س 58 : ما معنى كلمة "عهد"؟ ومن أين جاءت تسمية "العهد الجديد"؟ ومتى استقر استخدام هذا المصطلح (العهد الجديد)؟
تشير كلمة عهد إلى اتفاق agreement، أو ارتباط، أو ميثاق، أو معاهدة بين طرفين، كما أنها تشير إلى الوصية، فقولنا: "عهدت إلى فلان.." أي أوصيت فلان، وجاءت كلمة "عهد" في "المصباح المنير": (العهد) الوصية يُقال عهد إليه من باب تعب إذا أوصاه، وعهدت إليه بالأمر قدَّمته... والعهد الأمان والموثق والذمة، ومنه قيل للحربي يدخل الأمان ذو عهد، ومُعاهد أيضًا بالبناء للفاعل والمفعول لأن الفعل من اثنين فكل واحد يفعل بصاحبه مثل ما يفعله صاحبه به، فكل واحد في المعنى فاعل ومفعول"(336).
وجاء معنى "عهد" في "دائرة المعارف الكتابية": كلمة "عهد" في العبرية هيَ "بريت" التي تعني "اتفاقًا أو ترتيبًا"، ولعلها مشتقة من الكلمة العبرية "بارا" أي "أكلوا خبزًا معًا" مما يوحي بأن الأطراف المتعاقدين كانوا يأكلون خبزًا معًا عند توقيع الاتفاق... و "قطع عهدًا" في العبرية هيَ "بريت قرَض" أما في اليونانية فكلمة "عهد" هيَ "دياثيك" (diatheke) وهيَ تؤدي نفس المعنى "اتفاقًا أو وصية"، والفعل منها "عاهد" (ارجع إلى أع 3 : 25، عب 8 : 10، 9 : 16، 10 : 16)" (337).
وقد يكون العهد: أ - بين رجل وآخر كالعهد الذي قُطع بين إبراهيم وأبيمالك ملك جيرار (تك 21 : 27)، أو بين يعقوب ولابان (تك 31 : 44 - 46)، وكانوا عند قطع العهد يشقُّون ذبيحة نصفين يجوز كل طرف بين شقي هذه الذبيحة، وكأنه يقول: إن خنت هذا العهد ليشقني الله مثل هذه الذبيحة.
ب - بين أمتين أو شعبين كالعهد بين إسرائيل والجبعونيين (يش 9 : 6 - 16)، أو بين البابليين والزرع الملكي بأورشليم: " هُوَذَا مَلِكُ بَابِلَ قَدْ جَاءَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَأَخَذَ مَلِكَهَا وَرُؤَسَاءَهَا وَجَاءَ بِهِمْ إِلَيْهِ إِلَى بَابِلَ. وَأَخَذَ مِنَ الزَّرْعِ الْمَلِكِيِّ وَقَطَعَ مَعَهُ عَهْدًا وَأَدْخَلَهُ فِي قَسَمٍ وَأَخَذَ أَقْوِيَاءَ الأَرْضِ. لِتَكُونَ الْمَمْلَكَةُ حَقِيرَةً وَلاَ تَرْتَفِعَ. لِتَحْفَظَ الْعَهْدَ فَتَثْبُتَ" (حز 17 : 11-14).
جـ - بين الله والإنسان، مثل العهد الأول الذي أعطاه الله للإنسان بعد السقوط بأن نسل المرأة يسحق رأس الحيَّة (تك 3 : 15)، والعهد الثاني بعد الطوفان: " وَهَا أَنَا مُقِيمٌ مِيثَاقِي مَعَكُمْ وَمَعَ نَسْلِكُمْ مِنْ بَعْدِكُمْ... وَلاَ يَكُونُ أَيْضًا طُوفَانٌ لِيُخْرِبَ الأَرْضَ" (تك 9 : 9 - 11) وكان علامة العهد الذي أعطاه الله لنوح قوس قزح (تك 5 : 3)، والعهد الثالث مع إبراهيم: " وَقَالَ اللهُ لإِبْرَاهِيم وَأَمَّا أَنْتَ فَتَحْفَظُ عَهْدِي... هذَا هُوَ عَهْدِي الَّذِي تَحْفَظُونَهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ. وَبَيْنَ نَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ. يُخْتَنُ مِنْكُمْ كُلُّ ذَكَرٍ" (تك 17 : 9، 10) وكانت علامة العهد هيَ الختان، والعهد الرابع جاء مع شعب الله: " فَالآنَ إِنْ سَمِعْتُمْ لِصَوْتِي وَحَفِظْتُمْ عَهْدِي تَكُونُونَ لِي خَاصَّةً مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ" (خر 19 : 5، خر 20)، وقال موسى النبي للشعب: " وَوَاعَدَكَ الرَّبُّ الْيَوْمَ أَنْ تَكُونَ لَهُ شَعْبًا خَاصًّا كَمَا قَالَ لَكَ وَتَحْفَظَ جَمِيعَ وَصَايَاهُ" (تث 26 : 18)، وقال الرب: " مَلْعُونٌ الإِنْسَانُ الَّذِي لاَ يَسْمَعُ كَلاَمَ هذَا الْعَهْدِ الَّذِي أَمَرْتُ بِهِ آبَاءَكُمْ... قَائِلًا اسْمَعُوا صَوْتِي وَاعْمَلُوا بِهِ حَسَبَ كُلِّ مَا آمُرُكُمْ بِهِ فَتَكُونُوا لِي شَعْبًا وَأَنَا أَكُونُ لَكُمْ إِلهًا" (إر 11 : 3، 4)، ودعى الكتاب لوحي الوصايا بلوحي العهد (تث 9 : 11)، كما دُعِيّ التابوت بتابوت العهد (يش 3 : 6)، وأيضًا دعى الله ناموسه بالعهد: " فَالآنَ إِنْ سَمِعْتُمْ لِصَوْتِي وَحَفِظْتُمْ عَهْدِي تَكُونُونَ لِي خَاصَّة" (خر 19 : 5) ودعى التوراة بكتاب العهد (خر 24 : 7)، وقطع الله عهدًا مع هرون وبنيه دُعي "عهد ملح" أو "ميثاق ملح" (عد 18 : 19) كما منح الله فينحاس بن العازار بن هرون "عهد سلام" أو "ميثاق سلام" له ولنسله: " مِيثَاقَ كَهَنُوتٍ أَبَدِيٍّ لأَجْلِ أَنَّهُ غَارَ ِللهِ" (عد 25 : 13)، وأعطى الله عهـده لداود (1أي 28 : 4، مز 89 : 3، 4، 13 : 11 - 18).
والعهد بين الله والإنسان ليس عهدًا بين طرفين متكافئين، بل هو بين الله غير المحدود والإنسان المحدود، بين القادر على كل شيء وبين الإنسان الضعيف، فالعهد هنا يكاد يكون من طرف واحد، فهو يعبر عن عطية أو منحة أو هبة أو منَّة إلهيَّة للإنسان.
جاءت تسمية العهد الجديد من الله بلسان إرميا النبي: " هَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُ الرَّبُّ وَأَقْطَعُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَمَعَ بَيْتِ يَهُوذَا عَهْدًا جَدِيدًا.." (إر31 : 31 - 33)، وأكد هذه التسمية السيد المسيح عندما قدم سر الإفخارستيا لتلاميذه، فقال لهم: " لأَنَّ هذَا هُوَ دَمِي الَّذِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ الَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا" (مت 26 : 28) (راجع أيضًا مر 14 : 24، لو 22 : 20، 1كو 11 : 25). كما استخدم بولس الرسول نفس المصطلـح عندمـا قال: " الَّذِي جَعَلَنَا كُفَاةً لأَنْ نَكُونَ خُدَّامَ عَهْدٍ جَدِيدٍ" (2كو 3 : 6).. " هُوَذَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُـولُ الرَّبُّ حِينَ أُكَمِّلُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَمَعَ بَيْتِ يَهُوذَا عَهْدًا جَدِيدًا" (عب 8 : 8).. " وَلأَجْلِ هذَا هُوَ وَسِيطُ عَهْدٍ جَدِيدٍ" (عب 9 : 15).. " إِلَى وَسِيطِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، يَسُوعَ" (عب 12 : 24).
وسُمي العهد الجديد تمييزًا له عن العهد الأول الذي قطعه الله مع شعب إسرائيل، كما سُمي العهد الجديد لأنه سيبقى جديدًا على الدوام لا يشيخ ولا يضمحل كقول بولس الرسول: " فَإِذْ قَالَ جَدِيدًا عَتَّقَ الأَوَّلَ. وَأَمَّا مَا عَتَقَ وَشَاخَ فَهُوَ قَرِيــبٌ مِـنْ الاضْمِحْلاَلِ" (عب 8 : 13)، وأكد بولس الرسول أيضًا على دعوة أسفار العهد القديم بالعهد العتيـق: " بَلْ أُغْلِظَتْ أَذْهَانُهُمْ لأَنَّهُ حَتَّى الْيَوْمِ ذلِكَ الْبُرْقُعُ نَفْسُهُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْعَهْدِ الْعَتِيقِ بَاق" (2كو 3 : 14).
واستخدم "العلامة ترتليان" مصطلح "العهد القديم" في إشارته لأسفـار العهد القديم، التوراة والأنبياء والكتب، فقال: "يجب أن يُفهم أن كلمة الله لها حدان بعهدين هما الناموس والإنجيل" (Against Marcion 3, 14) (338)
ويقول "ميلتون فيشر": " ترتليان، وهو كاتب مسيحي بارز في العقدين الأولين من القرن الثالث. كان من أوائل الذين أطلقوا على الأسفار المسيحية اسم "العهد الجديد". هذا العنوان كان قد ظهر في وقت سابق (190م) في مؤلَّف ضد المونتانية لكاتب غير معروف، وهذا أمر مهم، لأن استخدام هذا العنوان وضع أسفار العهد الجديد على نفس المستوى مع وحي وسلطان العهد القديم" (339).
وقال "لكتانتيوس": "كل الكتاب المقدَّس ينقسم إلى عهدين اثنين - العهد الذي سبق مجيء وآلام المسيح (الناموس والأنبياء) ويُسمّى العهد القديم وأيضًا الأمور التي كُتبت بعد قيامة المسيح وقد سُميت بالعهد الجديد. كان اليهود يستخدمون العهد القديم أما نحن فنستخدم العهد الجديد، لكنهم ليسوا في خلاف، حيث أن العهد الجديد يتمم العهد القديم وكلاهما له نفس الهدف (المسيح)" ((Divine Jnstitutes (340).
ويعلل "القديس أُغسطينوس" سبب تسمية العهدين بالقديم والجديد، فيقول: " سُمي العهد القديم قديمًا لأن الخطية التي للإنسان القديم كانت تعمل في الإنسان ولم يقدر حرف الناموس أن يشفيها، فالناموس كشف الخطية دون أن يعالجها. أما العهد الجديد فدُعي جديدًا من أجل عطية روح الله الحي (2كو 3 : 3) الذي نقش الوصية بطريقة جديدة لا في ألواح حجرية بل ألواح قلب لحمية (2كو 3 : 3-9)"(341).
استقر مصطلح "العهد الجديد" في القرن الثاني الميلادي، وحوى الأناجيل وسفر الأعمال والرسائل وسفر الرؤيا، وصارت له نفس قوة وسلطة وقانونية أسفار العهد القديم، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. ويقول "الأب ثيؤدور ستيليانوبولوس": عبارتا "العهد القديم" و "العهد الجديد" لم تطلقا على الكُتب المقدَّسة حتى نهاية القرن الثاني. بالنسبة إلى الرسول بولس والمسيحيين الأوائل، لم يكن العهد الجديد كتابًا، ولا مجموعة من الكتب، إنما حقيقة ديناميكية للرباط الجديد بين الله والمؤمنين المسيحيين، حيث القاعدة هيَ شخص المسيح وعمله الخلاصي. دوَّن الرسل وأتباعهم الرسائل والكتب الأخرى خلال القرن الأول في مناطق مختلفة من العالم المتوسط تم تجميعها تدريجيًا، ككتب ذات سلطة في التقليد المسيحي، خلال القرن الثاني بشكل رئيسي. هذه العملية المعقَّدة تُعرَف بتشكيل قانون العهد الجديد"(342).
_____
(336) المصباح المنير - إصدار مكتبة لبنان ص 165.
(337) دائرة المعارف الكتابية جـ 5 ص 351.
(338) أورده القمص عبد المسيح بسيط - قانونية أسفار العهد الجديد ص 45.
(339) أورده ف. ف. بروس - قصة الكتاب المقدَّس ص 57.
(340) أورده القمص عبد المسيح بسيط - قانونية أسفار العهد الجديد ص 45.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/58.html
تقصير الرابط:
tak.la/nh67ksa