم وسيلة تحقق أهدافك.
هل تصلي إليه لكي يعطيك ما ترغب؟ أم أنه هو كل ما ترغب؟ هل تطلبه ليساعدك كى تحيا حياتك، أم أنه هو حياتك؟ كما قال بولس الرسول "لي الحياة هي المسيح" (في21:1) "أحيا لا أنا بل المسيح يحيا في" (غل20:2).
ما هو الله بالنسبة إليك؟ وماذا كان بالنسبة للقديسين؟
تسأل داود النبي الذي كان رجل قتال وحروب عن سبب قوته في الحروب فيقول "قوتي وتسبحتي هو الرب. وقد صار لي خلاصًا" (مز117).
وتسأل قديسين عن الرب فإذا هو المعلم، وهو الراعي، وهو الطبيب، وهو الرفيق والصديق والمحب، والغاية، والوسيلة، وكل شيء...
هو الذي يُقاتل عنكم وأنتم تصمتون (خر14:14). وهو الذي يتكلم على ألسنتكم حينما تنطقون (مت20:10). وهو الذي يشفع فيكم، وهو الذي يغذيكم. هو الأصل وأنتم الأغصان (يو1:15-3). هو العريس وأنتم العروس (مت1:15، 2). هو الخبز الحي النازل من السماء (يو6)... هو كل شيء لكل أحد.
هذا هو الله في حياتك، إن كنت قد ذقت ونظرت ما أطيب الرب (مز34)، إذ ليس له شبيه بين الآلهة.
إننا لا نؤمن فقط بإله الكتب أو إله السماء، إنما نؤمن بالأكثر بهذا الإله الذي يعيش معنا ليل نهار... الذي يحيا فينا (غل20:2).
"هذا الذي رأيناه وسمعناه ولمسته أيدينا..." (1يو1:1).
نحن لا نعبده لكي يوصلنا إلى النعيم الأبدي، فالله هو وحده نعيمنا الأبدي، هو "ما لم تره عين، ولم تسمع به إذن، وما لم يخطر على قلب بشر" (1كو9:2). ذلك لأن المتعة به في الأبدية لم تراها عين بعد...
هنا أسأل سؤالًا: هل الله داخلك، أم خارجك؟
هل تبحث عنه في الكتب؟ هل تبحث عنه في أمكنة معينة؟ إذن استمع إلى النبوءة، إن قالوا لكم هوذا هو ههنا أو هناك فلا تصدقوا" (مت26:24) إنه في الداخل، في قلبك...
لقد بحث عنه أوغسطينوس في الفلسفة والعلم والكتب، ولم يجده ثم وجده أخيرًا في قلبه، فقال أسفًا "لقد كنت يا رب معي، ولكنني من فرط شقوتي لم أكن معك".
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/god-and-man/gods-center-in-our-lives.html
تقصير الرابط:
tak.la/vvv4vw9