1- أين أولئك الذين يلومون الموت بقولهم إن الجسد قابل للعطب وخاضع للفساد، وأنه عقبة لهم للتقدم نحو الفضيلة؟ فليسمعوا الفضائل البطولية لبولس وليجحدوا هذا الافتراء الذي هو من وحي الشياطين. بأي شيء أضر الموت طبيعتنا؟ وبأي شيء كان الفساد الطبيعي عقبة للفضيلة؟ تأمل في بولس وسترى أن حالتنا المائتة تؤول تمامًا لما فيه بالأولى منفعتنا. وفي الواقع لو أن بولس لم يكن مائتًا لما استطاع أن يؤكد أو بالأحرى لعجز عن إظهار هذا (الشيء) لأن أعماله بالحق هي التي منحته سلطانًا أن يقول: "إني بافتخاركم الذي لي في يسوع المسيح ربنا أموت كل يوم" (1كو 15: 31)، ففي كل موقف نحن لا نحتاج إلا إلى العزيمة، وما ينقصنا فقط هو الحمية. فلا شيء يمنعنا آنذاك من أن نأخذ موضعنا في الصفوف الأولى. ألم يكن هذا الإنسان مائتًا؟ ألم يكن عاميًا؟ ألم يكن فقيرًا ويعمل كل الأيام ليقوت نفسه؟ ألم يكن له جسد خاضع لكل ضرورات الطبيعة؟ ما الذي منعه عن إدراك مثل هذه العظمة؟ لا شيء.
ليت لا أحد ييأس لأنه فقير، أو يتضايق لأنه عامي، وليت لا أحد يستاء لأنه ضمن الناس البسطاء، لكن اترك هذه الضعفات لذوي النفوس الرخوة والقلوب الخائرة. نعم، لا يوجد إلا عقبة واحدة للفضيلة: نفس خليعة ومستهترة، وبدون هذا لا شيء أبدًا يشكل أي عقبة.
إن بولس الطوباوي الذي جمعنا اليوم يُظهر لنا هذا بوضوح. كذلك بالحقيقة إن كانت حالته (كإنسان فقير وعامي) لم تسبب له أي ضرر، كذلك الوثنيون لم يجنوا أية ميزة من الموقف المعارض: فلا الموهبة الخطابية أو الثروة الكثيرة أو العائلة المشهورة أو السمعة العريضة أو مراكز السلطان قد أفادتهم.
2- لماذا نتكلم عن البشر؟ وبتحديد أكثر إلى متى أواصل حديثي على مستوى الأرض (والأرضيات) بينما يمكن لنا الكلام عن القوات العلوية والسيادات وأيضًا عن الذين يحكمون عالم الظلمة (أف 6: 12)؟
ما الذي أفادهم بكونهم يشاركون في مثل هذه الطبيعة النبيلة؟ ألن تقف كل القوات السماوية أمام بولس وكل من يشابهه؟ وهو قال: "ألستم تعلمون أننا سندين ملائكة فبالأولى أمور هذه الحياة" (1كو 6: 3).
حسنًا فشيء واحد يجعلنا نتألم: الخطية، وشيء واحد فقط يفرّحنا ويبهجنا: الفضيلة. فلنعط لها كل حميتنا ولا شيء (آنذاك) سيمنعنا من أن نكون مثل بولس.

![]() |
3- إن بولس الرسول لم يدرك مثل هذا السمو بتأثير النعمة فقط، بل أيضًا بإرادته الشخصية وبالتأثير الذي مارسته النعمة فيه، لأن النعمة عملت فيه في نفس الوقت مع إرادته. لأنه امتلك إلى أقصى درجة كلا الكنزين: المواهب التي تأتي من روح الله والقوى التي تأتي من الإرادة الشخصية.
هل تريد أن تعرف دور نعمة الله فيه؟ الشياطين كانت تخاف من ملابسه (انظر أع 19: 12). لكن ليس هذا هو الشيء الذي نُعجب منه، بل إن كون ظل بطرس يشفي الأمراض لا يعجبنا، إنما الذي نُعجب منه هو كيف أنه من قبل أن ينال النعم الإلهية بعد، ومنذ البداية وقبل أن يمتلك بعد لتلك القوى غير العادية وقبل أن توضع عليه الأيادي، نقول كيف أنه التهب بمثل هذه الغيرة العظيمة للمسيح، الأمر الذي أقام ضده كل الشعب اليهودي. وعندما عاش في وسط مثل هذه المخاطر العظيمة إلى درجة أن المدينة كانت محاصرة، فإنه تم إنزاله في سلِّ من طاقة في سور المدينة، ومع هذا حتى بمجرد نزوله فبدلًا من أن يمتلئ خوفًا أو جبنًا أو فزعًا، فإنه لم يصر إلا أكثر غيرة وحماسًا. فإن كان قد توارى عن المخاطر فهذا لكي ينظم خدمته بطريقة أفضل. إنه لم يتوار عندما كان عليه أن يبشر بالإنجيل، بل على العكس فإنه أمسك بالصليب من جديد وسار خلفه. إذ كان له مثال إستفانوس الذي كانت صورته لم تزل عالقة في ذهنه لحداثتها، ورأى مقابله اليهود وهم ينفثون قتلًا ويرغبون في التشفي من جسده. وفي الحقيقة فإن بولس لم يُلقِ نفسه في المهالك اعتباطًا، بل ولو أنه من ناحية أخرى هرب لكن حميته ونشاطه لم يفترا.
وهو إن كان مولعًا بقوة بالحياة الحاضرة من أجل المنفعة التي يمكنه أن يجنيها منها، إلا أنه كان أيضًا يزدري بها بسبب حياته المتجددة التي نال منها إلهام هذا الازدراء، أو بالأحرى بسبب تلهفه للذهاب إلى يسوع.

4- لأني أقول دائمًا بخصوصه ولن أتوقف عن القول إن لا أحد في وجود مواقف متناقضة قد تصرف بقدر متساوٍ من الاهتمام على كلا المستويين دفعة واحدة. وعلى أي حال لم ينجذب أحد مثله إلى هذا الحد للحياة الحاضرة ولا حتى الذين عشقوها، ولا حتى الذين أماتوا ذواتهم إلى أقصى درجة ازدروا بها مثله.
إن بولس كان هكذا عادمًا من كل شهوة ولم يتلذذ بشيء من أمور هذا العالم، لكن في كل موقف كانت رغائبه تتطابق مع إرادة الله. فهو من جهة أعلن أنه كان ملزمًا جدًا بالمعيشة هنا على الأرض عن أن يوجد مع المسيح ويتسامر معه (في 1: 24)، ومن جهة أخرى يرى في وجود الجسد حملًا ثقيلًا ومتعبًا إلى درجة التأوه وشهوة الانطلاق (في 1: 23؛ 2كو 5: 4). وهو لم يكن له إلا نوع واحد من الرغبات، وهي الرغبات التي تجلب له فائدة تتوافق مع قصد الله حتى لو كان هذا التصرف في حقيقته يسبب تعارضًا مع تصرف سابق له.
وعلى ذلك كان بولس كائنًا مختلفًا متكيفًا مع كل الأحوال، وهذا لم يكن شيئًا يمت بصلة إلى الرياء. حاشا لله، بل إنه تكيف على الدوام مع المتطلبات التي تستدعيها الكرازة بالإنجيل وخلاص الناس، وبهذا أيضًا كان يقتدي بسيده.

5- في الحقيقة فإن الله ظهر أيضًا على هيئة إنسان عندما لزم أن يظهر هكذا، ليس فقط في وسط النار سابقًا عندما حتم الموقف هذا، بل أيضًا مرة على هيئة جندي (يش 5: 13)، ومرة تحت شكل قديم الأيام (دا 7: 13)، ومرة عبر النسيم (1مل 19: 12)، ومرة على هيئة مسافر (تك 18: 2)، وأخيرًا كظهور حقيقي في الطبيعة البشرية التي قادته أيضًا إلى قبول الموت. وعندما أقول: "عندما لزم أن يظهر هكذا" فهذا لكي لا يرى أي إنسان فيها حتمية بالمعنى الحرفي، بل الذي ألهمه لهذا التصرف فقط هو محبته للبشرية. أحيانًا أيضًا يجلس على عرش (إش 6: 1)، وأحيانًا فوق الشاروبيم (حز 1: 26). وهو يرتب كل هذه الظهورات بحسب الظروف. ولهذا السبب هو قال أيضًا للنبي: "كثّرت الرؤى وبيد الأنبياء مثّلت أمثالًا" (هو 12: 10).

6- إن بولس الذي اقتدى بسيده لا يمكن أن يكون محل ملامة عندما تصرف أحيانًا كيهودي وأحيانًا كمتحرر من الناموس (انظر 1كو 9: 20-21). أحيانًا يحفظ الناموس وأحياناُ يتخطاه، أحيانًا يتمسك بالحياة الحاضرة وأحيانًا يحتقرها، أحيانًا يطلب المال وأحيانًا برفض حتى عندما يُعطى له، أحيانًا يقدم ذبيحة ويحلق رأسه، وبالعكس يوجه الحرم لمن يتصرفون هكذا، وأيضًا يمارس الختان وفي مرة أخرى يرفضه.
إن هذه المواقف كانت بدون شك متناقضة، لكن القرار والنية التي ألهمت هذه المواقف كانت مترابطة ولم تكن إلا واحدة. لأنه لم يكن له إلا غرض واحد وهو: خلاص الذين يسمعونه ويرونه. ولهذا السبب كان أحيانًا يمجد الناموس وأحيانًا أخرى يتخطاه. وبالتأكيد لم يكن بولس متنوعًا ومتعددًا فقط في أعماله، بل أيضًا في أقواله، دون أن يكون في هذا تغيير لرأيه أو تقمصه لشخصية أخرى، بل على العكس ظل على ما كان عليه، ولكل حالة تكلمنا عنها كيّف نفسه بحسب متطلبات الموقف. فعلينا ألا نلومه لهذا التصرف بل هذا يبرر بالأولى الدافع القوي لمدحه إلى أقصى درجة ولنواله الإكليل.
7- وهذا بالفعل مشابه لما يعمله الطبيب عندما تراه أحيانًا يكوي جرحًا وأحيانًا يربطه، أحيانًا يستخدم مشرط وأحيانًا يستخدم مرهم. أحيانًا يمنع عن المريض الأكل والشرب، وأحيانًا أخرى يسمح له بالأكل حتى الشبع. أحيانًا يغطيه تمامًا بالأغطية وأحيانًا أخرى عندما يكون محمومًا يوصي بأن يمنع عنه تمامًا ولو كوب ماء بارد. فلن تتهم الطبيب لهذا بعدم الثبات أو بالتقلب المستمر، بل حينئذ وعلى وجه الخصوص سنمتدح صناعة الطب هذه إذ تراه يستخدم بحزم وسائل متناقضة بل ومؤذية ظاهريًا وفي نفس الوقت تؤول إلى صحة المريض. ونحن نقرّ بمهارة هذا الطبيب لهذه المرونة في التصرف. فإن كنا نستحسن الطبيب عندما يلجأ إلى هذه الطرق المتناقضة في العلاج فبالأولى جدًا ينبغي أن نمجد جدًا بولس الذي تصرف على هذا المنوال من جهة الذين يتألمون. لأن النفوس المريضة تحتاج في علاجها إلى مهارة أكثر من الأجساد المريضة، وعلى العكس لو حدث أن أحدًا تصدر لعلاج النفوس بدون حذر فإن كل فرص شفائها ستتلاشى.

8- أليس هذا مثيرًا للدهشة أن نرى البشر يتصرفون بهذه الطريقة، بينما الله بالرغم من قدرته الكلية يستخدم نفس الطريقة المعتادة للأطباء ويتصرف بحرص شديد معنا؟ الله يريدنا أن نكون أتقياء من تلقاء ذواتنا وليس عن إجبار أو إكراه، وهذا هو السبب الذي لأجله احتاج أيضًا إلى اللجوء إلى تصرفات متعارضة، ليس لعجز من جانبه، حاشا أن يكون لي هذا الفكر، بل بسبب ضعفنا. وهو في الحقيقة يكفيه أن يعمل إشارة أو بالأحرى أن يشاء لتتم كل مقاصده، لكن لأجلنا، إذ لأننا جُعلنا أسيادًا على نفوسنا فنحن لا نتحمل أن نطيعه كرهًا واغتصابًا. لو كان هو بالحق يجتذبنا على الرغم منا، لكان قد نزع منا ما أعطاه لنا، أقصد حرية إرادتنا. وعلى ذلك حيث أن الأمر لم يكن هكذا، فإنه لجأ إلى تصرفات متنوعة. وليس اعتباطًا أنني أتكلم هكذا، بل بسبب المواقف المتنوعة لبولس الطوباوي ومهارته. فلذلك عندما تراه يهرب من المخاطر عليك أن تعجب به بنفس القدر كما عندما تراه يذهب لملاقاتها. وفي الحقيقة فإن كان هذا الموقف الأخير علامة على الشجاعة، فإن الموقف الأول (أي هروبه) شاهد على حكمته. وعندما تراه يتكلم بلهجة حازمة عليك أن تعجب به بنفس القدر كما عندما تكون لهجته مخففة، فإن كان في الحالة الأخيرة برهن على تواضعه، فإنه في الموقف الأول دلّ على عظمة النفس. عندما تراه يفتخر عليك أن تعجب به بنفس القدر كما عندما يرفض المدح، فإن كان الموقف الثاني يكشف عن تواضعه، فإن الموقف الأول ينبع من قلب ممتلئ رقة وصلاحًا. وفي الحقيقة فإن الدافع لكل أعماله هو الاهتمام بتقديم الخلاص للكثيرين.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

9- لهذا السبب هو قال أيضًا: "لأننا إن صرنا مختلين فلله، أو كنا عاقلين فلكم" (2كو 5: 13). بالتأكيد لا أحد مثله له هذه المواقف الضاغطة التي تتيح له الهبوط إلى حمق الكبرياء ولا أحد كان إلى هذا الحد معدومًا من الكبرياء مثله. فلنفتكر في أن "العلم ينفخ" (1كو 8: 1) ونحن كلنا يمكننا أن نقولها معه، لكن العلم كان فيه بدرجة عالية بما لم يملك أحد في العالم مثله أبدًا، ومع هذا بدلًا من أن يترك نفسه يسكر به، فإنه بالتحديد وجد فيه أيضًا دافعًا للتواضع. ولهذا السبب قال: "لأننا نعلم بعض العلم ونتنبأ بعض التنبؤ" (1كو 13: 9)، وأيضًا قال: "أيها الإخوة أنا لست أحسب نفسي أني قد أدركت" (في 3: 13)، وأيضًا قال: "فإن كان أحد يظن أنه يعرف شيئًا فإنه لم يعرف شيئًا بعد" (1كو 8: 2). الصوم هو أيضًا ينفخ والفريسي أظهر هذا بوضوح عندما قال: "أصوم مرتين في الأسبوع". بالنسبة لبولس لم يكن الأمر هكذا من جهة الصوم، بل على العكس هو عاني من الجوع ومع ذلك دعا نفسه ب"السقط" (انظر 1كو 15: 8).

10- لماذا نتكلم عن الصوم والعلم بينما كانت له بدون شك محاورات مع الله هكذا مرتفعة ومستمرة لم يكن لأي نبي أو رسول مثلها أبدًا وكيف أنه أتضع لأجلها بالأكثر؟ لا تكلمني عن تلك التي ذكرناها كتابة، لأنه أصرّ على إخفاء أكثرها، وهو لم يقل كل شيء لكي لا ينسب لنفسه مجدًا عظيمًا، ومن ناحية أخرى لم يحفظها كلها في طي الكتمان لكي يغلق أفواه الرسل الكذبة. لأن هذا الإنسان لم يتصرف اعتباطًا أبدًا لكن دائمًا كان له دافع معقول وصائب (فيما يعمله) وقد تابع مقاصده المتعارضة بمنتهى الحكمة التي بها نال على وجه الخصوص نفس المديح. وهذا هو ما أريد أن أقوله: إنها فضيلة عظيمة أن لا يتحدث الإنسان عن نفسه بتعبيرات فيها افتخار، لكنه تصرف هكذا وبكثير من الحصافة حتى أن كلماته استحقت المدح أكثر من صمته. ولو لم يتصرف هكذا لكان يستحق اللوم أكثر من الذين يمدحون أنفسهم بمدح في غير محله. وفي الحقيقة لو لم يكن قد افتخر (في تلك المواقف التي استلزمت ذلك) لكان قد فتر ذكره تمامًا (وفقد هيبته الرسولية أمام تلاميذه) ولكان قد قوّى جانب أعدائه ورجح كفتهم. إنه عرف على وجه الخصوص كيف يستفيد حسنًا من الظروف ويعمل بغرض مستقيم حتى ما هو منُتقد ويجعله هكذا مفيدًا بأن يستخرج أكبر قدر من الإكرام (لله) أكثر من (إكرامه) بإتمامه الوصايا. نعم إن بولس بافتخاره كان آنذاك يجتذب مجدًا (لنفسه) أكثر من أي شخص آخر يُخفي فضائله العظيمة. وفي الحقيقة لم يصنع أحد قدرًا من الصلاح بإخفائه استحقاقاته أكثر من هذا الإنسان في إعلانه عمّا له (من فضائل).
11- ومما يدعو إلى الإعجاب به أكثر ليس فقط ما كشفه (من فضائله)، بل اكتفاؤه بإظهار ما كان ضروريًا. إنه لم يعتبر أن مثل هذا التصرف يعطيه ذريعة للانطلاق في التكلم عن نفسه، ويمكنه استخدام هذه الفرصة كيفما شاء، لا فهو عرف إلى أين يمكنه أن يتقدم. وأيضًا هذا بالتحديد لم يكفه، فلكي يتحاشى إفساد الآخرين بتشجيعهم على امتداح أنفسهم دون سبب، فإنه تصرف أيضًا (كأنه) عن حمق، وهو بالحق لم يتصرف بهذه الطريقة إلا عندما ألزمته الضرورة. لكن من الخطر أن الآخرين في ملاحظتهم له يتبعون مثاله بكل سذاجة فيتعرضون للهلاك، وهذا ما نراه يحدث أيضًا للأطباء مرارًا وذلك عندما يستخدم الواحد منهم دواء في محله فيجلب الشفاء، أما إن استخدمه آخر في غير محله فإن فاعلية الدواء تفسد وتتعرض للخطر.
12- لكي لا يكون الأمر هكذا في هذا الظرف، انظر أي احتياطات أخذها بولس عندما كان عليه أن يفتخر ساعيًا إلى التملص منه ليس فقط مرة أو اثنتين بل مرارًا فقال: "ليتكم تحتملون غباوتي" (2كو 11: 1). وقال أيضًا: "الذي أتكلم به لست أتكلم به بحسب الرب بل كأنه في غباوة... لكن الذي يجترئ فيه أحد أقول في غباوة أنا أيضًا اجترئ فيه" (2كو 11: 17، 21)، ثم دون أن يكتفي بكل هذه الاحتياطات الكلامية، فعندما كان على وشك أن يركب موجة الافتخار فإنه أخفى شخصيته بقوله: "أعرف إنسانًا في المسيح..." (2كو 12: 2)، وأيضًا قوله: "من جهة هذا أفتخر. ولكن من جهة نفسي لا أفتخر إلا بضعفاتي" (2كو 12: 5). وننهي هذا بالقول: "قد صرت غبيًا وأنا أفتخر. أنتم ألزمتموني" (2كو 12: 11). لذا إذ نرى هذا القديس العظيم مضغوطًا بضرورة مُلّحة فإنه يتردد ويتراجع قبل الشروع في افتخاره مثل حصان لا يتوقف عن الرفس عندما يصل إلى حافة جرف خطير، فلو لم يتحاش الإنسان هذه الطريقة في التصرف (بكونه يفتخر بما صنع) ولا يلجأ إليها إلا في الضرورة القصوى، فهو يكون في منتهى الغباء والحمق حتى لو كانت الأمور التي ينبغي له أن يتناولها مهمة.
13- هل تريد أن أظهر لك أيضًا وجهًا آخر من تصرفه في هذا الموضوع؟ الأمر العجيب هو أنه لم يكتفِ بشهادة ضميره، بل أيضًا أراد أن يعلمنا كيفية معالجة مسألة المدح الشخصي تحت كل وجه من أوجهه. فبدلًا من التقيد بالاعتذارات مؤسسًا إياها على الضرورة التي وضعتها الظروف، فإنه علّم الآخرين ألا يتملصوا منه لو حدثت ظروف مناسبة دون أن يسعوا مع ذلك إلى ما هو في غير محله. وعبر كلماته فإن بولس أراد أن يقول هذا على وجه التقريب: إنه شر عظيم أن يتكلم الإنسان عن نفسه كلمات فيها افتخار وإعجاب، وهذا يا أخي المحبوب أسوأ درجات الحمق أن يتزين الإنسان بكل أنواع الافتخارات عندما لا يدفعه لهذا أية ضرورة إلا إن كانت ضرورة ملحة جدًا، ليس هذا التكلم هو بحسب إرادة الله بل مثل هذا التصرف هو بالأحرى برهان على الحمق، ويضيع أجرنا بل وفي نفس الوقت يلاشي كل أتعابنا وجهودنا.
هذا هو كل ما أراد بولس أن يقوله للجميع وبالأكثر أيضًا عندما سعى إلى التملص منه بما فيه في حالة الضرورة. وما هو أكثر أهمية أنه حتى في حالة الضرورة بدلًا من أن يتفاخر أمام كل العالم باستحقاقاته فإنه أخفى أغلبها وأعظمها.
"إني آتي إلى مناظر الرب وإعلاناته... ولكني أتحاشى لئلا يظن أحد من جهتي فوق ما يراني أو يسمع مني" (2كو 12: 1، 6).
وبتكلمه هكذا فإنه يعلّمنا أنه في كل المواقف وحتى في موقف الضرورة لا نُحضر ونُظهر أمام الكل كل ما نعرفه عن نفوسنا، بل نظهر فقط ما هو مفيد لسامعينا.

14- هذا ما عمله أيضًا صموئيل النبي، وليس اعتباطًا أن نتذكر أيضًا هذه الشخصية القديسة، لأن هنا أيضًا افتخاره قيل لمنفعتنا. ذات يوم افتخر ذاك الإنسان وعرّف بعض الأوجه من فضيلته (1صم 12: 1-5) لكن ما هي الفضائل التي أعلنها؟ تلك التي يمكن أن تكون نافعة لسامعيه. إنه لم يقل حديثًا مطولًا عن العفة أو عن التواضع أو عن نسيان الإساءات، لكن عن ماذا تكلم؟
إنه تكلم عن الأمور التي -شاول ملك ذلك الزمان- كان في حاجة ملّحة لأن يتعلمها وهو ضرورة الحكم بالعدل ولزوم حفظ يديه نقيتين من الرشوة.
داود أيضًا هو بدوره افتخر، افتخر بما يمكنه أن يضع سامعيه على الطريق المستقيم. وفي الحقيقة إن هذا الإنسان لم يُشر إلى أيّ من مآثره إلا ما صنعه مع الأسد والدب. هذا هو كل ما أظهره ولم يُظهر شيئًا غيره. إن القول بالمزيد كان هو من صنع من هو متباه ومتعجرف، لكن قول ما تتطلبه الضرورة الحاضرة كان علامة على أنه رجل عطوف ينظر لمنفعة أكبر عدد ممكن. وهكذا تصرف بولس أيضًا، فعندما افتروا عليه بقولهم إنه لم يكن رسولًا حقيقيًا، وأنه لم يكن له سلطان مثل بقية الرسل. لذلك كان مضطرًا بسبب هذه التهم أن يأتي إلى التعرض للمستندات التي تبرهن بالأساس على مقامه (وصدق دعوته الرسولية).
15- هل ترى أية وسائل استخدمها ليعلّم ألا يتباهى الإنسان دون سبب؟
أولًا: لقد أوضح أنه تصرف هكذا عن ضرورة، ثانيًا إنه ذهب حتى إلى اعتبار نفسه كغبي واعتذر مرات عديدة، ثالثًا بدلًا من أن يعلن كل شيء، فإنه أخفى الافتخارات الأكثر أهمية وهذا أيضًا في حالة الضرورة، رابعًا إنه اختفى خلف شخصية أخرى متكلمًا هكذا: "أعرف إنسانًا في المسيح..." (2كو 12: 2)، وخامسًا إنه لم يُظهر أمام كل الناس جميع فضائله، بل أظهر فقط كل ما تطلبه الظرف الحاضر.

16- هذا التصرف لن تلاحظونه فقط عندما اُقتيد إلى الافتخار، بل ستجدونه أيضًا عندما وبخ الناس. ومع ذلك ستقولون: أليس حسنًا أن يمتنع الكل عن توبيخ أخ لهم؟ حسنًا، هناك أيضًا تصرف بولس هكذا بطريقة صائبة حتى إنه انتزع ثقة عظيمة أكثر من الناس الذين يسهبون في مدح الآخرين. وهوذا لهذا السبب فإنه عامل الغلاطيين مرة على أنهم أغبياء (غلا 3: 1)، بل أيضًا مرتين، وقال عن أهل كريت إنهم "وحوش ردية بطون بطالة" (تي 1: 12). وأيضًا طريقة التكلم هذه آلت جدًا إلى مدحه. وهو في الحقيقة رسم لنا حدًا وقاعدة، بحيث أنه في وجود الناس الذين يهملون الله، فبدلًا من اللجوء إلى المداراة يمكننا أن نستخدم لهجة صارمة بما فيه الكفاية. وهكذا لكل موقف نجد عنده المكيال المناسب. لهذا السبب في كل أعماله كما في كل أقواله، فإنه كان محل ثقة (سواء) عندما يحتد أو عندما يمتدح أو عندما يُظهر اشمئزازه أو عندما يستخدم المداراة أو عندما يمجد شخصه أو عندما يتضع أو عندما يفتخر أو عندما يتقدم كفقير بائس. ولماذا تندهش لفكرة أن الإساءة والإهانة ينبغي أن يكون لهما الاعتبار، بينما في الحقيقة القتل نفسه كان له هذا الاعتبار وبالمثل الغش(125) والاحتيال في العهد القديم كما في العهد الجديد؟

17- فلنفحص بتمعن شديد كل طرق التصرف هذه ثم نُبدي إعجابنا ببولس ونمجد الله ونحن أيضًا نقود أنفسنا بالمثل معه لكي ننال لأنفسنا كل الخيرات الأبدية بنعمة ومحبة ربنا يسوع المسيح الذي له المجد والقوة الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور آمين.
_____
(125) إن كتابات كثيرة في العهد القديم امتدحت الغش (تك27؛ يهوديت 10: 11-13؛ 11: 5-7؛ 12: 15-20) وأيضًا القتل عندما كان الشخص الذي يتمم هذا الفعل يهدف إلى إنقاذ المسحوقين أو لحفظ الإيمان في إسرائيل (انظر 1صم 17: 38-54؛ 1مل 18: 20-40؛ 2مل 11: 9-20؛ يهوديت 13: 4-20؛ 1مك 2: 23-26). وفي العهد الجديد يوجد في إطار الأمثال مدح للمهارة والمكر (انظر لو 16: 1-9)، ونحن نعلم أن التركيز كان على الوداعة والمحبة والمغفرة للأعداء (مت 5: 3-12، 43-48؛ لو 6: 27-28) وهذه هي الأشياء التي عن طريقة نعمة المسيح تُعطى القوة لإتمامها.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-angelos-almaqary/john-chrysostom-paul-praise/behaviors.html
تقصير الرابط:
tak.la/c2nz3mz