يقول " زينون كوسيدوفسكي": "فلما سمع أبيشاي غلام الملك المخلص هذا الكلام، قال للملك: {لماذا يسبَّ هذا الكلب الميت سيدي الملك؟ دعني أعبر وأقطع رأسه} لكن الملك أوقفه لأنه لم يرغب بإيصال علاقته مع القبائل الشمالية إلى أسوأ ما وصلت إليه. تابع داود طريقه وتابع شمعي مرافقته بالسباب وقذف الحجارة حتى اضطر المقاتلون لحماية الملك بدروعهم"(1).
ويقول " ليوتاكسيل": "أما قصة ذلك الشمعي الذي كان يقذف الملك بالحجارة ويذر التراب في وجهه، بينما الملك محاطًا بجيش مسلَّح، ومعه سكان أورشليم كلهم، فهي أيضًا واحدة من كذبات " الروح القدس " الكثيرة"(2).
ج: هنا نقف أمام إبهامين ضد داود النبي والملك، أولهما: أن داود صفح عن شمعي بن جيرا الذي سبَّه تخوفًا من أن تسوء علاقته بالأسباط، وثانيهما: أن قصة شمعي أكذوبة، والآن دعنا يا صديقي نمحص الأمرين:
أولًا: هل عفا داود عن شمعي تخوُّفًا من غضب الأسباط؟
1- لم تكن المشكلة بين داود وقبائل (أسباط) الشمال كما تصوَّر الناقد، إنما كانت بينه وبين ابنه أبشالوم، وكان من حق داود معاقبة من تعدى عليه بالسب والقذف والرشق بالأحجار، فالتعدي على الملك هو تعدي على المملكة بأثرها، ولكن إذ كان داود يشعر أنه تحت التأديب الإلهي لم يشأ أن يرفض هذا التأديب، وأيضًا لم يستخدم سلطته للانتقام لنفسه كما رفض من قبل الانتقام من شاول الذي طارده ليقتله.
2- عندما هرب داود من أورشليم سبَّه شمعي وأخذ يرشقه هو ومن معه بالحجارة، وربما لم تصب الحجارة داود لأن كان بينهما وادٍ، أما شتيمته وسبه فقد كان مسموعًا، وكان يقول: "أخرج أخرج يا رجل الدماء ورجل بليعال" (2صم 16: 7) ولعل هذه العبارة وضعت داود أمام خطيته وسفكه دماء أوريا الحثي، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وقال أبيشاي: "لماذا يسب هذا الكلب الميت سيدي الملك. دعني أعبر فأقطع رأسه" (2صم 16: 9).. ماذا كان رد داود عليه..؟ لقد قال: "دعوه يسبَّ الملك لأن الربَّ قال له سُبَّ داود ومن يقول لماذا تفعل هكذا. وقال داود لأبيشاي ولجميع عبيده هوذا ابني الذي خرج من أحشائي يطلب نفسي. فكم بالحري الآن بنياميني. دعوه يسبَّ لأن الرب قال له. لعل الرب ينظر إلى مذلَّتي ويكافئني الرب خيرًا عوض مسبَّته بهذا اليوم" (2صم 16: 10 - 12) وتأمل كم مرة يكرر داود فكرته، فهو مقتنع تمامًا أن كل هذه الأحداث هي التأديبات الإلهيَّة التي سبق ونطق بها ناثان النبي، لقد نظر إلى شمعي كمجرد أداة في يد الرب الذي يؤدبه، وتحمل داود التأديبات برضى، لعل الرب ينظر إلى مذلته ويعفو عن آثامه... لقد كانت أفكار داود مُنحصرة تمامًا بينه وبين الله، فالله هو المتحكم في جميع الأمور كبيرها وصغيرها، ومادام سمح لشمعي بأن يشتم داود فمن يرد قضاءه..؟! لقد نظر داود بعمق لطرفي القضية وهما الله وهو، أما شمعي فهو مجرد أداة تأديب، مثله مثل أخيتوفل، ولذلك قال لمن معه عن شمعي " دعوه يسبَّ الملك لأن الرب قال له سبَّ داود " ونظر إلى الله " فقال داود حمّق يا ربُّ مشورة أخيتوفل" (2صم 15: 31) فكل الأمور هي في يد الله القادر على كل شيء، ولهذا عندما أراد صادوق أن يحمل معه تابوت العهد " قال الملك لصادوق أرجع تابوت العهد إلى المدينة فأن وجدت نعمة في عيني الرب فأنه يرجعني ويريني إياه ومسكنه. وإن قال هكذا إني لم أسرَّ بك فهآنذا فليفعل بي حسبما يحسن في عينيه" (2صم 15: 25، 26).
3- خطية شمعي بن جيرا متعددة الجوانب:
أ - أعتبرها داود أنها ضمن تأديبات الرب له، ولذلك قال لأبيشاي الذي أراد أن يقطع رأس شمعي: "مالي ولكم يا بني صروية. دعوه يسبَّ لأن الرب قال له سُبَّ داود ومن يقول لماذا تفعل هكذا؟" (2صم 16: 10).
ب - كانت تمثل اعتداء على شخصية داود، ولذلك عندما عاد داود إلى أورشليم وأراد أبيشاي أيضًا أن ينتقم من شمعي، قال له داود أيضًا: "مالي ولكم يا بني صروية... أليوم يُقتل أحد في إسرائيل... ثم قال الملك لشمعي لا تموت. وحلف له الملك" (2صم 19: 22، 23).
جـ- خطية ضد ناموس الرب الذي أوصى بأن لا يسب أحد رئيس شعبه: "لا تسبَّ الله. ولا تلعن رئيسًا في شعبك" (خر 22: 28) ولعل سليمان الحكيم عندما قال: "لا تسبَّ الملك ولا في فكرك" (جا 10: 20) كان أمام عينيه خطية شمعي هذه، وبسبب هذا الجانب من خطية شمعي أوصى داود ابنه سليمان لكيما يعاقب شمعي عقابًا رادعًا بحسب حكمته، ومنح سليمان الفرصة لشمعي في الحياة بشرط أن يلتزم بسكنى أورشليم (1مل 2: 36، 37)، وفي تحديد إقامته العمر كله يعد تبكيتًا على خطيته، ولكن عندما ضل أتان شمعي أغمض عينيه عن وصية الملك، وهذا يعكس جانب الاستهتار واللامبالاة والجنوح في حياة شمعي، ولولا هذه الأمور ما كان يتجرأ ويسب ملكه مسيح الرب، في ظروف صعبة وقاسية.
4- يقول " القمص تادرس يعقوب": "يكرر الملك داود العبارة " لأن الربَّ قال له " أن يسبَّه، ليس لأن أمرًا صدر من قِبل الرب لشمعي كي يسب داود، وإنما الله سمح لإرادة شمعي الشريرة أن تتمم ذلك فيتحقق العدل الإلهي. مرة أخرى يقول القديس أغسطينوس أن الله يستخدم الأشرار حتى الشيطان نفسه لأجل امتحان الصالحين وتزكية إيمانهم وتقواهم.
لم يكن ممكنًا لهذه الشتائم أن تؤذي داود بل هي بالنسبة له دواء يتقبله برضى وشكر كي يغتصب المراحم الإلهية. كلمات التملق التي نطق بها صيبا أضرت داود فأصدر حكمًا خاطئًا وتعجلًا في غضب ضد مفيبوشث، أما كلمات شمعي المملوءة إهانة فأعطته فرصة ليصدر حكمًا صادقًا على نفسه"(3).
ويقول " القمص مكسيموس وصفي": "ولكن داود قَبِل الإهانة واللعن من شمعي، وأحتمل التجربة بصبر لأنه كان ينظر إلى الأحداث أنها ليست وليدة الصدفة أو بسبب حقد أبشالوم، لكن داود رجل الإيمان يدرك تمامًا أن هذه الأحداث كلها التي تمر به هي بسماح من الله فهي ليست بعيدة عن عيني الله، وبينما أعتبر رجال داود أن تلك الإهانات هي سفاهة وشماتة من شمعي لداود، لكن داود أعتبرها صدرت من السماء لفائدته وهي ليست قصاصًا منه، لكنها تأديب الأب لأبنه"(4).
ثانيًا: هل قصة شمعي أكذوبة؟
1- قال ليوتاكسل أن قصة شمعي أكذوبة من أكاذيب الروح القدس، فهل يدرك أن الروح القدس هو روح الله القدوس، وأنه هو الله ذاته..؟ وإن كان يدرك هذا فكيف يجدف على روح الله..؟! كيف ينسب للروح القدس الكذب ويقول عن قصة شمعي أنها " واحدة من كذبات الروح القدس الكثيرة".. ألا يصدق قول الكتاب المقدَّس: "ليس الله إنسانًا فيكذب ولا ابن إنسان فيندم. هل يقول ولا يفعل. أو يتكلم ولا يُفي" (عد 23: 19).. " الله المنزه عن الكذب" (تي 1: 2)..؟! وهل إنسان بهذه الصفات نصغى لأرائه دون أن نفندها ونرد عليها حتى لا يقع في أحابيله البسطاء؟!.
2- ما الدافع لاختلاق هذه القصة؟ وأي دليل يشير إلى أن القصة ملفَّقة..؟ أن قصة شمعي ليست قصة مشرّفة أراد الكاتب أن يلصقها بداود المحبوب لكيما يرفع من قدره، إنما هي قصة مخزية، تظهر صفاقة شمعي وطول أناة داود، وصبره على تأديبات الرب له.
_____
(1) الأسطورة والحقيقة في القصص التوراتية ص 259.
(2) التوراة كتاب مقدَّس أم جمع من الأساطير ص 356.
(3) تفسير سفر صموئيل الثاني ص 113، 114.
(4) دراسة في سفر صموئيل الثاني ص 125، 126.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1207.html
تقصير الرابط:
tak.la/2jg6rbs