ما أن تولَّت بوليكاريا العرش وتزوجت بمركيان حتى نقضت قرارات مجمع أفسس الثاني الاستئنافي رأسًا على عقب فأعادت جميع الأساقفة النساطرة المنفيين إلى كراسيهم وعلى رأسهم معلمهم ثيؤدوريت أسقف قورش، كما أحضرت جثمان فيلابيانوس من النفي لدفنه في القسطنطينية، ونفت أوطاخى إلى شمال سوريا، وكل هذا أدى إلى استياء أساقفة الشرق من تصرف الإمبراطورة التي انزلقت إلى البدعة النسطورية، ومما زاد من حزن البابا ديوسقورس أن اناطوليوس أسقف القسطنطينية السكندري الجنس وافق الإمبراطورة وقَبِل تصرفاتها وقَبِل طومس لاون. بل وتنكَّر للبابا ديوسقورس وحكم بخطئه مع أوطيخا، وبهذا حصل لاون على كل رغباته فاستراحت نفسه، ورأى أنه لا يوجد داعي بعد لعقد مجمع آخر، ولكن بوليكاريا ومركيان اللذان أرادا القضاء نهائيًا على بابا الإسكندرية التمسا من لاون بأن يتكرَّم ويوافق على عقد اجتماع يرأسه هو.
دعا إليه مركيان في 17/5/451 م. على أن يكون الاجتماع في نيقية في 1/9/451 م.
كان هناك سببين لعقد المجمع، أحدهما سبب ظاهري والآخر سبب خفي.
أ-السبب الظاهري: ادعاء الإمبراطور بضرورة عقد مجمع مسكوني لإقرار الإيمان، وهذا غير صحيح بدليل أن لاون كتب إلى الإمبراطور في 13، 23 ابريل سنة 451 م. يخبره بأن الكنيسة تعيش في سلام واستقرار.
ب-السبب الخفي: الرغبة الشديدة في الخلاص من ديوسقورس بابا الإسكندرية عن طريق مجمع كنسي وليس عن طريق أمر إمبراطوري حتى لا يكون له أنصار في أنحاء الإمبراطورية، وقد تم تناول عدة رسائل بين الإمبراطور مركيان ولاون أسقف روما في هذا الوقت لها مغزى خاص إذ اتفق الاثنان على إدانة بابا الإسكندرية ولا سيما أن البابا ديسقورس كان قد عقد مجمعًا مكانيًا في الإسكندرية بحضور جميع أساقفة مصر، وبعد المناقشات حكم المجمع على لاون بالحرم لأنه يوالي النساطرة ويدافع عن فلابيانوس (القديس العظيم مارمرقس الرسول بين كرسي الإسكندرية وكرسي روما - أمير نصر ص41)، وبذلك تكون نتائج المجمع قد وُضِعت قبل انعقاده، ولهذا السبب اشترط لاون أن يتولى مندوبية رئاسة المجمع فوافقه الإمبراطور.
كان المكان المُقتَرح أولًا من قبل لاون هو أي مدينة في إيطاليا تروق للإمبراطور، ولكن الإمبراطور استخدم حقه التقليدي في تحديد مكان الاجتماع فحدَّد مدينة نيقية للاجتماع، ووجِهت الدعوة باسم مركيان إمبراطور الشرق وفالنتيان إمبراطور الغرب في 23/5/451م، وحشد مركيان مع لاون 630 أسقفًا من بينهم عدد كبير من الموالين لطومس لاون وللنسطورية مثل ثيؤدوريت أسقف قورش ويوسابيوس أسقف دوريلا ودمنوس الإنطاكي. بل أن الإمبراطور مركيان وجه الدعوة لنسطور نفسه ولكنه توفى، وتكوَّن وفد روما في الأسقف "باسكاسينوس" رئيسًا للمجمع يساعده الأسقف "لوسنتيوس" ومعهما الكاهنان "يونيفاس" و"باسيليوس" كاتبًا المجمع ثم انضم "يوليانوس" مُترجِمًا.
اجتمع الأساقفة في نيقية واندهش البابا ديسقورس من حضور الأساقفة النساطرة، وأيضًا من كثرة عدد المدعوين للاجتماع فتساءل " ما الداعي لعقد هذا المجمع الهائل بينما الإيمان لا ينقصه شيء " فقالوا له " الإمبراطور يهدف إلى توضيح الإيمان " فقال "أن الإيمان لفي غاية الكمال لا يعوزه شيء من الإيضاح، وهو مُقرَّر ومُثبَّت من الآباء أمثال أثناسيوس والأنبا كيرلس وغيرهما " فقالوا " لقد مضى الأولون وأصبح كل شيء جديدًا " فقال "وأنا لا أنسخ ما وضعه الأولون... أنى أحافظ ولا أُجدَّد... أنى أحمى ولا أُزيد ولا أُنقص على ما قال به أبى كيرلس، ومن قبله أبي أثناسيوس" (تاريخ الكنيسة والقبطية للقس منسي يوحنا طبعة 1983م ص232).
وكان الإمبراطور مشغولًا في حربه مع البربر فلم يحضر إلى نيقية، فرفض مندوبوا لاون حضور الاجتماع إن لم يحضر الإمبراطور وأرسلوا إليه يلحُّون عليه بالحضور، وأيضًا ألحَّت عليه الإمبراطورة بوليكاريا، ولذلك طلب مركيان حضور الأساقفة إلى خلقيدونية الواقعة على البوسفور بالقرب من القسطنطينية حتى يتمكن من حضور المجمع ولم يقع الاختيار على القسطنطينية لأن الإمبراطور مرقيان كما يقول جالاند أراد أن " يمنع معضدي أوطيخا من التأثير على إجراءات المجمع " (14)، كما طلب منهم أن لا يناقشوا ديسقورس في الأمور اللاهوتية وذلك لعلمه بقوة حجته وغزارة علمه بل أوصاهم أن يكتفوا بالبحث في أمر الأساقفة المحرومين من مجمع أفسس الثاني ومناقشة رسالة لاون، وفعلًا أطاعوا وصية الإمبراطور، وخلال المجمع كله لم يُوجَه سؤال لاهوتي واحد إلى البابا ديسقورس.
تم افتتاح الجلسة الأولى يوم الاثنين الموافق 8 أكتوبر سنة 451 م. في كنيسة القديسة أفومية، وحضر الإمبراطور مركيان وزوجته بوليكاريا افتتاح المجمع وسط الهتاف " أنت حياة العالم " ثم نهض مركيان وألقى خطاب العرش وهو يقصد تقليد الملك قسطنطين في مجمع نيقية، فأوضح أنه يحضر المجمع لحفظ النظام فقط وطلب منهم إزالة الظلم والقضاء على الضلال مراعين تعاليم الرسل والآباء القديسين وما أثبته لاون أسقف روما في رسالته إلى فلابيانوس... انتهى مركيان من خطابه فهتف الحاضرون له وللإمبراطورة، وظهرت النية المُبيَّتة ضد ديسقورس، وقد تم تعيّين وفد إمبراطوري مكوَّن من عشرين شخصًا منهم قضاة وحكام ومسئولين لحفظ النظام والمشاركة فكانوا بمثابة مجلس الوزراء... جلس الإمبراطور والإمبراطورة في وسط الكنيسة على يمينهم البابا ديوسقورس ثم يوبيناليوس أسقف أورشليم فهيراكلاس أسقف كورنثية ثم أساقفة مصر وفلسطين، وعن اليسار جلس اناطوليوس أسقف القسطنطينية ثم وفد روما فمكسيموس أسقف أنطاكية ثم بعض الأساقفة الآخرين (د. أسد رستم كنيسة مدينة الله إنطاكية ح1 ص340 - Hefele 2.665-669- Mansi, 6.563).. استغرق المجمع المدة من 8/10 حتى 1/11/451 م.، وعُقِد خلال هذه الفترة 16 جلسة حيث تركزت الجلسة الأولى والثالثة على الخلاص من ديسقورس أما الثانية والرابعة والخامسة فبحسب ما يقولون أنهم بحثوا الأمور الإيمانية. أما الجلسات من السادسة إلى السادسة عشر فقد ناقشوا فيها أمورًا شخصية.
وما أن التأم المجمع حتى وقف الأسقف الروماني باسكاسينوس مخاطبًا رجال البلاط قائلًا "أن جزيل القداسة أسقف كنيسة روما التي هي رأس كل الكنائس قد أمرنا بأن ديوسقورس لا يليق له أن يجلس في هذا المجمع، فإن قبلتم بأن يبقى هذا فإنه لا يمكن حسب الأوامر التي سلمها لنا بابا روما أن نبقى معه فأصْدِروا الأمر بطرده من المجمع وإلاَّ خرجنا نحن".
سأل القضاة: ما هي التهمة أو الشكوى التي تقدمونها ضده حتى يخرج من المجمع؟
فكرر نائب روما " أنه إن لم يُطرَد نخرج نحن... أننا لا نقبل وجوده... إنه غير منطقي أن يجلس المتهم مع القضاة. بما أن ديسقورس متهمًا خصمًا فيجب أن يجلس في صحن الكنيسة كمتهم وليس كقاضي".
سأل القضاة: "وأي ذنب جَنَى"؟
رد لوسنتيوس: "أنه (أي البابا ديسقورس) قد تولى منصب القضاء وجروء على أن يقود مجمعًا بدون تصريح (موافقة) من الكرسي الرسولي وهذا أمر لم يحدث من قبل ولا يجب أن يحدث " (15) " لقد تجرأ على عقد مجمع بغير ترخيص من أسقف روما" (يقصد مجمع أفسس الثاني).
فقال البابا ديسقورس: أن المجمع عُقِد بأمر الإمبراطور ثيؤدوسيوس، فلم يكن هناك حاجة لاستئذان أسقف روما (كما أن لاون أسقف روما وافق على عقد مجمع أفسس الثاني بدليل أنه أرسل مندوبين عنه).
قال أحد الأساقفة للأسقف الروماني: إن كنت قد جئت مشتكيًا فكيف تجلس قاضيًا؟
ولكي يحفظ البابا ديسقورس السلام ويتفادى حدوث شغب نهض وجلس في صحن الكنيسة كمتهم، فنهض يوسابيوس أسقف دوريلا النسطوري الذي حرمه مجمع أفسس الثاني سنة 449م وطلب قراءة شكواه التي قدمها لهذا المجمع بشأن ديسقورس حيث اتهم البابا ديسقورس بجريمتين كنيستين:
1- أنه أضر بالإيمان لأنه أقرَّ أرثوذكسية أوطيخا في مجمع أفسس الثاني سنة 449م، وقد أستخدم في حكمه الغوغاء والرشوة.
2- أنه حرمه (أي يوسابيوس) مع فلافيان حسن الذكر رغم أنهما لم يحالفا الإيمان.
(V.C. SAMUEL - THE COUNCIL OF CHALCEDON RE - EXAMINED, P. 46)
فقال البابا ديسقورس أنه من الممكن قراءة محاضر جلسات مجمع أفسس الثاني سنة 449م، والتي تشمل قرارات مجمع القسطنطينية المكاني سنة 448 م. الذي أدان وحرم أوطيخا، لكيما يعرف الجميع حقيقة الأحداث، وطلب البابا ديسقورس أن يبحث هذا المجمع توضيح وشرح الإيمان أولًا فرُفِض طلبه... وبدأوا يقرأون أعمال مجمع أفسس، وإذ بثيؤدوريت أسقف قورش الذي حرمه المجمع المسكوني الثالث بأفسس يدخل المجمع بحجة أنه نال الحل من لاون أسقف روما وأن الإمبراطور قد قَبلهُ... فأحدث دخوله ضجة كبيرة.
قال مندوبو روما: إن البابا ديسقورس نقض القوانين الكنسية.
فأجاب البابا ديسقورس: من منا نقض القوانين أنا الذي استجاب لدعوة الإمبراطور ثيؤدوسيوس المطوَّب الذكر بحضور المجمع الأفسسي الإستئنافي، وعدم السماح لثيؤدوريت النسطوري أن يحضر هذا المجمع لأنه لم يتب بعد أن حرمه المجمع المسكوني الثالث، أم أنتم الذين سمحتم لهذا الأسقف النسطوري بأن يجلس بينكم وهو لا يزال محرومًا ومقطوعًا من جسم الكنيسة؟
وهنا هتف أساقفة مصر وأورشليم وفلسطين وهم يشيرون إلى ثيؤدوريت أسقف قورش قائلين:
" ليخرج عدو الله... ليخرج من هنا اليهودي... ليخرج الهرطوقي الذي أفسد الإيمان المستقيم".
ومن الجانب الآخر صاح مندوبو وفد روما مع وفد القسطنطينية ووفد أنطاكية قائلين:
" بل ليخرج من هنا ديسقورس... ليخرج الذين ضربونا وأرغمونا على التوقيع على أوراق بيضاء".
وعندئذ وقف ديسقورس قائلًا:
" لقد حرم كيرلس العظيم هذا الرجل أسقف كورش، فهل بقبولكم له تريدون طرد كيرلس؟ "
وهنا اختلطت الهتافات من كل جانب ضد الآخر مما اضطر ممثلوا الإمبراطور للتدخل للتهدئة، وعاد المجمع إلى قراءة مضابط جلسات المجمع الأفسسي الاستئنافي، ثم وُجِهت عدَّة تهم للبابا ديسقورس ردَّ عليها في جراءة وثبات قائلًا:
" ترون من هذه المضابط أن الإمبراطور ثيؤدوسيوس المطوَّب الذكر هو الذي دعا إلى عقد المجمع، وترون منها أيضًا أن هذا الإمبراطور الطيب الذكر قد أمر بعدم قبول ثيؤدوريت أسقف كورش ضمن الأعضاء لنسطوريته... وترون من المضابط أن الإمبراطور وكَّل إليَّ الرياسة مع يوبيناليوس أسقف أورشليم ودومنيوس أسقف أنطاكية، وقد حكمنا - نحن الثلاثة معًا، وقضينا بتبرئه ساحة أوطيخا، فلماذا تطلبون إليَّ وحدي تأدية الحساب؟ وحين حكمنا ثلاثتنا - لم أنفرد بالحكم، بل تشاورنا مع زملائنا الذين جلسوا معنا في المجمع. وعددهم مئة وثلاثون أسقفًا وكان لكل منهم مطلق الحرية في التعبير عن رأيه، وبعد أن قرأنا الاعتراف الأرثوذكسي الذي قدمه لنا أوطيخا بخط يده، أجمع الأساقفة على تبرئته، ووقَّعوا بإمضاءاتهم على هذه التبرئة".
وهنا ادعى الوفد الأنطاكي ووفد القسطنطينية أنهم وقَّعوا على أوراق بيضاء، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. فقال البابا ديسقورس للمجتمعين "أنهم يقولون أنهم لم يوافقوا على الأمور التي حدّدت وقُرّرت، إلاَّ أنهم وقَّعوا ببساطة على أوراق بيضاء وزعت عليهم، والبديهي هنا هو أنه لم يكن من الضروري أن يوقّعوا إذا كانوا غير موافقين، ولأنهم -على أية حال- يشكون من أن أوراقًا بيضاء قد قدمت لهم من أجل التوقيع عليها، لذا أستسمحكم في أن تأمروهم أن يذكروا ويوضحوا المعنى المتضمن في كلماتهم، فلم يجب أحد على كلمات القديس ديسقورس" (16) والأمر العجيب أن الالتماس الذي قدمه يوسابيوس أسقف دوريلا عقب ارفضاض مجمع سنة 449م للإمبراطور ثيؤدوسيوس الثاني لم يذكر فيه على الإطلاق قصة الأوراق البيضاء، وبتعبير V.C. SAMUEL " هل كان الرجل (يوسابيوس) الذي يفترض أنه كان شاهد عيان لهذه القصة المزعومة (التوقيع على أوراق بيضاء) مضطرًا لأن ينتظر لمدة تزيد عن عامين لكي يسمعها لأول مرة في 8 أكتوبر سنة 451م من الرجال الذين وقَّعوا على طومس لاون ووافقوا على تأييده " (17).. لقد بكَّت البابا ديسقورس هؤلاء الأساقفة قائلًا "من واجب الأسقف أن يكون شجاعًا حينما يوقع بخصوص الإيمان الثمين... كيف تسنى لكم أن توقعوا على ما لم تستوضحوه؟!!"
فصرخ وفد القسطنطينية والوفد الأنطاكي قائلين "لقد وقَّعنا فعلًا على خلع رئيس أساقفة القسطنطينية، ولكننا أُرغِمنا على ذلك بسبب الخوف والتهديد الذي استعمله ديسقورس".
وآثار هذا خواطر أساقفة مصر فقالوا: "لو كنتم مسيحيّين حقًا لما أرهبكم التهديد لأن الأرثوذكسي لا يخاف. ها نحن مستعدون للموت دون أن نحيد قيد شعرة عن إيماننا... إن جندي المسيح لا يرهب قوة السلطان ولا يتراجع غير الجبان... أوقدوا النار لنريكم كيف يموت الشهداء".
قال البابا ديسقورس: "كان الأليق بكم أن ترفضوا التوقيع على ما لا تعرفون لأن قراركم يتعلق بجلالة الإيمان الذي ينبغي للمؤمن الحقيقي أن يسفك آخر نقطة من دمه في سبيل تأييده".
ساد الصمت المكان ثم وجه أحد الأساقفة اتهام للبابا ديوسقورس مدعيًا بأنه تآمر مع الأرشمندريت برسوما وعدد من الرهبان المصريين لقتل فلابيانوس في منفاه، فطلب الأساقفة المصريون من الكتبة قراءة رسالة الإمبراطورة بوليكاريا إلى لاون ورد لاون عليها، وقد جاء في الرسالتين أن فيلابيانوس لقىَ ربه وهو في المنفى، ولم يشر أحد منهما إلى اغتياله هذا بالإضافة إلى أن الشكوى التي قدمها يوسابيوس لهذا المجمع ضد البابا ديسقورس لم يشر فيها لا من قريب ولا من بعيد لمثل هذا الاتهام.
ساد المجمع التوتر والقلق والحرج... طالب القضاة الكتبة بأن يتابعوا قراءة مضابط المجمع الأفسسي الإستئنافي، وما أن وصل إلى ذكر طومس لاون حتى اعترض مندوبو روما قائلين:
لماذا لم يأذن البابا ديسقورس بقراءة رسالة أسقفهم في مجمعه؟
أجاب البابا ديسقورس: لقد أمرتُ بقراءة الرسالة مرتين لا مرة واحدة.
قالوا: إذًا لماذا لم تقرأ؟
أجاب البابا ديسقورس: اسألوا أسقف أورشليم وأسقف قيصرية.
قال الأسقفان: لما أمرَّ ديوسقورس بقراءة رسالة لاون الأول فقال رئيس الكتبة بأنه لا تزال عنده رسائل إمبراطورية أخرى يجب قراءتها أولًا ثم لم يذكّر أحدنا رسالة أخينا لاون.
تابع الكتبة القراءة حتى وصلوا إلى اعتراف أوطيخا فصاح باسيليوس أسقف قيصرية قائلًا بأن إمضائه مزور.
فقال البابا ديسقورس: لست أدرى لماذا ينكر باسيليوس إمضاؤه وهو يعلم أنه إنما أمضى وثيقة أرثوذكسية صحيحة... لقد تجاسرتم على نكران كل شيء، فالأفضل أن تقولوا أننا لم نكن حاضرين بالمرة.
وما أن سمع الأساقفة الشرقيون هذا حتى هتفوا "لا نجرؤ على أن نزيد على الإيمان القديم حرفًا واحدًا، ديسقورس رأس الأساقفة يحفظ الإيمان".
عاد الكتبة يقرأون مضابط المجمع الأفسسي الثاني وعندما وصلوا إلى ذكر أوطيخا قال أصدقاء فلابيانوس "لقد أساء المصري الفهم، وتصرف ديوسقورس تصرف الفرعوني".
وعندئذ سأل بعض الأساقفة ديوسقورس: لو أن أوطيخا ردَّد بلسانه كلمات مخالفة للاعتراف الذي قدمه إليك كتابة فما حُكمكَ عليه؟
أجاب ديسقورس: إن كان أوطيخا قد أنكر الإيمان الذي سجَلهُ على نفسه كتابةً وقدمه إلينا، فزاغ بذلك عن إيمان الكنيسة الحق، فلست أحكم بمعاقبته فحسب وإنما أقول أنه مستوجب الحرق أيضًا... فلا أوطيخا ولا غيره بقادر أن يزحزحني عن الإيمان الذي تسلمته عن أبائي".
وعادوا إلى القراءة وعندئذ اعترض باسيليوس أسقف سلوقية قائلًا: إنني وقَّعت على حرم فلابيانوس لأنني كنت مضطرًا لمجاراة المجمع... أجابه البابا السكندري "بكلامك تتبرَّر وبكلامك تُدَان... لقد خفت أن تجهر بإيمانك مجاملة للناس فتجاوزت حدود الصلاح واستهنت بالعقيدة. ألا تعلم أن لا رياء في الإيمان".
بكَّتَ هذا الكلام الأساقفة الذين اتهموا البابا باطلًا فقالوا: "أخطأنا ونطلب الغفران"
وكان هذا أمرًا يصعب قبوله بسهولة على المندوبيين الذين سألوهم: ألم تشكوا من أنكم قد أُرغمتم وأُجبرتم على التوقيع على أوراق بيضاء لقطع فلافيان؟ فكانت إجابتهم هي أن كرَّروا اعتذارهم " أخطأنا ونطلب الغفران " وهكذا اعتذروا عن موافقتهم على قطع فلافيان وعلى تلفيق قصة الأوراق البيضاء " (18)
وعندما سألوهم وهل قتل ديسقورس فيلابيانوس كما أدعيتم ذلك؟ أجابوا ثالثة: "أخطأنا ونطلب الغفران".
وفي الجلسة الأولى عبَّر أساقفة ايلليريا عن إعجابهم الشديد بلاهوت القديس كيرلس الكبير وصاحوا قائلين "كما يؤمن كيرلس هكذا نؤمن نحن أيضًا، فلتدُم ذكرى كيرلس إلى لا بُد " (19) وأبرز الأسقف يوستاثيوس بعض كتابات القديس كيرلس التي كانت معه، وأكد على حقيقة " طبيعة واحدة متجسدة لله الكلمة " وهذه الطبيعة من طبيعتين، وإن من يظن أن القول بطبيعة واحدة يعنى إلغاء الطبيعة الناسوتية، أو أن ناسوت المسيح ليس من نفس طبيعتنا البشرية فليكن محرومًا، ولو توقف يوستاثيوس عند هذا الحد لصعب على المجمع تبرئه فلاففيان ويوسابيوس، ولكن هذا الأسقف قد سقط في خطأ شنيع إذ قال بأن فلافيان قد قَبِل عقيدة كيرلس، وهنا أمسك المندوبون بهذا التصريح، وصدموه بسؤالهم: إن كان فلافيان أرثوذكسيًا فلماذا يقطع؟ فارتعد يوستاثيوس وبلا تفكير أجاب وهو يرتعد قائلًا "لقد فشلتُ".
وهنا طلب المندوبون من الأساقفة المجتمعين أن يعلنوا عن آرائهم إذا كان فلافيان أرثوذكسيًا أم لا؟ فأسرع الأساقفة الرومان بتبرئه فلافيان، وأيد هذا أناتوليوس أسقف القسطنطينية، ومكسيموس أسقف أنطاكية، وتالاسيوس أسقف قيصرية الكبادوك ويوستاثيوس نفسه، وصاح الحزب الشرقي البيزنطي " لقد تمسك الشهيد فلافيان وآمن بإيمان مستقيم " ورغم أن البابا ديسقورس طالب بقراءة محاضر الجلسات كاملة لكي يتأكد الجميع من أن فلافيان أصرَّ على رأيه بطبيعتين بعد الاتحاد، ولكن أحدًا لم يلتفت إليه حتى أن يوبيناليوس أسقف أورشليم بدأ يتردد ويضطرب، وتبعه الكثيرون، ومع هذا فإن بطل الأرثوذكسية ديسقورس ظل ثابتًا وقال أن معه صفحات من كتابات الآباء القديسين أثناسيوس وغريغوريوس وكيرلس وكلها ترفض صيغة الطبيعتين بعد الاتحاد، وأنه يتمسك بعقيدة الآباء ولا يتعداها، ولكن هذه الكلمات الشجاعة لم تجد أذانًا صاغية في مجمع مضطرب، وقرَّر المندوبون تبرئه فلافيان ويوسابيوس، وإدانة أوطيخا (V.C. SAMUEL - THE COUNCIL OF CHALCEDON RE - EXAMINED, P. 53-56)
ومع نهاية الجلسة الأولى أعرب القضاة المدنيون عن رأيهم بعزل البابا ديسقورس مع خمسة أساقفة هم يوبيناليوس أسقف أورشليم، وتلاسيوس أسقف قيصرية وأوسابيوس أسقف أنقيرة واوسطانيوس أسقف بيروت وباسيليوس أسقف سلوقية بينما لم يوافق معظم أعضاء المجمع على هذا قائلين " لقد أخطأنا جميعًا. فليصفح عنا جميعًا " ولكن الحزب الشرقي صاح بأنه " لا رحمة لديسقورس... ليُنفى ديسقورس... لقد نبذ الله ديسقورس" وخرج الآباء الشرقيون يردَّدون ترنيمة "قدوس الله قدوس القوى قدوس الحي الذي لا يموت ارحمنا" (20)
وفي الجلسة الثانية في 10/10/451م لم يحضر هؤلاء الأساقفة الخمسة مع البابا ديسقورس ويبدو أنهم مُنِعوا من الحضور... ناقش المجمع الأمور الإيمانية وتُلى قانون الإيمان النيقاوي ورسالتا البابا كيرلس إلى نسطوريوس وإلى يوحنا الأنطاكي، وتُليت رسالة لاون إلى فلابيانوس "طومس لاون" فقُوبلت باعتراضات كثيرة، وساور الشك بعض الأساقفة تجاه طومس لاون فتساءل القضاة: هل في هذا الطومس ما يقتضي الارتياب في إيمان صاحبه؟
تظاهر الأساقفة بعدم الارتياب وطلبوا مهلة خمسة أيام للتداول فوافقهم القضاة، ثم عادوا إلى عقد الجلسة الثالثة في 13/10/451م بعد ثلاثة أيام وفي غياب القضاة، وأيضا غياب أكثر من نصف الأعضاء وبرئاسة باسكاسينوس مندوب روما، واستدعوا البابا ديوسقورس للحضور ولكن الحراسة منعته من الخروج حسب التوصيات المشدّدة التي صدرت إليهم من الإمبراطورة. كما أن البابا ديسقورس رفض حضور المجمع بدون حضور المندوبين الإمبراطوريين.
انعقد المجمع وجاءوا بشهود زور يشتكون على البابا ديسقورس بأنه احتجز في الإسكندرية مراكب القمح المتجهة إلى ليبيا، وأنه تآمر على قتل فلابيانوس وأنه أوطاخي العقيدة، وحَرَمَ لاون أسقف روما المكرَّم والحقيقة أن لاون بابا روما هو الذي حرم البابا ديسقورس قبل انعقاد مجمع خلقيدونية بستة أشهر، وأرسلوا للبابا ليحضر فلم يتمكن لأنه كان معتقلًا في منزله، ولم يحضر المجمع أحد من أساقفة مصر أو الأساقفة المؤيدين للحق ولم يحضره القضاة المدنيون واتخذ المجتمعون القرار التالي:
" لهذه الأسباب يعلن المغبوط الجزيل القداسة لاون الأول -أسقفنا الكلى القداسة- بلساننا وبلسان المجمع المقدس الملتئم هنا، وبالاتفاق مع المثلث الغبطة الفائق المجد الرسولي القديس بطرس صخرة الكنيسة الجامعة وأساس الإيمان
الأرثوذكسي أن ديوسقورس جُردَّ من رياسة الكهنوت ومن كل كرامة كهنوتية".
وتم مخاطبة البابا "من المجمع المقدس المسكوني العظيم المجتمع بنعمة الله ويأمر أباطرتنا... في خلقيدونية... في كنيسة... إلى ديسقورس. بسبب احتقارك القوانين المقدسة وبسبب تمردك وازدراءك بهذا المجمع المقدس المسكوني بالإضافة إلى أخطاء أخرى أُدنت - ولأنك لم تستجب حتى للاستدعاء الثالث الذي أرسله لك هذا المجمع المقدس العظيم، والتي أرسلت لك (أي الاستدعاءات) وفقا للقوانين الإلهيَّة، لتجب على الاتهامات الموجهة ضدك: اعرف إذًا أنك قد خُلعت في اليوم الثالث عشر من الشهر الحالي أكتوبر بقرار من المجمع المقدس المسكوني من أسقفيتك وحُرمت من كل الرتب الكنسيَّة " (21) والأمر العجيب أن هذا المجمع العظيم الذي أدان البابا ديسقورس على أخطاء أُدين بها لم يذكر خطأ واحد من هذه الأخطاء.
وبينما حكم المجمع على البابا ديسقورس فإنه عفى عن بقية الأساقفة الخمسة المغضوب عليهم، وعندما علم القضاة المدنيون تملكهم الغضب وبذلوا الجهد العظيم للدفاع عن البابا ديوسقورس دون جدوى فقالوا للأساقفة "أما أنتم فتعطوُن جوابًا لله عن ديسقورس الذي عزلتموه".
وفي الجلسة الرابعة في 17/10/451م عاد القضاة المدنيون إلى ما انتهوا إليه في الجلسة الثانية واستكملوا المناقشة الخاصة بالإيمان، وتغافلوا الجلسة الثالثة غير القانونية، وفي الجلسة الخامسة 22/10/451 م. استكملوا المناقشات حول الإيمان وذكروا الآباء المصريين، وصرح اناطوليوس أسقف القسطنطينية بأن إيمان ديسقورس لا غبار عليه. إنما خُلِع من كرسيه لأنه حرم لاون، ولأنه استخف بالمجمع الخلقيدوني ولم يحضر... حدث خلاف على طبيعة السيد المسيح هل هو طبيعة واحدة من طبيعتين مثل إيمان كيرلس الكبير أم هو في طبيعتين مثل إيمان لاون، وهدَّد وفد روما بالانسحاب، وهتف بعض الأساقفة ضد الوفد الروماني قائلين: "إن تعريف أباء الكنيسة هو تعريف صحيح لا يقبل التغيير!! وقد انكشف الآن أمر الهراطقة! اللعنة على النساطرة! فليغادروا المجمع! فليعودوا إلى روما " ولكن أصواتهم ضاعت إدراج الرياح واستقر معظم الأعضاء على التعريف الخلقيدوني فأقروه، ووقع عليه 452 أسقفًا من الحاضرين، وبعد انتهاء المجمع طلب البابا ديسقورس في سجنه إقرار الإيمان الذي أقره مجمع خلقيدونية، فقرأه وسجل على الهامش ما يظهر فساد هذه العقيدة، وحَرَمَ كل من يتجاسر ويغير العقيدة الأرثوذكسية وقال "محروم طومس لاون وكل من يعتقد به"، ورفض التوقيع على هذا الإقرار قائلًا "لو قُطِعت يدي وسأل دمها على القرطاس لما وقَّعتُ".
وعندما علم مرقريان بنتيجة المجمع سرَّ بهذا وأراد أن يصدر أمرًا بقتل البابا ديوسقورس، ولكن مشيريه أشاروا عليه بإحضاره أمامه وإجباره على التوقيع على قرارات المجمع، وعندما حضر البابا أمامه قال له مرقريان أنه ينبغي أن يذعن لرأى القيصر، فقال له البابا ديوسقورس بشجاعة نادرة: "أن القيصر لا يلزمه البحث في هذه الأمور الدقيقة بل ينبغي أن يشتغل بأمور مملكته وتدبيرها، ويدع الكهنة يبحثون عن الأمانة المستقيمة فإنهم يعرفون الكتب، وخير له أن لا يميل مع الهوى ولا يتبع غير الحق".
فقالت الإمبراطورة بوليكاريا: يا ديوسقورس قد كان في زمان أبى إنسان قوى الرأي مثلك (تقصد القديس يوحنا ذهبي الفم) فحُرِم ونفُى من كرسيه.
فقال لها البابا: نعم وقد علمتُ ما جرى لامك، وكيف أُبتليت بالمرض الذي تعرفينه إلى أن مضت إلى جسد القديس يوحنا واستغفرت فعوفيت.
فما كان من بوليكاريا إلاَّ إنها تطاولت على القديس ولكمته لكمة قوية أطاحت بضرسين، وهجم عليه الجنود فنتفوا أكثر لحيته، فأخذ القديس ضرسيه وشعر لحيته وأرسلهم إلى أولاده في مصر قائلًا:
عندئذ أمر مركيان بنفيه إلى جزيرة غنغرا ببحر مرمرة بمفرده، ولكن صحبه اثنان من أبنائه الأساقفة مع بطرس رئيس الشمامسة وثيؤبيستوس سكرتيره وكاتب سيرته بمحض اختيارهم.
_____
(14) Jalland, Life and Times ... ,op Cit. , p 288. ,n.I
(15) V.C. SAMUEL - THE COUNCIL OF CHALCEDON RE - EXAMINED, P. 45
(16) V.C. SAMUEL- THE COUNCIL OF CHALCEDON RE-EXAMINED, P. 48-49
(17) V.C. SAMUEL - THE COUNCIL OF CHALCEDON RE - EXAMINED, P. 50
(18) V.C. SAMUEL - THE COUNCIL OF CHALCEDON RE - EXAMINED, P. 52
(19) المرجع السابق ص52.
(20) تاريخ الفكر المسيحي د. ق. حنا جرجس الخضري ص258.
(21) V.C. SAMUEL - THE COUNCIL OF CHALCEDON RE - EXAMINED, P. 65
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/catholic/section1-chapter4.html
تقصير الرابط:
tak.la/qam8mzq