س 60 : لماذا رفضت الكنيسة الاعتراف بالإنجيل الرباعي "الدياتسرون" على أنه سفر قانوني، وأصرَّت على بقاء الأناجيل الأربعة المجهولة المصدر ولا تحمل أسماء مؤلفيها؟
أولًا:
الدياتسرون
ثانيًا:
لماذا رفضت الكنيسة الاعتراف بالدياتسرون كسفر قانوني موحَى به؟
ثالثًا: هل الأناجيل
الأربعة مجهولة المصدر؟
رابعًا: لماذا لم
تحمل الأناجيل أسماء مؤلفيها؟
وهيَ كلمة يونانية، ترجمتها الحرفية "انطلاقًا من الأربعة" وتعني الإنجيل الرباعي الذي كتبه "تاتيان" انطلاقًا من الأناجيل الأربعة وعوضًا عنها سنة 170م، ووُلِد تاتيان في الرها بالأراضي الأشورية، من أسرة وثنية، واعتنق المسيحية، وسافر إلى روما وتتلمذ على يد الشهيد الفيلسوف يوستين الذي كان قد افتتح مدرسة خاصة لنشر الإيمان المسيحي، ثم عاد تاتيان إلى بلاد ما بين النهرين، وكان يرى أن الزواج شرًا... قام تاتيان بتفكيك الأناجيل الأربعة في ترجمتها السريانية إلى وحدات صغيرة، وأعاد دمجها في إنجيل واحد، حيث تناول كل حادثة بكل تفصيلاتها حسبما وردت في إنجيل أو أكثر، واعتمد أساسًا في عمله هذا على إنجيل متى، فأضاف إليه ما ورد في الأناجيل الأخرى متتبعًا تسلسلًا زمنيًا بحسب تصوُّره، واضطر لحذف بعض التفصيلات التي وردت في الأناجيل، رغم أنه قام بجهد ضخم ليلم بأدق تفاصيل الأحداث في الأناجيل الأربعة ويربط بينها، وهو يحاول تفادي نقاط الالتباس التي يواجهها الدارس عندما يدرس الأناجيل الأربعة كلٍ على حدة.
واستراحت الكنيسة السريانية لهذا العمل فاستخدمت الدياتسرون في صلواتها، ووضع القديس مار أفرام السرياني بعض التعليقات عليه، فأُستخدم في الكنيسة السريانية حتى سنة 430م، وخلال الفترة (411-435م) قام "رابولا" أسقف الرها بترجمة العهد الجديد للسريانية، وشملت الأناجيل الأربعة منفصلة، فبدأ يقل استخدام الدياتسرون، ولا سيما أن بقية كنائس المسكونة لم تقبل هذا العمل كعمل إلهي، بل نظرت إليه كعمل بشري محض، بينما شاء الروح القدس أن يكون هناك أربعة أناجيل، لكل إنجيل هدفه اللاهوتي فتتكامل الأناجيل كقيثارة ذات أربعة أوتار، وفي سنة 508م قام "مارفيلوكسينوس" أسقف منبج بترجمة الكتاب المقدَّس بعهديه من اليونانية للسريانية، وشمل العهد الجديد السبعة والعشرين سفرًا، وبالطبع من بينها الأناجيل الأربعة فتوقف استخدام الدياتسرون.
وهناك ترجمة عربية للدياتسرون أُخذت من مخطوطتين، الأولى فاتيكانية ويرجع تاريخها للقرن الثاني عشر، وقد أهداها "يوسف عثمان" للفاتيكان سنة 1719م، وتتكون من 123 ورقة، تعرضت السبعة الأولى منها للتلف، والثانية بورجيانية بالمتحف البورجياني، ويرجع تاريخها للقرن الرابع عشر، وقد أهداها "حليم دوس غالي" القبطي الكاثوليكي للكرسي الرسولي بروما في أغسطس 1886م، وتتكون من 355 ورقة، تشمل الأوراق 1-85 مقدمة للأناجيل، والورقتين 96، 97 ملاحظات المقدمة، ويقول "دكتور إبراهيم سالم الطرزي" : " إذا كان النص العربي فظ، فذلك لأنه ليس عملًا أصليًا ولكنه ترجمة عن السريانية، كما هو مكتوب من مقدمة المخطوط البورجياني، والذي ترجمه شخص يدعى "أبو فرج عبد الله الطيب" قس ممتاز ومتعلم عام 1043م وهو دارس وراهب (نسطوري) وسكرتيرًا للبابا إلياس بطريرك ينسيبس، وقد ترجمه من مخطوط سرياني للطبيب العربي "عيسى ابن علي المثبي" تلميذ حنيان ابن إسحق عام 873م. وهذا المخطوط السرياني ليس هناك أي نسخة قد بقيت منه، لكن هناك استدلالات لمثل هذا العمل قد وجدت في تعليقات سريانية على العهد الجديد بواسطة "إيشوداد" عام 852م، الذي يقول الآتي: تاتيان تلميذًا ليوستينوس الشهيد والفيلسوف الذي اختار من الأناجيل الأربعة وجمعهم وركَّبهم في إنجيل واحد ودعاه الدياتسرون أي المجمَّع. أما الأب السرياني العظيم مار أفرام السرياني عام 373م قد كتب تعليقًا على الدياتسرون وتفسير مار أفرام السرياني لإنجيل الدياتسرون مفقودًا في الوقت الحالي" (359).
1- سبقت الكنيسة وأقرَّت قانونية الأناجيل الأربعة، لأنها مُوحَى بها، فلا يصح الحذف منها ولا الإضافة عليها ولا دمجها وتغيير الصورة التي كُتبت بها، فما قام به تاتيان هو عمل بشري محض بعيدًا عن وحي الروح القدس، الذي شاء أن يكون هناك أربعة أناجيل لأهداف سامية.
2- عندما فكَّك تاتيان الأناجيل الأربعة ودمجها في إنجيل واحد، مسَّ خصوصية كل إنجيل، وشوَّه أهداف الأناجيل، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. فيقول: "الأب شربنتييه" : " لو كان عندنا أربعة أعمال فسيفسائية تمثل المشهد نفسه بأشكال مختلفة، لما خطر ببالنا أن نقول: هذه الأعمال الفسيفسائية جميلة حتى إني لا أريد أن أفقد شيئًا منها، فسأدمرها وأصنع من كومة الحجارة فسيفساء واحدة تضم الأربعة..! يا له من مسخ!" (الدليل ص 133)(360).
ويعلق "الأب بيوس عفاص" على القول السابق قائلًا: "هكذا يتضح لنا أنه يستحيل الذهاب في مثل هذا الاتجاه، كونه يحطم قراءة الشهادة التي يتضمنها كل إنجيل، سيما وأن هذه الشهادات الإيمانية الأربع غنية بالإضاءات التي تسهم في الكشف عن ملامح يسوع، وقد شاء كل إنجيلي أن يوقفنا عليها ويقاسمنا إياها. لذا حرصت الدراسات الكتابية الرصينة على جعلنا ننكب على كل إنجيلي بمفرده، لنكشف عما يحمله من تلميحات وتفاصيل وميزات ولمسات... انفرد بها كل إنجيله في مسعاه إلى إبراز الملامح التي أثرت فيه وفي جماعته" (361).
3- لم يكن قصد أحد من الإنجيليين تسجيل السيرة الذاتية للسيد المسيح، إنما كان الهدف الرئيسي هو تقديم شهادة إيمان، فجاء الإنجيل معبرًا عن شهادة أربع شهود، قدم كل منهم شهادته التي تعبر عن رؤيته الخاصة لشخصية السيد المسيح بجوانبها غير المحدودة، وبينما كانت أقوال السيد المسيح ومعجزاته لا تُعد ولا تُحصى (يو20 : 30، 31، 21 : 25) فإن كل إنجيلي تخيَّر بإرشاد الروح القدس ما يخدم هدفه اللاهوتي الذي يسعى نحوه، وما يناسب من يكتب لهم، أما تاتيان فجعل القارئ ينتقل من إنجيل إلى آخر، مخالفًا بذلك حتى كتَّاب عصره، فيقول "كريج. س. كينر": " كُتبت السير القديمة، لكي تُقرأ دفعة واحدة من أولها إلى آخرها، وليست بالقفز من فقرة في كتاب بعينه إلى فقرة أخرى في كتاب آخر. ولقد كُتب كل إنجيل على حدة، ووُجِهت إلى قراء مختلفين. وكان المقصود أن يُقرأ كل إنجيل قائمًا بذاته، لذلك يجب أن نتناول كل إنجيل على حدة، متتبعين الخط الفكري لذلك الإنجيل"(362).
4- شملت الترجمات المختلفة بما فيها الترجمة السريانية على الأناجيل الأربعة، ولم يقتبس أحد من الآباء الرسوليين من الدياتسرون، إنما قصروا اقتباساتهم من الأناجيل الأربعة.
1- النقّاد الذين يدَّعون أن كتَّاب الأناجيل الأربعة مجهولين يتصوَّرون أن الأناجيل ظهرت فجأة من فراغ، ويتغافلون أن أحداث الإنجيل بعينها تداولت شفاهةً نحو ربع قرن من الزمان، كشهادة حيَّة من الآباء الرسل، فقال بطرس الرسول: " وَنَحْنُ شُهُودٌ بِكُلِّ مَا فَعَلَ فِي كُورَةِ الْيَهُودِيَّةِ وَفِي أُورُشَلِيمَ" (أع 10 : 39).. "لأَنَّنَا لَمْ نَتْبَعْ خُرَافَاتٍ مُصَنَّعَةً إِذْ عَرَّفْنَاكُمْ بِقُوَّةِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ وَمَجِيئِهِ بَلْ قَدْ كُنَّا مُعَايِنِينَ عَظَمَتَهُ" (2بط 1 : 16)، والذين سمعوا هذه الشهادات حفظوها في قلوبهم، وطالبوا الآباء الرسل بتدوينها للأجيال، وعندما دوّنت الأناجيل كان معروفًا للعامة والخاصة مَن هو كاتب كل منها، فقبلت على وجه السرعة، لم يعترض عليها أحد بأنها مجهولة المصدر وكاتبها مجهول، فقبولها في شتى أرجاء المسكونة يؤكد مدى قانونيتها، وأنها معلومة المصدر.
2ـــ لم تدوّن الأناجيل أمور مجهولة، لأن أقوال وتعاليم وأعمال ومعجزات السيد المسيح لم تتم في الخفاء، فعندما سأل حنَّان السيد المسيح عن تعاليمه جـاء رده حاسمًا وقاطعًا: " أَنَا كَلَّمْتُ الْعَالَمَ عَلاَنِيَةً. أَنَا عَلَّمْتُ كُلَّ حِينٍ فِي الْمَجْمَعِ وَفِي الْهَيْكَلِ حَيْثُ يَجْتَمِعُ الْيَهُودُ دَائِمًا. وَفِي الْخَفَاءِ لَمْ أَتَكَلَّمْ بِشَيْءٍ. لِمَاذَا تَسْأَلُنِي أَنَا. اِسْأَلِ الَّذِينَ قَدْ سَمِعُوا مَاذَا كَلَّمْتُهُمْ. هُوَذَا هؤُلاَءِ يَعْرِفُونَ مَاذَا قُلْتُ أَنَا" (يو 18 : 20، 21)، ولم تكن تعاليم السيد المسيح محصورة في منطقة بعينها، بل جال في كل بقاع فلسطين من الجليل لليهودية مرورًا بالسامرة، وذهب إلى نواحي صور وصيدا والعشر مدن... وكثيرون جاءوا إليه من لبنان وسوريا ليستمعوا إلى كرازته ويُشفوا من أمراضهم، حتى أن بولس الرسول يقول للوالي فستوس عن الملك أغريباس: " لأَنَّهُ مِنْ جِهَةِ هذِهِ الأُمُورِ عَالِمٌ الْمَلِكُ الَّذِي أُكَلِّمُهُ جِهَارًا إِذْ أَنَا لَسْتُ أُصَدِّقُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذلِكَ لأَنَّ هذَا لَمْ يُفْعَلْ فِــي زَاوِيَةٍ" (أع 26 : 26). وأيضًا لم تكن المدة التي خدم فيها السيد المسيح مجرد أسابيع أو شهور قليلة، إنما استمرت كرازته أكثر من ثلاث سنوات، وعندما كرز الآباء الرسل بِاسمه كان الشعب يعرفه جيدًا. وعلى كلٍ نترك الإجابة التفصيلية لهذا السؤال إذ شاءت نعمة الرب وعشنا في حديثنا عن كل إنجيل على حدة، وإثبات نسبه لكاتبه.
1ـــ هذا نوع من إنكار الذات، حتى أن الكاتب عندما كان يتعرض لحدث خاص به كان يتكلم عن نفسه بصيغة الغائب، مثلما ذكر متى قصة اختياره للتلميذة (مت 9 : 9 - 13)، ومثلما كان يشير يوحنا الحبيب لنفسه على أنه التلميذ الذي كان يسوع يحبه.
2ـــ يذكر القديس يوحنا ذهبي الفم أنه لم يكن من عادة الشرقيين أن يضعوا أسماءهم على مؤلفاتهم، لذلك لم يذكر الإنجيليون أسماءهم على الأناجيل التي كتبوها بوحي الروح القدس، ولم يكونوا بحاجة إلى ذلك، فقد فعلته الكنيسة تلاوة فـي الصلاة لأنها تعرف كاتبيها، بتسميتهم حين التلاوة، ونقله بالتواتر من تلاميذهم الذين تسلموا تلك الآثار المقدَّسة (راجع الأرشمندريت يوسف درة الحداد - الدفاع عن المسيحية - في الإنجيل بحسب متى ص 44).
3ـــ بالرغم من أن الأناجيل لم تحمل اسم كتبتها لكنه كان الجميع يعرفون صاحب كل إنجيل، فقد وضعت الكنيسة في بداية كل إنجيل كلمة "كاطا" Kata أي "بحسب" ثم أضافت اسم الكاتب، فحمل إنجيل متى "بحسب ما كتب متى" وهكذا في بقية الأناجيل، وفي اقتباسات الآباء من الأناجيل كانوا ينسبونها لكاتبها أي من الإنجيليين الأربعة.
4ــ كتب الهراطقة عشرات الأناجيل ونسبوها للآباء الرسل، أما الكنيسة فقد حدَّدت الأناجيل القانونية بأربعة أناجيل لا أكثر ولا أقل، وكل إنجيل منسوب لصاحبه سواء متى أو مرقس أو لوقا أو يوحنا.
_____
(359) أبو كريفا العهد الجديد - الكتاب الأول - أناجيل الأبو كريفا المخفية جـ 1 ص 41.
(360) أورده الأب بيوس عفاص - قراءة مجددة للعهد الجديد ص 139.
(361) المرجع السابق ص 139.
(362) الخلفية الحضارية للكتاب المقدَّس - العهد الجديد ص 33.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/60.html
تقصير الرابط:
tak.la/wf8v4zm