جاءتني فتاة في حالة تعب نفسي مُر وقد اتسمت بشيء من الجمال، وإذ أخذتُ أحاورها في محبة الله ورعايته في كل جانب من جوانب حياتنا... إذ بها في خجل قالت لي إن هناك أمرًا يصعب عليّ أن أتحدث فيه مع أحد... وبعد لحظات، في صوت خافت قالت: إنني أُعاني من الشعور بالقبح...
هذه ليست حالة فردية لكننا نجدها متكررة بين الشباب من الجنسين، فكثيرًا من الفتيات الجميلات يشعرن في أعماقهن أن الشباب يتملقهن لكنهن لسن جميلات، وأيضًا بالنسبة للياقة البدنية للشبان أو القدرة على الذكاء أو ممارسة الملاطفة الخ... هذه المشاعر تحطم نفسية الشباب.
تحدثنا في مقدمة هذا الكتاب عن الضغوط النفسية التي يتعرض لها المراهقون، خاصة شعورهم بالنقص وإحساسهم بالعزلة القاتل. هذه الضغوط تصيب الغالبية العظمى من المراهقين في البلاد المتقدمة كما النامية أيضًا، لا أبالغ إن قلت إنها تصيب الإنسان بوجه عام من فترة إلى أخرى بدرجات متفاوتة، لكنها تقسو جدًا على المراهقين.
يقول الدكتور دوبسون James Dobson في تسجيلاته وفي كتابه عن "الإعداد للمراهقة" بأن الشعور بالنقص أو بالإرجاء أو بالفشل أو بالتفاهة مُدمَّر للشخصية. ثمانون في المائة من المراهقين ساخطون على بعض ملامحهم البدنية، إذ يشعرون أنهم غير جذابين بل وقبحاء، هذا الأمر يمثل مشكلة تشغلهم غالبية الوقت (2). يظن هؤلاء المراهقون بأن الجنس الآخر لا يحبهم. وقد قدم الدكتور دوبسون عاملين آخرين يثيران هذا الشعور هما إحساسهم بقلة الذكاء أو نقص مواردهم المادية.
هذه المشكلة التي تبرز بقوة في أعماق المراهقين يعاني منها حتى الإنسان البالغ مهما كان مركزه الأدبي أو العلمي أو المادي أو البدني إذ يشعر دائمًا بالعَوَز، لأنه مخلوق إلهي يطمح إلى اللانهائيان. قد يعتز الإنسان بذاته أو قدراته أو مواهبه أو سطوته، وربما يعشقه الملايين أو يحترمونه ويكرمون فّنه أو علمه... لكنه يتصاغر جدًا في عيني نفسه، إذ يشعر بفراغ شديد في داخله لا يستطيع أحد أن يملأه. هذا ما يدفع بعض مشاهير الفنانين أحيانًا إلى الانتحار.
على أي الأحوال، اهتم الله منذ بدء خلقة الإنسان أن يهبه نموًا لنفسيته، ليعيش بشخصية سوية، لا يحطمه الشعور بالنقص، إنما على العكس يعتز بنفسه بكونه قد وُهب الكثير من القدرات ولم يُترك في عوز إلى شيء. يذكر سفر التكوين أن الله وهب الإنسان سلطانًا على كل الأرض (تك26:1)، كما وهبه القدرة على التعقل والتفكير مع الحرية، فأعطى آدم أسماء لكل الخليقة دون خبرة سابقة له (تك19:2).
عندما سقط موسى النبي تحت هذا الشعور بالنقص وهو في حوالي الثمانين من عمره، إذ أراد التنحي عن العمل القيادي بسبب ثقل لسانه، مرددًا: "استمع أيها السيد، أرسل بيد من ترسل" (خر13:4)، لم يتركه الله يتحطم بهذا الشعور، بل قدم نفسه عونًا له، قائلًا: "أنى أكون معك... وأنا أكون في فمك وأعلمك ما تتكلم به" (خر12:13). إذ شعر بالنقص بسبب ثقل لسانه، تقدم الله نفسه خالق اللسان ليكون في فمه يتكلم فيه! وعندما عانى إرميا من ذات الشعور تدخل الله، قائلًا: "لا تقل إني ولد... لأني أنا أكون معك لأنقذك" (إر7:1،8).
يظهر اهتمام الله بنفسية شعبه بتقديمه المن في البرية لإشباع جسدهم، "والفرح" لإشباع نفوسهم حتى يستطيعون مجابهة المصاعب بنفس متهللة سوية، إذ قيل "أشبعنا بالغداة من رحمتك فنبتهج ونفرح كل أيام حياتنا" (مز14:90).
أما علاجنا النفسي فجاء متكاملًا مع العلاج الروحي بتجسد كلمة الله، إذ صار واحدًا منا، يحمل ذات طبيعتنا، ويشاركنا حياتنا على الأرض. بهذا أعاد الخالق للبشر ثقتهم في أنفسهم وتقديرهم لإنسانيتهم، فأدركوا في كلمة الله المتجسد أنهم ذوو شأن.
حلَّ ابن الله القدير بيننا وفينا، واهبًا إيانا -خلال المعمودية- التبني للآب، فكيف نشعر بعد بالنقص؟
أعطانا الحب كله على الصليب، فماذا يعوزنا بعد؟ يقول الرسول بولس: "الذي لم يشفق على أبنه بل بذله لأجلنا أجمعين، كيف لا يهبنا أيضًا معه كل شيء؟!" (رو32:8).
في اهتمامه بنفسية كالإنسان جاء يترفق بالمطرودين والمرذولين من برص ولصوص وزناة وعشارين ومجانين، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. حقًا إنه يبغض الخطية ولا يطيقها، لكنه يحب الخطاة والمرضى ليشفيهم. رفع أيضًا من نفسية الأطفال والنساء، كأشخاص لهم حقوقهم كأعضاء في الكنيسة على قدم المساواة مع الرجال البالغين، لهم حق العمل لتحقيق أهدافهم بما يناسب قدراتهم ومواهبهم. حين كان صبيًا قال لأمه: "لماذا كنتما تطلبانني؟! ألم تعلما أنه ينبغي أن أكون في ما لأبي؟! (لو49:2) يرى بعض الدارسين في هذه الكلمات ثورة في عالم الطفولة. فالطفل شخص له كيانه وشخصيته ودوره في الحياة. لقد خضع السيد لأمه (لو51:2)، وفي نفس الوقت يحقق رسالته.
ليت كل شاب يدرك أن الله الذي خلقه يهتم بحياته ليس فقط من الناحيتين البدنية والروحية بل وأيضًا النفسية، إذ يريده عضوًا حيًا، ذا نفس سوية. الله لن يترك المراهقين يحطمهم الشعور بالنقص، ويقتلهم الشعور بالعزلة، إذ يقدم لهم الكثير، منه:
(أ) يقدم نفسه صديقًا شخصيًا ملاصقًا لكل أحد، حتى يبدو للإنسان كأن الله لا ينشغل إلا به كما شعر القديس أغسطينوس حين دخل دائرة حب الله. بثقة وفرح يترنم الإنسان، قائلًا: "حبيبي لي وأنا له" (نش 16:2). جاءنا كلمة الله متأنسًا ليقيم صداقة إلهية على مستوى فريد مُشبع لكل شخص، إنه الصديق الذي يدخل إلى الأعماق ويدرك حقيقة أحاسيسنا، لا يتجاهل مشاعرنا ولا يهيننا مهما كانت ضعفاتنا. على العكس نراه دائمًا يشجع ويسند مؤكدًا تقديره لشخصية كل أحد.
(ب) جاء ينتزع روح اليأس وعدم الرجاء، إذ يُبرر ما هو صالح وجميل في حياة الإنسان مهما بلغ شرَّه. فلا يشعر الإنسان أنه في عوز إلى جمال أو حكمة بطريقة محطمة، كما لا يشعر أنه في عوز إلى من يرد إليه الثقة في نفسه.
(ج) بكونه الخالق يمسك بأيدينا ليسحبنا من الانشغال بالظروف الخارجية موجهًا إيانا إلى كياننا "core self" أو إلى إنساننا الداخلي "inner man"، ليعلن ملكوته المفرح فينا، نعتز بالمجد الداخلي الذي يقيمه في أعماقنا، والتجديد الداخلي الذي يحققه بروحه القدوس (كو 10:3، 2كو16:4).
ليت كل البشرية -بما فيها من مراهقين- يدركوا حب الله للإنسان، إذ يهتم حتى باحتياجاته النفسية. يقابل هذا الحب بالحب فيراعي نفسية الآخرين. بمعنى آخر إن كان الله يهتم بنفسيتنا هكذا يليق بنا أن نهتم بنفسية إخوتنا. فالشاب (أو الشابة) الذي يلهو بمشاعر آخر من ذات الجنس أو من الجنس الآخر لإشباع عاطفته الذاتية وتحقيق الأنا ego تحت ستار الحب أو الصداقة، على حساب مستقبل الغير وسلامته الداخلية، إنما يعزل نفسه بنفسه عن روح مسيحه.
جاءت فتاة إلى كنيستنا بلوس انجلوس لتتعرف علينا، إذ سمعت الشعب يتحدث العربية، وهي من أصل عربي وُلدت في أمريكا. لم تكن تؤمن بالله لأنها لم تجده في قلبي والديها أو قلوب من التقت بهم. عاشت مع أكثر من شاب لسنوات أحيانًا ولشهور أحيانًا أخرى، في حياة لهو مستمر، سألتها عن شعورها الداخلي من جهة حياتها، فأجابت في صراحة إنها لا تشعر بالطمأنينة والضمان، فهي تعيش مع شاب لسنوات قد يتركها أو تتركه. حياتها في الظاهر مملوءة بهجة تلاطف الغير والغير يلاطفها، لكن بحسب كلماتها الصريحة إن أعماقها مملوءة بؤسًا وقلقًا. حين تحدثت معها عن أبّوة الله دُهشت لسماعها عبارة "الأبوة"، فإنها لم تذقها قط؛ والدها مطلق يعيش في ولاية لا تعرفها، وأيضًا لا تعرف أين والدتها. سألتها أما تسأل عنهما؟ أجابت: ولمَ أسأل، إن كان أحدهما مريضًا توجد مستشفيات. مسكينة مثل هذه الفتاة التي لم تختبر صدق الحب الباذل في والديها ولا في أصدقائها، ولم تلتقِ بالسيد المسيح القادر وحده أن يُشْبِع النفس، ويقدّر حياتها كشخص له كيانه!
أحبائي، ليتنا نلتقِ بمسيحنا الذي يهتم بدقائق مشاعرنا، تحمله فينا، ونقدمه إلى كل قلب ليتمتع معنا بالحياة المفرحة الداخلية.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/grow/psychological.html
تقصير الرابط:
tak.la/qh45ask