1- هل تريدون اليوم -يا أحبائي- أن نترك جانبًا الفضائل العظيمة والعجيبة لبولس ونضع نصب أعيننا ما يبدو وكأنه يعطي للبعض إلى حد ما حجة للهجوم عليه، وسنرى أن هذه الذرائع نفسها هي بنفس القدر مثل بقية الحجج الأخرى تجعله مشهورًا وعظيمًا. فما هي هذه الأشياء التي تعطي ذريعة للهجوم؟
إنهم يقولون (إن هذا حدث) عندما رأوه ذات يوم وقد خاف من الضرب بالسياط. نعم، هو رُئيَ وقد خاف عندما مدوه للسياط (أع 22: 25) وليس فقط في هذا الموقف، بل في مرة أخرى في قصة بائعة الأرجوان عندما سبب متاعب لمن أراد إخراجه من السجن (انظر أع 16: 35-40). ويدّعي أولئك أنه بتصرفه بهذه الطريقة لم يكن له غرض آخر سوى تأكيد أمنه الشخصي، وتحاشي الوقوع أيضًا في نفس البلايا. فبماذا يمكننا أن نجيب؟
لا شيء يمكنه أن يُظهر عظمته غير العادية أكثر من هذه المواقف المذكورة، والبرهان هو إذ أن له مثل هذه الشخصية اللطيفة والممتلئة بالرشد والحصافة وله جسد ذو مناعة قليلة مقابل الضربات (بالسوط)، فإن كان ارتعب هكذا أمام السياط، فإنه ازدرى أيضًا بالقوات غير الجسدانية وكل ما يُعتبر أنه مُرعب عندما تطلب الأمر ذلك.
عندما تراه منكمشًا ومرتعبًا، تذكر تلك الكلمات الشهيرة التي بفضلها اخترق السماوات وتنافس مع الملائكة: "من سيفصلنا عن محبة المسيح. أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عُري أم خطر أم سيف؟" (رو 8: 35). تذكر هذه الكلمات عندما أكد أن هذه (كلها) كلا شيء: "لأن خفة ضيقتنا الوقتية تنشئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجد أبديًا. ونحن غير ناظرين إلى الأشياء التي تُرى بل التي لا تُرى" (2كو 4: 17-18). أضف أيضًا الشدائد والضيقات اليومية، وكذلك الموت الذي احتمله كل يوم (1كو 15: 31)، وفي تفكرك فيها أظهر إعجابك ببولس ولا تخر بعد.
2- لأن هذا الذي يبدو ضعفًا في الطبيعة هو بالتحديد البرهان الأقوى على فضيلة هذا الإنسان، إذ أنه صار عظيمًا دون أن تطغى عليه الضعفات التي نشترك فيها جميعًا بحكم الطبيعة. إن فيض الأخطار التي تعرض لها قد توحي للكثيرين الذين ربما تشككوا فعلًا في أنه صار عظيمًا بسبب أنه كان أعلى من بقية الناس، ولهذا قد أُعطي أن يتألم حتى تعرف أنه مع كونه في المستوى الطبيعي مثلنا، أي على درجة متساوية مع المائتين، ولكن على مستوى الإرادة ليس فقط فاقهم بل إنه بلغ إلى مرتبة الملائكة. في الحقيقة كان للقديس بولس نفس مثلنا وجسد مثلنا، ومع أنه واجه ميتات كثيرة، إلا أنه استهان بكل الأخطار سواء الحاضرة أو المستقبلة، وتكلم إلى الذين كرز لهم بكلمات في منتهى القوة والعجب: "إني كنت أود لو أكون أنا نفسي محرومًا من المسيح لأجل إخوتي أنسبائي حسب الجسد" (رو 9: 3).

![]() |
3- باستطاعتنا أن نسود على أي اضطراب طبيعي فينا وذلك بقوة الإرادة بشرط أن نريد ذلك، ولا يوجد شيء مستحيل لِمَن يملك المسيح فيهم. لو أننا أحضرنا إلى جانبنا كل الغيرة (والنشاط) التي في مقدورنا، فإن الله سيجعل الكَفَّة تميل بقوة لصالحنا، وهكذا نصير مُحَصَّنين ضد كل الأخطار التي تهاجمنا.
لا، ليس الخوف من الضربات (بالسوط) هو الذي يستحق الإدانة، لكن كون الإنسان يتصرف خوفًا من الضربات بطريقة لا تليق بإنسان متدين، بحيث أن من يظل صامدًا وثابتًا في المحن رغم خوفه من ضربات السوط فهو يكون مثيرًا للإعجاب أكثر من الذي لم يخف منها. في الحقيقة، في هذه الظروف (المواقف) تتلألأ الإرادة بالأكثر: فإن كان الخوف من الضربات يأتي من رد الفعل الطبيعي، فكون المرء يتصرف كما يليق بمحبته لله بالرغم من الخوف الطبيعي، فهذا يكون نابعًا من الإرادة التي تصحح دونية الطبيعة وتنتصر على ضعفها. لهذا السبب إذا حزن الإنسان لأمر ما، فليس في هذا لوم عليه، بل من يتكلم أو يتصرف بسبب هذا الحزن بطريقة لا ترضي الله فهذا هو الأمر الذي يُدان عليه الإنسان.
بالتأكيد لو قلت لك إن بولس لم يكن إنسانًا لكان يجوز لك أن تضع نصب عينيك نقائص طبيعته بنية أن تدحض كلامي. لكن لو قلت وأكدت لك بقوة أنه مع كونه إنسانًا فهو له طبيعة لا تفوق التي لنا، و(لكن) كانت له أرادة أقوى جدًا من التي لنا فعبثًا تقدر أن تقدم مثل هذا الاعتراض، بل لن تتذرع به أبدًا، لأنه في صالح بولس. فأنت تُظهر بنفس هذا الاعتراض إلى أية درجة من العظمة أدركها هذا الإنسان حتى إلى درجة امتلاكه لقوة أقوى من التي لنا، مع أنه في الطبيعة التي نتشارك فيها جميعنا. ولن نكتفي بتمجيده بل في نفس الوقت تستد أفواه الذين عجزوا عن تقديم أدلة ليحطوا بها من سمو طبيعته بل على العكس تدفعهم إلى الرجوع إلى هذه القوة الوثابة التي تجد مصدرها في الإرادة.

4- لكن هل حدث له أنه خاف أيضًا من الموت(126)بدون أدنى شك إنه خاف، وهذا أيضًا كان من فعل الطبيعة (البشرية). ومع هذا فنفس هذا الإنسان الذي خاف من الموت هو الذي قال العكس وهو: "فإننا نحن الذين في الخيمةً نئن مثقلين" (2كو 5: 4)، وأيضًا قال "نحن أنفسنا أيضًا نئن في أنفسنا" (رو 8: 23). هل تلاحظ كيف أنه في مقابل ضعف الطبيعة، يقدم القوة التي تعطيها الإرادة؟ هذا هو السبب الذي لأجله يحدث لكثير من الشهداء وهم على وشك أن يتم اقتيادهم إلى العذاب أن يشحب لونهم أيضًا أمام الموت ويمتلئوا من الخوف والضيق، لكن لهذا السبب بالتحديد هم أيضًا مُثيرون للإعجاب، إذ بينما هم يخافون الموت، لكنهم مع ذلك لا يهربون منه لأجل يسوع. بالمثل فإن بولس مع خوفه من الموت لم يرفض حتى جهنم (انظر رو 9: 3) لأجل يسوع، هذا الذي أحبه بشغف شديد، ومع أنه ارتعب من فكرة موته، لكنه رغب أن يغادر العالم (في 1: 23)، لم يكن هو فقط الذي اختبر مثل هذه المشاعر بل أيضًا المتقدم في الرسل (بطرس): فبعد أن أعلن مرارًا أنه كان مستعدًا لأن يبذل حياته، فإنه خاف بشدة من الموت. اسمع مثلًا بأي عبارات تكلم معه المسيح حول هذا الموضوع: "متى شخت فإنك تمد يديك وآخر يمنطقك ويحملك حيث لا تشاء" (يو 21: 18)، وهو هنا يشير إلى ضعف الطبيعة وليس إلى ضعف الإرادة.
5- إن تأثير الطبيعة يظهر دائمًا على الرغم منا، ولا يمكن لإنسان أن ينتصر على هذه النقائص ولا حتى الذي له إرادة قوية وغيرة ملتهبة. إذًا فالطبيعة الضعيفة لا تسبب لنا أي ضرر بل هي بالنسبة لنا موضع إعجاب أكثر.
أي اتهام خطير يقدمه (ضدنا) الخوف من الموت؟ وعلى العكس أي دافع للمدح (نحوزه)؟ إذ على الرغم من الخوف من الموت لا نقبل أي وضاعة في الأحاسيس. لأن ليس امتلاك طبيعة بنقائصها هو الذي يجلب الملامة، بل الذي هو عبد لهذه النقائص، بحيث أن الذي يتفادى (حرفيًا يقوّم) الضرر الذي يمكن أن تحدثه لنا النقائص بواسطة قوة إرادته هو بدون شك إنسان عظيم ومثير للإعجاب. وهو بهذا يظهر لنا ما هي قوة الإرادة ويغلق أفواه الذين يقولون: لماذا لا نكون أتقياء بالطبيعة؟ ما هو الفرق بين أن نكون أتقياء بالطبيعة أم بالإرادة؟ لكن شتان الفرق بين الاثنين فالحالة الأخيرة أسمى بكثير إذ هي التي تجلب الأكاليل والمجد العظيم.

6- لكن الإنسان الثابت، هل ثباته آتٍ من الطبيعة؟
إن الثبات الآتي من الإرادة المكتسبة هو ثبات أقوى. ألم تر كيف أن أجساد الشهداء نفذ فيها السيف، ومع أن طبيعتهم تراجعت أمام السيف لكن إرادتهم لم تنثن ولم تترك نفسها تنهزم؟ قل لي ألم تلاحظ فيما يختص بإبراهيم كيف أن إرادته تغلبت على طبيعته عندما صدر إليه أمر بذبح ابنه، وكيف وضح أن الإرادة كانت أقوى من الطبيعة؟ ألم تتيقن من نفس النتيجة للثلاثة فتية؟ ألم تسمع أيضًا المثل الدارج لدى الوثنيين وهو أن الإرادة تصير طبيعة ثانية بحسب التعود؟ وبالنسبة لي فأنا بالأحرى أؤيد الأولى (أي الإرادة) كما أظهرت هذه الأمثلة السابقة المذكورة.
هل تدرك أنه من الممكن أن تقتني أيضًا ثبات الطبيعة بشرط أن تكون الإرادة سخية ويقظة، وبذلك فأنت تنال مديحًا عاليًا عندما تميل لأن تكون تقيًا وعندما تريد هذا (من نفسك) أكثر ما عندما يُفرض عليك هذا الأمر.

7- أما الأمر النافع على وجه الخصوص فهو ما قاله بولس: "أقمع جسدي وأستعبده..." (1كو 9: 27)، فأنا أمتدحه إذ أراه يجاهد ويكد في ممارسته للفضيلة، لذلك فكل الذين يأتون بعده لا يمكنهم الاعتذار بتساهله لتبرير تراخيهم. وأنا أيضًا أضفر له إكليلًا لإرادته عندما قال أيضًا: "أنا صُلبت للعالم" (انظر غلا 6: 14).
نعم، إنه من الممكن جدًا الإقتداء بقوة الطبيعة (البشرية) بتدريب شديد الإرادة. ولو وضعنا نصب أعيننا هذا الإنسان الذي هو نفسه نموذج للفضيلة، فإننا نؤكد أنه جعل الصفات التي امتلكها بمقتضى إرادته، ثابتة أيضًا في قلبه كما لو كانت طبيعية فيه.
8- بالتأكيد هو تألم عندما ضُرب، لكنه استخف بهذه الآلام بقدر أكثر من استخفاف القوات غير الجسدانية التي لا تعاني الألم، كما يمكن ملاحظة هذا بحسب كلماته التي تبدو أيضًا أنها ربما توعز إلينا أنه لم يشاركنا طبيعتنا. وفي الحقيقة، إنه عندما قال: "العالم صُلب لي كما أنا للعالم" (غلا 6: 14)، وأيضًا عندما قال: "مع المسيح صُلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ" (غلا 2: 20) فما هذا الذي أراد قوله سوى أنه هجر (كل شيء) حتى جسده؟ وأيضًا عندما قال: "أُعطيت شوكة في الجسد ملاك الشيطان ليلطمني..." (2كو 12: 7)، هذا التعبير ليس له معنى آخر سوى أنه يشير إلى أن آلامه كانت قاصرة فقط على جسده. ولن نذهب إلى القول بأنه كان منيعًا ضد الآلام، لكنه بقوة إرادته الصلبة دفعها عنه ومنعها من الدخول (إلى نفسه).
وأيضًا عندما نطق بكلمات أخرى مثيرة للإعجاب أكثر من تلك عندما ابتهج بضربات السياط وافتخر بقيوده (2كو 11: 24-25؛ في 1: 12-14).
أي معنى آخر يمكن أن تعطيه الأقوال التي هي مثل هذا القول: "أقمع جسدي وأستعبده حتى بعدما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضًا" (1كو 9: 27) سوى أنه يشير إلى ضعف طبيعته، لكن عندما فاه بالكلمات التي ذكرتها سابقًا، فإنه يتأكد لنا عظمة (قوة) إرادته.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

9- فها نحن نرى أن كلا العنصرين وجدا لديه دفعة واحدة، لئلا أمام صفاته العظيمة تظن أنه كان من طبيعة غير طبيعتنا وتصغر نفسك، أو عندما ترى أن أعماله أقل قدرًا (عما هو مطلوب) فتدين هذه النفس القديسة. بل على العكس، لكي أمام هذا النموذج تطرد اليأس وتنهمك شخصيًا فيما هو لخلاصك على طريق الرجاء. لهذا السبب نجده قد انشغل بالكلام عن دور نعمة الله بتعبيرات فائضة، أو بالأحرى ليس بفيض بل بحكمة ليدعوك إلى التفكر أن لا شيء أتى منه (شخصيًا بل الكل هو من لله). لكنه أكد أيضًا دور إرادته لئلا إذا نسبت كل شيء إلى الله تمضي وقتك وأنت تغط في نوم عميق. وهكذا ستجد لديه تمامًا المكيال والقاعدة لكل شيء.

10- لكنك ستعترض أيضًا أنه دعا يومًا على إسكندر النحاس. وماذا في هذا؟ في الحقيقة، هذا الكلام لم يكن مبعثه الغضب، لكنه قاله بوداعة وللدفاع عن الحق. وهذا لم يكن بسبب أنه تأذى منه شخصيًا إنما لأن هذا الإنسان قاوم الكرازة بالإنجيل وهو قال: إنه لم يقاومني أنا بل قاوم أقوالنا جدًا (انظر 2تي 4: 15) وهذا الدعاء (على إسكندر النحاس) ليس فقط أثبت محبته المتلهفة للحق، بل أيضًا أراح التلاميذ. وفي الحقيقة فإن كل المسيحيين كانوا معثرين بسببه، إذ كانوا يرون الذي يسعى إلى الإساءة إلى الكلمة لا يعاني أية ضيقة فلهذا السبب هو تكلم هكذا.
لكنه أحيانًا لعن آخرين عندما قال :"... إذ هو عادل عند الله أن الذين يضايقونكم يجازيهم ضيقًا" (2تس 1: 6). ليس معنى هذا أنه يرغب لهم العقاب، حاشا لله، لكنه يجتهد في أن يعزي من أُسيئت معاملتهم. لهذا السبب أضاق أيضاُ قوله: "وإياكم الذين تتضايقون (تجدون) راحة" (2تس 1: 7). وعندما يكون هو نفسه الذي يقاسي المسبة، فاسمعوه وانظروا حكمته في طريقة رده على الهجمات إذ يقول: "نُشتم فنبارك، نُضطهد فنحتمل. يُفترى علينا فنعظ" (1كو 4: 12-13). زيادة على ذلك، لو أدّعيت أن كلماته أو أعماله من جهة الآخرين كانت نابعة من غضبه، فينبغي عليك في تلك اللحظة القول أيضًا بأن بولس وهو واقع تحت تأثير الغضب أعمى عليم الساحر وسبّه (أع 13: 9-11)، أو نقول أيضًا أن غضب بطرس هو الذي حرضه على إماتة حنانيا وسفيرة (أع 5: 3-5؛ 9-10) لكن لا أحد ينقصه الذكاء أو الإحساس السليم إلى درجة قبول مثل هذا الكلام. نحن نؤكد أيضًا أن بولس في مواقف كثيرة تصرف بطريقة يبدو صعب احتمالها، لكن هناك على وجه الخصوص أظهر صلاحه. فمثلًا عندما سلّم الزاني الذي من كورنثوس للشيطان، فإنه تصرف هكذا بمحبة عظيمة وقلب ممتلئ رقة، وأظهر هذا جيدًا في رسالته الثانية. بالمثل عندما زجر اليهود بقوله: "قد أدركهم الغضب (الإلهي) إلى النهاية" (1تس 2: 16)، فهو تصرف هذا ليس لأنه امتلأ بالغضب -لأنك على كل حال ستسمعه يصلي دائمًا لأجلهم- بل (قال هذا) لأنه أراد أن يبث فيهم المخافة والحكمة الروحانية الرفيعة المستوى.

11- لكن يُقال إنه سبّ رئيس الكهنة بهذه الكلمات: "سَيَضْرِبُكَ اللهُ أَيُّهَا الْحَائِطُ الْمُبَيَّضُ" (أع 23: 3).
إنني أعلم أن البعض لكي يبرروا هذه الكلمة أكدوا أنها كانت نبوة، وأنا لا ألوم الذين يقولون بهذا، ففي الحقيقة إن هذا الحدث قد تم وكان أنه مات بهذه الطريقة(127).
لكن لو أن أحد المعارضين ماحَك بالأكثر ولم يوافق على هذا وجادَل ونقض هذا الرأي بقوله: حتى لو اعترفنا بأنها نبوة فلماذا دافع بولس عن نفسه بقوله: "لم أكن أعرف أيها الإخوة أنه رئيس كهنة" (أع 23: 5). فإننا نجيب بأن هذا كان لتعليم الآخرين والتنبيه عليهم أن يكون لهم مشاعر لائقة نحو مَنْ هم في السلطة، فهكذا المسيح نفسه صنع. وفي الحقيقة، إن من بين الكلمات الكثيرة التي نطقها المسيح بخصوص الكتبة والفريسيين قوله: "على كرسي موسى جلس الكتبة والفريسيون. فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه وافعلوه" (مت 23: 2-3). هكذا أيضًا بولس في هذا الموقف احترم كرامة شخصية رئيس الكهنة وفي نفس الوقت تنبأ عن المستقبل.

12- حقًا إن بولس انفصل عن يوحنا مرقس ظانًا بهذا أن ما يعمله هو لصالح الكرازة بالإنجيل. إذ أنه يلزم لمن يقبل هذه الخدمة ألا يظهر أي تقاعس ولا يخور بل ليكن شجاعًا وقويًا، وألا يتقدم لهذه المهمة النبيلة إن لم يكن بالمقابل مستعدًا أن يسلم نفسه ألف مرة للموت والمخاطر كما أعلن هذا المسيح صراحة بقوله :"إن أراد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني" (مت 16: 24). لأنه إذا لم يكن مهيأ هكذا فإنه يتخلى بنذالة عن كثير من الناس الآخرين (أي رعيته)، ومن الأصلح له عندئذ أن يظل هادئًا (في حاله) ولا ينشغل إلا بنفسه عن أن يجلس في الصدارة ويتقبل مهمة تفوق إمكانياته، فهو نفسه سيهلك وفي نفس الوقت سيهلك معه كل الذين عُهدوا إليه.
أليس من الغريب أن ترى إنسانًا يجهل مهنة القبطان وكيفية الصراع ضد الأمواج، ثم يقبل أن يجلس أمام عجلة القيادة بسبب أن الناس أجبروه على هذا! ومن ناحية أخرى، نرى إنسانًا يقبل باستهتار أن يشارك في الكرازة بالإنجيل دون مراعاة مستواه الروحي بالرغم من أن المهمة يمكن أن ينتج عنها ميتات كثيرة.
لا، لا القبطان ولا من يصارع ضد الوحوش ولا من اختار مهنة المصارعة ولا أي أحد آخر ينبغي أن تكون له نفس مهيأة للنزال ضد كل أنواع الميتات والعذابات بنفس القدر مثل ذاك الذي تكفل بالكرازة بالإنجيل. لأن الأخطار - هنا في حالة الكرازة- أكثر شدة والمقاومين من الصعب جدًا هزيمتهم، ولن يتعلق هذا بعذابات عادية فالإكليل هو السماء كمكافأة لمن يفوز وجهنم كعقوبة لمن يخفق، وبالاختصار الهلاك أو خلاص النفس. فضلًا عن ذلك فإنه ليس فقط ينبغي على الكارز بالإنجيل أن يكون هكذا مستعدًا للنزال، بل أيضًا المؤمن البسيط، لأن وصية الإنجيل بحمل الصليب وتبعية المسيح هي أمر للكل بدون استثناء، فإن كان هذا أمرًا للكل، فكم بالأولى للمعلمين والرعاة والذين بالتحديد يشاركهم في تلك اللحظة يوحنا المدعو مرقس. لهذا السبب تم استبعاده عن حق. لأنه بعد أن وضع نفسه على خط القتال في صميم المقدمة، فإنه تصرف هناك برخاوة كثيرة وهذا هو السبب الذي لأجله أبعده بولس عن الآخرين حتى لا يحطم تراخيه تقدم جهودهم.
13- وإن قال لوقا إنه حصلت بينهم مشاجرة (أع 15: 39)، فأنا لا أرى في هذا دافعًا للملامة. وفي الحقيقة ليس موضوع تشاجر بولس وبرنابا هو علامة على سوء النية، ولكن قد يكون الأمر هكذا عندما يُمارس بدون سبب وبدون دافع يجيزه. والكتاب يقول: "الغضب الظالم(128) لن يكون بدون عقاب" (بن سيراخ 1: 22). وهذا ليس مجرد غضب بل غضب ظالم. والمسيح بدوره قال: "كل من يغضب على أخيه باطلًا..." (مت 5: 22)، ولم يقل "كل من يغضب على أخيه" وحسب. والنبي أيضًا قال "اغضبوا ولا تخطئوا" (مز 4: 4). وفي الحقيقة إن كان لا ينبغي استخدام هذه الغريزة، حتى عندما يتطلب الموقف ذلك، فعبثًا وباطلًا قد جُعلت في طبيعتنا، لكنها لم تُجعل في طبيعتنا عبثًا. ولهذا السبب غرس الخالق هذه الغريزة فينا بقصد تقويم الخطاة ولإيقاظ المتكاسل والمهمل لنفسه ولكي يقيم من النوم من هو مستغرق فيه أو يحيا في التراخي، ومثل نصل السيف قد وضع الله في قلبنا حمية الغضب لكي ننتفع بها عندما توجب الضرورة. وهذا هو السبب الذي لأجله استخدمه بولس مرارًا، وعندما غضب كان أكثر جدارة بالغيرة عن الذين حديثهم مصحوب بالوداعة، لأنه تصرف دائمًا بحسب ما تتطلبه تلك اللحظة من أجل مصلحة الكرازة بالإنجيل. فليست الوداعة وحسب في حد ذاتها فضيلة، بل هي أيضًا الموقف الذي تستدعيه المناسبة. ولو لم توجد هذه المناسبة، فإن الوداعة تصير نوعًا من التراخي والغضب يكون نابعًا من الكبرياء.

4- إنني لم أقل كل هذا لأدافع عن بولس، فهو ليس بحاجة إلى دفاعنا، فهو لم ينل مدحه من الناس بل من الله. بل قصدنا كان تعليم السامعين أن يستخدموا كل شيء في اللحظة المناسبة كما قلت هذا من قبل. وهكذا يمكننا أن نستخدم كل فرصة لمنفعتنا ونرسو ونحن محمّلون بالخيرات في الميناء الذي يعرف أمواجًا ونحصل على الأكاليل المجيدة وليتنا نكون مستحقين لهذا بنعمة ومحبة ربنا يسوع المسيح الذي له المجد والقوة الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور آمين.
_____
(126) لم يعط ذهبي الفم مثالًا لهذا، ولعله يشير إلى الآية: "أنا أرى أن هذا السفر عتيد أن يأتي بخسارة... بل لأنفسنا أيضًا" (أع 27: 10). أو لعله يقصد هذا عندما أرسل بولس ابن أخته ليخبر قائد المائة في أورشليم عن مكيدة قتله؟ أو ربما عندما تدلى من سل من سور دمشق.
(127) قُتل رئيس الكهنة هذا سنة 66م في بداية الثورة اليهودية على الرومان.
(128) أي الغضب الذي ليس في محله وليس له ما يبرره.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-angelos-almaqary/john-chrysostom-paul-praise/my-grace.html
تقصير الرابط:
tak.la/9h5b7nc