س446: هل قال السيد المسيح " إِيلِي إِيلِي لِمَا شَبَقْتَنِي " (مت 27: 46)، أم " إِلُوِي إِلُوِي لِمَا شَبَقْتَنِي " (مر 15: 34)؟ وهل سقوا يسوع الخل بعد قوله: "إِلهِي إِلهِي لِمَاذَا تَرَكْتَنِي " (مت 27: 48)، أم بعد قوله " أَنَا عَطْشَانُ " (يو 19: 28، 29)، وهل وضعوا الأسفنجة على قصبة (مت 27: 48) أم على زوفا (يو 19: 29)؟ وإن كان اللَّه هو الذي يميت ويحيي (تث 32: 39، 40) فمن هو الذي أمات الرب؟ وهل مات الرب بناسوته أم بلاهوته أم بالاثنان معًا، أم مات الثلاثة الآب والابن والروح القدس؟ ومن كان يضبط الكون ويدبر شئونه ويدبر الأرزاق ويميت ويحيي وقت موت الإله (مت 27: 50)؟
ج: 1- هل قال السيد المسيح " إِيلِي إِيلِي لِمَا شَبَقْتَنِي" (مت 27: 46)، أم " إِلُوِي إِلُوِي لِمَا شَبَقْتَنِي" (مر 15: 34)..؟ العبارة التي نطق بها السيد المسيح على الصليب بالأرامية كانت " إِلُوِي إِلُوِي لِمَا شَبَقْتَنِي" ترجم القديس متى الجزء الأول منها " إِلُوِي إِلُوِي" من الأرامي للعبري، فكتبها " إِيلِي إِيلِي" بينما ترك بقية العبارة بالنطق الأرامي " لِمَا شَبَقْتَنِي". وكتب العبارة بالكامل بالحروف اليونانية، بينما ترك القديس مرقس النطق الأرامي كما هو " إِلُوِي إِلُوِي لِمَا شَبَقْتَنِي" وكتبها أيضًا بالحروف اليونانية... فلماذا ترجم القديس متى جزء من العبارة إلى العبرية وترك بقية العبارة بالأرامية..؟ لأن كلمة " إِيلِي" قريبة من كلمة "إيليا" فأراد أن يربط بين ما نطق به السيد المسيح، وما ظنه الناس القائمين عند الصليب، فالقديس متى ذكر الجزء الأول من العبارة بالعبرية والجزء الثاني بالأرامية ثم ذكر المعنى باليونانية ثم ذكر ما ظنه السامعون، وكل هذا بحروف يونانية: "صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلًا إِيلِي إِيلِي لِمَا شَبَقْتَنِي. أَيْ إِلهِي إِلهِي لِمَاذَا تَرَكْتَنِي. فَقَوْمٌ مِنَ الْوَاقِفِينَ هُنَاكَ لَمَّا سَمِعُوا قَالُوا إِنَّهُ يُنادِي إِيلِيَّا" (مت 27: 46، 47). ومعنى اسم " إِيلِيَّا" إلهي يهوه.
2- هل سقوا يسوع الخل بعد قوله " إِلهِي إِلهِي لِمَاذَا تَرَكْتَنِي" (مت 27: 48)، أم بعد قوله " أَنَا عَطْشَانُ" (يو 19: 28، 29)، وهل وضعوا الأسفنجة على قصبة (مت 27: 48) أم على زوفا (يو 19: 29)..؟ نطق السيد المسيح بسبع كلمات على الصليب، وجاءت متفرقة في الأناجيل، فجاء قول واحد في إنجيلي متى ومرقس وثلاثة أقوال في إنجيل لوقا، وثلاثة في إنجيل يوحنا، ونحن ندرك أن الأناجيل تكمل بعضها البعض، والسبعة أقوال التي نطق بها السيد المسيح على الصليب هيَ:
1) " يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ" (لو 23: 34).
2) "الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ" (لو 23: 43).
3) قوله للسيدة العذراء " هُوَذَا ابْنُكِ" وقوله ليوحنا الحبيب " هُوَذَا أُمُّكَ" (يو 19: 26، 27).
4) " إِلهِي إِلهِي لِمَاذَا تَرَكْتَنِي" (مت 27: 46، مر 15: 34).
5) " أَنَا عَطْشَانُ" (يو 19: 28).
6) " قَدْ أُكْمِلَ" (يو 19: 30).
7) " يَا أَبَتَاهُ فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي" (لو 23: 46).
ولأن القديس متى لم يذكر سوى قول واحد من الأقوال السبعة وهيَ " إِلهِي إِلهِي لِمَاذَا تَرَكْتَنِي" لذلك ذكر إسقاءه للخل بعدها: "وَلِلْوَقْتِ رَكَضَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَأَخَذَ إِسْفِنْجَةً وَمَلأَهَا خَّلًا وَجَعَلَهَا عَلَى قَصَبَةٍ وَسَقَاهُ" (مت 27: 48). أما القديس يوحنا فإنه ذكر قول السيد المسيح " أَنَا عَطْشَانُ" وربط بين هذه العبارة وبين إسقاءه الخل، فقال: "بَعْدَ هذَا رَأَى يَسُوعُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ كَمَلَ فَلِكَيْ يَتِمَّ الْكِتَابُ قَالَ أَنَا عَطْشَانُ. وَكَانَ إِنَاءٌ مَوْضُوعًا مَمْلُوًّا خَّلًا فَمَلأُوا إِسْفِنْجَةً مِنَ الْخَلِّ وَوَضَعُوهَا عَلَى زُوفَا وَقَدَّمُوهَا إِلَى فَمِهِ. فَلَمَّا أَخَذَ يَسُوعُ الْخَلَّ قَالَ قَدْ أُكْمِلَ" (يو 19: 28 - 30). وقوله " أَنَا عَطْشَانُ" كان تتميم لنبؤة داود النبي: "وَيَجْعَلُونَ فِي طَعَامِي عَلْقَمًا وَفِي عَطَشِي يَسْقُونَنِي خَلاُ" (مز 69: 21)، وبالطبع لم يحدث هذا مع داود الملك، ولكنه نبؤة وضعها الروح القدس على فم داود عن ابن داود. وهذا الرجل الذي أسرع وركض وسقى يسوع الخل لا يمكن أن نتغافل مشاعره النبيلة، إذ بلل شفتي يسوع الملتهبتان بالألم والعذاب، مع أن السيد المسيح قبل الصلب عندما قدموا له الشراب المخدر رفض لأنه أراد أن يشعر بالآلام كاملة إذ جعل نفسه ذبيحة إثم وذبيحة خطية وذبيحة محرقة.
أما قول الإنجيل أن الإسفنجة كانت على قصبة أو على زوفا، فالنتيجة واحدة، فما قال عنه القديس متى أنه "قصبة" وصفه يوحنا الإنجيلي بأنه "زوفا". وإن إحتج البعض بأن الزوفا نبات ضعيف لا يحمل أسفنجة إلى نحو مترين لتصل إلى فم المصلوب والذي يحملها يرفع ذراعه لأعلى لأن الصليب الذي صُلب عليه السيد المسيح كان إرتفاعه 4,8م فإن "Raymond E. Brawn" قال أنه يوجد نحو (18) نوعًا من الزوفا، وأن هناك أكثر من صنف فيه ساق طويلة قادرة أن تحمل الإسفنجة حتى تبلغ إلى فم المصلوب (راجع تفسير إنجيل يوحنا جـ6 كنيسة القديسة العذراء مريم بأرض الجولف).
3- إن كان اللَّه هو الذي يُميت ويحيي، فمن هو الذي أمات الرب؟ وهل مات الرب بناسوته أم بلاهوته أم بالاثنان معًا، أم مات الثلاثة الآب والابن والروح القدس؟ ومن كان يضبط الكون ويدبر شؤونه ويدبر الأرزاق ويُميت ويحيي وقت موت الإله..؟ جاء في سفر التثنية: "اُنْظُرُوا الآنَ. أَنَا أَنَا هُوَ وَلَيْسَ إِلهٌ مَعِي. أَنَا أُمِيتُ وَأُحْيِي... وَأَقُولُ حَيٌّ أَنَا إِلَى الأَبَدِ" (تث 32: 39، 40) وهذا هو إيماننا. أن اللَّه بلاهوته حي إلى الأبد وهو الذي يهب الحياة وهو الذي ينهيها. ولأن هناك استحالة أن يموت اللاهوت، ولكيما يتمم اللَّه فدائنا إتخذ جسدًا قابلًا للموت، فيقول "البابا أثناسيوس الرسولي": "فقد أدرك الكلمة جيدًا أنه لم يكن ممكنًا أن يقضي على فساد البشرية بأي طريقة أخرى سوى الموت نيابة عن الجميع. ومن غير الممكن أن يموت الكلمة لأنه غير مائت بسبب أنه هو ابن الآب غير المائت. ولهذا إتخذ لنفسه جسدًا قابلًا للموت حتى أنه عندما يتحد هذا الجسد بالكلمة الذي هو فوق الجميع، يصبح جديرًا ليس فقط أن يموت نيابة عن الجميع، بل ويبقى في عدم فساد بسبب إتحاد الكلمة به. ومن ذلك الحين فصاعدًا يمنع الفساد من أن يسري في جميع البشر بنعمة القيامة من الأموات. لذلك قدم للموت ذلك الجسد الذي إتخذه لنفسه كتقدمة مقدَّسة وذبيحة خالية من كل عيب. وببذله لهذا الجسد كتقدمة مناسبة، فإنه رفع الموت فورًا عن جميع نظرائه من البشر" (تجسد الكلمة 9: 1) (294).
وقد تجاهل الناقد أن هذا الإله في ملء الزمان تجسَّد وتأنس، فأخذ جسد إنسان وروح بشرية، طبيعة بشرية كاملة، وصار إنسانًا وهو الإله: "وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا" (يو 1: 14)، فبحسب لاهوته هو الإله الحي إلى الأبد، الذي يميت ويحيي، وبحسب ناسوته وهو طفل كان في حاجة لمن يطعمه ويهتم به، وبحسب ناسوته نما قليلًا قليلًا بشبه البشر، وبحسب الناسوت كان يحتاج للطعام والشراب والراحة والنوم والصلاة، بينما اللاهوت منزَّه عن كل هذا، وكما أننا لا نتعجب عندما نسمع أن يسوع قد جاع أو عطش أو تعب أو استراح أو صام أو صلى، فأننا أيضًا لا نتعجب عندما نسمع أنه أسلم الروح ومات وهو على عود الصليب، وندرك أنه ليس مثل أي إنسان تنزع روحه منه رغمًا عن إرادته " تَنْزِعُ أَرْوَاحَهَا فَتَمُوتُ وَإِلَى تُرَابِهَا تَعُودُ" (مز 104: 29) فالإنجيل يقول: "وَنَادَى يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَقَالَ يَاأَبَتَاهُ فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي. وَلَمَّا قَالَ هذَا أَسْلَمَ الرُّوحَ" (لو 23: 46). فالرب يسوع الإله المتجسد هو الذي يُميت ويحيى، ولا أحد يقدر أن يميته، فهو الذي قال: "لأَنِّي أَضَعُ نَفْسِي لآخُذَهَا أَيْضًا. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضًا" (يو 10: 17، 18).. " مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَه" (إش 53: 12) إذًا يسوع المسيح ليس إلهًا فقط، بل هو إله وإنسان في آن واحد، فهو اللَّه المتأنس الذي إتخذ طبيعتنا البشرية، جسد بشري حقيقي وروح بشرية حقيقية، وعندما أنكر أوطاخي أن السيد المسيح اتخذ جسدًا بشريًا، بل اتخذ جسدًا خياليًا شبحيًا هيوليًا، حرمته الكنيسة، بالرغم من أنه كان راهبًا ناسكًا ورئيس دير في القسطنطينية. وعندما أنكر أبوليناريوس أسقف اللاذقية أن السيد المسيح لم يتخذ روحًا بشرية حرمته الكنيسة...
وعندما قال السيد المسيح على الصليب: "يَا أَبَتَاهُ فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي" (لو 23: 46) انفصلت روحه البشرية عن جسده البشري، لكن اللاهوت لم يفارق الجسد البشري ولا الروح البشرية -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى- والروح البشرية المتحدة باللاهوت بعد أن فارقت الجسد البشري ذهبت للجحيم وأطلقت كل الذين ماتوا على الرجاء، والجسد البشري المتحد باللاهوت وُضِع في القبر ثلاثة أيام فلم يتعرَّض للتغيير والفساد، وفي لحظة القيامة وحَّد اللاهوت الروح البشرية مع الجسد البشري، إذ أقام اللاهوت الناسوت، فقام السيد المسيح منتصرًا على الموت والخطية والشيطان.
وهناك مَثَل يقرّب هذا المعنى للأذهان، وهو أنه لو وضعنا ورقة في الزيت حتى تشرَّبت تمامًا بالزيت، والزيت هنا يرمز لللاهوت والورقة ترمز للناسوت، وإذا شقَّقنا الورقة إلى نصفين، نصف يمثل الجسد البشري ونصف يمثل الروح البشرية، فهذا يمثل موت المسيح، وكل نصف من النصفين ما زال متشرب بالزيت، فاللاهوت لم يفارق هذا ولا ذاك، لم يفارق الجسد البشري ولا الروح البشرية. وعندما نوحّد نصفي الورقة، فترجع الورقة كما كانت، فهذا يمثل لحظة القيامة، وهذا ما نسمعه في القسمة السريانية في صلاة القداس الإلهي عندما يصلي الأب الكاهن قائلًا: "هكذا بالحقيقة تألم كلمة اللَّه بالجسد وذُبح وإنحنى بالصليب، وانفصلت نفسه عن جسده إذ لاهوته لم ينفصل قط عن نفسه ولا عن جسده".
ويقول "البابا أثناسيوس الرسولي": "وعندما صرخ بصوت عالي "وأحنى رأسه ولفظ روحه" أعلن بذلك عما في داخل جسده أي نفسه الإنسانية التي قال عنها في مناسبة أخرى "أنا أضعها عن خرافي"، ولا يمكن لمن يفهم تدبير الصليب بشكل سليم أن يفهم أنه عندما لفظ أنفاسه كان هذا بمثابة مفارقة اللاهوت له وإنما كان خروج نفسه فقط. ولو كان الموت أي موت الجسد كما يقولون هو مفارقة اللاهوت لجسده، لكان هذا موتًا خاصًا به فقط، ليس الموت الذي يخصنا نحن... وفي هذه الحالة علينا أن نسأل أين النفس البشرية التي وعد الآب أن يضعها عن خرافه..؟ أما إذا كان موته هو خروج نفسه منه، فأننا في هذه الحالة يمكن أن نقول أنه مات الموت الذي يخصنا نحن" (تجسد ربنا يسوع المسيح ص43) (295).
ويقول "مارديوناسيوس يعقوب ابن الصليبي": "لاهوته لم يفارق لا جسده ولا نفسه، لأن لاهوته قد اتحد اتحادًا بغير انفصال مع نفسه وجسده، وكان لاهوته متحدًا مع الجسد في القبر، ومع نفسه، مضى إلى الهاوية وسبى الأنفس التي ماتت على رجاء القيامة... أن اللاهوت غير محدود وعليه فكان مع جسده ونفسه... وبما أنه (اللاهوت) غير محدود فلا ينحصر في موضع أو في مكان لا بالقول ولا بالفكر، ولأنه صار إنسانًا لذلك كان مع الجسد في القبر، ومع النفس في الهاوية. ثم أن سيدنا صرخ مرتين وهو على الصليب بصوت عالٍ. الأولى "إِلهِي إِلهِي لِمَاذَا تَرَكْتَنِي" والثانية "يَا أَبَتَاهُ فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي " (لو 23: 46). ففي المرة الأولى صرخ نيابة عن آدم "إِلهِي إِلهِي"، وفي المرة الثانية صرخ عن أقنومه إلى الآب. فدعاه أباه ليبيّن أنه إله ومساو للآب في الجوهر وأن اللَّه بعينه قد صار إنسانًا. وبقوله "أَسْتَوْدِعُ رُوحِي" يبين أنه بإرادته أسلمها، لا أن يأخذها منه غصبًا... من آدم إلى أن قال المسيح "فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي" كانت أرواح الصديقين والأثمة تُرسَل إلى الهاوية. ومن بعد قوله هذا حتى المنتهى فأنفس الصديقين تكون في يدي اللَّه" (296).
ويقول "القديس يوحنا الدمشقي": "إذًا فإن المسيح، ولو كان قد مات بصفته إنسانًا وكانت نفسه المقدَّسة قد انفصلت عن جسده الأطهر، ولكن اللاهوت ظل بلا انفصال عن كليهما، لا عن النفس ولا عن الجسد، وأقنومه الواحد لم ينقسم بذلك إلى أقنومين. لأن الجسد والنفس منذ ابتدائهما قد نالا الوجود في أقنوم الكلمة بالطريقة نفسها... وإن كانت النفس قد انفصلت عن الجسد انفصالًا مكانيًا فقد ظلت متحدة به اتحادًا أقنوميًا بواسطة الكلمة" (المئة مقال 71)(297). فعندما نقول أن المسيح مات على الصليب، فنحن ندرك تمامًا أن اللاهوت منزَّه عن الموت، إنما مات السيد المسيح بالناسوت، ولا نجد حرجًا أن نقول أن "اللَّه مات" ونحن نعي ما نقول، وهذا ما نقوله عن الإنسان فعندما نقول أن "فلان مات" أو "تُوفيَّ فلان" فنحن ندرك أن روح فلان لم تمت، لكنها انطلقت من الجسد فمات الجسد، ولا نقل "جسد فلان مات" بل نقول "فلان مات".
إذًا السيد المسيح لم يمت باللاهوت والناسوت كما يتساءل الناقد، ولم يمت الثالوث القدوس الآب والابن والروح القدس. فإن الذي تجسد ومات وقام وأقامنا معه هو أقنوم الابن، ولماذا أقنوم الابن..؟ لأن الابن هو صورة اللَّه الآب غير المنظور، ونحن خُلقنا على صورة اللَّه ومثاله وأخطأنا وفسدت طبيعتنا فجاء الابن صورة اللَّه الحقيقي ليصلح طبيعتنا التي تشوَّهت بالخطية... الابن هو الذي أعلن لنا الآب: "اللَّه لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ" (يو 1: 18) فالابن هو الذي ظهر للأنبياء في العهد القديم وأعلن لهم مشيئة اللَّه الآب، وهو الذي تجسد في العهد الجديد وحدثنا عن محبة الآب لنا: "هكَذَا أَحَبَّ اللَّه الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ" (يو 3: 16) فالآب بذل ابنه الحبيب، والابن الحبيب قدم ذاته ذبيحة حيَّة على عود الصليب، والروح القدس ينقل لنا استحقاقات دم المسيح: "اللَّهِ الَّذِي صَالَحَنَا لِنَفْسِهِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ وَأَعْطَانَا خِدْمَةَ الْمُصَالَحَةِ. أَيْ إِنَّ اللَّه كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحًا الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ وَوَاضِعًا فِينَا كَلِمَةَ الْمُصَالَحَة" (2 كو 5: 18، 19). نعم الثالوث القدوس لاهوت واحد، طبيعة واحدة، جوهر واحد، كيان واحد، ولكن كل أقنوم له عمله في الفداء فالذي تجسّد ومات هو أقنوم الابن وليس أقنوم الآب ولا أقنوم الروح القدس، أما بالنسبة للناقد فهذه الأفكار السماوية بعيدة تمامًا عن ذهنه الذي يبحث عن الماديات والمحسوسات والملموسات. ونحن لم نفقد عقولنا حتى نقول أن اللَّه بلاهوته قد مات، بل نحن نصلي دائمًا وننشد نشيد النصرة: "قدوس اللَّه قدوس القوي قدوس الحي الذي لا يموت. يا من صُلِب عنا ارحمنا" فهو الحي الذي لا يموت ونحن دائمًا نترجى مراحمه. وفي قطع صلاة الساعة التاسعة بالأجبية نصلي: "يا من ذاق الموت بالجسد في وقت الساعة التاسعة من أجلنا نحن الخطاة. أمت حواسنا الجسمانية أيها المسيح إلهنا ونجنا..". وبالطبع لا يتبقى أي مجال لتساؤل الناقد عمن كان يضبط الكون ويدير شؤونه ويدبر الأرزاق ويحيي ويميت وقت موت اللَّه على الصليب، ونحن لا نكف عن قولنا بأن اللاهوت حي لا يموت، شهد له قديمًا داريوس ملك فارس قائلًا عن إله دانيال: "لأَنَّهُ هُوَ الإِلهُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ إِلَى الأَبَدِ وَمَلَكُوتُهُ لَنْ يَزُولَ وَسُلْطَانُهُ إِلَى الْمُنْتَهَى" (دا 6: 26)، وشهد بطرس الرسول للسيد المسيح قائلًا: "أَنْتَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ الْحَيِّ" (مت 16: 16)، وقال بولس وبرنابا لأهل لسترة: "نُبَشِّرُكُمْ أَنْ تَرْجِعُوا مِنْ هذِهِ الأَبَاطِيلِ إِلَى الإِلهِ الْحَيِّ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَالْبَحْرَ وَكُلَّ مَا فِيهَا" (أع 14: 15)، وقال لأهل تسالونيكي: "وَكَيْفَ رَجَعْتُمْ إِلَى اللَّهِ مِنَ الأَوْثَانِ، لِتَعْبُدُوا اللَّهَ الْحَيَّ الْحَقِيقِيَّ" (1 تس 1: 9).
وقد سبق الرد على التساؤل: كيف مات السيد المسيح وهو الإله الذي لا يموت؟ وما هو فكر الآباء في موت المسيح؟ بشيء من التفصيل، فيُرجى الرجوع إلى كتابنا: "أسئلة حول الصليب" س22، 23" طبعة (3) سنة 2015م ص180 - 187.
_____
(294) ترجمة دكتور جوزيف موريس فلتس - تجسد الكلمة (ط 295) 2003م ص23، 24.
(295) أورده القمص عبد المسيح بسيط - إذا كان المسيح إلهًا فكيف تألم ومات ص61.
(296) الدر الثمين في تفسير العهد الجديد جـ 1 ص544.
(297) أورده القس عبد المسيح بسيط - إن كان المسيح إلهًا فكيف تألم ومات ص61.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/446.html
تقصير الرابط:
tak.la/2qn4qp5