س576: هل قضى السيد المسيح الليل كله في الصلاة (لو 6: 12) لأنه كان يلتمس من الآب شيئًا ليس لديه؟ ولماذا اختلف ترتيب أسماء التلاميذ بين (لو 6: 14-16)، و (مت 10: 2-4)، و (مر 3: 16-19)، وكذلك اختلفت بعض الأسماء؟ هل العظة في (لو 6: 20-49) هيَ نفس العظة التي جاءت في (مت 5، 6، 7)؟ ولماذا بدأ كل من متى ولوقا التطويبات بتطويب المساكين بالروح (مت 5: 3، لو 6: 20)؟
ج: 1- هل قضى السيد المسيح الليل كله في الصلاة (لو 6: 12) لأنه كان يلتمس من الآب شيئًا ليس لديه..؟ يقول القديس لوقا: "وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ خَرَجَ إِلَى الْجَبَلِ لِيُصَلِّيَ. وَقَضَى اللَّيْلَ كُلَّهُ فِي الصَّلاَةِ للهِ" (لو 6: 12) ولو كان السيد المسيح مجرد إله فقط لتعجبنا من صلواته، أما كونه هو اللَّه المتجسد المتأنس، أي أنه اللَّه وإنسان في آن واحد فلا مجال للتعجب من صلواته أو أصوامه أو جوعه أو عطشه أو تعبه أو موته، لأن كل هذه الأفعال تخص الناسوت دون اللاهوت لأن اللاهوت منزَّه عن كل هذه الأفعال. إذًا فعل السيد المسيح كل هذه الأفعال بحسب كونه إنسانًا وليس بحسب كونه اللَّه. ويقول "القديس كيرلس الكبير": "ما هيَ الأشياء التي يتصوَّرون أن الابن محتاج إليها؟ وما هو الذي يسعى ليحصل عليه باعتباره لا يملكه بعد؟ أن الابن هو النور الحقيقي، وهو الحياة بطبيعته الخاصة، وهو على الحياة، وهو أيضًا رب القوات، هو الحكمة والبر، وهو خالق الكون وصانعه، وهو أعلى من كل الأشياء التي أتت إلى الوجود، هو ملك الكون، وهو مُدبر السماء والأرض، هو المُعطي مع اللَّه الآب لكل بركة. وهذا يمكن أن تتعلمه مما كتبه بولس المُبارك: "نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ الله أَبِينا وَالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (رو 1: 7) وهو ظاهر بوضوح فوق العرش في الأعالي وتمجده كل الخلائق العقلية. وبحسب هذا فهو بالطبيعة وارث لكل الكرامات الإلهيَّة الخاصة باللَّه الآب، ولذلك تحدث إليه قائلًا له: "وَكُلُّ مَا هُوَ لِي فَهُوَ لَكَ وَمَا هُوَ لَكَ فَهُوَ لِي وَأَنَا مُمَجَّدٌ فِيهِمْ" (يو 17: 10).
ولكن ذلك الذي له كل ما يخص اللَّه الآب كما يخصه هل يكون محتاجًا إلى شيء بعد؟ ولكن إن كان حسب قولهم محتاجًا إلى أي شيء، وهم يؤكدون أن هذا صحيح، فليس هناك ما يمنعنا من القول أن الآب نفسه يكون محتاجًا إلى هذا الشيء، لأنه إن كان كل ما هو للابن هو للآب، وكان هناك شيء ما يحتاج له الابن، لذلك ينبغي أن الآب أيضًا يكون في نفس الحال مثله، لأن كل ما للابن هو للآب. ولكن الآب هو كامل تمامًا ولا ينقصه أي صلاح بالمرة مما يناسب الألوهية، لذلك فالابن أيضًا هو كامل تمامًا" (163). (راجع أيضًا مدارس النقد - عهد جديد جـ 5 س427).
2- لماذا اختلف ترتيب أسماء التلاميذ بين (لو 6: 14-16)، و (مت 10: 2-4)، و(مر 3: 16-19)، وكذلك اختلفت بعض الأسماء..؟ سبق مناقشة هذا الموضوع بالتفصيل، فيُرجى الرجوع إلى مدارس النقد - عهد جديد جـ4 س316. ومن الملاحظات التي تُذكر:
أ– أن الخمسة أسماء الأولى من أسماء الاثني عشر تلميذًا، وهم بطرس وأندراوس ويعقوب ويوحنا وفيلبس من بيت صيدا، والستة الأسماء الأخرى من الجليل، والأخير يهوذا الإسخريوطي من قريبة "قريوت" في اليهودية.
ب- دعى كلٍ من متى الإنجيلي ويوحنا الحبيب التلاميذ بِاسم "الرسل" مرة واحدة، ودعاهم مارمرقس رسلًا مرتين، أما القديس لوقا فإنه دعاهم رسلًا ست مرات: "وَاخْتَارَ مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ أَيْضًا رُسُلًا" (لو 6: 13) (راجع أيضًا: لو 9: 10، 11: 49، 17: 5، 22: 14، 24: 10).
جـ- اختار السيد المسيح تلاميذه الاثني عشر من البسطاء ليكون فضل القوة للَّه " بَلِ اخْتَارَ الله جُهَّالَ الْعَالَمِ لِيُخْزِيَ الْحُكَمَاءَ. وَاخْتَارَ الله ضُعَفَاءَ الْعَالَمِ لِيُخْزِيَ الأَقْوِيَاءَ. وَاخْتَارَ الله أَدْنِيَاءَ الْعَالَمِ وَالْمُزْدَرَى وَغَيْرَ الْمَوْجُودِ لِيُبْطِلَ الْمَوْجُودَ. لِكَيْ لاَ يَفْتَخِرَ كُلُّ ذِي جَسَدٍ أَمَامَهُ" (1 كو 1: 27-29). ويقول "القديس أغسطينوس": "اختار التلاميذ من أصل وضيع وبلا كرامات، أُميُّون، حتى إذ ليصيروا عظماء ويُمارسون أعمالًا عظيمة يكون ذلك بحلوله فيهم وعمله داخلهم" (164). (راجع مدارس النقد - عهد جديد جـ س317).
د– جاءت أسماء الاثني عشر اثنين اثنين (لو 6: 14-16) ليؤكد على حياة الشركة بينهم، فرقم (2) في الكتاب المقدَّس يشير دائمًا للحب، فتجد المُحب والمحبوب.
هـ- حملت أسماء التلاميذ معاني جميلة:
(1) سمعان: السميع أو المُطيع، وقد دعاه السيد المسيح بطرس.
(2) أندراوس: معناه "الجاد" أو "القوي" أو "الباسل".
(3) يعقوب: معناه "المتعقّب" أو "المجاهد".
(4) يوحنا: أي "اللَّه يتحنَّن" أو "اللَّه يُنعِم".
(5) فيلبس: أي "مُحب الفرس" أو "مُحب الخيل".
(6) برثلماوس: أي "ابن الحارث".
(7) متى: أي "هبة" أو "عطية".
(8) توما: أي "التوأم".
(9) يهوذا: أي "يحمد" أو "يعترف".
← انظر باقي سلسلة كتب النقد الكتابي هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت للمؤلف.
و– العدد (12) ومضاعفاته كثيرًا ما أُستخدم في الكتاب المقدَّس بعهديه، ففي العهد القديم نجد:
(1) عدد الأسباط اثني عشر، ولكل سبط رئيس (عد 1: 4-15) ولكل سبط راية (عد 2: 1).
(2) كان في إيليم (12) عين ماء وسبعين نخلة (خر 15: 27).
(3) بنى موسى مذبحًا في أسفل الجبل واثني عشر عمودًا لأسباط إسرائيل (خر 24: 4).
(4) كان هناك اثني عشر حجرًا على أسماء الأسباط على صدرة هرون (خر 28: 21).
(5) عند تحديد الكهنوت أمر الرب موسى أن يأخذ اثنتي عشرة عصا من كل سبط عصا (عد 17: 2).
(6) كان على مائدة خبز الوجوه 12 رغيف (لا 24: 5).
(7) انتخاب (12) رجلًا من الأسباط وقت عبور الأردن (يش 3: 12).
(8) وضع بنو إسرائيل (12) حجرًا في قاع نهر الأردن، وحملوا (12) حجرًا من القاع (يش 4: 3، 20).
(9) كان لسليمان الملك (12) وكيلًا (1 مل 4: 7).
(10) بنى إيليا المذبح على جبل الكرمل من (12) حجرًا (1 مل 18: 31).
وفي العهد الجديد:
(1) اختار السيد المسيح اثني عشر رسلًا (لو 6: 13).
(2) في معجزة اشباع الخمسة آلاف تبقى (12) قفة من كسر الخبر (مت 14: 20).
(3) وعد السيد المسيح تلاميذه بأنهم يجلسون على اثني عشر كرسيًا يدينون أسباط إسرائيل (مت 19: 28).
(4) قال السيد المسيح أنه يستطيع أن يطلب اثني عشر جيشًا من الملائكة (مت 26: 53).
(5) حول عرش اللَّه 24 عرشًا جلس عليهم 24 (2 × 12) شيخًا (رؤ 4: 4).
(6) عدد المفديين 144000 (12 × 12 × 1000) (رؤ 7: 4، 14: 1، 3).
(7) لأورشليم السمائية (12) بابًا، يقف عليها (12) ملاكًا (رؤ 21: 12).
(8) لأورشليم العليا (12) أساس (رؤ 21: 14).
(9) أبعاد مدينة أورشليم السمائية 12000 غلوة (رؤ 21: 16).
(10) ارتفاع سور أورشليم 144 (12 × 12) ذراعًا (رؤ 21: 17).
(11) لأورشليم (12) باب، كل باب لؤلؤة ( رؤ 21: 21 ).
(12) شجرة الحياة بها (12) ثمرة (رؤ 22: 2).
وفي الدقيقة 60 (5: 12) ثانية، وفي الساعة 60 دقيقة، وفي اليوم 24 (2 × 12) ساعة، وفي العام (12) شهرًا. (راجع مدارس النقد - عهد جديد جـ 4 س316).
3- هل العظة في (لو 6: 20-49) هيَ نفس العظة التي جاءت في (مت 5، 6، 7)..؟ العظة التي أوردها القديس لوقا في ثلاثين عددًا، هيَ العظة التي أفرد لها القديس متى ثلاث أصحاحات خلال 107 عددًا بدليل:
أ– اتفاق البداية بين عظة متى ولوقا، فكل منهما تُفتتح بالتطويبات، وكل منهما تبدأ بتطويب المساكين بالروح.
ب- اتفاق النهاية بين عظتي متى ولوقا، فكل منهما تنتهي بالبيت المشيَّد على الصخر والبيت المشيَّد على الرمل.
جـ- الأحداث التي أعقبت العظة في كليهما واحدة، وهيَ دخول كفرناحوم وشفاء عبد قائد المئة.
وبالرغم من أن العظة واحدة في متى ولوقا، إلاَّ أن هناك تمايزات بينهما، مثل:
أ– أسلوب العظة في إنجيل متى موجه للغائب، بينما في إنجيل لوقا استخدم أسلوب المخاطب.
ب- ذكر القديس متى ثماني تطويبات، بينما ذكر القديس لوقا أربع تطويبات شملت الثمانية، ويقول "القديس أمبروسيوس": "هلم ننظر كيف وضع القديس لوقا ثماني تطويبات في أربع. نعرف أن هناك أربع فضائل رئيسية: الاعتدال، البر، التعقل، والثبات. المسكين في الروح ليس جشعًا، والباكون لا يستكبرون، بل يخضعون ويستكينون، الباكي متواضع. وهو لا يُنكر أن ما يعرفه مُعطى للكل على نحو مشترك. الرحيم يهب ماله، والواهب ماله لا يطلب ما لغيره أو لا ينصب فخًا لجاره. هذه الفضائل تتشابك وتترابط، فمن امتلك واحدة منها امتلك فضائل كثيرة. فضيلة واحدة تنفع القديسين. فحيث تكثر الفضائل تكثر المكافآت... في الاعتدال نقاء القلب والروح، وفي البر عطف، وفي الصبر سلام، وفي التحمل لُطف" (165).
جـ- عظة متى شملت التطويبات دون الويلات، بينما مزج القديس لوقا بين التطويبات والويلات.
د– سُمّيت عظة متى "عظة الجبل" (مت 5: 1)، بينما سُمّيت عظة لوقا "عظة السهل" (لو 6: 17) والكلمة اليوناني التي استخدمها القديس لوقا والتي تُرجمت إلى "سهل" فإنها تعني مكانًا سهلًا في منطقة جبلية (راجع وارين ويرزبي - كن شفوقًا ص58).
هـ- كغير مما جاء في عظة متى، لم يأتِ له ذكر في عظة لوقا، أو جاء في أماكن متفرقة في إنجيل لوقا. وأيضًا بعض العبارات التي وردت في إنجيل لوقا، لم تأتِ في إنجيل متى، فكل منهما كتب حسب قصده وهدفه. ويقول "دكتور وليم إدي": "إن الخطاب في إنجيل لوقا أقصر من الخطاب في إنجيل متى. لكن متى كتب بشارته إلى اليهود ففسر لهم كما يقتضي بالطبع ما ذكره المسيح لبيان روحانية ملكوته، خلافًا لتعليم الكتبة والفريسيين الناموسي. وكتب لوقا إلى الأمم فلم يحتج إلى من يحذرهم من تعليم أولئك. ولكن مع هذا الفرق الجزئي اتفق أكثر المفسرين على أن الوعظ الذي ذكره لوقا هو الوعظ الذي ذكره متى، وأن كلٍ منهما ذكر ما يوافق قصده في تسطير بشارته"(166).. القديس متى الذي كتب لليهود أراد أن يضع أمامهم مقابلة بين تسليم اللَّه الوصايا لموسى على الجبل وبين العظة على الجبل، دستور المسيحية. مع ملاحظة أن جبل سيناء عندما حلَّ اللَّه عليه، اضطرب وكان يدخن مع غيوم وضباب وصوت بوق مُخيف، بينما جلس السيد المسيح الإله المتأنس على جبل العظة في هدوء الطبيعة وسط الجموع التي ازدحمت حوله، إذ لبس طبيعتنا وصار كواحد منا. أيضًا جاءت وصايا جبل سيناء في صورى النهب والسلب، بينما ارتبطت الوصايا في العظة على الجبل مرتبطة بالبركات (راجع أيضًا مدارس النقد - عهد جديد جـ 3 س245).
4- لماذا بدأ كل من متى ولوقا التطويبات بتطويب المساكين بالروح (مت 5: 3، لو 6: 20)..؟ بدأ كلٍ من متى ولوقا بتطويب المساكين بالروح، لأنه هكذا بدأ السيد المسيح، له المجد، بهذا التطويب. ويقول "القديس يوحنا الذهبي الفم" عن المسكنة بالروح: "إنه المذبح الذهبي، وهو موضع الذبيحة الروحي، لأن الروح المنسحقة ذبيحة للَّه (مز 51: 17). التواضع هو والد الحكمة، وقد كان للإنسان هذه الفضيلة فتكون له بقية الفضائل" (167). ويقول "القديس أمبروسيوس": "بدأ كل من البشيرين تطويباته بهذه العبارة، فهيَ الأولى حسب الترتيب، والأم التي تلد كل الفضائل، فباحتقار ممتلكات هذه الحياة تستحق الممتلكات الأبدية، أما إن كنت أسيرًا لشهوات العالم فمن المستحيل أن تطفو فوقها" (168).
ومن المُلاحظ أن السيد المسيح لم يطوب المساكين بوجه عام أي الفقراء في الماديات، إنما طوَّب "المساكين بالروح"، لأنه ليس جميع الفقراء لهم ملكوت السموات، فهناك من هم فقراء وأشرار، وهناك فقراء بسبب تقاعسهم وتكاسلهم، فيقول "القديس أمبروسيوس": "طوبى للمساكين". ليس كل المساكين مقدَّسين، فالفقر لا يزيدك صلاحًا ولا يصيبك بنقيصة، قد يكون المسكين صالحًا أو شريرًا... طوبى للمسكين الذي صرخ وسمعه الرب (مز 34: 6). طوبى للمسكين في الإشارة. طوبى للمسكين في الشرور. طوبى للمسكين الذي لا يجد سيد هذا العالم عنده شيئًا. طوبى للمسكين الذي يشبه "يسوع" المسكين الذي افتقر لأجلنا وهو الغني (2 كو 8: 9).. المسكين بالروح لا يتفاخر ولا يتبجح بفكر جسده. هذه التطويبة هيَ الأولى، لأني أكون قد ابتعدت عن كل خطيئة، وخلعت عني كل ضغينة، وأصبحت راضيًا بالبساطة، ومتخليًا عن الشرور. كل ما يبقى هو أن أُحسن سلوكي. فماذا ينفعني التخلي عن الأمور الدنيوية، إذا لم أكن متواضعًا ولطيفًا" (169).
_____
(163) ترجمة د. نصحي عبد الشهيد - تفسير إنجيل لوقا، ص122، 123.
(164) أورده القمص تادرس يعقوب - الإنجيل بحسب لوقا، ص150.
(165) التفسير المسيحي القديم للكتاب المقدَّس - العهد الجديد جـ 3 - الإنجيل كما دوَّنه لوقا، ص180، 181.
(166) الكنز الجليل في تفسير الإنجيل جـ 2 - إنجيلي مرقس ولوقا، ص200.
(167) أورده القمص تادرس يعقوب - الإنجيل بحسب لوقا، ص155.
(168) المرجع السابق، ص154.
(169) التفسير المسيحي القديم للكتاب المقدَّس - العهد الجديد جـ 3 - الإنجيل كما دوَّنه لوقا، ص181.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/576.html
تقصير الرابط:
tak.la/76rt87j