س 59 : لماذا توجد أربعة أناجيل، ما دامت القصة واحدة والإنجيل الشفوي كان واحدًا؟ لماذا لم يوحي الرب بجمع كل التفاصيل؟.. ألم يكن الإنجيل الواحد أبلغ وأقوى عوضًا عن أربعة أناجيل متناقضة؟ وهل وحَّد السيد المسيح بين نفسه وبين الإنجيل (مر 10 : 39)؟
يقول "علاء أبو بكر": س197: لماذا أوحى الرب عدة أناجيل تختلف في التفاصيل، وتختلف في الأسلوب اللغوي وتختلف في اهتمامات المؤلفين، وتختلف محتوياتها تبعًا لاختلاف مصادرها التي كُتب منها مؤلف الإنجيل" (343).
س198: لماذا لم يوحي الرب إنجيلًا واحدًا يجمع كل التفاصيل في كتاب واحد؟ أليس ذلك أبلغ وأقوى في البشارة بها" (344).
س202: ولماذا اختلف وحي الرب وأسلوبه في الكتابة باختلاف ثقافة الكاتب"(345).
س59: أبحث وتدبَّر: لماذا لم يوحِ الله إنجيلًا واحدًا بدلًا من أربعة مختلفة في النسَب والتعاليم"(346).
س61: لماذا لم يوحِ الله أربعة أناجيل أو أكثر تتفق كلها في الكلمة والحرف وتسلسل الأحداث" (347).
ويعلق "ع.م جمال الدين شرقاوي" على قول إنجيل مرقس: " فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ لَيْسَ أَحَدٌ تَرَكَ بَيْتًا أَوْ إِخْوَةً أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ أَبًا أَوْ أُمًّا أَوِ امْرَأَةً أَوْ أَوْلاَدًا أَوْ حُقُولًا لأَجْلِي وَلأَجْلِ الإِنْجِيلِ" (مر 10 : 29)، فيقول: " قول المسيح (عليه السلام) لأجلي ولأجل إنجيلي يُفرّق عليه السلام بين نفسه وبين إنجيله فهما شيئان متغايران. فالمسيح (عليه السلام) كان مُبشّرًا (proclaimer) وإنجيله هو المُبشَّر به (proclaimed)، ولكن المسيحيين يقولون باتحاد الاثنين، بمعنى أن المُبشر بكسر الشين المشددة هو ذات الوقت المُبشر به بفتح الشين المشدَّدة..!!.
فأني للمسيح (عليه السلام) أن يفصل بينهما..؟!
وكيف أصبح المُبشر بإنجيل الرب هو المُبشر به عند اللاهوتيين؟
أنه سؤال تصعب الإجابة عليه... والمسيحيون المعاصرون جميعًا لا يوجد فيهم مَن يؤمن بأن هناك إنجيلًا كان مع المسيح (عليه السلام) مطلوبًا الإيمان به. وتلك قضية خطيرة جدًا...
والمسلمون جميعًا بحمد الله لا يشذ عنهم شاذ يؤمنون بالمسيح (عليه السلام) وبإنجيله الذي كان معه. فهم الآخرون إيمانًا، الأولون دخولًا إلى جنة الله ورضوانه... وهناك نص منسوب إلى الحواري برنابا ذكره في إنجيله. ربما يُجلي لنا الموقف حيث جاء في (الفصل 168 ص 257) قول المسيح (عليه السلام) للتلاميذ: "صدقوني أنه لما اختارني الله ليرسلني إلى بيت إسرائيل أعطاني كتابًا يشبه مرآة نقية نزلت إلى قلبي، حتى أن كل ما أقول يصدر عن ذلك الكتاب. ومتى انتهى صدور هذا الكتاب من فمي أصعد عن العالم. أجاب بطرس: يا معلم هل ما تتكلم به الآن مكتوب في ذلك الكتاب. أجاب عيسى: إن كل ما أقول لمعرفة الله ولخدمة الله ولمعرفة الإنسان ولخلاص الجنس البشري إنما هو جميعه صادر من ذلك الكتاب الذي هو إنجيلي... " (348).
ج : 1ـــ فعلًا قصة الإنجيل واحدة، وفعلًا الإنجيل الشفوي كان واحدًا، ولكن الروح القدس شاء أن يتشارك معه في تسجيل هذه القصة أكثر من شخص، لأن حياة السيد المسيح وأقواله وتعاليمه كالمحيط الشاسع يحتاج لعدد من الكُتَّاب ليكتبوا النذر اليسير من أقواله وتعاليمه ويسجلوا فقط 35 معجزة من آلاف المعجزات التي صنعها الرب يسوع، فاختار أربعة كتَّاب قديسين، ثلاثة منهم سُفِكت دمائهم لتمسكهم بعقيدتهم، والرابع ذاق عذابات لا حد لها ولكن الله خلصه وأنقذه، وتمجَّد الله بهؤلاء وبهذا.
ويقول "الدكتور القس عبد المسيح أسطفانوس": "إن البشائر الأربع ليست في الواقع أربعة أناجيل مختلفة ولكنها إنجيل واحد، إنها بشارة واحدة، وخبر سار واحد، وإن كان تدوينه قد تم بيد أربعة أشخاص مختلفين، قدموا نفس القصة، كل من زاوية خاصة، لهدف خاص ولجماعة تختلف الواحدة منها عن الأخرى. كما أن تلك الحياة العريضة (حياة السيد المسيح) المليئة بالتعاليم والأحداث لم يستطع كل واحد من هؤلاء أن يدوّن كل ما يختص بها... (يو 21 : 25). إن حياة المسيح على الأرض بحر واسع لا يُسبَر له غور مهما دوَّن البشيرون" (349).
ووضع كل كاتب هدفًا لاهوتيًا لإنجيله بما يتناسب مع من كتب لهم، فالمسيح واحد والقصة واحدة، ولكن الذين كُتب لهم الإنجيل ليسوا شعبًا واحدًا، بل كُتب لليهود واليونانيين والرومان وشعوب العالم كله، من عبيد وأحرار، فقراء وأغنياء، مثقفين وبسطاء، يهود وأمم، فرأى اليهود في الإنجيل تحقيق نبوات العهد القديم، ورأى فيه الأمم الطريق الوحيد للخلاص من وطأة الخطية والموت والشيطان، وأول مَن كتب هو مارمرقس للرومان الذين طالبوه بتسجيل الإنجيل الشفاهي الذي سمعوه، وركز مرقس الإنجيلي على شخص السيد المسيح ابن الله، ولأن الرومان يمجدون القوة لذلك أكثر مرقس الرسول من ذكر المعجزات التي تخلب الألباب، ليجذب أنظار الرومان لذاك القوي بذاته، وكتب بعده متى لليهود فركز على شخص السيد المسيح ابن داود ابن إبراهيم المسيا المنتظر موضع نبوات العهد القديم، فربط متى الإنجيلي العهدين القديم والجديد بشخص السيد المسيح، ثم كتب لوقا لليونانيين عن المسيح الصديق الفادي الذي حمل أسمى آيات الحـب والبذل والتضحية من أجل حياة البشرية، وأخيرًا كتب يوحنا للعالم أجمع مُحلقًا في السماء يجذب الأنظار إلى ألوهية السيد المسيح أقنوم الكلمة، ويرد أيضًا على البدع والهرطقات التي ظهرت في عصره من خلال رسائله الثلاث.
ويقول "قداسة البابا تواضروس الثاني": " لقد سجل مرقس ما يمكن أن نسميه مذكرات أولية حول المسيح وحياته، ولذا التزم بالموضوعات الأساسية في القصة المروية.
أما متى فقدم كتابًا يصلح للقراءة والتعليم في الكنيسة، فيه تبويبًا منظمًا، أنه بشارة منسَّقة بإبداع وتفاصيل كثيرة... مما يعطينا إمكانية أن نسميـه "كتاب مبادئ التعليم المسيحي".
أما لوقا فكتب بأسلوب أدبي فيه حلاوة وجاذبية... خصيصًا لأصحاب الثقافة اليونانية الرفيعة أمثال ثاؤفيلس... ولذا تُسمى بشارته "كتــاب الأدب المسيحــي الراقـي.."(350).
ويقول "القديس أُغسطينوس": " أن الأربعة أناجيل، أو بالأحرى الأربعة الكتب التي للإنجيل الواحد، ترى فيها القديس يوحنا الرسول... يُمثَل بالنسر الذي ارتفع بتعاليمه أعلى وأكثر سموًا من الثلاثة أناجيل الأخرى، وارتفاعه بتعاليمه هذه رفع قلوبنا بالمثل. لأن الثلاثة الإنجيليين تمشوا مع الرب على مستوى الأرض كإنسان، أما فيما يختص بلاهوته فلم يتكلموا إلاَّ قليلًا. أما هذا الإنجيلي (يوحنا) فقد نأى عن الأرض والتمشي فيها، إذ أرعد علينا من علٍ منذ افتتاح حديثه، وحلَّق مرتفعًا فوق الأرض وكل دائرة الكون أرضًا وسماءً، بل وفوق جيوش الملائكة وكل طغمات القوات غير المنظورة، حتى أتى إلى من خلق العالمين" (351).
ويقول "القديس أكليمنضس": " لما رأى يوحنا أن المظهر البشري قد أُستوفي في الأناجيل الثلاثة ألَّف (وضع) إنجيله الروحي، وذلك برجاء من أحبائه وباستنارة الروح القدس"(352).
ويقول "قداسة البابا تواضروس الثاني": " إننا بدون إنجيل يوحنا تبدو الثلاثة أناجيل كسؤال يحتاج إلى إجابة"(353).
2ـــ ما حدث في تدوين الإنجيل يشبه أربعة علماء مختلفي الاختصاصات زاروا إحدى المدن الشهيرة القديمة مثل الإسكندرية في القرن الرابع الميلادي، وطُلب منهم أن يكتبوا عن هذه المدينة، فبلا شك أن كل واحد منهم سيكتب بحسب تخصصه وميوله، وكان الأول عالمًا في التاريخ فبدأ يكتب عن تاريخ نشأة الإسكندرية منذ أن كانت قرية صغيرة تُدعَى "ماريا" وكيف وُلِدت كفكرة في ذهن "الإسكندر الأكبر"، لتكون عاصمة لمصر تنفتح على دول حوض البحر المتوسط، وكيف خطط المهندس الرائع "دينوقراطيس" شوارعها ومرافقها وحدائقها وأسواقها وميناءيها... إلخ وكيف خرجت للوجود ولعالم النور، وكيف تطورت المدينة من العهد اليوناني للعهد الروماني، وكان الثاني عالمًا في الآثار، فكتب عن فنار الإسكندرية الشهير، أحد عجائب الدنيا السبع، والمعابد اليونانية والرومانية مثل معبد الإله سيرابيس والمسرح الروماني، ومنطقة عمود السواري، وكنيسة الألف عمود التي حوت فعلًا ألف عمود وقد بناها البابا ثاؤنا السادس عشر... إلخ، والثالث عالِم فـي الفن والموسيقى، فكتب عن الفولكلور والفرق الشعبية وأغاني ورقصات صيادي الأسماك، وكتب عن المسارح وصناعة التماثيل والفنون المعمارية... إلخ، وكان الرابع عالِمًا في الاجتماع، فكتب عن تركيبة المجمع السكندري وانفتاحه على العالم الخارجي، والجاليات العديدة للجنسيات المختلفة من اليونانيين والرومان واليهود والفرس والهنود... إلخ، والسلام الذي ينشر ظلاله على هذا المجتمع الذي يقبل التعددية، مع أن الشعب يعاني من وطأة الاحتلال الروماني، وكيف تستنزف خيرات مصر، فتبحر غلالها بالسفن إلى القسطنطينية، فمصر هيَ سلة الحنطة لهذه الإمبراطورية، وبلا شك أنه عندما تجمع كتابات العلماء الأربعة ستكون أفضل كثيرًا أن يكتب شخص واحد عن المدينة.
3ــــ ما حدث في قصة تدوين الإنجيل قضية شهيرة للغاية عن شخص طيب القلب، جمع بين الوداعة والشجاعة، وكان صاحب سلطان مُطلق، فكان يجول يصنع خيرًا في أرجاء الدولة التي يعيش فيها، يطرد الأرواح النجسة ويشفي المتسلط عليهم إبليس، يُخفّف بل يزيل آلام المرضى، ويشفي كل أنواع المرض، ويفتح أعين العميان، ويقيم الموتى، ويخلق عينين للمولود أعمى، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى... إلخ، وإذ حسده أعداؤه قبضوا عليه وأسلموه حسدًا للوالي الذي أمر بإعدامه صلبًا على ربوة عالية في مدينة أورشليم وقت إعداد الفصح أمام مئات الألوف من الناس، وقد أثار دهشة الوالي أنه لم يدافع عن نفسه رغم براءته التي يعلمها بيلاطس جيدًا، وحدث ما لم يكن في الحسبان، إذ قام من بين الأموات في فجر اليوم الثالث، وصعد للسماء وأرسل الروح القدس على تلاميذه وأرسلهم للكرازة بِاسمه، فملأوا الدنيا كرازةً وبشارةً، فأيهما أفضل أن يكون لهذه القضية التي لا مثيل لها شاهد واحد أم أربعة شهود..؟! بلا شك أن شهادة الأربعة أفضل من شهادة الواحد، والحقيقة أن الشهود كانوا أكثر من هذا بكثير، فمنهم جميع أنبياء العهد القديم الذين أخبروا بقصته قبل أن تحدث، وجميع كُتَّاب العهد القديم، وجميع التلاميذ الاثني عشر، وجميع الرسل السبعين، وأكثر من خمسمائة أخ ظهر لهـم السيد المسيح بعد قيامته، وعشرات الألوف الذين سمعوه بأذانهم وشاهدوا معجزاته بعيونهم (لو 12 : 1).
4ـــ قصة جمع القرآن تشبه قصة كتابة الإنجيل من حيث التدوين، فالقرآن لم يُكتب في عصر رسول الإسلام، بل حفظ في مدوَّنات على الرقاع (الجلود)، واللحاف (الحجارة الرقيقة) والعسب (جريد النخل) وحُفظ في الصدور لمدة نحو ثلاثين عامًا، ويوم أن استحر القتل بحفظة القرآن في حرب اليمامة سنة 12هـ، حتى قُتل منهم سبعون قارئًا، تم جمع القرآن في عهد أبو بكر الصديق من أفواه حفظته وما أكثرهم، فإن كان رواة الإنجيل أربعة أشخاص لا غير، فإن رواة القرآن بلغ عددهم بالعشرات، ولم يعتبر أحد أن القرآن الشفاهي عندما سُجّل تعرَّض للتحريف والتبديل، فلماذا يتهمون الإنجيل المكتوب بالتحريف والتبديل أثناء تدوينه؟!! (راجع س 54).
5ـــ لماذا يعترض "علاء أبو بكر" وكثير من النقّاد على وجود أربعة كُتب للإنجيل، رغم أنهم يقبلون نزول القرآن بسبعة أحرف تختلف في الألفاظ وتتفق في المعاني. وقال "السيوطي" في كتابه الاتفاق (1 : 15) " قد ظن كثير من العوام أن المراد بها (الأحرف السبعة) القراءات السبع لمصحف عثمان، وهذا جهل قبيح" (354). فالقرآن الحالي وهو قرآن عثمان بن عفان يمثل لسانًا واحدًا، أمَّا الألسنة الستة الباقية فقد اختفت في حادثة إحراق المصاحف الشهيرة التي أجراها عثمان بن عفان ليحافظ على قراءة واحدة، ومن المعروف أنه كان هناك أكثر من قرآن بينهما بعض الخلافات، الأمر الذي دعى عثمان لحرق المصاحف والإبقاء على مصحف واحد دُعي مصحف عثمان.
وهناك حديث صحيح يقول " نزل القرآن على سبعة أحرف" ويقول الأرشمندريت يوسف درَّة الحداد: " وفسَّره الإمام البيضاوي: "سبعة نصوص باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني ". ثم روى كيف أتلف الصحابة نصوصًا ستة ليسلم واحد منها، الحــرف العثمانـي (قرآن عثمان)، خشية الفرقة والاختلاف في الأمة. بينما صحابة المسيح، والمسيحيون من بعدهم أبقوا على الأحرف الأربعة للإنجيل الواحد، ولم يأبهوا للأناجيل المنحولة العديدة، وفي هذا الأمانة لوحي الله، والمعجزة في حفظ إنجيل المسيح.
وبعد، ففي عُرف الشرع العام لكل الأديان والأقوام، أن شهادات أربع لسيرة واحدة، باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني، دليل الصدق والصحة أكثر من شهادة واحدة، فليس في تعدد نصوص الوحي الإنجيلي من شبهة على صحتها" (355).
6ـــ جاء في المخطوطات القديمة ما يؤكد أن الإنجيل واحد والكتبة أربعة أنه وضع في عنوان إنجيل متى: "الإنجيل حسب متى"، وهكذا بقية الأناجيل، فالإنجيل واحد له أربعة أوجه، وربطت الكنيسة بين الأوجه الأربعة للإنجيل الواحد وبين الأربعة كائنات حاملي العرش الإلهي: " وَفِي وَسَطِ الْعَرْشِ وَحَوْلَ الْعَرْشِ أَرْبَعَةُ حَيَوَانَاتٍ مَمْلُوَّةٌ عُيُونًا مِنْ قُدَّامٍ وَمِنْ وَرَاءٍ. وَالْحَيَوَانُ الأَوَّلُ شِبْهُ أَسَدٍ وَالْحَيَوَانُ الثَّانِي شِبْهُ عِجْل وَالْحَيَوَانُ الثَّالِثُ لَهُ وَجْهٌ مِثْلُ وَجْهِ إِنْسَانٍ وَالْحَيَوَانُ الرَّابِعُ شِبْهُ نَسْرٍ طَائِرٍ" (رؤ 4 : 6، 7)، وكلمة حيوان هنا لا تعني ما يمشي على أربع، إنما تعني كائن حي، فأُشير لإنجيل مرقس برمز الأسد لأنه بدأ إنجيله بصوت صارخٍ في البرية وهو الأسد، وأُشير لإنجيل لوقا بالعجل لأنه تحدث عن المسيح الفادي الذبيح، كما بدأ إنجيله بذكر الهيكل حيث تقدم الذبائح ويُرفع البخور، ففي الهيكل ظهر الملاك لزكريا الكاهن، وإلى الهيكل دخلت العذراء مريم على يوسف النجار والطفل يسوع لتقديم ذبيحة تطهير، وأُشير لإنجيل متى برمز الإنسان لأنه تكلم عن السيد المسيح ابن داود ابن إبراهيم وذكر متى سلسلة أنسابه، وأُشير لإنجيل يوحنا بالنسر لأنه حلَّق في السموات متحدثًا عن لاهوت الله الكلمة، كما نجد عمقًا لهذه الرموز في سفر حزقيال عند حديثه عن العرش الإلهي عندما قال: " أَمَّا شِبْهُ وُجُوهِهَا فَوَجْهُ إِنْسَانٍ وَوَجْهُ أَسَدٍ لِلْيَمِينِ لأَرْبَعَتِهَا وَوَجْهُ ثَوْرٍ مِنَ الشِّمَالِ لأَرْبَعَتِهَا وَوَجْهُ نَسْرٍ لأَرْبَعَتِهَا" (حز1 : 10).
كما شُبهت الأناجيل الأربعة بالنهر الذي كان يخرج من عدن ليسقي الجنة، وقد انقسم أربعة رؤوس، فيشون، وجيحون، وحداقل، والفرات (تك 2 : 10-14) وقال "القديس إيرينيؤس" في كتابه الرد على الهرطقات: " ليس من الممكن أن تكون الأناجيل أكثر أو أقل مما هيَ (أي أربعة) لأنه حيث أنه توجد أربعة مناطق للعالم تعيش فيه، وأربعة رياح (أو أرواح) رئيسية، بينما الكنيسة منتشرة في كل العالم، وأن عمـود الحق وقاعدته (1تي 3 : 15) الكنيسة فيها الإنجيل روح وحياة، فمن المناسب أن يكون لها أربع أعمدة، تنفث الخلود وعدم الموت من كل ناحية، وتحيي البشر من جديد. ومن هذه الحقيقة يتضح أن الكلمة صانع الكل، هذا الجالس على الشاروبيم، والذي يحوي كل الأشياء، وهو الذي أُظهر للناس، قد أعطانا الإنجيل في أربع أوجه، ولكنها متحدة معها بروح واحد. كما يقول داود أيضًا "يَا جَالِسًا عَلَى الْكَرُوبِيمِ أَشْرِقْ " (مز 80 : 1). لأن الشاروبيم أنفسهم لهم أربع أوجه" (ضد الهرطقات 3 : 11 : 8) (356) (راجع أيضًا قداسة البابا تواضروس الثاني - مفتاح العهد الجديـد جـ 1 ص 83). فالأناجيل الأربعة بمثابة قيثارة ذات أربعة أوتار.
وقال "العلامة أوريجانوس": " أن الأناجيل لم تبرح قط أربعة لا غير ولا تزال معروفة في الكنائس بأسرها، وهيَ المقبولة دون ريب في الكنيسة الجامعــة" (357)، وشبــه "يوسابيوس القيصري" الإنجيل بمركبة رباعية الأفراس، يحمل عليها الإنجيليون جلالة الكلمة الإلهيَّة ويطوفون بها جميع أقطار العالم. (راجع القس صموئيل مشرقي - مصادر الكتاب المقدَّس ص 20).
7ـــ دوَّن الإنجيليون الأربعة كل شيء بصراحة تامة وصدق متناهٍ بدون زخرفة ولا مبالغة ولا مواربة، ولم يخفوا ضعفاتهم الشخصية وبطء فهمهم بعض الأمور، فسجل متى أنه كان عشارًا وسجل قول السيد المسيح لبطرس " اذْهَبْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ أَنْتَ مَعْثَرَةٌ لِي" (مت 16 : 23)، وسجل مرقس هروبه من جثسيماني عريانًا عندما أمسك به الشبان (مر 14 : 51، 52) كما سجل إنكار بطرس، وسجلوا خيانة يهوذا، وشك التلاميذ جميعًا، والعذابات اللا آدمية التي تعرَّض لها السيد المسيح. وكما أن وجود اختلافات ظاهرية بين الأناجيل الأربعة تؤكد عدم تعرُّضها للتحريف، لأنه لو كان هناك تحريف لسويت هذه الخلافات الظاهرية بدلًا مما تسببه من انتقادات.
ويقول "الأرشمندريت يوسف درة الحداد": وظاهرة "المؤتلف - المختلف " في الأناجيل الثلاثة المتوازية ضمانة لتاريخيتها وصحتها، فالخلاف ظاهري والائتلاف باطني... وفي الواقع يزيد من صحتها وصدقها، لأن الائتلاف الظاهري الكامل موضع شبهة... وقديمًا قال أحد الفلاسفة اليونان، هيراقليط: "ائتلاف باطني خير من ائتلاف ظاهري"!، وبحسب لغة الطبري، مفسّر القرآن الأكبر: نزل الإنجيل على أربعة أحرف، باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني" (358) (مع ملاحظة أننا لا نؤمن بنظرية الوحي الميكانيكية الإملائية).
8ــــ عندما نقول أن السيد المسيح وحَّد بين نفسه وبين الإنجيل قائلًا: " لأَجْلِي وَلأَجْلِ الإِنْجِيلِ" (مر 10 : 29) لا نقصد على الإطلاق أن المسيح كلمة الله صار هو الإنجيل كلمة الله، ولا نقصد أن الإنجيل ككلمة الله هو السيد المسيح كلمة الله، وقد سبق مناقشة هذا الموضوع، والفرق بين السيد المسيح أقنوم الكلمة (اللوغوس) في الثالوث القدوس، وبين كلام السيد المسيح المنطوق به في الإنجيل، فيُرجى الرجوع إلى إجابة س42.
وعندما نقول أن السيد المسيح وحَّد نفسه مع الإنجيل عندما قال: " مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي وَمِنْ أَجْلِ الإِنْجِيلِ فَهُوَ يُخَلِّصُهَا" (مر 8 : 35) فنحن نعني أن الإنجيل هو الذي حمل لنا أقوال وتعاليم وأعمال وأسلوب ونهج وحياة السيد المسيح له المجد، والإنجيل بعيدًا عن شخصية السيد المسيح لا معنى له، فالهدف الأساسي من الإنجيل أنه يقدّم لنا شخص السيد المسيح، حتى إذا آمنا به تكون لنا الحيـاة الأبدية (يو 20 : 31)، والبشارة بالإنجيل هيَ البشارة بالسيد المسيح.
أما فيما يخص إنجيل برنابا المزيف، والذي يرجع تاريخه إلى ما بعد القرن الخامس عشر، وكيف أنه احتوى أمورًا تعارض ما جاء في المسيحية وفي الإسلام أيضًا، فما كان لجمال الدين شرقاوي الاستشهاد به (راجع كتابنا: أسئلة حول: 1ـــ صحة الكتاب المقدَّس 2ـــ خرافة إنجيل برنابا).
_____
(343) البهريز في الكلام الي يغيظ جـ 2 ص 173.
(344) المرجع السابق ص 173.
(345) المرجع السابق ص 174.
(346) البهريز في الكلام اللي يغيظ جـ 3 ص 76.
(347) البهريز في الكلام اللي يغيظ جـ 3 ص 76.
(348) قضايا مثيرة في المسيحية والإسلام ص 52 - 55.
(349) تقديم الكتاب المقدَّس - تاريخه - صحته - ترجماته ص 43.
(350) مفتاح العهد الجديد جـ 1 البشائر الثلاث الأولى ص 76.
(351) المرجع السابق ص 79.
(352) المرجع السابق ص 79.
(353) المرجع السابق ص 79.
(354) أورده الأرشمندريت يوسف درَّة الحداد - الدفاع عن المسيحية - في الإنجيل بحسب متى ص 96.
(355) المرجع السابق ص 48، 49.
(356) ترجمة د. نصحي عبد الشهيد - ضد الهرطقات جـ 2 ط 2016م ص 48.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/59.html
تقصير الرابط:
tak.la/9byysf2