St-Takla.org  >   books  >   helmy-elkommos  >   biblical-criticism  >   new-testament
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

كتاب النقد الكتابي: مدارس النقد والتشكيك والرد عليها (العهد الجديد من الكتاب المقدس) - أ. حلمي القمص يعقوب

447- كيف حقَّق السيد المسيح النصرة بالصليب مع أنه صرخ بصوت عظيم وأسلم الروح (مت 27: 50)؟ وما هو الدافع الذي يدفع الآب أن يبذل ابنه لفداء مجرم أثيم، وكيف يعالج مشكلة آدم بتقديم ابنه كبش فداء؟ وهل الإنسان يفدي ابنه بخروف أم يفدي الخروف بابنه؟ وهل يرتضي العدل الإلهي أن يموت البار عوض الأثيم؟ وهل مات المسيح ليُظهِر لنا محبة اللَّه حتى نتخلى عن أنانيتنا ونُدرك مدى كراهية اللَّه للخطية فنقتدي به؟ وإن كان المسيح مات بناسوته المحدود فكيف يفدي البشرية في كل زمان ومكان؟ وإن كانت الذبيحة تقدم عن الخطايا السالفة، فكيف قدم المسيح ذاته كفارة عن الخطايا السالفة والحاضرة والمقبلة؟ وإن كان المسيح تألم لعدة ساعات فكيف يوفي العقوبة التي وقعت على كل البشرية؟

 

س447: كيف حقَّق السيد المسيح النصرة بالصليب مع أنه صرخ بصوت عظيم وأسلم الروح (مت 27: 50)؟ وما هو الدافع الذي يدفع الآب أن يبذل ابنه لفداء مجرم أثيم، وكيف يعالج مشكلة آدم بتقديم ابنه كبش فداء؟ وهل الإنسان يفدي ابنه بخروف أم يفدي الخروف بابنه؟ وهل يرتضي العدل الإلهي أن يموت البار عوض الأثيم؟ وهل مات المسيح ليُظهِر لنا محبة اللَّه حتى نتخلى عن أنانيتنا ونُدرك مدى كراهية اللَّه للخطية فنقتدي به؟ وإن كان المسيح مات بناسوته المحدود فكيف يفدي البشرية في كل زمان ومكان؟ وإن كانت الذبيحة تقدم عن الخطايا السالفة، فكيف قدم المسيح ذاته كفارة عن الخطايا السالفة والحاضرة والمقبلة؟ وإن كان المسيح تألم لعدة ساعات فكيف يوفي العقوبة التي وقعت على كل البشرية؟

St-Takla.org                     Divider     فاصل موقع الكنيسة القبطية الأرثوذكسية - أنبا تكلا هايمانوت
St-Takla.org Image: The Holy Cross stature over a tomb, with scenes of the Crucifixion, Nativity, Baptism and Resurrection - Glasenvin Cemetery, Dublin, Ireland - Photograph by Michael Ghaly for St-Takla.org, June 15, 17, 18, 2017. صورة في موقع الأنبا تكلا: تمثال الصليب المقدس على واجهة أحد القبور، وعليه مشاهد الصلبوت، الميلاد، العماد، القيامة - من صور مدافن جلاسينفين، دبلن، أيرلندا - تصوير مايكل غالي لموقع الأنبا تكلاهيمانوت، 15 و17 و18 يونيو 2017 م.

St-Takla.org Image: The Holy Cross stature over a tomb, with scenes of the Crucifixion, Nativity, Baptism and Resurrection - Glasenvin Cemetery, Dublin, Ireland - Photograph by Michael Ghaly for St-Takla.org, June 15, 17, 18, 2017.

صورة في موقع الأنبا تكلا: تمثال الصليب المقدس على واجهة أحد القبور، وعليه مشاهد الصلبوت، الميلاد، العماد، القيامة - من صور مدافن جلاسينفين، دبلن، أيرلندا - تصوير مايكل غالي لموقع الأنبا تكلاهيمانوت، 15 و17 و18 يونيو 2017 م.

ج: 1- كيف حقَّق السيد المسيح النصرة بالصليب مع أنه صرخ بصوت عظيم وأسلم الروح (مت 27: 50)..؟ ما حدث على الصليب كان له جانب منظور وجانب آخر غير منظور. الجانب المنظور منظر الضعف والموت الذي يعاني منه يسوع على الصليب، وهو منظر يهتز له كيان الإنسان، إذ كيف يصنعون كل هذا بإنسان بريء فشل الشيطان والعالم أن يثبت عليه خطأ واحدًا صغيرًا أو كبيرًا. أما الجانب غير المنظور فهو معركة رهيبة دارت رحاها على الصليب، إذ حشد الشيطان كل جنوده وجميعهم أرواح شريرة غير منظورة ليصنعوا مأدبة على روح المصلوب كما صنعوها على جسده، فهم في انتظار ساعة انطلاق هذه الروح عن الجسد لينقضوا عليها ويزفونها إلى سجن الجحيم، وقد استطاع السيد المسيح بمهارة فائقة أن يجتذب الشيطان إلى مصيدة الصليب، ففي القديم زين الشيطان للإنسان ثمرة شجرة معرفة الخير والشر المُنهَى عنها، واليوم يقترب الشيطان من شجرة الصليب ليقتطف روح المسيح، والضعف الذي جاز فيه المصلوب أغرى الشيطان ليستعد للانقضاض على روح المصلوب، وما أن سمع صرخة الموت وقول المصلوب: "يَا أَبَتَاهُ فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي" حتى قال: كيف يكون هذا؟ أن جميع الأرواح البشرية ملك لي، فتجرأ وهجم على المصلوب ليقبض روحه مثلما قبض جميع الأرواح منذ آدم، وإذ به يفاجئ أن المصلوب هو اللَّه الخالق الذي جبله من العدم، وأدرك مدى الجرم الذي سقط فيه عندئذ أمسكت به مصيدة الصليب وهو متلبث بالتعدي على العزة الإلهيَّة، وإذ بالسيد المسيح يقبض عليه ويجرده من سلطانه ويقتحم مملكته ويحرر جميع الأبرار الذين ماتوا على الرجاء.

وفعل "صرخ" الذي استخدمه القديس متى: "فَصَرَخَ يَسُوعُ أَيْضًا بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَأَسْلَمَ الرُّوحَ" (مت 27: 50) في الأصل اليوناني Tetelestai ويحمل معنى النصرة والظفر، وليست صرخة الهزيمة، فيقول "وليم باركلي": "والكلمة اليوناني هيَ صرخة المنتصر، هيَ هتاف من أتم عمله، ومن فاز في المعركة. صرخة رجل خرج من الظلام إلى مجد الضياء، وأمسك بالتاج، وهكذا مات المسيح منتصرًا وصيحة الفائز على شفتيه"(298).

وصار الصليب الذي كان علامة للعنة والعري والفضيحة والعار والهزيمة والقهر والإنكسار، علامة للبركة والحب والبذل والفداء والحياة والنجاة، وصار تعبيرًا عن قوة اللَّه: "فَإِنَّ كَلِمَةَ الصَّلِيبِ عِنْدَ الْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ الْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ اللَّهِ" (1 كو 1: 18). حقًا لم يكن موت المسيح الإرادي ضعفًا بل قوة " لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هذَا أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ" (يو 15: 13)، ولم يكن الموت ضد اللاهوت، لأن اللاهوت لم يلحق به هوان الموت. حقًا أن السيد المسيح بموته قتل الموت وداس الموت، وفي لحن "إخرستوس آنيستي إكنكرون": "المسيح قام من الأموات. بالموت داس الموت والذين في القبور أنعم لهم بالحياة الأبدية". والصليب نصرة: "إِذْ مَحَا الصَّكَّ الَّذِي عَلَيْنَا فِي الْفَرَائِضِ الَّذِي كَانَ ضِدًّا لَنَا وَقَدْ رَفَعَهُ مِنَ الْوَسَطِ مُسَمِّرًا إِيَّاهُ بِالصَّلِيبِ. إِذْ جَرَّدَ الرِّيَاسَاتِ وَالسَّلاَطِينَ أَشْهَرَهُمْ جِهَارًا ظَافِرًا بِهِمْ فِيه" (كو 2: 14، 15) كان موت المسيح قوة ونصرة زلزلت الأرض وفتَّحت القبور وشقَّت حجاب الهيكل، حتى أن قائد المئة قال: "حَقًّا كَانَ هذَا ابْنَ اللَّهِ" (مت 27: 54)، وكان موت الصليب قوة إذ عن طريقه اقتحم السيد المسيح مملكة الظلمة ونزل إلى الجحيم وأطلق أسرى الجب، وكان موت الصليب قوة كسرت شوكة الموت عنا، وهذا ما دعى بولس الرسول أن يهتف: "أَيْنَ شَوْكَتُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ غَلَبَتُكِ يَا هَاوِيَةُ" (1 كو 15: 55).

وفي لحن "أمونوجينيس": "أيها الابن الوحيد الجنس وكلمة اللَّه الذي لا يموت، الأزلي، القابل كل شيء من أجل خلاصنا، المتجسد من القديسة والدة الإله الدائمة البتولية مريم.

بغير استحالة المتأنس المصلوب المسيح الإله. بالموت داس الموت أحد الثالوث القدوس الممجد مع الآب والروح القدس خلصنا.

قدوس اللَّه الذي من أجلنا صار إنسانًا بغير استحالة وهو الإله.

قدوس القوي الذي أظهر بالضعف ما هو أعظم من القوة.

قدوس الذي لا يموت الذي صُلِب من أجلنا وصبر على موت الصليب وقبله في جسده وهو أزلي غير مائت. أيها الثالوث القدوس ارحمنا".

 

2- ما هو الدافع الذي يدفع الآب أن يبذل ابنه لفداء مجرم أثيم، وكيف يعالج مشكلة آدم بتقديم ابنه كبش فداء؟ وهل الإنسان يفدي ابنه بخروف أم يفدي الخروف بابنه؟ وهل يرتضي العدل الإلهي أن يموت البار عوض الأثيم..؟ لا يدرك الناقد مدى قوة علاقتنا باللَّه، الذي خلقنا على صورته ومثاله، وصيّرنا أبناء له بالتبني، وخلقنا للخلود والتمتع بالوجود في حضرته، فعندما أسقط الشيطان الإنسان وقاده في طريق الهلاك، هل كان يُريد الناقد أن اللَّه يصمت ويتخذ موقفًا سلبيًا؟!، وهل هذا يتفق مع كمال اللَّه المُطلّق؟!، وهل هذا يتفق مع طبيعة اللَّه الكلي الصلاح؟!! وهل لو أخطأ ابن الناقد ودخل في مأزق بغواية أصدقاء السوء وتعرضت حياته للخطر هل يتركه لمصيره التعس أم يقدم نفسه فداءً لابنه؟!، فهل الإنسان أكثر كمالًا وصلاحًا من اللَّه؟!!. لقد شبَّه البابا أثناسيوس الرسولي هذا الموقف بملك عظيم بنى مدينة وأهَّلها بالسكان محذرًا إياهم من أعدائه وأوصاهم بحراسة المدينة، وفي غفلة تقاعسوا عن نوبات الحراسة، فهجم عليها الأعداء وفعلوا ما فعلوا بسكان المدينة، ونما إلى مسامع الملك هذه الأخبار الحزينة، تُرى هل يتركهم لمصيرهم التعس والعبودية المُرة قائلًا في نفسه: لقد منحتهم كل شيء وحذرتهم وهم تهاونوا فيستحقون هذه العقوبة التي حلَّت بهم، أم أنه يغير على مدينته ويجرد جيشه ويحارب أعدائه فيسترد مدينته التي سُلبت..؟ لم تكن علاقة الإنسان بخالقه يوم ما علاقة الخروف بصاحبه، فنحن أبناء ولسنا حيوانات. ويمكن أن يُضحي البار ويجود بنفسه ليفدي شخصًا أثيمًا يهمه أمره، ولا يعد هذا إخلالًا للعدالة الإلهيَّة، إذا توفرت أربعة شروط، هيَ:

أ - أن يقدم البار نفسه بإرادته وكامل حريته، ولعلنا نذكر قصة السفينة الحربية التي أوشكت على الغرق ولم يكن هناك قوارب نجاة تكفي جميع الجنود، فألقوا قرعة، ومن ضمن الذين وقعت عليهم القرعة للنجاة جندي صالح، وكان صديقه يسلك بحسب شهواته وأهوائه، فخشى عليه أن يموت ويفقد حياته الأبدية، فاتفق معه سريعًا أن يتبادلا المواقع على أن يعيش حياة صالحة، ونجى الجندي الأثيم ومات الصالح عوضًا عنه، فتاب الأثيم وعاش حياة التقوى.

ب - إذا كان للبريء القدرة أن يجوز الموت ثم يستطيع أن يعود للحياة بقوته الذاتية كما حدث مع السيد المسيح، إذ مات عنا ثم قام وأقامنا معه.

جـ - إذا رُدَّ للبريء الذي مات اعتباره، وتكريمه من أجل العمل البطولي الذي قام به، وهذا ما نراه في السيد المسيح إذ يتعبَّد له البشر عبر الأجيال المتتالية، وتسبحه الملائكة من أجل هذا الفداء: "مُسْتَحِق أَنْتَ أَنْ تَأْخُذَ السِّفْرَ وَتَفْتَحَ خُتُومَهُ لأَنَّكَ ذُبِحْتَ وَاشْتَرَيْتَنَا للَّهِ بِدَمِكَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّة" (رؤ 5: 9) (راجع رؤ 5: 12، 13).

د - أن يتوب المجرم الأثيم ويعيش حياة البر والقداسة، فيربح ملكوت السموات.

الأمر المدهش أنه بالحقيقة مات المسيح وقدم لنا هذا الفداء العجيب مجانيًا، والبعض يرفض طريق النجاة محتجًا أن هذا لا يتوافق مع العقل والمنطق، وهكذا تقود العقلانية الإنسان الرافض موت المسيح لأجله إلى طريق الهلاك الأبدي. ويقول "عوض سمعان": "إذا كان الأب البار بأبنائه، مع ما فيه من نقائص، يحبهم محبة شديدة ويحتمل بنفسه نتائج أخطائهم عوضًا عنهم، لذلك لا غرابة إذا كان اللَّه الكامل كلي الكمال يرضي في محبته التي تفوق محبة الآباء بدرجة لا حد لها، أن يتحمل عنا نتائج خطايانا... والكتاب المقدَّس ملئ بالآيات التي تدل على أن اللَّه يسَّر بنا ويحبنا محبة لا حد لها، الأمر الذي يدل على أن فداءه لنا أمر يتوافق ليس فقط مع ذاته، وما بها من كمال مُطلق، بل ويتوافق أيضًا مع علاقته بنا... قد تأخذنا الشفقة أحيانًا على مجرم أثيم وصل إلى أحط درجات البؤس والشقاء، فنمده (مثلًا) بما يحتاج إليه من غذاء أو كساء، ولكننا لا نستطيع أن نأتي به إلى منزلنا ليعيش بين أفراد عائلتنا ويأكل ويشرب ويتسامر معنا... فنحن بتصرفنا هذا، نكون قد أشفقنا عليه، لكن لا نكون قد أحببناه. والرحمة الخالية من المحبة قاسية كل القسوة... أما اللَّه جل شأنه فلا يشفق على الخطاة فقط بل ويحبهم أيضًا، ومن ثمَّ فأنه يتحمل في نفسه خطاياهم، بل ويعمل على تأهيلهم للتوافق الروحي معه"(299).

كما يقول أيضًا "عوض سمعان": "ليس هناك شيء في الوجود يستطيع أن يفرض على اللَّه القيام بعمل ما، بل أنه يقوم بكل أعماله بمحض إرادته ومشيئته... لذلك من البديهي أن يكون الباعث الوحيد على إفتدائه لنا، هو كماله المُطلّق ومشيئته الصالحة من نحونا. فقد قال الوحي عنه: يعمل كل شيء "حَسَبَ مَسَرَّةِ مَشِيئَتِه"، و"حَسَبَ مَسَرَّتِهِ الَّتِي قَصَدَهَا فِي نَفْسِه"، و"حَسَبَ قَصْدِه" (أف 1: 5 - 11).

كما أن اللَّه لا يهدف بهذا الفداء إلى الحصول على خير منا... لأنه كامل في ذاته كل الكمال ومُستغنِ عن كل شيء من الأشياء. ومن ثمَّ فإنه لا يقصد بالفداء سوى خير البشر وإسعادهم، وفي خيرهم وإسعادهم تتحقق أغراضه السامية نحوهم... إذا كان الأمناء من البشر يتصرفون في الأعمال المُسندة إليهم بكل نزاهة واخلاص. وأن استلزم الأمر، فأنهم يضحون عن طيب خاطر بصحتهم ومالهم للقيام بهذه الأعمال على الوجه الأكمل، ليس خوفًا من رؤساء أو طمعًا في جزاء بل مراعاة لضمائرهم ومبادئهم لذلك ليس من المعقول إطلاقًا أن يترك اللَّه، وهو الكامل في كل صفاته، طريق الفداء الذي يتفق مع عدالته وقداسته، ويلجأ إلى طريق التساهل معهما أو عدم المبالاة بهما، ألا وهو طريق الغفران بدون فداء.." (300).

 

3- هل مات المسيح ليُظهِر لنا محبة اللَّه حتى نتخلى عن أنانيتنا وندرك مدى كراهية اللَّه للخطية فنقتدي به..؟ لم يكن الهدف من موت المسيح على الصليب إظهار محبة اللَّه لنا فقط فنقتدي بمحبته هذه ونخلص من الأنانية، لأن حياة المسيح على الأرض وهو يجول يصنع خيرًا، كانت فيها كل الكفاية لتكشف لنا محبة اللَّه العظيمة، أما الهدف الأساسي من موت السيد المسيح على الصليب فهو فدائنا من حكم الموت الواقع علينا، فمات نيابة عنا، وأخذ الذي لنا وأعطانا الذي له... أخذ خطايانا المُرة الخانقة للنفس ووهبنا برَّه، ولو لم يمت المسيح ويوفي عنا عقوبة الخطية، ويجدد طبيعتنا التي فسدت بالخطية ما كنا نستطيع أبدًا أن نتخلى عن أنانيتنا.

وأيضًا لم يمت المسيح ليُظهِر كراهيته للخطية فنقتدي به، فهذا سبب جانبي، أما السبب الرئيسي فهو لكيما يفدينا ويرفع عنا حكم الموت، فمات كفارة عنا -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى- ولو لم يحمل خطايانا ويجدّد طبيعتنا فكيف كنا نستطيع أن نكره الخطية؟!.. أننا نجاهد لكيما نغلب ونكره الخطية التي كانت سببًا في هذه الآلامات والعذابات التي جاز فيها مُخلصنا الصالح، ونحن نرنم قائلين:

 قلبه حنين، حُبه يبيِّن... أن صليبه دا كان تكفير

 عن خطايانا، مات وفدانا... نعمة غنية وحب كبير

ولم يُصلب المسيح ليكون وسيلة إيضاح لعقوبة الخطية، فيقول "عوض سمعان": "ليس من المعقول إطلاقًا أن يقبل المسيح آلام الصليب لكي يكون مجرد مثال لما يستحقه الخطاة من عذاب، إذ أن في أقواله وأقوال الأنبياء والرسل ما يكفي لإثبات هذه الحقيقة" (301).

 

4- إن كان المسيح مات بناسوته المحدود فكيف يفدي البشرية في كل زمان ومكان؟ وإن كانت الذبيحة تقدم عن الخطايا السالفة، فكيف قدم المسيح ذاته كفارة عن الخطايا السالفة والحاضرة والمقبلة..؟ لو كان السيد المسيح محض إنسان فقط، حتى لو كان نبيًا أو رئيس الأنبياء، فإنه من المستحيل أن يفدي البشر في كل زمان ومكان. ولكن إذا أدركنا أن السيد المسيح لم يكن محض إنسان بل هو اللَّه المتأنس، فهو إله وإنسان في آن واحد، فاللاهوت الغير محدود ولا متناه اتحد بالناسوت اتحادًا كاملًا بدون اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير، فقد اتحدت الطبيعة الإلهيَّة بالطبيعة البشريَّة، وكل طبيعة ظلت محتفظة بكل خصائصها، فالسيد المسيح بحسب الناسوت هو محدود، ولكن بحسب اللاهوت فهو غير محدود، فالناسوت المحدود الذي مات على الصليب كان متحدًا باللاهوت الغير محدود، لذلك فإن ذبيحة الصليب تكفي كل البشرية في كل زمان وكل مكان، فأنها تكفر عن جميع خطايا البشر، كل البشر.

إذًا موت السيد المسيح على الصليب موت غير محدود بسبب اتحاد الناسوت باللاهوت، كاتحاد الحديد بالنار، وبالتالي فهو يفي كل مطالب العدل الإلهي، وهو يكفي لرفع الغضب الإلهي عن الخطاة والأثمة والمجرمين، ويمنح البراءة الكاملة لأشر الخطاة، وعن جميع أنواع الخطايا، ويقول "عوض سمعان": "لو كان المسيح قام بالكفارة بمعزل عن اللَّه لكان هناك مجال لهذا الاعتراض. لكن الأمر لم يكن كذلك، لأن اللَّه نفسه كان في المسيح مصالحًا العالم لنفسه (2 كو 5: 19)" (302).

نعم كانت الذبائح الحيوانية تُقدَم عن الخطايا السابقة فقط، فلم يقدم أحد ذبيحة لتغفر له الخطايا التي سيرتكبها في المستقبل، ولأن هذه الذبائح الحيوانية كانت قاصرة لذلك كانت تتكرر كثيرًا بأنواعها المختلفة، فهناك ذبائح عامة وذبائح شخصية، هناك ذبيحة المحرقة وتقدمة الدقيق، وذبيحة السلامة، وذبيحتي الخطية والإثم، وما أكثر الذبائح التي كانت تقدم كل صباح وكل مساء وكل سبت وفي رأس كل شهر، وفي الأعياد، وجميعها كانت تشير إلى ذبيحة الصليب بجوانبها المتعددة. أما ذبيحة الصليب فأنها قدمت مرة واحدة عن خطايا كل البشر من آدم للمجيء الثاني، عما سلف من خطايا، وعما نسقط فيه في الحاضر، وعما سنسقط فيه في المستقبل.

 

5- إن كان المسيح تألم لعدة ساعات فكيف يوفي العقوبة التي وقعت على كل البشرية..؟ إن كان السيد المسيح تألم لساعات محدودة لكن العمر كله لا يكفي للتأمل في هذه الآلامات والعذابات سرّ خلاصنا، فإن آلام المسيح هذه آلام خلاصية، فذبيحة المسيح غير محدودة بحسب لاهوته غير المحدود المتحد بناسوته، فليست العبرة في المدة التي قاسى فيها السيد المسيح الآلامات والعذابات حتى الموت ولكن العبرة فيمن هو ذاك الذي تألم..؟ إنه اللَّه المتجسد، فلا يصح المقارنة بين آلام أحد الشهداء حتى لو قاسى من العذابات سنين عدة، وبين آلام السيد المسيح، فالشهيد هو مجرد إنسان وآلامه ليست خلاصية، بينما آلام المسيح خلاصية تكفي لخلاص كل البشرية، فقد أدان اللَّه الآب الخطية التي حملها ابن محبته دون أدنى تساهلات أو تنازلات، لأن إلهنا نار آكلة لا يطيق الإثم ولا الخطية، فعلى الصليب وقعت دينونة اللَّه العادلة وغضبه وسخطه على الخطية على ابن محبته، وتحمل الابن الحبيب كل هذا برضى وهو البار القدوس الجالس وسط تسبيحات إسرائيل الذي بلا خطية وحده. لم يمت المسيح كشهيد الحق مثل أي شهيد يستشهد، إنما مات كفارة عن خطايانا، ويقول "عوض سمعان": "لو كان المسيح مات فقط شهيدًا من أجل الحق، لكان اللَّه يُسَّر به وحده ويمجده وحده، ولكننا جميعًا نظل كما نحن في خطايانا، عاجزين عن التوافق مع اللَّه وواقعين تحت طائلة قصاصه. لكن إذا كان موت المسيح موتًا كفاريًا (كما أعلن الكتاب المقدَّس)، فإن اللَّه يصفح عن خطايانا ويهيئنا للتوافق معه" (303).

وأيضًا الشهداء في عذاباتهم يجدون معونة ومساندة إلهيَّة وتعزية سماوية، أما السيد المسيح فلم يجد أي معونة أو مساندة أو تعزية لأنه لم يسمح للاهوته بتخفيف أي ألم عن ناسوته، فقد قدم ذاته ذبيحة محرقة فاحترق بنيران الآلام.

لقد مات المسيح على الصليب وتحمل العقوبة كاملة نيابة عن كل البشرية ووفىَ العدل الإلهي حقه تمامًا، ويصلي الأب الكاهن في القداس الغريغوري: "أنت يا سيدي حوَّلت لي العقوبة خلاصًا.."، ويقول "القديس إيرينيؤس": "غاية الكفارة هيَ إيفاء مطالب العدل الإلهي نيابة عنا، والمسيح بموته على الصليب وفىَ هذه المطالب، ومن ثم كفر عن خطايانا إلى الأبد" (304).

ويقول "القديس أكليمنضس": "لنتأمل دم المسيح ونعرف قيمته التي تفوق كل قيمة. فأنه ليس مثل دم الشهداء الذي يموتون من أجل الدفاع عن الحق (وإن كان دم هؤلاء غاليًا وثمينًا في أعيننا)، بل أنه دم المحبة الإلهيَّة المعروف قبل إنشاء العالم، للتكفير عن خطايانا جميعًا"(305). ولنا عودة لهذا الموضوع في س456... والقول بأن الذبيحة تُقدم عن الخطايا السالفة، هذه حقيقة، أما التساؤل عن كيف يقدم المسيح ذاته كفارة عن الخطايا السابقة والحاضرة والمقبلة لكل البشر في كل زمان ومكان وإلى نهاية الدهور كلها، فذلك لأن ذبيحته غير محدودة، فالذي مات على الصليب ليس إنسانًا محض إنسان، بل هو اللَّه المتجسد غير المحدود وغير المتناه بلاهوته. ويقول "عوض سمعان": "أما اللَّه نفسه هو الذي قدم الكفارة، فأنه كان يعلم منذ الأزل كل البشر الذين سيأتون إلى العالم، كما كان يعلم أيضًا كل الخطايا التي سيأتونها، وبما أنه لا يعسر عليه التكفير عنها جميعًا دفعة واحدة. لذلك لم يكن هناك داعٍ أن يُكفّر في نهاية كل قرن (مثلا) عن الخطايا التي أُرتكبت فيه. وإذا كان الأمر كذلك، تكون كفارته هيَ عن كل البشر في كل البلاد والعصور كما أعلن الوحي، فقد قال عن المسيح: "لِكَيْ يَذُوقَ بِنِعْمَةِ اللَّه الْمَوْتَ لأَجْلِ كُلِّ وَاحِد" (عب 2: 9) (306).

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

 (298) تفسير العهد الجديد - المجلد الأول ص456.

 (299) كفارة المسيح ص106، 107.

 (300) المرجع السابق ص 109، 110.

 (301) كفارة المسيح ص196.

(302) المرجع السابق ص197.

 (303) كفارة المسيح ص197.

 (304) كفارة المسيح ص192.

(305) المرجع السابق ص192.

(306) المرجع السابق ص210.


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/447.html

تقصير الرابط:
tak.la/bs94zrw