محتويات |
المعمودية ليست ختانًا للجسد كما كان في العهد القديم حيث الرموز والظلال، وإنما ختان القلب بالروح (في3: 3)، فيه يتم ليس نزع جزء من الجسد (تك 17: 10-14) بل نزع الطبيعة القديمة التي نولد بها بالخطيئة الأصلية. في هذا يقول الرسول:"وبه أيضًا ختنتم ختانًا غير مصنوع بيد بخلع جسم خطايا البشرية بختان المسيح، مدفونين معه في المعمودية التي فيها أقمتم أيضًا معه بإيمان عمل الله الذي أقامه من الأموات. وإذ كنتم أمواتًا في الخطايا وغلف جسدكم أحياكم معه مسامحًا لكم بجميع الخطايا. إذ محا الصك الذي علينا في الفرائض الذي كان ضدًا لنا، وقد رفعه من الوسط مسمرًا إياه بالصليب" (كو 2: 11-14).
في المعمودية يقوم الروح القدس نفسه بختان النفس البشرية التي يدخل بها إلى شركة الصلب مع السيد المسيح وموته ودفنه ليهبها قوة قيامته، أي يدخل بها إلى عمليتين متكاملتين: ترك القديم وأخذ الجديد، خلع وهدم للطبيعة الفاسدة التي للظلمة مع بناء وقيام طبيعة الإنسان الجديد الُمقام مع المسيح. في هذا يقول الرسول: "إذ خلعتم الإنسان العتيق مع أعمالهِ، ولبستم الجديد الذي يتجدَّد للمعرفة حسب صورة خالقهِ" (كو 3: 9-10).
في المعمودية يقطعنا الروح القدس من الزيتونة البرية ويطعمنا في الزيتونة الجيدة (رو 11: 24) لكي ننمو في المسيح يسوع حاملين ثمر روحه القدوس فينا.
كان الختان في العهد القديم جسديًا مؤقتًا، أما في العهد الجديد فروحي أبدي كختمٍ يبقى مطبوعًا في هذا العالم وفي الدهر الآتي سرّ كرامة للمجاهدين الغالبين بالرب وسرّ تبكيت للمتجاسرين المستهترين.
* ينال شعب الله علامة الختان في قلوبهم من داخل، لأن السيف السماوي يقطع فضلة العقل يعني غلف الخطيئة النجسة.
كان الختان في العهد القديم أشبه بختم مطبوع على الجسد، بدونه يفقد الإنسان انتسابه لشعب الله، ويحسب خائنًا للعهد الإلهي، ويسقط تحت الهلاك، لأنه "ختم لبرّ الإيمان" (كو 2: 11-12). أما في العهد الجديد فدُعيت المعمودية ختمًا Sphragis به يحمل الإنسان علامة العضوية الكنسيَّة الداخلية والاتحاد مع السيد المسيح وقبول ملكوت الله. وترجع هذه التسمية "ختم" ربما إلى الرسول بولس القائل: "ولكن الذي يثبّتنا معكم في المسيح وقد مسحنا هو الله الذي ختمنا أيضًا وأعطى عربون الروح في قلوبنا" (2 كو 1: 21-22). "الذي فيهِ أيضًا إذ آمنتم خُتِمتم بروح الموعد القدّوس" (أف 1: 13).
* المعمودية هي شركة في اللوغوس، هلاك للخطيئة، مركبة تحملنا إلى الله، مفتاح ملكوت السماوات، ثوب عدم الفساد، حميم الميلاد الجديد، ختم [104].
* عظيمة هي المعمودية المعدة فداء عن المأسورين... وختمًا مقدسًا لا ينفك [105].
* أثناء العماد، عندما تأتي إلى حضرة الأساقفة أو الكهنة أو الشمامسة... اقترب إلى خادم العماد، ولا تفكر في الوجه المنظور، بل تذكر الروح القدس، هذا الذي نتكلم عنه الآن، لأنه حاضر ليختم نفسك. إنه سيهبك الختم الذي يُرعب الأرواح الشريرة، وهو ختم سماوي مقدس كما هو مكتوب: "الذي فيه أيضًا (إذ آمنتم) ختمتم بروح الموعد القدوس" [106].
تحدث آباء كثيرون عن المعمودية كختم للنفس، مثل القديس إكليمنضس الروماني [107] وهرماس [108] والعلامة ترتليان [109] والقديس يوحنا الذهبي الفم [110].
يقول دانيلوا [111] J. Daniélou بأن الختم كان يستخدم على الشمع لحفظ المجوهرات، والأشياء الثمينة والمستندات الرسمية. ولا يزال هذا الأمر مُتبعًا في مصر خاصة في حفظ المستندات في وزارة العدل كما في الطرود في البريد ضمانًا لعدم فتحها في غير وجود المسئولين، وعدم تزوير المستندات أو غش الأشياء المحفوظة. وكأن غاية الختم هو تأكيد أصالة الشيء وعدم غشه.
استخدم الرسول بولس هذا التعبير أيضًا في نفس المعنى حين كتب يؤكد صدق رسوليته، قائلًا: "إن كنت لست رسولًا إلى آخرين فإنما أنا إليكم رسول لأنكم أنتم ختم رسالتي في الرب" (1 كو 9: 2). وهكذا نتقبل في المعمودية ختم الروح القدس لكي نحمل فينا سمات ربنا يسوع المسيح الحقيقية غير المغشوشة، خلالها يتعرف علينا السيد المسيح كقطيعه الخاص، ويقبلنا الآب أولادًا له، والروح القدس هيكلًا ومقدسًا له. لقد كان الرعاة الأغنياء يختمون خرافهم بالكيّ بعلامة مميزة، هكذا نُختم نحن في أعماق النفس بالروح القدس لتمييزنا.
* اقترب وتَقبَّل الختم السرائري لكي يعرفك سيدك، وتحسب بين القديسين وقطيع المسيح المعروف، فتوضع عن يمينه [112].
* العلامة التي تتسمون بها الآن إنما هي علامة أنكم قد صرتم قطيع المسيح [113].
* كما يطبع المالك على قطيعه علامة خاصة يتعرف بها عليه، خلالها تظهر أنها ملك له، هكذا يختم الروح القدس من له في المعمودية بواسطة مسحة الزيت المقدس التي يتقبلونها أثناء العماد [114].
* عندما نغطس في جرن المعمودية، فبفضل صلاح الله الآب وبنعمة روحه القدوس نتعرّى من خطايانا إذ نتخلص من الإنسان القديم، ونتجدد، ونختم بقوته لملكيته الخاصة. ولكن عندما نخرج من جرن المعمودية نلبس المسيح مخلصنا كثوب لا يبلى، مستحقًا لكرامة الروح القدس عينها، الروح القدس الذي جددنا ودمغنا بختمه..
لا يمكن لأحد أن يحصل على المواهب السماوية ما لم يتجدد بروح الله القدوس ويُدمغ بختم قداسته، ولو كان كاملًا في حياة بلا عيب في كل شيء آخر [115].
خلال هذه العلامة نُحسب في ملكية الله كعبيدٍ له: "ألستم تعلمون أن الذي تقدّمون ذواتكم لهُ عبيدًا للطاعة أنتم عبيد للذي تطيعونهُ، إمَّا للخطية للموت، أو للطاعة للبرّ. فشكرًا لله أنكم كنتم عبيدًا للخطية ولكنكم... إذ أُعتِقتم من الخطية صرتم عبيدًا للبرّ" (رو 6: 16-18). هذا ما سجله لنا الرسول بولس بعد حديثه عن المعمودية مباشرة، إننا تركنا عبودية الخطية لندخل بإرادتنا الحرة في الطاعة كعبيد لله، فصارت المعمودية هي ختم العبودية لسيدنا الجديد الذي هو الله. وكما يقول القديس أمبروسيوس [وُسم العبيد بعلامة سيدهم.] هذه العبودية الاختيارية هي عبودية الطاعة المملوءة حبًا التي تلتحم مع بنوتنا لله وتناسبها.
مادام هذا الختم يحمل علامة سيدنا، يميزنا كقطيعٍ خاصٍ به، فإنه يحمل أيضًا التزام الله -بإرادته المملوءة حبًا- نحو خليقته الجديدة برعايتها والحفاظ عليها.
حينما قتل قايين أخاه هابيل ووبّخه الرب ملأ الخوف قلبه، فقال للرب: "ذنبي أعظم من أن يُحتَمل... فيكون كل من وجدني يقتلني"، لذلك "جعل الرب لقايين علامةً لكي لا يقتلهُ كل من وجده" (تك 4: 13، 15). أعطاه علامة لحمايته مع أنه قاتل، لكن رحمة الله تدخلت من أجل ندامته.
وفي سفر حزقيال أرسل الله رجلًا يلبس كتانًا علامة النقاوة، وكان يضع علامة (وسمًا) على جباه الرجال الذين يئنون ويتنهدون على كل الرجاسات المرتكبة وسط أورشليم (9: 4) وأمر الرب بقتل كل سكان المدينة ماعدا الذين لهم هذه السمة.
وفي سفر الرؤيا حُفظ المختومون على جباههم بختم الله من الهلاك (رؤ 7: 2-4).
هذا هو عمل المعمودية كختم للنفس يحفظها من غضب الله وضربات العدو الشرير، إذ تحمل علامة الملك العظيم الواهب النعم المجانية.
(الختم) هو ضمان للحفظ وعلامة الملكية.
** إن كنتم تحصنون أنفسكم بالختم فتُوسم نفوسكم وأجسادكم بالزيت (المسحة) والروح ماذا يمكن أن يحدث لكم؟!
القطيع الموسوم بالعلامة لا يُسلب بمكرٍ بسهولة، أما القطيع الذي لا يحمل العلامة فهو غنيمة للصوص... يمكنكم أيضًا أن تموتوا في سلام. لا تخافوا من أن تحرموا من عون الله الذي يهبه لكم لأجل خلاصكم [116].
* الروح القدس يسمنا بعلامته الخلاصية لنعود إلى شبهنا الأول، لأن القطيع الذي لا يُميز بعلامة يكون غنيمة سهلة للذئاب، فلا يكون له عون الختم ولا يكون معروفًا كالقطيع الآخر من الراعي الصالح [117].
* النفس التي لم تستنر ولا تحلَّت بنعمة الميلاد الجديد، لا أعرف إن كانت الملائكة تتقبلها بعد تركها الجسد!
حقًا إنهم لا يستطيعون أن يتقبلوها مادامت لا تحمل الختم Asphragiston، ولا أي علامة خاصة بمالكها. حقًا أنها تصير محمولة في الهواء وتتجول بغير راحة دون أن يتطلع إليها أحد، إذ هي بلا مالك. إنها تطلب الراحة فلا تجدها، تصرخ باطلًا، وتندم بلا فائدة [118].
كان الجندي في الجيش الروماني يوسم بعلامة Signaculum على يده تحمل اختصار اسم قائده [119]، لهذا تطلع الآباء إلى المعمودية كعلامة يوسم بها جنود السيد المسيح الروحيين، حاملين على قلوبهم وأجسادهم علامة قائدهم الروحي الأعظم يسوع المسيح واسمه القدوس.
لقد دُعينا إلى جيش الله... عندما نجيب على كلمات السرّ Sacramentum [120].
** لقد أردت أن أحارب بشجاعة، واضعًا في ذهني السرّ sacramentum الذي لي، حاملًا سلاحّي التكريس والإيمان [121].
* الآن ينقش اسمك وتدعى للدخول إلى المعسكر (الروحي).
* يأتي كل واحد منكم ويقدم نفسه أمام الله في حضرة جيوش الملائكة غير المحصية، فيضع الروح القدس علامة على نفوسكم. بهذا تسجل أنفسكم في جيش الملك العظيم [122].
* العلامة التي تطبع الآن هي علامة أنك قد صرت من قطيع المسيح، جندي ملك السماوات...
الجندي الذي يُختار تفحص نفسيته وصحة جسده ثم يتقبل علامة على يده تظهر الملك الذي يخدمه. والآن قد أخذت لملكوت السماوات ويمكن التعرف عليك، إن فحصك أحد يجدك جنديًا لدى ملك السماء! [123]
* كما يطبع الختم على الجند هكذا يطبع الروح القدس على المؤمنين [124].
* من يتقبل حميم التجديد يشبه جنديًا صغيرًا، أُعطى له مكان بين المصارعين، لكنه لم يبرهن على استحقاقه للجندية [125].
إذ ندخل مياه المعمودية نصعد حاملين ختم الله، لنا صورة خالقنا وحاملين سماته فينا... لسنا فقط نتمثّل بالمسيح إلهنا، إنما تصير حياة المسيح هي حياتنا، موته هو موتنا، قيامته قيامتنا، سماته سماتنا وأمجاده أمجادنا كما يصير أبوه أبانا.
* المعمودية هي ختم الله، وكما خلق الإنسان الأول على صورة الله ومثاله، هكذا الذي يتبع الروح القدس يُختم منه ويأخذ صورة الخالق [126].
* الذين يستنيرون يتقبلون ملامح المسيح... فإنه حتما يُطبع على كل واحد منهم شكل الكلمة وصورته وملامحه حتى يُحسب المسيح مولودًا في كل واحدٍ منهم بفعل الروح القدس... ويصير الذين يتعمدون مسحاء آخرين [127].
يتحدث القديس أمبروسيوس عن المعمودية كختم روحي [128]، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وهو في هذا يختلف عن الختم المادي. الختم المادي يُطبع على السطح، وفي موضع محدود، أما الختم الروحي فيخترق أعماق النفس، يطبع بصماته على كيان الإنسان كله: جسده وقلبه وأحاسيسه واشتياقاته وكل طاقاته، وذلك كما تصبغ قطعة قماش بطريقة سليمة، فيتشرب النسيج اللون تمامًا في السطح كما في الداخل.
طبيعة هذا الختم الروحي تعطيه سمة الأبدية، لهذا يسميه القديس باسيليوس [129] [ختم لا ينفك sigllum infrangibile]، لا يستطيع أن تحلّه الخطيئة أو الهرطقة أو حتى الموت. لهذا إن أنكر إنسان الإيمان ثم عاد لا تُعاد معموديته، لأن الختم مخفي فيه لإدانته.
* [في حديث موجه لهرطوقي.]
إنك حمل في قطيع سيدي، تحمل علامته، وها أنت شارد مع أنك تحمل العلامة عليك... أما نحن فلنا ذات العلامة [130].
تمسك بما نلته فإنه لن يتغير. إنه وسم ملكي!
** المُعمد في الكنيسة، إن ترك الكنيسة يُحرم من قداسة الحياة، لكنه لا يفقد وسم السرّ.
* السمة السيدية لا تنحل البتة عن الذين تقبلوها، ولا تُعاد المعمودية [131].
_____
[103] Kay’s Writings of Clement of Alexandria, London 1835, p. 439.
[104] PG 36:361 C.
[105] Procortechesis 16.
[106] Cat. Lect. 17:35.
[107] Epis. 7.6.
[108] Sheph. Sim 9:6:3.
[109] De pudic 9:9.
[110] In 2 cor hom 3:7.
[111] The Bible and the Liturgy. Ch 3.
[112] PG 33:372.
[113] Cat. Hom 13:17.
[114] Enchir. Patr. 712.
[115] De Trinitate 2:12.
[116] PG 36:364; 36:377 A.
[117] PG 39:717 B.
[118] PG 46:424 C.
[120] Ad Martyr 3.
[121] De Lapsis 13.
[122] PG 33:333 A, 428 A
[123] Cat. hom 13:17.
[124] PG 61:418.
[125] PG 46:429 C.
[126] Convivum virginum. Ench. Patr n. 613.
[127] على رسالة أفسس 1، 13.
[128] Ech. Pate. 1282.
[129]) Ibid 968.
[130] P! 43:693.
[131] تفسير يوحنا مقال 16، عظة 8، رسالة 185، 23 إلى بونيفاتيوس.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/holy-spirit/circumcision.html
تقصير الرابط:
tak.la/g6sr4nf