كانت كلمة الرب لإرميا النبي: "قد وكَّلتك هذا اليوم على الشعوب وعلى الممالك، لتقلع وتهدم وتهلك وتنقض وتبني وتغرس" (إر 1: 10). فقد كانت كنيسة العهد القديم في أسوأ عصورها، لا من جهة الفساد الذي دبّ في حياة الكهنة والأنبياء الكذبة، والرؤساء والشعب، وإنما ما هو أمرّ وأقسى أنه إذ نودي بالإصلاح اتجهوا إلى المظهر، فاهتموا بترميم الهيكل دون بناء النفس الداخلية، فتحوّل الهيكل إلى مغارة لصوص (7: 11)، وانشغلوا بتقديم الذبائح الحيوانية دون تقديم ذبيحة الطاعة (17: 14-26)، كأن الله تهمه اللحوم والشحوم، ومارسوا ختان الجسد الظاهري دون أن ينعموا بختان القلب الداخلي (4: 4)، ويتمتعوا بختان الأذنين الروحي (6: 4). هذا كله ألهب قلب إرميا النبي بنار الروح القدس الملتهب مناديًا بالحاجة إلى إصلاح حقيقي من نوع جديد. نادى بضرورة الدخول في عهدٍ جديدٍ مع الله، يقوم على أساس انفتاح القلب لقبول شريعة ليست منقوشة على لوحين حجريين بل على القلب ذاته (24: 7، 31: 33)، قادرة بحق أن تقلع وتغرس، تهدم وتبني! هذا هو التجديد الحقيقي، الذي يتحقق لا خلال وصايا وشرائع مكتوبة بحبر على ورق، بل خلال الخالق ذاته القادر أن يعمل داخل النفس، يهدم الإنسان القديم بكل أعماله ويقيم في داخلنا الإنسان الجديد على صورة خالقه.
بهذا كان إرميا النبي يتحدث عن شخص السيد المسيح، كلمة الله، القادر وحده بروحه القدوس أن يقلع القديم ويغرس الجديد، يهدم طبيعتنا الفاسدة ويقيم فينا طبيعة جديدة مقامة من الأموات، فيكون هو "سرّ الجدة".
هذا العهد الجديد -كما رآه إرميا النبي- طرفاه ليس أفرادًا بل الجماعة الكنسيّة والله، إذ يقول: "ها أيام تأتي يقول الرب وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهدًا جديدًا.. أجعل شريعتي في داخلهم، وأكتبها على قلوبهم، وأكون لهم إلهًا، وهم يكونون لي شعبًا" (31: 31، 33). فإن كان الإصلاح يمس حياة الإنسان شخصيًا، يمس أعماقه الداخلية ويُنقش على قلبه، لكن ليس خلال لقاءٍ فرديٍ انعزاليٍ، إنما خلال لقائه مع الله كعضوٍ في الجماعة المقدسة، أو الشعب الواحد.
شارك داود النبي إرميا النبي في شعوره بالحاجة إلى من يقيم حياة جديدة عوض الحياة القديمة التي يئن منها، إذ يقول: "قلبًا نقيًّا اخلق فيَّ يا الله وروحًا مستقيمًا جدّد في أحشائي" (مز 51: 10). لقد أدرك داود بعد سقوطه أنه ليس بمحتاج إلى وصايا وشرائع بقدر ما هو محتاج إلى قلب جديد من صنع الخالق، وروح جديد يعمل في أحشائه الداخلية.. محتاج إلى عمل الله نفسه الذي يرسل روحه القدوس ليجدد خليقته: "ترسل روحك فتخلَق، وتُجدّد وجه الأرض" (مز 104: 30). لعلّه قصد بالأرض هنا "الجسد" الذي أُخذ من التراب، فهو لا يحتاج إلى انتهار وتوبيخ بقدر ما يحتاج إلى تجديد وجهه، لكي ما يخرج داود من دائرة الخطية وينطلق بحياته الجديدة مسبحًا أغنية جديدة (مز 33: 3).
هنا نلاحظ أن المرتل يصرخ إلى الآب ليرسل روحه القدوس واهب التجديد، وهو امتداد لعمل المسيح الخلاصي، إذ يقول الرب: "يأخذ مما لي ويخبركم" (يو 16: 15).
أما حزقيال النبي فينصح شعبه هكذا: "اعملوا لأنفسكم قلبًا جديدًا وروحًا جديدة" (18: 31). لكن من الذي يستطيع أن يعمل لنفسه قلبًا جديدًا وروحًا جديدة؟! لهذا يعود حزقيال النبي نفسه فيتكلم على لسان الله قائلًا: "وأعطيكم قلبًا جديدًا وأجعل روحًا جديدة في داخلكم، وأنزع قلب الحجر من لحمكم، وأعطيكم قلب لحم. وأجعل روحي في داخلكم، وأجعلكم تسلكون في فرائضي... وتكونون لي شعبًا وأنا أكون لكم إلهًا" (36: 26-28). وكأنه يشترك مع إرميا النبي ليس فقط في الفكر والروح وإنما حتى في العبارات، فيبرز حزقيال النبي ثلاث نقاط هامة بخصوص سرّ تجديدنا:
(أ) الحاجة إلى الله نفسه واهب التجديد القلبي والروحي.
(ب) السلوك في وصايا الله وفرائضه، لا يتحقق بمجهودنا الذاتي ما لم ننعم أولًا بتجديد طبيعتنا الداخلية، فتصير وصاياه سهلة وعذبة.
(ج) هذا العمل التجديدي يتم في إطار عمل الله مع الجماعة المقدسة. فهو يعطي تجديدًا للقلب والروح لكل عضو كعطية إلهية شخصية، ليقيمه عضوًا في شعبه المقدس الواحد. لهذا يقول في موضع آخر: "وأعطيهم قلبًا واحدًا وأجعل في داخلهم روحًا جديدًا، وأنزع قلب الحجر من لحمهم، وأعطيهم قلب لحمٍ" (11: 19).
أما إشعياء النبي الذي قدم لنا "إنجيل العهد القديم" إن صح هذا التعبير فقد حدّثنا في أكثر من موضع عن الحياة الجديدة التي توهَب لنا خلال عمل الله الخلاصي، وحدد ملامحها الجديدة وأوضح سماتها، نذكر على سبيل المثال قوله: "لا تذكروا الأوليات، والقديمات لا تتأَمَّلوا بها، هأنذا صانع أمرًا جديدًا. الآن ينبت. أَلا تعرفونهُ؟! اجعل في البرية طريقًا في القفر أنهارًا" (43: 18-19).
يريدنا ليس فقط أن نخلع الإنسان القديم بأعماله وإنما ننساه تمامًا، ولا نعود نتأمّله حتى لا نيأس ونتحطم، إنما بالأحرى ننشغل بالحياة الجديدة التي تنبت فينا. إنه يجعل في البرية طريقًا، وفي القفر أنهارًا. ما هو هذا الطريق إلا السيد المسيح نفسه القائل "أنا هو الطريق" (يو 14: 6)، قام في وسطنا نحن البرية الجدباء، يحل في قلوبنا لكي يدخل بنا إلى ملكوته؟! ما هي هذه الأنهار إلا ينابيع الروح القدس المتفجرة داخلنا نحن القفر بلا ساكن، فيتحول قلبنا الخرب إلى مسكن لله القدوس؟!
إذن سرّ تجديدنا هو سكنى السيد المسيح فينا، وحلول روحه القدوس في أعماقنا الداخلية.
مرة أخرى يقول إشعياء النبي: "تُسمَّين باسمٍ جديدٍ يعيّنهُ فم الرب" (62: 2)، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. فالتجديد يشمل حتى اسمنا، علامة أنه تجديد كامل. فإذ جاء السيد المسيح وقدم لنا بروحه القدوس تجديدًا، حملنا "اسمه" كاسم جديد وصرنا "مسيحيين". لهذا كان المدافعون الأولون مثل الفيلسوف أثيناغوراس يقول إن الاتهام الحقيقي الذي كان موجهًا ضد المسيحيين هو اتهام "الاسم"، فكان الاضطهاد عنيفًا ضدهم ليس لأجل جريمة ارتكبوها، وإنما لأجل الاسم الذي حملوه.
مرة ثالثة يقول إشعياء النبي: "هأنذا قد جعلتك نورجًا محدَّدًا جديدًا ذا أسنانٍ. تدرس الجبال وتسحقها وتجعل الآكام كالعُصافة. تذرّيها فالريح تحملها والعاصف تبددها، وأنت تبتهج بالرب. بقدوس إسرائيل تفتخر" (41: 15-16). إن كان إنساننا القديم قد صار كالجبال بأعماله الشريرة الصلبة وكالآكام ليس من يقدر أن يحركها، فإن الله وحده الذي يلمس الجبال فتدخن (مز 104: 32). يجعلنا بالمسيح يسوع ربنا نورجًا جديدًا محددًا، ندرس الجبال ونسحقها، ونذري الآكام كالعاصفة، دون أن يصيبنا القِدمْ، ولا نفقد قوتنا أو تضعف إمكانياتنا مع الزمن. هذا ما يبهج نفوسنا بالرب مجدد حياتنا، فنفتخر بقدوس إسرائيل الجديد.
يتحدث أيضًا إشعياء النبي على لسان السيد المسيح، قائلًا: "روح السيّد الرب عليَّ لأن الرب مسحني لأبشر المساكين... ويبنون الخِرَب القديمة، يقيمون الموحشات الأُوَل ويجدّدون المدن الخربة موحشات دور فدور. ويقف الأجانب ويرعون غنمكم ويكون بنو الغريب حرَّاثيكم وكرَّاميكم. أمَّا أنتم فتُدعَون كهنة الرب تُسمَّون خدام إلهنا. تأكلون ثروة الأمم وعلى مجدهم تتآمرون" (1:61، 4-6). كأن إشعياء النبي يوضح رسالة السيد المسيح الذي مسحه الآب ليبشر المساكين، ألا وهي "تجديد المدن الخربة التي صارت موحشة عبر الأجيال". لقد صارت الطبيعة البشرية في كل الأجيال أشبه بالمدن الخربة تحتاج إلى هدم وإعادة بناء! هذا هو عمل الله الخالق الذي يقيم ملكوته فينا، فيحوّلنا بروحه القدوس من مسكن للخطية والشر إلى مقدسٍ للرب. أما الأجانب الذين يرعون غنمنا وبنو الغريب الذين يقومون بحراثة أرضنا والعمل ككرامين في حديقتنا، فهم طاقات النفس الداخلية ودوافعها، التي صارت كمن هي أجنبية وغريبة عن الرب وملكوته. إنها تخضع من جديد فلا تصير عثرة في طريق خلاصنا بل على العكس تصير معينًا للنفس، تسندها في جهادها، وذلك كما فعل الشعب العبراني قديمًا حين حملوا الذهب والفضة والثياب الفاخرة من المصريين واستخدموها في إقامة خيمة الاجتماع بدلًا من استخدامها في عبادة الأوثان في مصر. أما قوله: "تُدعون كهنة الرب"، فذلك لأننا إذ نحمل الطبيعة الجديدة خلال المعمودية نصير روحيًا كهنة، نرفع أيدينا للصلاة ونقدم أجسادنا ذبيحة حب مقبولة لدى الآب.
نختتم حديثنا عن إشعياء النبي بتقديم الصورة الحية التي رسمها للحياة الإنجيلية الجديدة، إذ يقول: "لأني هأنذا خالق سماوات جديدة وأرضًا جديدة، فلا تُذكَر الأولى ولا تخطر على بالٍ. بل افرحوا وابتهجوا إلي الأبد في ما أنا خالق، لأني هأنذا خالق أورشليم بهجةً وشعبها فرحًا. فابتهج بأورشليم وأفرح بشعبي ولا يُسمَع بعدُ فيها صوت بكاءٍ ولا صوت صراخ. لا يكون بعدُ هناك طفلُ أيامٍ ولا شيخ لم يكمل أيامهُ.. ويبنون بيوتًا ويسكنون فيها ويغرسون كرومًا ويأكلون أثمارها. لا يبنون وآخر يسكن، ولا يغرسون وآخر يأكل. لأنهُ كأيام شجرةٍ أيام شعبي ويستعمل مختاريَّ عمل أيديهم. لا يتعبون باطلًا، ولا يلدون للرعب، لأنهم نسل مباركي الرب وذريتهم معهم.. الذئب والحمل يرعيان معًا، والأسد يأكل التبن كالبقر. أما الحيَّة فالتراب طعامها. لا يُؤْذون ولا يُهلكون في كل جبل قدسي قال الرب" (65: 17-25).
يا لها من صورة رائعة لما قدمه السيد المسيح لكنيسة العهد الجديد! لقد أقام سماوات جديدة وأرضًا جديدة، أقام تجديدًا حقيقيًا للنفس (السماوات) وللجسد (الأرض)، فصارت النفس والجسد معًا في انسجام، إذ خضع كليهما لروحه القدوس. انتهى الصراع القديم بين شهوات النفس وشهوات الجسد، ودخلنا بالروح القدس إلي حياة الفرح الروحي والبهجة السماوية، إذ امتلأت حياتنا بثمر الروح القدس من محبة وفرح وسلام.. (غل 5: 22). نفرح نحن كعروسٍ مقدسةٍ متجددةٍ بعريسنا، ويفرح هو بنا، إذ يقول: "أبتهج بأورشليم وأفرح بشعبي". إنها فرحة الحب المشترك!
في هذه الحياة الجديدة "لا يسمع فيها صوت بكاء، ولا صوت صراخ" إذ نلنا سلطانًا على الحيات والعقارب وكل قوة العدو. كذلك يقول: "لا يكون هناك طفل أيام ولا شيخ لم يكمل أيامه"، فنحيا بروح النضوج الروحي الحقيقي، وليس كأطفال بلا خبرة، كما نعيش بشباب روحي بلا شيخوخة وضعف قاتل.
في هذه الحياة الجديدة التي صارت لنا بالمعمودية، تتحول الذئاب إلي حملان، فيرعى الذئب مع الحمل، وتتحطم طبيعة الافتراس والشراسة، فيأكل الأسد مع البقر. أما الحيّات فلا تؤذي ولا تُهلك من عرف بنوته لله وعاش بإمكانيات الحياة الجديدة التي صارت له.
هذه صورة مبسطة للظلال التي عاش تحتها الأنبياء في العهد القديم يشتهون الحياة الجديدة -تجديد القلب والروح- التي هي عطية الخالق نفسه، يقدمها لنا الآب بابنه الوحيد يسوع بواسطة روحه القدوس. بقي لنا أن ننطلق من الظلال إلى الحقيقة، لنتلمس دور الابن الوحيد يسوع المسيح في تجديدنا وعمل روحه القدوس فينا.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/holy-spirit/secret.html
تقصير الرابط:
tak.la/q8hf7jj