إذ نتحدث عن شخصية هذا الأب، إنما نذكر قديسًا يتلألأ اسمه في سماءٍ الكنيسة، شرقًا وغربًا. شهدت له الكنيسة بقداسة حياته فضمته إلى "مجمع قديسيها(1)"، وأدركت فاعلية كلماته فترجمت الكثير من عظاته وكتاباته عبر كل العصور، ينسخها الرهبان لنفعهم الروحي، ويتلوها الكهنة أثناء العبادة الليتورجية لتثقيف شعبهم(2)...
1. لم يكن القديس يوحنا رجل سياسة مثل القديس أمبروسيوس الذي دخل في صراعات مع السلطات المدنية، انتهت باصطياده الإمبراطور ثيؤدوسيوس التائب، فانفتح له البلاط الإمبراطوري بكل إمكانياته لخدمة الكنيسة وتوطدت العلاقات بينهما فصارا رفيقين مخلصين... وقد مات الإمبراطور مستندًا على القديس أمبروسيوس أعظم صديق له، مرددًا اسمه على شفتيه. لكننا نود إلا نتجاهل قدرة القديس أمبروسيوس -خلال هذه الصراعات أو تلك الصداقة العارمة- إلا ينحرف قط عن عمله الروحي الكنسي، وقدرته إلا يميل بالكنيسة نحو روح السلطة الزمنية فتطلب سلطانًا ليس لها!
لم يقم القديس يوحنا الذهبي الفم بدور كهذا. حقًا لقد رحب به الإمبراطور أركاديوس بشدة ومعه أفدوكسيا زوجته وفتحًا له البلاط على مصراعيه، لكن ظروف القسطنطينية في ذلك الحين أوحت إليه أن يضع حدًا بين البلاط ودار الأسقفية... وجاءت عظاته العنيفة ضد الأغنياء وهجومه -بطريقة أو بأخرى- على تصرفات الإمبراطورة وحاشيتها وبعض المسئولين إلخ... إلى غلق باب البلاط في وجهه بل والى طرده من دار أسقفية!
2. لم يكن أيضًا فيلسوفًا مسيحيًا على مثال العلامة أوريجين والقديس إكليمنضس الإسكندري وغريغوريوس أسقف نيصص، الذين رأوا الالتزام بالفلسفة المسيحية كطريق لتحطيم الفلسفة الوثنية. أما القديس يوحنا فقد خشى الفلسفة الممثلة في ذلك الوقت في الأفلاطونية الحديثة، متطلعًا إليها كآخر معاقل الوثنية المحتضر.
لقد آمن أن الفلسفة الحقة هي "التقوى" أو الحياة الإيمانية العملية، وهي وحدها التي تقدر أن تشبع احتياجات القلب وتجذب غير المؤمنين إلى الإيمان.
احتقر القديس يوحنا الفلاسفة فدعاهم "أطفالًا نهمين في حب المجد الباطل(3)" وازدرى بأثينا مركز الفلسفات اليونانية، إذ لقبها "مدينة الثراثرة(4)".
3. لا يعتبر القديس يوحنا "لاهوتيًا"، بالمعنى الذي فيه لم يقدم مفاهيم لاهوتية جديدة ولا شغل نفسه بالبحث في اللاهوتيات، فقد كان واعظًا قديرًا أكثر منه لاهوتيًا، موجهًا للنفوس أكثر منه صاحب نظريات، متمسكًا بالتعاليم الأرثوذكسي المستلم بكل أمانة لا بالبحث والمناقشة والحوار، إنما بتقديمه طعامًا بسيطًا سهلا خلال عظاته ومقالاته، يشبع به قطيعه دون تعب.
4. عُرف عنه أيضًا أنه ليس مناضلًا للهراطقة مثل القديس أثناسيوس الرسولي وكيرلس الكبير وديسقورس، لكنه كان راعيًا ساهرًا على رعيته لا بالجدال مع الهراطقة إنما بتقديم كل حبه لشعبه مع حكمة وسهر دائم... ولا يستخدم الجدال إلا عند الضرورة القصوى.
لقد حدثنا عن فلسفته هذه بقول(5) "ما دام الرعاة ليسوا في مواجهة وحش كاسر، فإنهم يسترخون تحت شجرة سنديان أو أرز، يعزفون الناي، تاركين قطيعهم يرعى في حرية. أما إذا دبرت الذئاب هجومًا فإنه للحال يقوم الرعاة بحيوية ويلقون عنهم المزمار أو الناي متسلحين بالمقلاع. هكذا أنا أفعل!".
5. كان القديس ناسكًا، تكشف لنا ملامحه الجسمانية عن شخصية رجل ناسك(6): "فقد كان من جهة مظهره إنسانًا نحيلًا، قليل الجسم، له وجه مريح للنفس لكنه جاد، له جبهة مجعدة ورأس صلعاء وعينان غائرتان حادتان وثاقبتان. أما ميوله فبسيطة للغاية، دائم النسك، مرهف الحس، يحمل مشاعر رقيقة في كل أمر، يعبر عنها بطريقة قاطعة.
كان لطيفًا، طيب القلب، ودودًا، مرحًا مع خواصه، متحفظًا جدًا في علاقته بالآخرين(7)..
كان ناسكًا جادًا في تقشفه دون أن يدخل به النسك إلى الهروب من التزامات الرعاية أو المبالغة في الانشغال بالتأملات الإلهية.. بل بالأحرى يدفعه نسكه للبذل والجهاد كل يوم بحب من أجل خلاص الناس، دون أن يحرم نفسه من جلساته اليومية الهادئة مع كلمة الله وفي وسط تدبيره لخدمة أولاده المتسعة لم ينحرف قط عن الروح الرهباني..
6. كان قديسنا رجلًا إنجيليًا يتطلع إلى الكتاب المقدس بعهديه بكونه "تنازلًا من قبل السماء"(8)، تتلقفه نفسه الداخلية، وتجهزه ليلًا ونهارًا، لا لتبلغ إلى تأملات لاهوتية شاهقة، ولا استعدادًا لإلقاء عظات منمقة، أو تسجيل مقالات مكتوبة... لكن غايته الأولي الدخول العملي في "الحياة الإنجيلية التقوية" ليعيشها هو، وليعيشها شعبه معه...
أحب الكتاب المقدس ليمارس وصيته استعدادًا عمليًا للحياة الأبدية، دون أن يعزل هذه الخبرة عن إخوته الذين أحبهم كنفسه!
كان الكتاب المقدس بالنسبة له "مرعى" تتغذى فيه نفسه ونفوس إخوته، الأمر الذي يفرح قلبه، قائلًا(9) "عند تفسيري الكتب الإلهية أثب متهللًا كمن هو في مرعى!".
7. نستطيع أن نلقبه أيضًا بالرجل الكنسي Churchman. فقد أكد روحه الكنيسة لا بممارسة العبادات الكنيسة ولا برهبنته ولا بنواله نعمة الشموسيَّة والقسيسية فالأساقفة، ولا بحديثه المستمر مع شعبه عن الكنيسة وأسرارها الإلهية وعبادتها الجماعية، إنما بالأكثر وهو واعظ الجماهير الناجح لم يلهه إعجاب الجموع به ولا التفاف الكثيرين عن الدخول بهم إلى "الحياة الكنسية العملية" أو "الحياة السرائرية التقوية".
كان هذا الكنسي العظيم لا يكف عن التدريب مع شعبه على "حياة الشركة مع القديسين في المسيح يسوع" بإقامة احتفالات أسبوعية وأحيانًا مرتين وثلاث مرات في الأسبوع، يمجد الله في شهدائه وقديسيه في أعيادهم، حيث يحضر بنفسه ويشترك معهم في الصلاة والتسبيح، متحدثًا معهم عن حياة الشهادة والشهداء وفاعلية صلواتهم عنا. أحيانًا ينسى نفسه وسط هذا الجو السماوي فيقضى من الليل أغلبه، وأحيانًا يستمر الحفل الروحي حتى قرب الفجر أو الصباح المبكر.
8. اتسمت شخصيته بالواقعية العملية في تعبده وكرازته، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام المقالات والكتب الأخرى. فقد عشق الأبديات وتذوق السماويات، كقوله(10) "لنمش على الأرض كمواطنين سمائيين". ولكنه كإنسان واقعي لا يشغل ذهنه بالتعرف على أسرار السماء أو طلب رؤية الله وهو بعد على الأرض، إنما يعطى كل اهتمامه كيف يتهيأ عمليًا مع إخوته لملاقاة الرب وجهًا لوجه في الحياة الأخرى.
الدخول في السماويات -في رأيه- ليس انطلاقًا في التأملات بل حياة جهاد، حياة عمل وأمانة يومية، فرسالة المؤمن على الأرض ممارسة الفلسفة الحقيقية، أي التقوى العملية، يجتهد بروح الإيمان العملي لكي يتهيأ للمكافأة العلوية...
بمعنى آخر، يؤمن قديسنا بالمسيحية كحياة سمائية ممارسة على الأرض، خلال الواقع الذي يعيشه المؤمن... كقوله(11):
"لنمشي على الأرض كمواطنين سمائيين،
كمصارعين تتجه أفكارهم نحو المباراة،
غير مبالين بالآلام... واطئين بأقدامهم على الفحم المشتعل كمن يسيرون في حديقة مملوءة زهورًا!".
9. أما سر عظمة القديس فهو إيمانه بالكرازة...
يقول عنه بلاديوس(12) "كان كاهنًا مشهورًا بسيرته وقدرته الخطابية، اِستخدمه المخلص كأسًا ثمينًا يسكب فيه نعم الخلاص لأحباء اللوغوس".
أروع ما في الذهبي الفم إيمانه بقيمة أنفس البشرية مقدمًا إيمانه ورجاءه ومحبته ونسكياته ودراساته وعباداته... بل كل نسمة من نسمات حياته لأجل "خلاص النفس البشرية".
بمعنى أدق بسط القديس كل نسكياته ودراساته وعبادته ومواهبه وطاقاته الجسمانية وأحاسيسه وعواطفه لخدمة الآخرين، مشتهيًا لو استطاع أن يحمل بالنعمة الإلهية العالم كله مع إلى أحضان الله مخلص البشرية!
أما سر نجاح هذه الخدمة فهو نظرته لها على إنها ليست مجرد وظيفة يمارسها الأسقف أو الكاهن، بل هي "عمل أسقفي" ينبع عن روحه الأبوي المحتضن في قلبه العالم كله، يبعث بروح الكرازة والحب وخدمة الآخرين في كل أحد: الكاهن والشماس والعلماني... الكرازة -في نظره- هي عمل الكنيسة كلها متحدة مع أسقفها في المسيح يسوع بالروح القدس!
"حب خلاص النفس ونموها الروحي، ليس عملًا رسميًا يلتزم به أناس معينون يمارسونه بجوار عبادتهم الشخصية، لكنه إشعاع طبيعي يبعث من كل قلب عرف خلاص المسيح المجاني... حتى وإن كان طفلًا. هو ثمرة طبيعية للقاء النفس مع الله شمس البرّ، ينعكس نورها على من حولها، ويتسع قلبها بالحب للبشرية كلها.
لقد عاش الذهبي الفم لهدف واحد هو خلاص الناس، كقوله(13):
"إن أعظم فرحى هو أن أراكم نامين في الحياة الروحية"،
"شغلي الشاغل هو أن تصيروا جميعًا كاملين"،
"لا أعيش إلا من أجلكم ومن أجل خلاصكم".
_____
الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:
(1) كما في القداس الباسيلي لكنيسة الإسكندرية.
(2) كادت هذه العادة تتلاشى تمامًا بعد ما شعر الكهنة بضرورة الوعظ لشعبهم كممارسة لأبوتهم... دون الالتزام بعظات مكتوبة إلا القليل النادر.
(3) In Act PG 60: 48.
(4) Ibid. 268.
(5) Adv. Jud PG 48: 871.
(6) F. Gayré: Patrologie et Histoire de la Theologie. 1945, t 1. p 459.
(7) J. Tixeront: Patrologie, p 264-265.
(8) In Is. PG 56: 13: Iu Gen. PG 53: 28, 41, 176.
(9) Adv. Jud. PG 48: 871.
(10) In. Gen. PG 53: 259.
(11) Ibid.
(12) dialog. PG 48: 42.
(13) In Gen. PG 53: 293. 252, Ad Pop. Ant. PG 49: 103.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/chrysostom/personality.html
تقصير الرابط:
tak.la/ata8fj5