|
محتويات: (إظهار/إخفاء) |
|
العَلَم الحَامِل للمسيح كرامة الجسد موقفان من خدمته أ- في دمشق الاهتمام بإخوته احترامه للتلاميذ ب- الرحلة إلى روما مضطهدوه حث أخير |
1- في كل مرة، الذين يحملون أعلام الإمبراطور يعلنون عن قدومه إلى المدينة بصوت الأبواق ويكونون مسبوقين بجنود كثيرين، فيهرع كل الناس كالعادة ليسمعوا صوت البوق ويرون العلم المرتفع في الهواء، كذلك يبدون إعجابهم بحامل العلم. وهكذا يفعل بولس اليوم ليدخل ليس مدينة واحدة بل في العالم كله، فلنجر ِ نحن أيضًا سويًا نحوه.
فهو في الواقع أيضًا حمل علمًا، ليس لملك أرضي بل حمل صليب المسيح ملك السماء. والذين يسيرون أمامه ليسوا بشرًا بل ملائكة مهتمين بإكرام الشعار المحمول (الصليب) ويحفظون من يمسكه بيده. وفي الحقيقة إن كان الذين هم غير مهتمين إلا بحياتهم فقط ولا يقومون بأي عمل عام يُرسل لهم رب الكون ملائكة تحميهم كقول يعقوب: "الملاك الذي خلصني منذ شبابي..." (تك 48: 15-16)، فكم بالأولى عندما يتعلق هذا بمن نالوا مسئولية خلاص العالم كله وحاملين لمثل هذا القدر العظيم من النعمة، تكون القوات السماوية إلى جانبهم.
من المؤكد أن من يعتبرهم السلطان الزمني جديرين لمثل هذه الكرامة يرتدون ثيابًا خاصة وطوقًا من الذهب ويتلألأون تمامًا. أما بولس فقد كان على العكس مقيدًا بسلاسل بدلًا من الطوق الذهب وكان حاملًا للصليب جائعًا مُضطهدًا ومضروبًا.
2- لكن لا تحزن -يا صديقي الحبيب- لأن هذه الحليّ الأخيرة (السلاسل) هي أسمى من الأخرى وأكثر عظمة وهي التي يحبها الله. لهذا السبب لم يتضجر بولس من حملها. لذلك كان هذا أمرًا فوق المعتاد أن القيود وضربات السوط جعلته متلألئًا أكثر من لابس التاج ورداء الأرجوان. نعم، كان بولس أكثر تلألؤًا، وكلامي ليس فيه تهويل كما تشهد بهذا ملابسه. لأنه لو وضعت على أحد المرضى آلاف التيجان وملابس فاخرة من الأرجوان فلن يمكنك أبدًا أن تجعل الحمى تتركه، وبالمقابل فإن ملابس بولس (أع 19: 12) بمجرد أن تلامس أجساد المرضى تخرج منها الأمراض وهذا حق.
ألا يهرب اللصوص بلا رجعة عند رؤيتهم لعلم الأمير بدلًا من الاقتراب منه؟ حسنًا فكم بالأولى تهرب الأمراض والشياطين عند رؤيتها ذلك العلم الفائق. زيادة على ذلك إن كان بولس يحمل هذا العلم فهذا ليس لكي يكون هو الوحيد الذي يمسكه بيده، إنما لكي يقتدي به الكل وليعلّمهم كيف يحملونه. لهذا السبب هو قال "كونوا متمثلين بي معًا... كما نحن عندكم قدوة" (في 3: 17)، وأيضًا قال: "وما تعلمتموه وتسلمتموه وسمعتموه ورأيتموه فيّ فهذا افعلوا" (في 4: 19). وأيضًا: "لأنه قد وهب لكم لأجل المسيح لا أن تؤمنوا به فقط بل أيضًا أن تتألموا لجله" (في 1: 29).
وفي الحقيقة، إن كانت كرامات الحياة الحاضرة تبدو أكثر عظمة عندما تتجمع حول شخصية وحيدة، فالعكس هو الصحيح على المستوى الروحي، إذ أن الكرامة تلمع ببهاء خاص عندما يتشارك كثيرون في مستواها الرفيع، عندما لا يكون المشارك فيها وحيدًا بل يتنعم معه كثيرون بنفس النعم. وها أنت ترى أن الكل يحملون عَلَم المسيح وكل واحد يذهب حاملًا اسمه أمام شعوب وملوك، وإن بولس نفسه قد تحدى جهنم وتحدى العقوبة. لكن هذه الأشياء امتنع بولس عن أن يطلبها من أحد، لأن هؤلاء الناس لم يكونوا يطيقون حملها.

![]() |
3- هل تدركون أي درجة من الفضيلة يمكن أن تصل إليها طبيعتنا وكيف أن لا شيء أثمن من الإنسان وهو مازال في حالته المائتة؟ من يمكنه أن يذكر لي من هو أسمى من بولس أو حتى يساويه؟ كم أن الملائكة ورؤساء الملائكة لا يساوون الإنسان الذي تبنى مثل هذه اللغة! ذاك الذي (وهو) في جسد مائت وفانٍ قد ضحى لأجل المسيح بكل ما يملك بل وأكثر مما يملكه - لأنه ضحى بالأشياء الحاضرة والأشياء الآتية بالعمق والعلو وكل خليقة أخرى (رو 8: 38-39). لو كان ذلك الإنسان له طبيعة غير جسدانية، هل كان باستطاعته أن يقول أو أن يعمل شيئًا أكثر؟!
فإن كنت أنا أبدي إعجابًا بالملائكة، فهذا لأنهم اُعتبروا جديرين بالكرامة التي نالوها وليس لأنهم كانوا عادمين من الجسد. فالشيطان في الحقيقة ليس له جسد أيضًا ولا يُرى ومع هذا فهو أسوأ كل الكائنات لأنه أساء إلى الله الذي خلقه. وعلى ذلك نحن نؤكد أيضًا أنه إن كان البشر تعساء، فهذا ليس لأنهم لابسون جسدًا -حسبما نزعم- لكن لأنهم لم يستخدموه كما ينبغي. بولس أيضًا كان لابسًا جيدًا فمن أين أتته مثل هذه العظمة؟
إنها أتته من نفسه ومن الله بآن واحد. فإن كانت قد أتته من الله فهي لأنها في نفس الوقت من نفسه، لأن "الله لا يقبل الوجوه" (أع 10: 34). فإن قلت آنذاك: لكن كيف يمكن الإقتداء بأُناس مثله؟ فاسمع ما أعلنه: "كونوا متمثلين بي كما أنا بالمسيح" (1كو 11: 1) فهو قد اقتدى بالمسيح وأنت ألا تستطيع أن تكون مثل من كان هو أيضًا عبدًا؟ هو سعى إلى أن يباري ربه ويقتدي به وأنت ألا تستطيع أن تصنع هذا مع من هو عبد مثلك؟ أي نوع من الأعذار يمكنك أن تقدمه؟

4- لكن قل لي كيف يمكن الإقتداء بالمسيح؟ هلموا لاحظوا تصرفه في هذا الأمر منذ البدء وتعمقوا في خطواته الأولى. بمجرد خروجه من المياه الإلهية (للمعمودية) فإنه صعد منها بمثل هذا الالتهاب والحماس حتى أنه لم يكن له صبر لأن ينتظر معلمًا، وهو في الحقيقة بدون أن ينتظر بطرس وقبل أن يذهب للقاء يعقوب أو أي شخص آخر (غلا 1: 17) محمولًا بغيرته فإنه ألهب هكذا المدينة حتى أنها أثارت ضده حربًا عنيفة (أع 9: 20-25؛ 2كو 11: 32-33).
إن بولس أتم أعمالًا تفوق مستواه وهو لم يزل يهوديًا متعصبًا إذ كان يوثق بالقيود ويزج في السجون ويصادر الممتلكات للمسيحيين (أع 9: 1-2؛ 22: 4-5؛ 26: 10-11). كذلك موسى دون أن ينال التكليف شخصيًا أوقف ظلم الغرباء ضد مواطنيه. فهذا التصرف كان علامة على نفس نبيلة وقلب عظيم لم يطق أن يحتمل بصمت مصائب الآخرين حتى لو لم ينل تكليفًا بهذا. كون موسى محقًا في الاندفاع إلى وظيفة المحاماة عن رفقائه، فالله قد أظهرها فيه بتعيينه لهذه المهمة فيما بعد. وهذا ما فعله أيضًا مع بولس لأنه هو أيضًا تصرف بدءًا من تلك اللحظة في تعليم الكلمة (الإلهية)، والله أظهره برفعه مباشرة إلى رتبة المعلمين.

5- في الواقع، لو كان المتقدمون لهذه المهام الخلاصية يبغون اقتناء الكرامات وحق التقدم والصدارة، لكنا اتهمناهم بالحق أنهم يسعون إلى مصالحهم الخاصة. لكن حيث إنهم أحبوا الاندفاع نحو المخاطر وانجذبوا لكل أنواع المهالك المميتة بنية تخليص الآخرين، الكل بلا استثناء، فمن خاطر بحياته إلى هذه الدرجة حتى يجلب لنفسه مثل هذه الغيرة (المتعبة)؟ في الحقيقة فإنهم تصرفوا هكذا، لأنهم رغبوا بمنتهى الإخلاص في خلاص من كانوا هالكين: وهذا ما أظهره حسنًا قرار الله (باختيارهم)، وما أظهره أيضًا هلاك التعساء بسبب ولعهم لمراكز الصدارة عن غير استحقاق. كثيرون اندفعوا نحو السلطان ونحو وظيفة من الطراز الأول، لكن جميعهم هلكوا، فمنهم من صار فريسة للنيران (قض 9: 49)، ومنهم من ابتلعهم زلزال أرضي (عد 16: 31-32) فهؤلاء بدلًا من اندفاعهم نحو حماية الآخرين، عشقوا المراكز الأولى. عزّيا الملك مثلًا تورط فصار أبرص (2أخ 26: 16-21). وبالمثل سيمون (الساحر) تورط فصار ملعونًا وانتهى به الأمر إلى أسوأ المهالك، ولو أن بولس أيضًا تصرف مثلهم لكنه نأى عن كبريائهم فاز بالإكليل، ليس الإكليل الخاص بالكهنوت اللاوي وكراماته، بل على العكس من ذلك إكليل الخدمة والأتعاب والمخاطر. وكما أنه شرع في سعيه تحت إلهام غيرة قوية وحمية شديدة فلهذا السبب يُنادى باسمه، ولأجل هذا صار مشهورًا منذ البدء.
6- بالمثل من تقلد مسئولية القيادة، لو لم يقم بواجبه كما ينبغي، فإنه يستحق عقوبة أكثر صرامة، كذلك لو أن شخصًا ما حتى بدون تفويض صريح مارسها بحسبما يليق، لست أقول هذا عن مهام الكهنوت، بل عن المهام التي يهتم فيها بالجمع - فهو جدير بكل مدح. لهذا السبب لم يبق بولس مستريحًا ولا ليوم واحد، وهو الذي حميته فاقت حرارة النار، ومن اللحظة التي صعد فيها من النبع المقدس (للمعمودية) فإن شعلة قوية اشتعلت داخله، وبدلًا من أن يفكر في المخاطر أو استهزاءات اليهود الذين ازدروا به أو يفكر في عدم إيمانهم أو في كل صعوبة من هذا النوع، فبمجرد نواله للعينين الآخرين اللتين للمحبة وحصوله على ذهن جديد فإنه وثب بحركة مندفعة وكأنه سيل متدفق جارفًا في مسيره كل مواقع اليهود المنيعة ومبرهنًا لهم من الكتب المقدسة أن المسيح هو المسيا. وفي الحقيقة ومع أنه لم يستمتع بعد بعدد كبير من النعم الإلهية ولم يُمنح الروح بعد بالدرجة التي صارت له (فيما بعد)، إلا أنه التهب في الحال وسلك في كل شيء بنفس ميتة وتصرف في كل موقف كما لو كان يريد أن يكفر عن ماضيه ودون مراعاة لتعبه ألقى نفسه في الموضع الذي سيكون فيه القتال أكثر إيلامًا والذي هو ممتلئ بأخطار عنيفة.

7- ومع أنه أظهر مثل هذا الإقدام ومثل هذه الحرارة واشتعل بهذه النار، فإنه مع ذلك كان وديعًا وطائعًا تجاه كل من يملي عليه كيف ينبغي له أن يتصرف، حتى أنه لم يقاوم بالرغم من شدة غيرته (الروحية). وفي الحقيقة بينما كان ملتهبًا ومحمولًا بحماس شديد (للتبشير) طلبوا إليه أن يرحل إلى قيصرية وطرسوس (أع 9: 30) فرحل ولم يجادل، وأشاروا عليه أن يتدلى في سل فرضخ للأمر، ونصحوه بأن يحلق فلم يعارض (أع 21: 23-24، 26)، وطلبوا إليه ألا يصعد إلى المسرح في أفسس فأطاع (أع 19: 29-31). وفي كل مواقفه كان مستجيبًا وطائعًا ولكن فقط في إطار ما فيه خير المؤمنين والسلام والاتفاق، وفي كل موقف سهر أيضًا على نفسه للبشارة بالإنجيل.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

8- وعلى ذلك عندما تسمع أن بولس أرسل ابن أخته إلى الأمير (أع 23: 16-18) بنية أن ينجي نفسه من المخاطر، أو عندما رفع دعواه إلى قيصر (أع 25: 10-11) وسارع إلى روما فلا ترى في هذه الكلمات علامة على الجبن. وفي الواقع ذاك الذي كان يئن من بقائه في العالم (رو 8: 23؛ 2كو 5: 4)، كيف لا يفضل صحبة المسيح على كل ما عداها؟ ذاك الذي فضل أن يكون محرومًا من السماء ولم يبال بالملائكة لأجل يسوع كيف يرغب في الخيرات الزمنية؟ فلماذا نراه قد تصرف هكذا؟!
إنه قد تصرف هكذا لكي يتكرس للكرازة بالإنجيل ويغادر العالم وهو محاط بجوقة من القديسين كلهم حاملون الأكاليل. وهو في الحقيقة خاف أن يغادر هذه الأرض كفقير لعدم حصوله على خلاص غالبية الناس. ولهذا السبب قال: "أن أبقى في الجسد ألزم من أجلكم" (في 1: 24).
9- لهذا السبب أيضًا إذ رأى أن المحكمة قدمت حكمًا مشجعًا جدًا في صالحه لدرجة أن أغريباس قال لفستوس: "كان يمكن أن يُطلق هذا الإنسان لو لم يكن قد رفع دعواه إلى قيصر" (أع 26: 32)، وإذ كان مقيدًا واُقتيد مع سجناء كثيرين مذنبين بجرائم لا حصر لها، فهو لم يخجل من أن يكون مقيدًا معهم، لكن على العكس أثناء كل رحلة السفر في البحر سهر على سلامة مرافقيه (في السفينة)، ولم يهتم بأمر نفسه وعرف أنه لن يصيبه أي خطر (في هذه الرحلة)، ولهذا السبب قطع كل هذه المسافة في البحر وهو مقيد بالسلاسل وممتلئ فرحًا كما لو كان مرسلًا لقضاء مهمة هامة جدًا. وفي الحقيقة لم تكن الموقعة المعروضة عليه عديمة الأهمية إذ أنها هي تبشير مدينة روما وتحويلها عن وثنيتها. ولكن بدلًا من أن يهمل رفقاءه في الرحلة فإنه هدأهم بأن سرد لهم الرؤيا التي عاينها وفيها أكد له الملاك أن الله وهبه أنفس جميع المسافرين معه. وهو تصرف بهذه الطريقة ليس لكي يتباهى بنفسه بل لكي يجعلهم ودعاء من جهته. هذا هو الدافع الذي لأجله سمح الله بهيجان البحر عندما رفضوا السماح لبولس وأيضًا عندما أطاعوه، ففي كل موقف ظهرت النعمة التي كانت فيه. وهم -في الواقع- عندما نصح بعدم السفر في البحر ولم يسمعوا له (أع 27: 10)، جازوا أسوأ المخاطر، ومع ذلك حتى في مثل هذا الموقف، فبدلًا من أن يكون عبئًا عليهم، فإنه على العكس سهر على رعايتهم كأب يسهر على أولاده وعمل كل ما في وسعه لكي لا يهلك أحد. ثم لما دخل بولس روما، تأمل أية وداعة أظهرها هناك أيضًا في حديثه (أع 28: 17-20)، وأية شجاعة كانت له عندما أغلق أفواه غير المؤمنين (أع 28: 25-31)، ودون التوقف في هذه المدينة غادرها للركض نحو أسبانيا.
10- إن المخاطر التي جازها بولس هي التي زودت ثقته وجعلته أكثر جسارة، وليس هو فقط بل أيضا تلاميذه عن طريقه. في الواقع لو كانوا رأوه قد هجر وطنه واستسلم للخوف، لكانوا هم أنفسهم ارتخوا، لكن بالمقابل حيث إنهم لاحظوا أنه لم يصر إلا أكثر شجاعة، وبالرغم من الإساءات التي عاناها رأوه أكثر تحمسًا، فإنهم بشروا بالإنجيل بشجاعة وهذا ما شرحه بقوله: "وأكثر الإخوة وهم واثقون في الرب بوثقي يجترئون أكثر على التكلم بالكلمة بلا خوف" (في 1: 14).
عندما يثُبت القائد شجاعته ليس فقط في الذبح والقتل بل أيضًا عندما يواصل جهاده رغم إصابته، وإذ يراه أتباعه غارقًا في دمائه ومثخنًا بالجروح ورغم هذا فإن رجليه لم ترتخيا أمام العدو، بل على العكس كان صامدًا بشجاعة ماسكًا برمحه وضاربًا العدو ومقاتلًا بحماس أكثر شدة دون أن يستسلم لآلامه، فإنه بذلك يجعل من هم تحت إمرته أكثر جسارة لاسيما عندما يرون الجروح التي أصابته أكثر من تلك التي أصاب بها الأعداء، وهذا ما حدث تمامًا لبولس، فعندما رآه تلاميذه مقيدًا ويبشر بالإنجيل وهو مسجون ومجلود ومكتسبًا إلى جانبه من يجلدونه بسبب أتعابه، فإنهم أظهروا جرأة أكثر. لهذا السبب فهو لم يكتف بقوله "يجترئون" بل أضاف قوله "يجترئون أكثر على التكلم بلا خوف".
وهو بوجه آخر قال: إن الإخوة يتكلمون الآن بجسارة أكثر مما عندما كنت طليقًا. حينئذ هو أيضًا صار متحمسًا بقوة أكثر ومضاعفًا نشاطه ضد أعدائه وبالقدر الذي به تزداد الاضطهادات، بنفس القدر تزداد جسارته، وهذه الاضطهادات كانت بالنسبة له نقطة انطلاق لجسارة أكثر قوة.

11- على سبيل المثال، فإنه ذات يوم وضع في السجن ولمعت عيناه ببريق حتى أن أساسات السجن تزعزعت والأبواب انفتحت وجذب السجان إلى الإيمان، وكاد أيضًا في موضع آخر أن يقنع القاضي حتى أنه قال له شخصيًا: "بقليل تقنعني أن أصير مسيحيًا" (أع 26: 28)، وفي مرة أخرى رجموه فقام بعد قليل ودخل المدينة التي ضربه أهلها بالحجارة فحولهم إلى الإيمان. وذات مرة اُستدعي أمام المحكمة ليُحاكم بواسطة اليهود ومرة بواسطة الأثينيين، فحدث أن قضاته صاروا تلاميذه ومعارضيه صاروا من رعاياه (أتباعه). وكما أن النار التي تجتاح مواد مختلفة تكتسب قوة أكثر وتمسك بالشيء الذي يقابلها لتشتعل أكثر، لذلك كلمة بولس اكتسبت إلى جانبها كل من احتكت بهم، وكل من حاربوه أسرهم بأحاديثه وصاروا بسرعة طعامًا لهذه النار الروحية، وبفضلهم أخذت الكلمة اتساعًا أكثر وأدركت أُناسًا آخرين. لهذا السبب قال بولس: "الذي فيه أحتمل المشقات حتى القيود كمذنب. لكن كلمة الله لا تقيد" (2تي 2: 9). وقد أُجبر على الفرار ولكنه بالتأكيد تصرف حسنًا، والاضطهاد أدى إلى إرسال تلاميذه محله ليعلموا آخرين (أع 13: 50-51؛ 14: 5-7). وكونه صنع أصدقاء ومشايعين له (في كل مكان) فأعداؤه هم السبب، بكونهم لم يتركوه يستقر في بلد واحدة، بل بفضل مكائدهم وملاحقاتهم أرسلوا طبيب النفوس بحيث أن كل العالم سمع كلمته. وعند تقييده مرة أخرى، فإنهم حضّوه (على تكثيف نشاطه بالرسائل) بالأكثر، وعند طرد تلاميذه من موضع يرسل منهم من يعلم في موضع آخر، وعند اقتياده لمحكمة أعلى مستوى يجعلونه يخدم (بالكلمة) في مدينة عظيمة الأهمية (روما).
12- إن نفس السبب الذي جعل اليهود يضطربون أمام الرسل ويقولون: "ماذا نفعل بهذين الرجلين؟" (أع 4: 16)، لأن الذي نعمله معهم يزيد من تأثيرهم ونفوذهم، لكن ذلك الرجل قيده بولس (بالإيمان) بقوة أكثر. إنهم رحّلوه مع المساجين لكي يتحاشوا فراره (من مدينة لأخرى)، لكنه علّم الإيمان لهؤلاء المساجين، أنهم رحّلوه بحرًا بحيث أن الانتقال يتم بسرعة (حتى لا يتقابل مع أُناس يكرز لهم) وهوذا الغرق الذي حدث للسفينة أتاح له الفرصة لتعليم من فيها، إنهم هددوه بألف عقوبة لكي يخمدوا البشارة بالإنجيل، لكن هذا جعل البشارة بالإنجيل تنتشر بالأكثر. وكما أن اليهود قالوا عن الرب: "لنقتله حتى لا يأتي الرومان ويأخذوا موضعنا وأمتنا" (انظر يو 11: 48)، فإن العكس هو الذي حدث، فلكونهم أماتوه دمر الرومان أمتهم ومدينتهم، وإذ ظنوا أنهم هكذا يقيمون عقبة (قاضية على الإنجيل)، فإنهم عضدوا الكرازة بالإنجيل، وكذلك فيما يتعلق بكرازة بولس فبالقدر الذي به كدسوا الدسائس لاستئصال الكلمة، فبهذا القدر عضد هؤلاء الناس نفوذه ورفعوه إلى علو لم يُسمع به.

13- فلنشكر الله الصانع العجائب لأجل كل هذه الخيرات ولنعلن عن طوباوية بولس الذي كان واسطتها ونصلِّ لكي نحصل نحن أيضًا على نفس هذه الخيرات بنعمة ومحبة ربنا يسوع المسيح الذي له المجد مع الآب والروح القدس إلى دهر الدهور آمين.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/z64nzzt