محتويات
|
الباب الخامس: التجديد والحياة الكنسية
:
الحياة الكنسية والروح القدسالحياة الكنيسة في حقيقتها هي حياة الشركة مع الله خلال الاتحاد مع السيد المسيح بواسطة روحه القدوس. بمعنى آخر هي عمل الروح القدس الناري في الإنسانية المتجددة لكي تدخل إلى كمال المجد بالمسيح يسوع ربنا. هذا الروح الناري لا يعرف الخمول ولا الاستكانة، لكنه هو الروح الدائم العمل، ينمو بالكنيسة من كل جوانب حياتها، لكي تصل إلى ملء قامة عريسها.
الروح القدس واهب الشركة مع الله ومانح الحياة الجديدة في المسيح يسوع يعمل في الحياة الكنسية لتكون دائمًا متجددة على المستوى العام، أي على مستوى الكنيسة الجامعة كما على مستوى كنيسة البيت وعلى مستوى كل نفسٍ منا، يعمل دائما في حياة الكنيسة الكرازية والتعليمية والتعبدية لتحيا الكنيسة في نمو دائم بغير انقطاع.
حينما نتحدث عن الحياة الكنسية المتجددة في أي جانب من الجوانب نود أن نوضح النقاط التالية:
1. يوجد تكامل بين التجديد الجماعي والتجديد المستمر في حياة الأعضاء، فالحياة الكنسية إنما هي حياة العروس ككل دون تجاهل أو ابتلاع لحياة كل عضو فيها. كل نموٍ في حياة الجماعة يستلزم النمو في حياة الأعضاء، لكن ليس بفكرٍ انعزالي منفرد إنما من خلال الجماعة.
إن رجعنا إلى العهدين القديم والجديد نجد حركة الله نحو البشرية حركة جماعية، إذ يريد أن يقيم له عروسًا واحدة من كل الأمم والشعوب والألسنة. حينما تحدث مع أنبيائه في العهد القديم عن العهد الجديد الذي يقيمه مع البشرية غالبًا ما كان يعلن غايته بقوله: "وتكونون لي شعبًا وأنا أكون لكم إلهًا" (حز 36: 28، إر 31: 33).
جاء الكتاب المقدس يعلن حركة خلاص جماعية، فلا نجد في التاريخ الكنسي -خاصة في الشرق- من يتحدث عن نفسه بانفراد. وعندما اضطر الرسول بولس أن يتحدث عن نفسه قال: "اعرف إنسانًا في المسيح" (2 كو 12: 2) دون أن يذكر اسمه. ليس من القديسين من تحدث عن نفسه إلا النادر جدًا. فهم يتحدثون عن إنجيل الكنيسة الجامعة، وإن كان من خلال خبرتهم الشخصية كأعضاء في هذه الكنيسة. المؤمن يعيش الحياة الإنجيلية كحياة خاصة ملتصقًا بمخلصه، دون اعتزال للكنيسة.
هناك فارق بين العلاقة الشخصية السرية بين النفس والمسيح والعلاقة الفردية الانعزالية. الأولى علاقة خاصة حية يؤكدها روح الجماعة ويغذيها ويثبتها وينميها، أما الثانية فهي تدفع إلى الانحراف وتحطم الجماعة. الأولى تتكامل مع الحياة الجماعية وتسند أحدهما الأخرى، فالمؤمن -حتى وإن كان راهبًا متوحدًا- يستطيع في خلوته أن يصلي باسم الجماعة كلها بقلبٍ متسعٍ بالحب، يحمل لا الكنيسة كلها بل والخليقة جميعها في قلبه ليقدمها لله. انه يتألم مع كل متألم، يضعف مع كل من يضعف، ويفرح لنمو كل عضو. العابد الحقيقي يتلامس مع مخلصه بطريقة سرية خفية، ولا تقف الجماعة عائقًا له بل سندًا ومعينًا، يتفاعل معها وهي معه.
إن أصحاب الفكر الفردي يرون في التجديد لقاء الإنسان مع مخلصه في لحظة معينة فينعم بالخلاص والتجديد، ويدخل إلى حالة من الثبوت بمعنى أنه يصير ابنًا لله يستحيل أن يسقط بعدها.
هذا الفكر وإن كان قد قًصد به فتح باب الإيمان السري والعلاقة الخاصة بين النفس ومخلصها مع إعطاء ثقة ورجاء في المخلص كحافظ لها من الخطية، لكنها تحمل تطرفين خطيرين. الأول هو الاتجاه الانعزالي عن الحياة الكنسية الجماعية، الأمر الذي يفقد الإنسان تواضعه وانسحاقه، والثاني هو حرمان الإنسان من بركة الجهاد والحذر.
إن ما يدعونه تجديدًا إنما تسمّيه الكنيسة بالتوبة، التي هي بحق "معمودية ثانية" خلالها ينعم الإنسان بنعمة عمل الروح القدس فيه. إنما يلزم للمؤمن في توبته وهو في علاقة سرية مع مخلصه أن يدخل إلى حياة الشركة مع الله خلال الكنيسة التي تسنده في توبته المستمرة ويعمل هو أيضًا فيها! هذا من جانب ومن جانب آخر فإن توبته هذه الشاملة تفتح له باب التوبة اليومية المستمرة من أجل كل ضعف يلحق به، مشتهيًا بالروح القدس أن ينطلق من مجد إلى مجد إلى أن يبلغ ملء قامة المسيح.
تحمل هذه النظرة اعتدالًا دون تطرف، فنحن ننمي علاقتنا الشخصية مع مخلصنا في نفس الوقت الذي فيه ننمو في حياتنا الكنسية، التي في جوهرها هي حياة شركة مع الله في ابنه بواسطة الروح القدس، فتتفاعل العلاقة الشخصية مع الحياة الجماعية بغير تطرفٍ.
2. إن كان الكثيرون لا يقبلون تعبير "التجديد الكنسي" كما يعنيه التعبير الإنجليزي Church Renewal إنما لأنه يُفهم بأنه ثورة على كل ما هو قديم وقبول كل ما هو جديد. لكننا ككنيسة أرثوذكسية تقليدية نعتز بالقديم ليس من أجل قدمه، ولا نتقبله بطريق جامدة متحجرة. وقد سبق لي في كتابنا "التقليد والأرثوذكسية" -الموجود هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت- أن أوضحت كيف يتكئ الجديد على القديم، فيبقى القديم حيًا بروحه، ويكون للجديد أصالة وقوة!
الكنيسة التي قبلت الروح القدس إنما قبلته حيًا فيها يعمل عبر كل الأجيال دون توقف، يعطيها حياة نامية دائمة التجديد دون أن تفقد نغمها الإنجيلي الكنسي الآبائي. إنجيلها لا يَقدَم، وإيمانها لا ينحرف وتقليدها روحي حيّ... وفي نفس الوقت دائمة النمو.
لست أريد الدخول في تفاصيل لكنني أود أن أوضح أن إيمان الكنيسة لم يتغير عبر الأجيال، لكنه قُدم في القرن الأول بطريقة تناسب العصر، وحينما ظهرت الهرطقات التزمت الكنيسة أن تعرض إيمانها غير المتغير بطريقة تحفظ حياة أولادها من الهراطقة وتواجه هؤلاء الهراطقة... وهكذا في كل عصر تقدم الكنيسة كنوز إيمانها بالثوب الذي يناسب احتياجات الناس.
لهذا حينما تحدث المتنيح نيافة الأنبا يؤانس مطران الغربية عن "التجديد الكنسي" في الجمعية العمومية لمجلس كنائس الشرق الأوسط، وإن كان قد رفض التعبير في ذاته لكنه نادى أن التجديد الحالي هو عودة إلى الكنيسة الأولى قبل الانقسام، عودة لا في الشكل، وإنما في الروح والفكر والحياة، فتتقبل إنجيلها كما فهمته وعاشته وفسرته في الشرق والغرب قبل الانقسام، وتمارس عبادتها بروحها الخشوعي التقوى، وتسلك بروحها النسكي الأخروي، وتنعم بسماتها ككنيسة منفتحة على العالم تكرز خلال الحب الصادق. بهذا نستطيع أن نقول مع إرميا النبي: "جدّد أيامنا كالقديم" (مرا 5: 21) ومع عروس النشيد: "عند أبوابنا كل النفائس من جديدة وقديمة ذخرتها لك يا حبيبي" (نش 7: 13)، ونفهم الكلمات الإنجيلية: "كل كاتبٍ متعلم في ملكوت السماوات يشبه رجلًا ربَّ بيتٍ يُخرِج من كنزهِ جُدُدًا وعُتَقاءَ" (مت 13: 52)، "ليس أحد إذا شرب العتيق يريد للوقت الجديد لأنهُ يقول العتيق أطيب" (لو 5: 39).
نحن لا نقبل القديم جامدًا ولا لمجرد قدمه، كما ينبغي ألا يُرفض لأجل قدمه، إذ يسيء البعض تفسير عبارة الرسول: "أنسي ما هو وراء وامتد إلى ما هو قدام". وكأنما يريدون أن يرفضوا حياة الكنيسة الأولى وخبرتها في المسيح يسوع لتتقبل ما هو جديد. كلمات الرسول تخص أعمال الإنسان القديم ينساها ولا يرتبك بها منشغلًا بعمل الله الجديد في حياته متطلعًا برجاء نحو جعالة الله العليا. وكأفراد يلزمنا أيضًا أن ننسى ما لنا من جهاد ماضي في حياتنا حتى لا نسقط في البرّ الذاتي لنتقبل عونًا جديدًا في جهادنا الحاضر من أجل الحياة الأبدية.
أما كلمات الرسول: "فإذ قال جديدًا عتَّق الأوَّل، وأما ما عتَق وشاخ فهو قريب من الاضمحلال" (عب 8: 13) ينصب على حرفية الناموس والعبادة اليهودية، فقد دخلنا إلى العهد الجديد بالروح الذي يبني عوض الحرف القاتل (رو 7: 6)، قبل الناموس والتراث اليهودي أيضًا لكن لا في الحرف المميت بل خلال الروح المحيي المجدد! مثلنا في ذلك الكتاب المقدس فهو قديم جديد، قديم في استلامنا له، جديد في كل يوم في خبرتنا معه وفاعليته التي لا تشيخ ولا تقدم.
في اختصار نقول إننا لا نقطع تاريخ الخلاص بل ولا نجزئه بين ماضي وحاضر ومستقبل. لكننا إذ نتقبل عمل الروح القدس الناري الذي يعمل عبر الأجيال ولا نجمده، إنما نرى أنفسنا وقد ارتفعنا فوق حدود الزمن، فالماضي كما الحاضر والمستقبل إنما يمثل حياة فعّالة في الكنيسة. الماضي مفرح بعمل الله المستمر في كنيسته، وممتد في الحاضر، والمستقبل مبهج للنفس من أجل رجائها في الله، وليس ببعيد عنها أو مغلق مجهول. هكذا تحيا الكنيسة بماضٍ ليس ميتًا، وحاضرٍ قويٍ، ومستقبل مكشوف. إن تجاهلنا الماضي إنما نبتر الكنيسة عن أصالتها في الروح. وإن تجاهلنا الحاضر المعاصر إنما نحكم على الكنيسة بالجمود، وإن غفلنا المستقبل سقطنا في اليأس!
3. إن كان التجديد لا يعني الانحلال بتجاهله للماضي، بل النمو المستمر مستندًا على الماضي بروح الله الحيّ، فإنه أيضًا يليق بنا ألا نقبل التجديد بروح التطرف. وكما يلزم أن ينمو الإنسان في كل نواحي حياته: جسديًا وفكريًا ونفسانيًا وروحيًا واجتماعيًا، فيصير ناجحًا وحيًا كإنسان متكامل. هكذا يليق بالأكثر النمو في الحياة الكنسية يلزم أن يتحقق على الدوام في كل جوانبها معًا بطريقة متكاملة دون تطرف.
نذكر على سبيل المثال حينما تطرفت كنيسة الغرب في العصور الوسطى في علاقتها بالعالم فدخلت في السياسة وزاحمت السياسيين في كرامتهم الزمنية، وظنت أنه بهذا تستطيع أن تخدم العالم، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. انحرفت الكنيسة عن نسكها التقوى وإنجيلها الروحي وعبادتها بالروح، وتحول الكهنوت إلى سلطة بدلًا من الأبوة، وانقلبت الحياة الروحية إلى مجموعة من القوانين الجامدة وحُرم الشعب من قراءة الكتاب المقدس، وصارت العبادة أشبه بشكل رسمي تُمارس بغير فهمٍ ولا روحٍ. وهكذا حدث شرخ بين الكهنوت والليتورجيا الكنسية وبين الحياة الروحية.
هذا التطرف ولَّد تطرفًا جديدًا إذ ظهرت اتجاهات جديدة تسمى:
[ضد الكهنوت anti-clerical
وضد الرؤساء anti-hierarchical
وضد الأسرار anti-sacramental
وضد الليتورجيا anti-liturgical]
انتهى الأمر بظهور الحركة اللوثرية تبغي الإصلاح، فهاجمت الكهنوت والقوانين الكنسية والتراث الكنسي والعبادة الليتورجية السرائرية. فولّد التطرف تطرفًا آخر، إذ حسبوا أنه لا روحانية إلا خلال الحياة الإيمانية الفردية [469]...
نعطى أيضًا مثلًا آخر: بظهور الحركات البروتستانتية صار التركيز حول الإيمان بالمسيح المخلص مع تجاهل كبير لعمل الروح القدس.. وكان ثمر هذا في نهاية القرن التاسع عشر ومع بداية القرن العشرين بدأت تظهر الحركات الخمسينية التي تركز على الروح القدس بطريقة متطرفة.
إنني لا أريد الدخول في تفاصيل هذا التاريخ فهو ليس مجالنا الآن، لكن ما أريد تأكيده أن النمو الكنسي في حياة الجماعة كما في حياة كل عضو فيها يلزم أن يكون متكاملًا، ننمو في دراسة الكتاب المقدس والتعرف على أسراره دون تجاهل للتقليد، ونحيا بالروح الجماعية دون إنكار للحياة الشخصية السرية، نمارس الحياة النسكية دون أن نزدري بحياتنا في المجتمع، نمارس التوبة بدموع مع ارتوائنا بالفرح الروحي، نحب التعليم كما العبادة، نقبل تجديد طبيعتنا في المعمودية دون تكاسل في التمتع بتجديد الذهن المستمر بالروح القدس.
لا يقف عمل الله في حياتنا عند المعمودية والميرون، إنما هما بدء انطلاق حياتنا الجديدة التي صارت لنا في المسيح يسوع بالروح القدس. لقد دَعي القديس إكليمنضس السكندري السيد المسيح بالمربي إذ يتعهد حياتنا ويلاطفنا بروحه القدوس حتى نصير على مثاله، نحمل سماته فينا.
عمل الكنيسة هو الكشف عن الإمكانيات الإلهية التي وُهبت للمؤمنين في المعمودية، فتدفع بأولادها بين يدّيْ الروح القدس الناري الذي يجدد أذهانهم بغير انقطاع.
وكما يقول الرسول: "لا تشاكلوا هذا الدهر. بل تغيَّروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم لتختبروا ما هي إرادة الله الصالحة المَرضيَّة الكاملة" (رو 12: 2). وأيضًا: "تجدَّدوا بروح ذهنكم" (4: 23)، وأيضًا: "إن كان إنساننا الخارج يفنى، فالداخل يتجدَّد يومًا فيومًا" (2 كو 4: 16)، "إذ خلعتم الإنسان العتيق مع أعمالهِ ولبستم الجديد الذي يتجدَّد للمعرفة حسب صورة خالقهِ" (كو 3: 9-10).
خلعنا الإنسان القديم بأعماله ونوالنا الإنسان الجديد هو ميلاد جديد، بدء انطلاقة "للتجديد للمعرفة"، أي للنمو بغير انقطاع، وهذه هي علامة الحياة.
هذا ما يؤكده الكتاب المقدس: "وأما منتظرو الرب فيجدَّدون قوةً. يُرفعون أجنحةً كالنسور. يركضون ولا يتعبون، يمشون ولا يعيون" (إش 40: 31).
"الذي يُشبع بالخير عمركِ، فيتجدد مثل النسر شبابكِ" (مز 103: 5).
"لأن مراحمه لا تزول. هي جديدة في كل صباح" (مرا 3: 22-23).
هذه هي إحساسات المسيحي الدائمة، يرى مراحم الله جديدة بالنسبة له كل صباح، فيشتهي أن يرد الحب بالحب، وكأنه في كل يوم يبدأ لقاءً جديدًا مع الله، إذ يقول في صلاة باكر: "لنبدأ بدأ حسنًا". والعجيب أن القديس أغناطيوس الأنطاكي إذ كان في طريقه إلى روما للاستشهاد يقول: [إني ابتدئ أن أكون مسيحيًا!] هذا هو عمل الروح القدس في حياة المؤمنين، يجعلنا نشعر في كل لحظة كأنها بداية الحياة مع الله، وذلك كالأم في حبها لرضيعها الوحيد تتطلع إلى وجهه دائما كما لو كانت تراه لأول مرة.
لعله لهذا السبب أقام اليهود "عيد التجديد" الذي حضره السيد المسيح في أورشليم (يو 10: 22)، وفي الطقس السرياني يحتفلون بالأحد الثاني من الصوم الكبير كأحد "تجديد الكنيسة" لكي يراجع الكهنة والشعب حياتهم في بدء الصوم، وكأنهم ينطلقون إلى علاقة جديدة مع الله.
في حديث السيد المسيح الوداعي مع تلاميذه قبل آلامه يقول: "وصيَّة جديدة أنا أعطيكم أن تحبُّوا بعضكم بعضًا. كما أحببتكم أنا تحبُّون أنتم أيضًا بعضكم بعضًا. بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي إن كان لكم حبُّ بعض لبعض" (يو 13: 34).
وصية الحب في الواقع قديمة (1 يو 2: 7)، لكنها أيضًا جديدة ومتجددة فينا. هي قديمة كوصية قدمها الناموس الطبيعي وأعلنتها الشريعة الموسوية، لكن السيد المسيح قدمها جديدة وأعطاها سمة الجدّة، فقد قدم نفسه إلينا لندخل به إلى الحب الإلهي، فصرنا نحمل طبيعة الحب التي لا تشيخ. لم تعد فقط مراحم الله جديدة كل صباح بل صارت حياتنا نحن أيضًا في المسيح يسوع بالروح القدس تستطعم الوصايا الإلهية جديدة على الدوام.
ما أقوله عن الوصايا الإلهية أقوله عن المواهب الروحية، فالروح القدس إذ يعمل فينا يُنمي مواهبه في داخلنا فتصير جديدة على الدوام.
في حادثة التجلّي كما وردت في إنجيل معلمنا مرقس ذكرت الكلمة "ميتافورسز"، أو تجلٍ، بمعنى انتقال من الشكل البشري المنظور إلى الشكل النوراني. هذا التجلي لا يعني أن السيد المسيح قد نال شيئًا جديدًا، إنما الابن الوحيد هو دائمًا وأبدًا في نور لا يدني منه. جاء إخلاؤه كعملية إخفاء لنوره غير المدرك عن أعيننا. وجاء التجلي انفتاحًا لأعين التلاميذ ليروا قبسًا من النور الإلهي قدر ما يستطيعون. يقول الأب غريغوريوس بالاماس: [لم تتغير هيئة المسيح على الجبل، لكنه كان مقيمًا دائمًا في النور الأبهى، محجوبًا عن أعين الرسل، فأدركوا في التجلي ما كان محجوبًا عنهم.] والكنيسة كجسد السيد المسيح الممجد، تجديدها إنما يعني تجلي السيد المسيح الساكن فيها.
خلال هذا التجلي تنمو الكنيسة الجامعة كما ينمو الأعضاء، إذ ينطلق المؤمنون من انحصارهم في الزمن إلى الدخول قي الحياة الأبدية الممجدة، ليعيشوا بفكرٍ سمائيٍ أخرويٍ، دون تجاهل للواقع البشري الزمني. الزمن بالنسبة للكنيسة ولكل مؤمن فيها، إنما يتحرك بنا نحو الحياة الانقضائية، أي نحو الحياة الأبدية، ولا معنى للزمن خارج الانقضاء أو الأبدية. بهذا ترتكز الكنيسة على مجيء السيد المسيح الأول (تجسده) وتنعم بتجليه من يومٍ إلى يومٍ منتظرة مجيئه الأخير. بهذا نفهم كلمات السيد المسيح: "ملكوت الله داخلكم" وبهذا نرى "الروح والعروس يقولان تعالَ" (رؤ 22: 17).
بهذا يكون تجديد الكنيسة -إن صح هذا التعبير- ليس قبولًا لنظمٍ جديدةٍ أو تدابيرٍ جديدةٍ، إنما في جوهره هو تجلٍ مستمر للسيد المسيح في حياتها لكي يظهر فيها ببهائه الأبدي، معلنًا طبيعته في حياتها. يظهر هذا التجلي خلال تعميق علاقة المؤمنين بالسيد المسيح واختفائهم فيه، فيشهدون له في الداخل والخارج، مجتذبين أعضاء جدد للتمتع بخلاص السيد المسيح. وكما يقول الأب مكسيموس المعترف عن الكنيسة أنها [المعمل الذي فيه يتحوَّل الإنسان ليُحوِّل العالم.] وكأن مسيرة الكنيسة في الواقع هي مسيرة العالم كله بالروح القدس لتحقيق مقاصد الله لخلاص البشرية.
بهذا تقف الكنيسة النامية خادمة للعالم، وليس كعالم آخر مستقل عنه ومنافس له، إنما بالحب تحتضنه وتغسل قدميه. إنها تعمد حضارته وفنونه وعلمه، فلا تحتقر خبرته بل تبارك وتسند كل عمل بناء فيتناغم العمل الحضاري مع العمل الكنسي الحي.
_____
[469] للاستزادة راجع كتابنا: المسيح في سرّ الافخارستيا الكتاب الثالث.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/holy-spirit/life.html
تقصير الرابط:
tak.la/3bznpc5