حقق المسيح كل النبوات الخاصة به في العهد القديم. ولكن كان لليهود أفكارهم الخاصة وتفسيراتهم المختلفة للنبوات فكانت توقعاتهم لشخص المسيا تختلف كثيرًا عن مسيح الناصرة كما عرفه المسيحيون. يشبه هذا ببعض الحروف حين تجمعها بشكل ما تخرج جملة معينة وحين تجمعها بشكل مختلف تخرج جملة أخرى. لذلك اختلف فهم الربيين في مجامع اليهود للنبوات عن فهم المسيحيين لنفس النبوات بحسب إيمان ورجاء المسيحيين في شخص المسيح.
[1] العهد القديم هو وحدة عضوية وهو صورة نبوية مهيبة، لا تنفصل فيها الأحداث التاريخية والشرائع والطقوس والتوقعات والنبوات عن بعضها. فيه يعلن الله عن نفسه كإله محب لخليقته التي هي مملكة الله على الأرض. ونرى كَرَم الله نحو خليقته. وهذه المملكة تؤسس في المسيح. ونلمح علاقتين أساسيتين هما علاقة الله تجاه الإنسان (الله هو الأب) - وعلاقة الإنسان تجاه الله (الإنسان هو العبد). وبجمع الفكرتين نجد تعبير الابن-العبد. وفهم اليهود وتوقعوا أن المسيا المنتظر سيعطى سيادة كاملة للبشر على الخطية وفهموا هذا من "هو يسحق رأسِك" (تك3: 15). والوجود السابق للمسيا الذي يؤسس مملكة الله على الأرض هو الابن- العبد، هذا ما أشار له السيد بقوله "قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن" (يو8: 56).
وبدأ تأسيس مملكة المسيح مع إبراهيم "أبوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومى فرأى يومى وفرح" (يو8: 56). وكل ما جاء بعد إبراهيم كان له وجهين أحدهما سماوى وهو الابن - والآخر أرضى وهو العبد.
وإسرائيل كان ابن الله البكر، وإسرائيل هم عائلة الله وأهل بيته. وهم أيضًا عبد الرب كما قيل "عبدي يعقوب" وفهم إسرائيل أنهم هم ليسوا فقط عبد الله بل هم الابن -العبد- الممسوح أي المخصص لخدمة معينة. وتبلورت الفكرة في ثلاث محاور أو مؤسسات. عبد الرب في علاقته مع التاريخ هو مملكة إسرائيل. وعبد الرب في علاقته مع الطقوس هو الكهنوت. وعبد الرب في علاقته مع التوقعات هو النبوات.
ولم يقدم المسيا كشئ منفصل أو شيء مضاف إلى العهد القديم. بل كل شيء: التاريخ والتوقعات الكل يشير إليه. فهو نموذج الإسرائيلى، لا بل هو نموذج لإسرائيل نفسها، التاج أو ممثل لإسرائيل نفسها. هو ابن الله وهو عبد الرب. وهو ممسوح ليس بزيت إنما بروح يهوه نفسه الذي يحل عليه، وهو الابن بشكل مميز. وعن علاقته العضوية مع إسرائيل فهو نسل إبراهيم وهو نسل داود. ولكن إسرائيل خاضعة له "يا إبنى أنا اليوم ولدتك". ونرى ذلك في فهم الإنجيليين في أنهم طبقوا ما يقال عن إسرائيل على المسيح مثل "من مصر دعوت إبنى". وهكذا نرى أن نبوات إشعياء عن عبد الرب تنطبق على المسيح، وفيه كممثل لإسرائيل يجتمع وظائف النبي والملك والكاهن. وهو أيضًا الابن والعبد. وفيه نرى التطبيق المثالى لوظيفة إسرائيل التي كان من المفروض أن تقوم بها، وأنها تؤسس مملكة الله وسط البشر.
وهكذا جاء المسيح ليؤسس مملكة الله على الأرض، جاء كعبد الرب، جاء الممسوح ليعزي البشرية، كصديق للخطاة، مصالحًا الكل أمم ويهود، أتى بالخلاص الأبدي. وبهذا إنتهت وظيفة إسرائيل. وقد سمح الله نتيجة لخطيتها أن تذهب لسبى بابل، وكان هذا لتقترب هذه المملكة من ممالك العالم. فلم يكن سبى بابل عقوبة فقط لليهود، فالله كان يؤدبهم ولكن من ناحية أخرى كان الله يعلم الشعوب الأخرى التي عاشوا وسطها شيئا عن مملكة الله.
[2] فهم اليهود أن كل معجزات العهد القديم وخلاصهم سابقًا سيحققها المسيح المنتظر وبصورة أوسع، وأن كل الماضى كان مجرد رمز لما سوف يحدث في أيام المسيا. وقال التلمود أن كل النبوات تنصب على هذا المسيا، وأن كل الأحداث في الماضى هي صورة لمرآة للبركات التي سيحصل عليها إسرائيل في كل العالم في المستقبل، وقال التلمود أن العالم قد خلق فقط للمسيا. وأخرج الربيين القدماء من العهد القديم 456 نبوة عن المسيح [75 من أسفار موسى و243 من النبوات و138 من بقية الكتب] وهم يضعوا هذه النبوات عن العصر المسيانى المجيد لإسرائيل كنجوم تتلألأ في أيامهم المظلمة وهم مشتتين في الأرض. ولكن وسط بريق هذه التخيلات والأوهام المادية لمملكة المسيا على الأرض التي سيؤسسها لإسرائيل، إختفت تمامًا أي عناصر روحية. فقط دراسة الناموس والأعمال الصالحة وإنتظار رجوع إسرائيل وإستعادة الأمجاد. وعمل المسيح الأساسى هو رجوعهم. عمل المسيا في نظرهم هو رفعة إسرائيل مفضلين هذا عن خلاص العالم. بل نجد أن تصور الربيين عن مركز إسرائيل في الأيام الأخيرة لهو تصورات غير عقلانية. هم لا توجد لديهم أي أفكار أو تصورات عن المسيح المخلص الذي يعمل على خلاص البشرية وتسديد إحتياجاتها وفي هذا يعمل ما لم تقوم به إسرائيل من وظيفة أساسية أرادها الله منها بوجودها وسط شعوب العالم، بل هم لهم موقف مناقض لذلك تمامًا. لذلك حدث التصادم بين الربيين وبين المسيح. ولم نرى في تعاليم المسيح إلا نادرا من توقعات الربيين عن مملكة الله. بل نجد أن المسيح فصل نفسه تمامًا عن الأفكار التي كانت سائدة في عصره، لذلك لم يعتبره الربيين أنه المسيا المنتظر، أو أن مصادره مجهولة.
[3] ومع هذا فلأن أفكار الربيين مستمدة من العهد القديم، نجد أن الكثير من اقتباسات العهد الجديد عن المسيح ولا عجب مدعمة بأفكار الربيين عنه. فمثلًا قالوا عن المسيح أنه موجود قبل العالم، وأنه أسمى من موسى ومن الملائكة، وأنه سيعامل بوحشية واستهزاء ويموت موتًا عنيفًا ويكون ذلك من أجل شعبه الموجود والذين سبق وإنتقلوا، وأنه سيفدى إسرائيل ويعيدها. وأن الأمم سيقاومونه ولكنهم سيؤمنون به. وتكلم الربيين عن بركات الأيام الأخيرة ومملكته. ولكن تسود تعاليمهم الأراء المتضاربة وغير الممكن تفسيرها. بل نجد في بعض تعاليمهم إشارات لألام المسيا بل وموته وذلك لأجل خطايانا، وإستندوا في هذا إلى (إش53) وغيره من نبوات. ولكنهم قالوا أن المسيا سيأخذ هذا على عاتقه لصالح شعب إسرائيل الأحياء منهم ومن ماتوا ومن لم يولدوا بعد. وبهذا يتصالح الله مع شعبه إسرائيل ويطرح الشيطان في الجحيم. ولكن يظل غامضًا في مفهومهم عمل المسيح كحامل لخطايا البشر كنائب عن البشر. كما غاب عن فهمهم موضوع الخطية الأصلية وطبيعتنا الخاطئة. هم تكلموا عن خطية آدم ولكنهم لم يفهموا أن طبيعتنا الخاطئة إحتاجت لفداء المسيح آدم الأخير الذي إستعاد ما فقده آدم الأول.
ونسبوا سقوط آدم لحسد الملائكة. وكان ذلك قبل سقوط بعض الملائكة. ولقد أسقط الله الملائكة الذين أفسدوا الإنسان. ولم يكن هناك ملائكة ساقطين قبل سقوط آدم. وقالوا أن الملائكة حاولوا عبثًا منع خلقة الإنسان، فلما فشلوا تآمروا لإسقاط الإنسان لتدميره. وأن هناك ملاك يسمى صمائيل ذو رتبة عالية جدًا، وتبعه ملائكته وقاموا بالمؤامرة ضد آدم، وكانت الآداة المستخدمة هي الحية. ونتيجة الخطية الأولى كانت إنسحاب الشاكيناه من الأرض إلى السماء الأولى. ومع الخطايا التي تبعت ذلك إنسحبت الشاكيناه إلى السماء السابعة. ولكن الأعمال الصالحة لرجال الله بدءًا من إبراهيم وحتى موسى أعادت الشاكيناة إلى الأرض (الضوء السماوى الذي كان يظهر فوق تابوت العهد).
وقالوا أن آدم خسر بالخطية 6 أشياء وسيعيدها المسيا:- هيئته المشرقة وبهاءه حتى أن كعبه كان كالشمس، وحجم جسده العملاق الذي كان كالمسافة من الشرق إلى الغرب أو من السماء للأرض، ثمار الأرض الرائعة وكل الأشجار المثمرة، والنور الذي يشمل كل شيء، وأخيرًا حياته الأبدية فبغير الخطية ما كان له أن يموت وهذا مثل أخنوخ وإيليا. وإنطبق مصير آدم في الموت على كل نسله وفقد كل نسله كمالهم. وفهم البعض أن الموت ليس فقط بسبب خطية آدم ولكن أيضًا بسبب خطايانا الشخصية وإعتمدوا على قول الكتاب في (حز18) أن الابن ليس مسئولا عن خطية أبيه. وفهم البعض العكس أن خطية آدم جلبت الموت وفهموا هذا من قول الكتاب "الله يفتقد ذنوب الأباء في الأبناء".
وقالوا إن ملاك الموت لم يكن له سلطان مطلق على هؤلاء الستة - إبراهيم وإسحق ويعقوب - وموسى وهارون ومريم. وكان هناك وقت حين عرض الله الناموس على الأمم فرفضوا الخضوع له، فعرضه على اليهود في سيناء فقبلوه فتحرروا من الموت وكان من المفرض أن لا يموتوا بل صاروا كالملائكة بل وأعلى من الملائكة. وصاروا أبناء الله. وفهموا هذا من قول المزمور "أنا قلت أنكم آلهة وبنو العلى تدعون" (مز82: 6). ولكنهم خسروا كل هذا بعد خطية العجل الذهبي. وقال التلمود أن إسرائيل لو لم تسقط في خطية العجل الذهبي لإستمروا في الحالة الملائكية ولتوقف اليهود عند هذا الجيل (توقف الموت وتوقف النسل).
وقال معلمي اليهود أن الإنسان مخلوق وله ميل للشر وميل للخير والصلاح. ويبدأ الميل للشر مع الإنسان من بدايته. أما الميل للخير فهو يأتي بالتدريج مع الزمن. وكان لا بد من وجود الميل للشر حتى يستمر العالم. وقال التلمود أن الله هو الذي خلق هذا الميل للشر في الإنسان، ولكن الله حينما رأى نتائج هذا ندم على ما فعله. وقطعا فهذا التفكير يعطى مبررا لسقوط الإنسان وأنه غير مسئول عن تصرفاته. وأنه في مقدور الإنسان أن يتغلب على الخطية تمامًا، ويقتنى الحياة بالدراسة وأعماله، وهذا ما عمله إسرائيل على جبل سيناء فتطهروا تمامًا من كل ميل للشر وصاروا أبرارا بالكامل ولم يتبقى فيهم أي أثر لخطية آدم.
[4] في غياب الشعور بالإحتياج للخلاص من الخطية لا نجد في تقاليد الربيين أي وظيفة كهنوتية للمسيح. بل ظل أي دور للمسيا كنبى للشعب مختفى تمامًا وراء تصورهم في أن المسيح سيأتى كملك ومخلص. وظل هذا هو مطلبهم وإحتياجهم في المسيا المنتظر. وحتى أيامنا هذه نجد إشتياقهم لهذا المسيا كلما إشتدت ألامهم التي لم يستطيعوا أن يجدوا لها تفسيرا. وكانت ألامهم ومعاناتهم في تضاد شديد مع المجد المنتظر الذي يتوقعونه بحسب تعاليم الربيين.
ولكن من أين جاءت هذه الألام؟ من الخطية، الوثنية قديما وحديثا من الجرائم والرذائل وتجاهل الشريعة وحب المال. ولكن لقد إنتهت سنوات السبى السبعين فلماذا هذا التشتت؟ لأن الرياء أضيف على كل الخطايا السابقة، ولم يقدموا توبة صادقة بل إنتشرت الإباحية ولم يعد القلب مستقيما أمام الله. والنتيجة ليست فقط فشل سياسى بل إنعدام البركة وتوقف المطر وتوقف النبوة. ولقد صارت إسرائيل بلا كهنوت ولا ناموس ولا إله. بل تصوروا أن العالم كله أصبح يعانى بسبب خراب الهيكل. فقال الربيين أن الــ 70 ثورا الذين يقدموا يوم عيد المظال كانوا من أجل أمم العالم. وتأسف الرابى يوحانان على حال العالم إذ لم يعد هناك من يقدم عنه الــ 70 ثورا. لقد إنطفأ النور الذي كان يشع على العالم من الهيكل. ولكن بشفاعة الملائكة لم يدمر الله العالم. بل وبلغة شعرية قيل أن كل العالم... الشمس والقمر والنجوم والجبال والأشجار بل وحتى الملائكة... الكل ينوح على الهيكل، وإختفى كل جمهور الملائكة المحيطين بالخبز المقدس في الهيكل. ومع أن الشاكيناة (المجد الإلهي) قد إنسحب إلا أنه ما زال متابعا شعبه حزينا وآسفا على أورشليم وعلى هدم الهيكل، وما زال المجد الإلهي متمسكا بوجوده عند الحائط الغربى الذي ما زال باقيًا من الهيكل. ومنذ هدم الهيكل لم يدخل الله قصره حتى الآن وقد إبتل شعره من ندى الليل، بل ما زال يبكى على أولاده وعلى خرابهم.
ولكن حين يأتي المسيا سيقوم وبمجد عظيم بإصلاح كل شيء ويفك سبى إسرائيل. ولكن متى يأتي ولماذا كل هذا التأخير في مجئ المسيح لفداء إسرائيل؟! هنا يتوقف الربيين عن الإجابة والتوقعات ويتحاشوا الكلام في هذا الموضوع وهذا من السلطات العليا. وليس أمامهم سوى الحزن والبكاء على حالهم.
[5] كان سؤالهم المستمر - متى يأتي المسيا؟ فلم تكن هناك أيام أكثر ظلمة من التي هم فيها منذ أيام عزرا ونحميا. لقد إنتهى السبى الأول فهل خطاياهم الحالية أكثر من خطاياهم قبل السبى الأول، أو أن خطاياهم الحالية لم تغفر بينما غفر لهم الله الخطايا الأولى. ما هي نوعية وشكل التوبة المطلوبة لغفران خطاياهم؟ ولكن كانت الإجابات متناقضة مع تأكيد الربيين على أنه لو قدم إسرائيل توبة ولو ليوم واحد سوف يظهر المسيا. ولكن قال آخرين أن المسيا لن يأتي إن لم يأتي إيليا أولًا. وكان هناك من يتمسك بوعود الله "إرجعوا إلىَّ أرجع إليكم" (زك1: 3). فوضعت المجامع على فم الشعب صلاة المزمور (85: 4) "أرجعنا يا إله خلاصنا، وإنفِ غضبك عنا". ويظل الجدال محتدمًا بلا إجابة. وقال آخرون أن ظهور المسيح سيكون كمكافأة على الإيمان. وسيكون فداء الله لشعبه وسط بكاءهم. وقال البعض أن مجئ المسيا يعتمد على فضائل الأباء. وقال البعض أنه متوقف على الإلتزام بالناموس، ونجد في التلمود أن مجئ المسيا يتوقف على رحمة الله. ولكن كل هذا يلقى بنا في شك أن ظهور المسيا سيسرع أو يبطئ متوقفا على مدى تحمل إسرائيل.
ووسط كل هذا فإن تحديد ميعاد لظهور المسيا لا يعتمد على أرضية واضحة بل هم وضعوا تصورات معتمدة على تفسيرات رمزية وتخيلات. فقال البعض أن المسيا سيأتى بعد 4000 سنة من خلق العالم، وقال البعض تواريخ أخرى. وفي الأيام الأخيرة قال البعض أن المسيا سيأتى بعد عصور خمس ممالك وهم البابليين والفرس واليونان والرومان وأولاد إسمعيل. وقالوا أن المسيا سيأتى نتيجة إستجابته لصرخات إسرائيل ولكن ذلك سيكون بعد حرب رهيبة بين أولاد إسمعيل وروما (الغرب والشرق). وهناك تخمينات كثيرة ولكنها فشلت. وقالوا أن ميعاد ظهور المسيا لم يُخبِر به الله سوى اثنين هما يعقوب وداود، ولكن كلاهما لم يخبرا به أحد. عموما هم كانوا متأكدين أن ظهور المسيا سيكون يوم عيد فصح الذي يوافق 15 نيسان.
[6] ماذا كانت توقعات مجمع الربيين وبالذات المعاصرين للمسيح، وماذا كانت تعاليمهم عن المسيا المنتظر بالنسبة لطبيعته وشخصيته ومؤهلاته؟
أولًا موضوع إتحاد الطبيعتين اللاهوتية والإنسانية في المسيح كانت بعيدة عن أذهانهم وعن أذهان تلاميذ المسيح وعن أذهان تلاميذ المسيح أولًا. ثانيا كانوا يعتبرون أن المسيا المنتظر أنه يسمو كثيرًا عن الطبيعة البشرية والملوكية والنبوية وحتى عن الطبيعة الملائكية، لدرجة أن الحدود التي تفصل طبيعة المسيا المنتظر وبين الطبيعة الإلهية هي ضيقة جدًا. لذلك فحينما بدأ الإقتناع بشخص المسيح إختفى هذا الحد الفاصل بين طبيعة المسيح وبين الطبيعة الإلهية وآمن به تلاميذه وآمن به الكثيرون كإبن الله، وكان الروح القدس هو الذي عمل في القلوب ففهموا طبيعة المسيح وآمنوا به. وإستندوا على أقوال الكتاب وبالذات من الترجمة السبعينية. وفهموا هذا بالذات من (تك49: 10 + عد24: 7 ، 17 + مز72: 5 ، 7 + مز110: 3) وبالذات من (إش9). وإعتبروا أن المسيا له وجود سابق للخليقة وقبل القمر ونجمة الصبح. وهو أبدى مخلد وسرمدى (Eternal) ويسمو على كل بشر وعلى الملائكة. قالوا هو ملاك المشورة العظيمة وقالوا هو ملاك الوجه وإستندوا على(إش9: 6) "لأنه يولد لنا ولد ونعطى ابنا وتكون الرياسة على كتفه ويدعى اسمه عجيبا مشيرا الها قديرا ابا ابديا رئيس السلام" وهذا ما إستخلصوه وواضح في الترجوم.
وقالت كتب اليهود عن المسيا أنه ملك مرسل من الله ليؤسس مملكة أبدية لا تزول (كان هذا التعليم قبل المسيح بـ 170 سنة) وهو يسمو عن الطبيعة البشرية. وقالوا عنه أنه ابن الله ليس كبنوة جوهرية لكن هو سمو لا نهائى عن كل خدام الله وهو يحكمهم كلهم. وأن المسيا الذي يؤسس هذه المملكة هو من بيت داود، وهو ابن داود وسيأتى في وقت لا يعلمه سوى الله ليحكم ويملك على إسرائيل. وسيكون ملكا بارا متعلما من الله، قيل عنه "مسيح الرب" وذلك في سفر المراثى (4: 20). وهو سيكون بارا بلا خطية وهذا سيعطيه الحق أن يعاقب الخطاة بكلمته. ولن يكون في أيامه من هو متردد أن يسلك في طريق الرب لأنه سيكون مدعما بقوة الروح القدس، فيكون حكيما في مشورته قديرًا في الكلام والعمل. وتكون بركة الرب عليه ولا يفشل. قوته مستمدة من الله وليس من أي مصدر آخر، وهو يُعيد شعبه ليتملك أرضه التي لكل أسباطه ويباركهم الرب. وهو سيحطم أعداءه تمامًا ليس بسلاح بل بكلمة من فمه. وهو سينقى أورشليم وسيحكم الأمم التي ستخضع له. وواضح من تفكيرهم هذا أن هذا المسيا ليس ملكا أرضيا ولا هذه مملكة أرضية.
ولو نظرنا لأقوال الربيين اليهود الذين أتوا بعد المسيح نجدهم قد غيروا هذه التعاليم وتراجعوا عنها. فهم قدموا صورة للمسيا المنتظر على أنه أقل سموا من الصورة التي قدمها أباءهم قبل المسيح [فقالوا أن من يقول عن نفسه أنه الله لهو كاذب، ومن يقول عن نفسه أنه ابن الإنسان فهو سيتوب عن قوله هذا أخيرا. ومن يقول أنه سيصعد للسماء فلن يستطيع ولن يصعد. وكان هذا ليردوا على اليهود المتنصرين]. ومع هذا إستمر تعليمهم عن أن المسيا الذي ينتظرونه له وجود سابق للخليقة. وكان هذا مبنيا على (إش9: 6 + مى5: 2). وعلق المدراش اليهودي على (أم8: 9) أن المسيا خُلِق وسط 7 أشياء قبل الخليقة. وقالوا إن اسم المسيا خُلِقِ قبل أن يكون هناك عالم. كل هذا يظهر أن المسيا المنتظر هو أعلى من البشرية، ووجوده سابق للخليقة. وقال التلمود بالرجوع لفكرة أن المسيا سيولد من بيت الملك داود، أن المسيا يجلس على أبواب إمبراطورية روما وأعطوه اسم مناحيم أي المعزى. وقالوا أنه بعد زواج يهوذا (تك38: 1 ، 2 - فيهوذا هو جد المسيا بالجسد) إنشغل الله بخلق نور المسيا. وأضافوا أنه قبل أن يولد فرعون أول من إضطهد الشعب اليهودي، كان المسيا المخلص مولودا. ورجعوا إلى (إش9) نجدهم يفسرون (مز36: 9) "ان عندك ينبوع الحياة. بنورك نرى نورا" أن النور هو نور المسيا الذي خلقه الله قبل خلق العالم وخبأه تحت عرشه لحين ظهور المسيا. وحين سأل الشيطان لمن هذا النور أُخبِر بأن هذا النور مخصص لمن سيجعله في عار ويدمره. وبناء على طلبه حين أراد أن يرى المسيا رآه فخر على وجهه وسجد له وإعترف به بأنه هو الذي سيطرحه في المستقبل في جهنم ومعه الأمم. وما يتضح من هذا الفكر الأخير سَبْقْ وجود المسيا قبل خلق العالم.
وقالوا كما أن موسى تربى وسط أعداء الشعب في قصر فرعون هكذا سيظهر المسيا في روما أو أدوم أعداء الشعب. وكما عمل موسى إذ ظهر ثم إختفى ثم ظهر ثانية هكذا سيحدث مع المسيا. وكما خلص موسى الشعب هكذا سيخلص المسيا شعبه، ولكن بينما كان خلاص موسى وقتيًّا سيكون خلاص المسيح لشعب إسرائيل أبديًّا، وأن كل الأعاجيب التي صنعها موسى سيكررها المسيا ولكن بكثافة أكثر. وسينزل المسيا المن من السماء ويفجر الماء كما أخرج موسى الماء من الصخرة. وأن المظهر المتواضع للمسيح بركوبه على أتان يكون راجعا لخطايا إسرائيل. وليس فقط ليكرر عودة موسى إلى مصر راكبًا على حمار بل كما ذهب إبراهيم راكبًا على حمار ليقدم ابنه إسحق ذبيحة.
وقالوا أن المسيا يأخذ حكمته ومعرفته ونعمته من الله مباشرة. وأن الله أظهر لموسى أنه لو جمعوا حكمة ومعرفة كل من يأتي بعده، فإن حكمة المسيح ستفوقهم مجتمعين. وسيكون المسيا متفوقا على الأباء البطاركة وموسى بل والملائكة. وحينما نضع أمامنا كل هذا لن نتعجب من فهم المدراش لما قاله (مز21: 3) "لانك تتقدمه ببركات خير. وضعت على رأسه تاجا من إبريز" فقالوا في تفسير هذه الآية أن الله سيضع تاجه على رأس المسيا، ويلبسه ثوب كرامته وعظمته وجلاله. ويتوافق مع هذا أن نفس المدراش خصص ونسب للمسيا ما ينسب لله مثل "يهوه هو رجل الحرب" و"يهوه برنا" أو الرب برنا. ويلبسه الله ثوب بهاء وجلال من نهاية العالم من ناحية إلى نهايته من الناحية الأخرى لأنه مكتوب "فرحا افرح بالرب. تبتهج نفسي بالهي لأنه قد البسني ثياب الخلاص كساني رداء البر مثل عريس يتزين بعمامة ومثل عروس تتزين بحليها" (إش61: 10). وسوف ينذهل ويندهش إسرائيل من نوره. مباركة هي الساعة التي خُلِق فيها ومباركة هي البطن التي تحمله، ومبارك الجيل الذي يراه والعين التي تستحق رؤيته. فتح شفتيه بركة وسلام. المجد والجلال في هيئته ويعطى الشعور بالأمان بكلمته. وعلى لسانه كلمات المغفرة والرحمة. صلاته لها رائحة زكية. طوباك يا إسرائيل ما ينتظرك. وسيجلس المسيا الملك عن يمين الله، والله يحارب عنه، ويجلس إبراهيم عن يساره.
بل لقد كان من الملاحظات اللافتة للنظر أنهم نسبوا للمسيا الاسم الفائق الوصف يهوه. وقالوا عنه أنه سيأتى في سحب السماء (دا7: 13). [ونلاحظ أن الرب كرر على مسامع اليهود قوله "إن لم تؤمنوا إنى أنا هو" ولفظ "أنا هو" هو نفسه يهوه (يو8: 24 ، 28)].
من كل ما رأيناه كان من الواضح أن تعليم المجمع اليهودي أن للمسيا شخصية إلهية كما تعلم الكنيسة. وأنه يفوق أعظم خدام الله بل والملائكة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. والحدود بين طبيعته، والطبيعة الإلهية هي متقاربة جدًا، بل ومن الصعب التمييز بينهما في أفكار المجمع اليهودي.
لقد سمح الله بأن يمهد الطريق لإعداد الفكر اليهودي فوصلت أفكارهم لهذه المفاهيم قبل ظهور المسيح. وكانت هذه هي التعاليم في المجامع اليهودية. ومع تعاليم العهد القديم عن المسيا المنتظر صار كل هذا راسخا في أذهان اليهود وبالذات تلاميذ المسيح. وكانت أعمال المسيح وتعاليمه وأقواله تثبت تمامًا لمن رآه وسمعه أنه هو ابن الله الحى. وقطعا نقول ومع عمل الروح القدس بدأ ينمو إيمانهم بالمسيح تدريجيًّا عن طبيعة السيد المسيح. وهذا ما إتضح في تعاليمهم وكتاباتهم بعد ذلك مما شكل مفهوم وعقيدة الكنيسة عن طبيعة المسيح.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-antonios-fekry/jesus-the-messiah/expectations.html
تقصير الرابط:
tak.la/7wnhksc