1- عندما يزمع المتحدث أن يتكلم عن موضوع أطول نسبيًا، فهذا الأمر يحتاج لعدة أحاديث ولا يمكن أن يكتمل الموضوع في يوم أو اثنين أو ثلاثة أيام، بل يحتاج لأيام أكثر. وأنا أعتقد أنه واجب على المعلم في مثل هذه الأحوال ألا يلقي بتعليمه كله على أذهان السامعين فجأة ودفعة واحدة بل اعتقد أنه ينبغي عليه أن يقسّم موضوعه لعدة أجزاء وعن طريق هذا التقسيم يجعل ثقل حديثه أخف وسهل إدراكه.
لأنه من المؤكد أن الكلام والسمع وكل حاسة من حواسنا لها حدود ومقاييس ومجالات مقننة. فإن حاول إنسان أن يتخطى هذه الحدود، يجد أنه فقد قدرته على الاستيعاب.
أخبرني من فضلك: أي شيء أفضل من النور؟ أي شيء مُسّر أكثر من شعاع الشمس؟ ومع ذلك عندما نقضي وقتًا أطول في هذه الأشياء المُسّرة والمقبولة لدينا فهي تصبح سبب ضيق ويصعب احتمالها.
2- لهذا السبب فإن الله أقام قانونًا بأن الليل يعقب النهار لكي يعتني الليل بعيوننا المتعبة ويغلق أجفاننا ويريح إنسان العين لينام. وبهذه الطريقة فإن الليل يريح قوة أبصارنا المتعبة ويجعلها مؤهلة أكثر للنظر في اليوم التالي. لهذا السبب فإن حالة اليقظة والنوم ولو أنهما متعارضان بعضهما ضد بعض، إلا أن الاثنين مقبولان جدًا لانسجام تعاقبهما الواحد بعد الآخر، فإن قلنا أن النور حلو فنحن نقول بنفس القدر أن النوم الذي يأخذنا من النور أيضًا لذيذ.
3- لذلك فإن نقص التناسب الصحيح دائمًا يكون سبب ملل وضيق، والقدر المعقول دائمًا لذيذ ومفيد ورقيق. لذلك مع أنه قد مرت عدة أيام منذ بدأت حديثي عن الله غير المدرك، فإنني لازلت للآن غير مستعد لإكمال مناقشة هذا الموضوع اليوم، فنحن نريد أن نقدم لمحبتكم فقط قدرًا معقولًا من الكلمات، إلا إنني بعد ذلك سأترك أذهانكم لتأخذ قسطًا من الراحة.
4- عند أي نقطة توقفت في حديثي السابق؟ إذ ينبغي أن ابدأ من هناك، لأنه يوجد في التعليم الروحي نوع من التتابع والتسلسل.
في العظة السابقة أخبرناكم أن ابن الرعد قال "الله لم يره أحد قط"، واليوم نريد أن نعرف أين أعلن ابن الله هذا، ويوحنا نفسه هو الذي سيخبرنا بهذا: "فأجاب يسوع اليهود وقال لهم: ليس أن أحدًا رأى الآب إلا الذي من الله، هذا قد رأى الآب" (يو 6: 46)، وهو هنا يعني أيضًا بكلمة "رأى" أنه "يعرف".

![]() |
5- مع ذلك فإن يوحنا لم يقل فقط "لا أحد يعرف الآب"، وبعد ذلك توقف. لماذا؟ لأنه لا يريد لأي شخص أن يظن أن هذه المقولة تسري فقط على البشر. بل هو يريد أيضًا أن يُظهر أن لا ملائكة أو رؤساء الملائكة أو القوات العلوية يعرفون الآب، كما أوضح هذا بما تلاه. فبعد أن قال "ليس أن أحدًا رأى الآب"، أضاف قوله "إلا الذي من الله" (يو 6: 46). لو كان قال فقط "ليس أن أحدًا رأى الآب" لكان كثيرون من الذين سمعوه ظنوا أنه يعتبر أن هذا قيل فقط عن طبيعتنا البشرية. لكن حيث أنه بعد أن قال: "ليس أن أحدًا رأى الآب" ثم أضاف بعد ذلك قوله "إلا الابن" فبذكره أيضًا للابن الوحيد الجنس يستبعد كل الكائنات المخلوقة (من معرفة الآب).
6- لماذا يعترض شخص ما متسائلًا هل هو يستبعد أيضًا الروح القدس؟ إنه لا يستبعد الروح القدس على الإطلاق، لأن الروح القدس ليس جزءًا من الخليقة. إن تعبير "ليس أحد" دائمًا يُستخدم للتعبير عن استبعاد المخلوقات فقط. إن كان السؤال هو الآب فهذا لا يستبعد الابن، وإن كان عن الابن فهذا لا يلفظ الروح القدس. ولكي نجعل هذه النقطة واضحة والتي هي بالتحديد أن تعبير "ليس أحد" لم يُستخدم ليستبعد الروح القدس، بل لكي يعبّر عن استبعاد كل المخلوقات في موضوع معرفة الآب بالذات، والتي عنها يقول يوحنا أنها تخص الابن فقط، فلننصت لما يقوله بولس عندما يتحدث إلى أهل كورنثوس.
7- فماذا إذًا يقول بولس؟ "لأن من، من الناس يعرف أمور الإنسان إلا روح الإنسان الذي فيه. هكذا أيضًا أمور الله لا يعرفها أحد إلا روح الله". إن تعبير "لا يعرفها أحد إلا روح الله" لا يستبعد الابن، وعندما تُطبق على المسيح لا تستبعد الروح القدس. وهذا يوضح أن ما قلته هو حق. لو كان يوحنا عزم على أن يستبعد الروح القدس عندما قال "لا احد رأى الآب إلا الذي من الله" (يو 6: 46) فيكون شيئًا غريبًا على بولس القول: "كما أن الإنسان يعرف الأمور التي له، هكذا الروح القدس يعرف بالتمام أمور الله".
8- إن كلمة "واحد" تُستخدم بنفس الطريقة مثل كلمة "لا أحد" ولها نفس القوة والتأثير. وانظر هوذا بولس يقول: "إله واحد الآب الذي منه جميع الأشياء، ورب واحد يسوع المسيح الذي به جميع الأشياء" (1كو 8: 6). إن قيل عن الآب إله واحد، فهل يستبعد الابن من أن يكون إلهًا، وإن قيل عن الابن أنه رب واحد، فهل يستبعد الآب عن كونه ربًا، لكن بالتأكيد الآب لم يُستبعد عن كونه ربًا بسبب كلمات بولس "رب واحد يسوع المسيح"، وكذلك الابن لا يُستبعد من كونه إلهًا بسبب كلمة "إله واحد الآب".

9- إن كان على الأنوميين أن يرددوا أن الآب دُعي إله واحد، لأن الابن هو إله لكن ليس على نفس المستوى مثل الآب، فماذا يترتب على هذا الافتراض الذي فرضوه؟ ينبغي عليهم إذًا القول -مع العلم بأننا لا نقر بهذا- أن الابن دُعي رب واحد لأن الآب رب لكن ليس على نفس المستوى مثل الابن. لكن إن قلنا أن هذا كفر، فلن يكون للمقولة الأولى أي أساس من الصحة. فكما أن تعبير "رب واحد" لا يستبعد الآب من كونه كامل الربوبية، ولا هذه التسمية تضفي ربوبية على الابن فقط، كذلك فإن التعبير "رب واحد" لا يستبعد الابن من أن يكون إلهًا حقيقيًا وأصلي، ولا هذه التسمية تظهر أن الألوهية تخص الآب فقط.
10- كون الابن هو إله، وبينما لا يزال هو الابن فهو إله على نفس مستوى الآب. فهذا يتضح من نفس إضافة كلمة "الآب". إن كان اسم الله ينتمي فقط للآب، وإن كان اسم الله ينتمي فقط للآب، وإن لم يمكنه أن يحدد لنا أقنوم آخر بل فقط الأقنوم الأول غير المولود بقدر ما لقب "الله" يمكن أن ينتمي ويشير فقط لذلك الأقنوم، فإن إضافة لقب "الآب" لن تفيد شيئًا.
11- إن كان التحديد الإضافي لكلمة "الآب" غير ذات معنى لكان يكفي الحديث عن "إله واحد" ونحن حتمًا سنعرف من يقصد. لكن حيث أن لقب "إله" هو مشترك بين الآب والابن، فما كان لبولس ليوضح عمن هو يتكلم إن كان فقط يريد أن يقول "إله واحد" لذلك فإن إضافة كلمة "الآب" كانت ضرورية لتبين أنه كان يتحدث عن الأقنوم الأول غير المولود. إن لقب "إله" لم يكن يكفي ليُظهر هذا حيث أن هذا اللقب مشترك بينه وبين الابن.
12- هناك بعض الألقاب شائعة لكثيرين وبعضها الآخر خاص بشخص معين. توجد بعض الألفاظ تبين أن لهما نفس الجوهر الواحد، بينما توجد ألقاب خاصة لتميز ما هو خاص لكل أقنوم. إن لقب "الآب" و "الابن" يميزان ما هو خاص بكل أقنوم، ولقب "إله" و "رب" يظهران ما هو مشترك بينهما. لذلك فإن بولس إذ أرسى اللقب المشترك "إله واحد" فكان عليه أن يستخدم اللقب الخاص لكي تعلم عن أيهما هو يتحدث. وقد سلك هكذا لكي يمنعنا من السقوط في بدعة سابيليوس.
13- إنه واضح من نص بولس أن لقب "إله" ليس أعظم من لقب "رب"، ولا لقب "رب" أدنى من لقب "إله"، وعلى مدى العهد القديم كله فإن الآب دائمًا يُدعى "رب" ونحن نقرأ: "أنا الرب إلهك" (خر 20: 2)، "الرب إلهنا رب واحد" (تث 6: 4)، وأيضًا "الرب إلهك تتقي وإياه وحده تعبد" (تث 6: 13)، ونقرأ أيضًا "عظيم هو ربنا وعظيم القوة لفهمه لا إحصاء" (مز 147: 5)، وأيضًا قوله: "ويعلموا أن أسمك الرب وحدك العلي على كل الأرض" [(مز 83: 18) بحسب النص].
14- لذلك لو كان لقب "الرب" أدنى من لقب "إله" وغير جدير بهذا الجوهر الإلهي فما كان هناك حاجة لقوله: "ليعلموا أن اسمك الرب". وأيضًا لو كان لقب "إله" أعظم وأقدس من لقب "رب" لما كان هناك حاجة للابن -وهو بحسب الأنوميين أقل من الآب- أن يُعطى لقب يختص بالآب ويتفرد به الآب وحده.
لكن هذا ليس صحيحًا على الإطلاق، فلا الابن أقل من الآب ولا لقب "الرب" أقل قدرًا من لقب "إله". ولذلك فإن الكتاب المقدس استخدم هذين اللقبين بدون تفريق في المعنى للآب والابن على السواء.
15- لقد سمعتم أن الآب دُعي "رب" فتعالوا الآن ودعوني أبين أن الابن دُعي الله: "هوذا العذراء تحبل وتلد أبنًا ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا" (إش 7: 14؛ مت 1: 23). هل ترون كيف أن لقب "الرب" أُعطي للآب ولقب الله أعطي للابن؟ إن كاتب المزمور قال: "ليعلموا أن أسمك الرب". وهنا إشعياء يقول: "يدعون اسمه عمانوئيل"، وأيضًا يقول: "يولد لنا ولد ونُعطى ابنًا وتكون الرياسة على كتفه ويُدعى اسمه عجيبًا مشيرًا إلهًا قديرًا" (إش 9: 6). انظروا من فضلكم إلى الفهم والحكمة الروحية التي للأنبياء. فلكي يمنعوا أي شخص من الاعتقاد أنهم كانوا يشيرون إلى الآب عندما كانوا يتحدثون ببساطة عن الله، فقد ذكروا أولًا التدبير الإلهي للخلاص (أي التجسد). لأنه بالتأكيد الآب لم يولد من عذراء ولا صار طفلًا صغيرًا.
16- إن نبيًا آخر تحدث عن الابن بنفس الطريقة إلى حد ما فقال: "هذا هو إلهنا ولا يحُسب آخر تجاهه (أي يشابهه)" (با 3: 36). عمن يقول النبي هذا؟ إنه لا يقول هذا عن الآب. تُرى هل يقول هذا عن الآب؟ بالطبع لا. اسمع كيف ذكر التدبير الإلهي للخلاص أيضًا. فبعد أن قال هذا أضاف قوله: "إنه كشف كل طريق المعرفة وأعطاها ليعقوب عبده وإسرائيل محبوبه. بعد هذا على الأرض ظهر وتحادث مع بشر" (با 3: 37-38).
17- وبولس يقول "ومنهم المسيح حسب الجسد الكائن على الكل إلهًا مباركًا إلى الأبد آمين" (رو 9: 5). "إن كان زان أو نجس أو طماع الذي هو عابد للأوثان ليس له ميراث في ملكوت المسيح والله" (أف 5: 5). "... بظهور إلهنا ومخلصنا العظيم يسوع المسيح" [(1تي 1: 10) بحسب النص]. ويوحنا يدعوه بنفس اللقب "إله" (الله) عندما يقول: "في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله" (يو 1: 1).
18- إن الأنوميين يقولون نعم، لكن أرنا هذا: أين وضع الكتاب الآب والابن سويًا ودعًا الآب "رب"؟ إنني ليس فقط سأريكم هذا، بل سأبرهن لكم أيضًا أن الكتاب دعا الآب "رب" والابن "رب"، ودعا الآب "إله" والابن "إله" وأعطى نفس الألقاب لكل واحد منهما في نفس النص. أين يمكن أن نجد هذا؟ عندما كلم المسيح اليهود قال: "ماذا تظنون في المسيح. ابن من هو. قالوا له ابن داود. قال لهم فكيف يدعوه داود بالروح ربًا قائلًا: قال الرب لربي أجلس عن يميني" (مت 22: 42-44). هل ترون كيف أن الآب والابن دُعيا كلاهما "رب"؟
19- هل ترغبون (أيضًا) في معرفة أين يضع الكتاب الآب والابن سويًا ويدعو الآب والابن كلاهما بلقب "إله"؟ اسمع للنبي داود ولبولس الرسول إذ يجعلان هذه النقطة بالذات واضحة لنا "كرسيك يا الله إلى دهر الدهور. قضيب استقامة قضيب ملكك. أحببت البر وأبغضت الإثم. من أجل ذلك مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك" (مز 45: 6-7). وبولس الرسول أيضًا أضاف شهادته عن هذا الأمر عندما قال: "عن الملائكة يقول الصانع ملائكته رياحًا وخدامه لهيب نار. وأما عن الابن كرسيك يا الله إلى دهر الدهور. قضيب استقامة قضيب ملكك" (عب 1: 7-8).
20- إن الأنوميين سيقولون متسائلين أنه هنا في هذا النص الآخر الآب إلهًا والابن ربًا؟ (انظر 1كو 8: 46). إن بولس الرسول لم يتصرف هكذا اعتباطًا أو غير قصد في النص الذي يشيرون إليه، بل لكونه يكلم اليونانيين المصابين بتعدد الآلهة. لقد تصرف هكذا لكي لا يقولوا له: بينما أنت تتهمنا بتعدد بالتحدث عن آلهة كثيرة وأرباب عديدة، فأنت نفسك تقترف نفس هذه التهم لأنك تتحدث عن إلهين وليس عن إله واحد. لذلك فإن بولس كيّف نفسه ليوائم ضعفهم ودعا الابن بلقب آخر، لكنه لقب له نفس القوة والمعنى مثل لقب إله (أو الله).
21- ولنظهر أن هذا حقيقي فلنقرأ هذا النص الآخر الذي يشير إليه الأنوميين حينئذ ستفهم بوضوح أن ما قلته ليس عمل تخميني من جانبي: "وأما من جهة ما ذبح للأوثان فنعلم أن لجميعنا معرفة. المعرفة تنفخ ولكن المحبة تبني. فمن جهة أكل ما ذُبح للأوثان نعلم أن ليس وثن في العالم وأن ليس إله آخر إلا واحدًا" (1كو 8: 1، 4). ألا ترى (معي) أن بولس يوّجه هذه الكلمات لأُناس يعتقدون بوجود آلهة عديدة؟
22- "لأنه وإن وجد ما يُسمى آلهة سواء كان في السماء أو على الأرض كما يوجد آلهة وأرباب كثيرون" (1كو 8: 5). وأيضًا بولس يصارع مع أولئك المعتقدين بتعدد الآلهة قائلًا: "يوجد بالتأكيد ما يُسمى آلهة وأرباب"، "لكن لنا إله واحد الآب الذي منه جميع الأشياء، ورب واحد يسوع المسيح الذي به جميع الأشياء" (1كو 8: 6). لقد أضاف بولس كلمة "واحد" لكي لا يظن هؤلاء الناس أنه يعيد مبدأ تعدد الآلهة لهم. لقد دعا الآب "إله واحد" دون أن يستثني الابن من كونه إلهًا، كما دعا الابن "رب واحد" دون أن يستثني الابن من كونه إلهًا. لقد تصرف هكذا لأنه يريد أن يقوّم ضعفهم ولأنه لا يريد أن يعطيهم مبررًا للسقوط في الخطأ.
23- لهذا السبب فإن الأنبياء أظهروا ابن الله لليهود بطريقة ما غامضة وليس بطريقة واضحة ومقننة. إذ بعد أن تخلص اليهود من خطأ تعدد الآلهة كانوا سيسقطون في نفس الخطأ لو كانوا قد سمعوا مرة ثانية عن أقنوم واحد هو إله، وأقنوم آخر غيره هو أيضًا إله. لهذا السبب فإن الأنبياء وعلى مدى العهد القديم كله كانوا دائمًا يقولون: "إن الرب هو الإله ليس آخر سواه" (تث 4: 35؛ إش 45: 5، 21). إن الأنبياء بهذا لم يكونوا ينكرون الابن، حاشا لله! لكنهم كانوا يريدون أن يشفوا اليهود من ضعفهم وأثناء ذلك يقنعونهم بالتخلي عن الاعتقاد بآلهة كثيرة غير موجودة (إلا في أذهانهم).
24- لذلك عندما تسمع كلمة "واحد" وكلمة "لا أحد" وتعبيرات شبيهة لها فلا تقلل من مجد الثالوث، لكن بهذه التعبيرات اعرف عظم الهوة التي تفصل بين الثالوث والكائنات المخلوقة. كما أن الكتاب يقول أيضًا في موضع آخر "لأن من عرف فكر الرب؟" (رو 11: 34) هذا هو الحال هنا وكون الكتّاب الملهمين لم يستبعدوا الابن أو الروح من هذه المعرفة فهذا قد ثبت بما قلته من قبل. قلته متى؟ عندما قدّمت كشاهد لي النص الذي يقول: "لأن من، من الناس يعرف أمور الإنسان إلا روح الإنسان الذي فيه. هكذا أيضًا أمور الله لا يعرفها أحد إلا روح الله" (1كو 2: 11).
25- وأيضًا إنه الابن الذي يقول "ليس أحد يعرف من هو الابن إلا الآب ولا من هو الآب إلا الابن" (لو 10: 22)، وهو في نص آخر يقول نفس الشيء أيضًا: "ليس أن أحدًا رأى الآب إلا الذي من الله" (يو 6: 46). وفي نفس الوقت قرر حقيقة كونه يعرف الآب معرفة تامة وقد ذكر سبب هذه المعرفة. وما هو السبب؟ السبب هو أن الابن "هو الذي من الله". وأيضًا فإن برهان أن الابن يعرف الآب معرفة تامة قائم على حقيقة كونه "هو الذي من الله". لأن الابن -على هذا الأساس- له معرفة تامة بالآب أي "أنه من الله". وحقيقة كونه من الله علامة ودليل أنه يعرف الآب بوضوح. لأنه من له جوهر أدنى لا يمكنه أن يعرف بوضوح من له جوهر أسمى منه لو كان الفرق بين جوهرهما طفيفًا جدًا.
26- اسمع ما قاله النبي عن الملائكة وعن الطبيعة البشرية. فهذا سيبين لنا أن الفرق بينهما طفيف. فبعد أن قال النبي: "فمن هو الإنسان حتى تذكره وابن آدم حتى تفتقده" واصل كلامه قائلًا "تنقصه قليلًا عن الملائكة" (مز 8: 4-5). ومع ذلك حتى لو كان الفرق -الذي هو موجود فعلًا- طفيفًا، إلا أننا لا نعلم بالضبط ما هو جوهر الملائكة. وحتى لو سعينا عشرة آلاف مرة لأن نعرف جوهرهم فلن نستطيع أن نكتشفه.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

27- ولماذا أتحدث عن جوهر الملائكة بينما نحن لا نعرف حتى جوهر نفسنا ذاتها؟ بل نحن ليس لدينا أية معرفة على الإطلاق عن جوهر النفس التي لنا. إن ادّعى الأنوميون بوقاحة أنهم يعرفونها فأسألهم: ما يتكون جوهر النفس. هل هو عبارة عن هواء أو نَفَس أو ريح أم نار؟ هل سيقولون أنها ليست من أحد هؤلاء؟ لماذا؟ لأن كل هذه الأشياء مادية لكن جوهر النفس غير مادي. فمع أنهم لا يعرفون جوهر الملائكة أو حتى نفوسهم ذواتها، إلا أنهم بعناد يصّرون أن لهم معرفة أكيدة لرب وخالق كل الأشياء. أي جنون يمكن أن يكون أسوأ من هذا الجنون؟
28- ولماذا يجب أن أسأل عن أي جوهر هو ذاك الذي للنفس؟ إذ أنه غير ممكن القول كيف توجد النفس في جسدنا. أية إجابة لأي شخص يمكن أن يعطيها لهذا السؤال؟ هل الإجابة هي أنها موجودة (حرفيًا منتشرة) في كل الجسد؟ لكن هذه سخافة. فإن وجدت على هذا النحو فمعناه أن النفس على قدر الجسد (أي على حجمه أو مقاسه). لكن كون أن هذه الطريقة ليست هي الطريقة التي توجد بها النفس في الجسد فهذا واضح من المثال التالي: إن بُترت يد أو رجل إنسان، فإن النفس تظل كاملة وتامة ولن تتشوه إطلاقًا بتشوه الجسد.
29- إذًا فهل هي لا توجد في كل الجسد بل تركزت في جزء ما من الجسد؟ لو كان هذا حقًا لكان على بقية الجسد أن تموت لأن أي جزء تغيب عنه النفس مائت حتمًا. لكننا لا نستطيع أن نقول هذا. ما يجب أن نقوله هو أننا نعرف أن النفس موجودة في جسدنا لكننا لا نعرف كيف هي موجودة فيه. لقد أسكتنا الله عن معرفة كيفية وجود النفس في الجسد لسبب معين، وما هو هذا السبب؟ لكي بدافع من سموه العظيم يلجم ألسنتنا ويسكتنا ويقنعنا أن نقبع على الأرض ولا نتدخل بدافع من الفضول فيما يفوقنا من أمور.
30- ولكي لا نبني استنتاجاتنا على مثل هذه الأسئلة العقلانية فقط، لنعود ثانية بمناقشتنا إلى الكتاب، فيوحنا يقول: "ليس أن أحد رأى الآب إلا الذي من الله. هذا قد رأى الآب" (يو 6: 46). إن ما يعنيه هذا النص سيعارضه الأنوميون. هذا النص لا يقرر أن الابن له معرفة تامة. إن ما وضحه يوحنا هو أن لا أحد من الخليقة يعرف الآب وذلك عندما قال: "ليس أن أحد رأى الآب" (يو 6: 46)، وأيضًا يوحنا أوضح أن الابن يعرف الآب عندما أضاف قوله "إلا الذي من الله. هذا قد رأى الآب"، ومع ذلك فهو إلى الآن لم يعلن أن الابن يعرف الآب معرفة تامة وبنفس الطريقة التي بها يعرف الآب نفسه.
31- إن الأنوميين سيقولون أن هناك احتمالًا أن لا المخلوقات أو الابن يعرفون الآب بوضوح، لكن الابن يعرفه بوضوح أكثر من المخلوقات، وهم مع ذلك سيقولون أن هناك احتمال أن الابن ليس له إدراك (معرفة) تامة بالآب. لأن يوحنا يقول أن الابن يرى ويعرف ما هو الآب، لكنه لم يبرهن بعد أن الابن يعرفه تمامًا وبنفس الطريقة التي بها يعرف الآب ذاته. هل تريدونني أن أدحض هذا من الكتاب ومن نفس كلمات المسيح؟ إذًا فاسمعوا ما قاله المسيح لليهود: "كما أن الآب يعرفني وأنا أعرف الآب" (يو 10: 15)، أية معرفة تامة أكثر من هذه تريدونها؟
32- ضع هذا السؤال لمن يناقضك: هل الآب يعرف الابن تمامًا، هل هو لديه معرفة تامة وكاملة عنه؟ هل يخفى عليه شيء مما يختص بالابن وهل معرفته كاملة؟ سيجيبك نعم. إذًا عندما تسمع أن الابن يعرف الآب والآب يعرف الابن (يو 10: 15)، فلا تعود تتساءل لأن معرفتهما لبعضهما البعض متساوية تمامًا. والابن بالتأكيد قد جعل هذه النقطة واضحة عندما قال: "ليس أحد يعرف الابن إلا الآب، ولا أحد يعرف الآب إلا الابن ومن أراد الابن أن يعلن له" (مت 11: 27).
33- ومع ذلك فإن الابن لا يعلن كل ما يعرفه إلا بقدر طاقتنا على استيعاب هذه المعرفة. إن كان بولس فعل نفس هذا الأمر، فكم بالأولى جدًا يحق للمسيح أن يفعله. فبولس قال لتلاميذه: "أنا لم أستطع أن أكلمكم كروحيين بل كجسديين كأطفال في المسيح. سقيتكم لبنًا لا طعامًا لأنكم لم تكونوا بعد تستطيعون" (1كو 3: 1-2). إن الأنوميين سيقولون أن بولس قال هذه الكلمات لأهل كورنثوس فقط.
لنفترض أنني بيّنت أنه كانت توجد أشياء أخرى يعرفها بولس، أشياء لم يعلمها إنسان قبله، ولنفترض أنني بيّنت أن رغم أنه هو الوحيد الذي له معرفة بهذه الأشياء إلا أنه أخذها معه إلى القبر عند رقاده. أين يمكننا أن نكتشف هذا؟ في رسالته إلى أهل كورنثوس إذ يقول فيها: "سمعت كلمات لا يُنطق بها ولا يسوغ لإنسان أن يتكلم بها" (2كو 12: 4).
34- بالرغم من ذلك فحتى هذا الإنسان نفسه، والذي في ذلك الوقت سمع كلمات لا يُنطق بها ولا يسوغ لإنسان أن يتكلم بها، فهو له معرفة جزئية، أقل جدًا من المعرفة القادمة (الكاملة). لأن هذا الإنسان الذي قال هذا الكلام، قال أيضًا الكلمات الأخرى وهي "لأننا نعلم بعض العلم ونتنبأ بعض التنبؤ" (1كو 13: 9). "لما كنت طفلًا كطفل كنت أتكلم وكطفل كنت أفطن وكطفل كنت افتكر" (1كو 13: 11)، "إننا الآن ننظر في مرآة في لغز لكن حينئذ وجهًا لوجه" (1كو 13: 12).
35- لذلك فإن هذه النصوص تدحض كل خداع الأنوميين. إن كنا لا نعرف الجوهر ذاته أو مما يتكون فإعطاء اسم له سيكون شيء في منتهى الجهالة. أيضًا حتى لو كان هذا الجوهر واضحًا أو معروفًا له فليس من الأمان أن نعطي من نفسنا وبنفسنا أسمًا أو لقبًا له. إن بولس الرسول لم يجرؤ أن يعطي أسماء للقوات السماوية، وقد قال: "أجلس المسيح فوق كل رياسة وسلطان وقوة وسيادة وكل اسم يُسمى ليس في هذا الدهر فقط بل في المستقبل أيضًا" (أف 1: 20-21). إن بولس الرسول علّمنا أنه توجد أسماء للقوات العلوية (السماوية) وأننا سنعرفها في الدهر الآتي، ولكن هو نفسه لم تكن لديه الجسارة أن يعطيها غير لقب القوات العلوية، كما أنه لم يجرؤ من باب الفضول أن يشغل نفسه بأية أسماء أخرى.
36- لذلك أي عذر أو دفاع يمكن أن يستحقه أولئك الذين تجاسروا بأن يكون لهم مثل هذا الاهتمام الفضولي عن جوهر الرب؟ فحيث أن هذا الجوهر ذاته فائق على قوى إدراكنا، فيلزم أن نهرب من هؤلاء الأنوميين كهروبنا من أُناس فقدوا عقولهم.
من الواضح أن الله (الآب) غير مولود، لكن لم يقل نبي أو يشير رسول أو يقترح أي إنجيلي أن هذا هو اسم جوهره. وهذا شيء معقول جدًا، لأنه إن كان البشر يجهلون كنه الجوهر نفسه، فكيف يباشرون فكرة إعطائه اسمًا؟

37- ولكن لماذا أتحدث عن الكتب الإلهية بينما حمق الأنوميين واضح جدًا وإثمهم زائد عن الحد، لأنه ولا حتى الوثنيون الذين قد ضلوا بعيدًا عن الحق حاولوا أن يقولوا شيئًا مثل هذا؟ لأنه لم يجرؤ أحد من الوثنيين أن يضع تعريفًا للجوهر الإلهي أو يحتويه في اسم (محدد). ولماذا أتحدث عن الجوهر الإلهي؟ ففي مناظراتهم على طبيعة الكائنات غير المتجسدة لم يضع اليونانيون تعريفًا كاملًا، بل أعطوا عنها تقريرًا غامضًا ووصفًا أكثر منه تعريفًا.

38- ما هو الاعتراض العقلاني والحجة لهؤلاء الأنوميين؟ إنهم يقولون: هل تعلم ما تعبده؟ أولًا وقبل كل شيء ليس علينا أن نجيب على هذا الاعتراض لأن الكتاب قدم الدليل القاطع أنه من المستحيل أن نعرف مما يتكون جوهر الله. لكن حيث أن هدفنا للكلام ليس هو أن نثير عداوتهم بل أن نصحح مفاهيمهم، فتعالوا لنبين أن كون الإنسان يجهل جوهر الله لكنه يدّعي بتصميم أنه يعرفه، فهذا بالحق هو عدم معرفته.
39- ليتنا نفترض أن رجلين تجادلا بعناد مع بعضهما البعض ما إذا كانا يعلمان اتساع السماء. ولنفترض أن واحدًا منهما قال أنه من المستحيل للعين البشرية أن تنظر آخرها، والآخر ادعى أنه من الممكن لإنسان أن يقيسها كلها بالشبر. أي الاثنين ستقول عنه أنه يعرف مدى اتساع السماء؟ هل هو الشخص الذي لاجج بإمكانية قياسها؟ أم هو الشخص الذي أقرّ أنه لا يعرف آخرها؟ بالطبع الشخص الذي أقّر أنه لا يعرف (نهاية) اتساع السماء إذ يرى ضخامتها، له فهم أفضل عن عظمة اتساع السماء. إن كان الأمر يختص بالله، أفلا نستخدم نفس الفطنة؟ ألن يكون هذا منتهى الجنون إن فشلنا في التصرف هكذا؟
40- إن كل ما نحتاج أن نعرفه هو أن الله موجود. ونحن لسنا مطالبين بأن نكون فضوليين ونتساءل عن جوهره. وبولس يُظهر لنا هذا، لذلك اسمع لما يقوله: "يجب أن الذي يأتي إلى الله يؤمن بأنه موجود" (عب 11: 6). وأيضًا عندما كان يوبخ النبي إنسانًا أثيمًا، فتوبيخه له ليس لأنه لا يعرف ما هو جوهر الله، بل لأنه لا يعرف أن الله موجود، فقال: "قال الجاهل في قلبه ليس إله" (مز 14: 1). لذلك فإن فشل الإنسان في معرفة جوهر الله لا يجعله أثيمًا، بل فشله في إدراك وجود الله هو الذي يجعله أثيمًا. إن كل التقوى المطلوبة للتدين تتلخص في معرفتنا أن الله موجود.
41- لا يزال للأنوميين حجة أعدّوها بعناية شديدة. فما هي؟ إن الكتاب يقول: "إن الله روح" (يو 4: 24). أخبرني إذًا هل هذا الأمر يُظهر جوهره؟ هل يمكن لأي شخص أن يقبل هذه المناقشة (حرفيا الملاججة) حتى لو اقترب قليلًا من أعتاب الكتب الإلهية.
بحسب هذه المناقشة، فالله سيكون أيضًا نارًا مثلما مكتوب عنه أنه روح، إذ كُتب "إلهنا نار آكله" (تث 4: 24)، وأيضًا كتُب عن إلهنا أنه "ينبوع المياه الحية" (إر 2: 13). والله سيكون ليس فقط روح ونبع ونار بل سيكون أيضًا روح وريح وذهن بشري وأشياء أخرى أكثر سخافة من هذه.
بالتأكيد لا يوجد هناك داعٍ لتفصيل كل هذه الأشياء في حديثي ولا توجد هناك ضرورة للإقتداء بالأنوميين في جنونهم.
42- بالتأكيد أن هذه الكلمة "روح" لها معاني مختلفة. فعلى سبيل المثال يمكنها أن تشير إلى أرواحنا ذاتها، وبولس الرسول يخبرنا بهذا عندما يقول: "يُسلّم مثل هذا الإنسان للشيطان لهلاك الجسد لكي تخلص الروح" (1كو 5: 5). والروح أيضًا يمكن أن تعني ريحًا بمثلما يقول النبي: "بريح شرقية (قوية) تكسرهم" [(مز 48: 7) بحسب النص]. والروح أيضًا يُطلق عليه عطية الروح في هذا النص: "الروح نفسه يشهد لأرواحنا" (رو 8: 16)، وبولس أيضًا يقول: أصلي بالروح وأصلي بالذهن أيضًا" (1كو 14: 15). والروح يُدعى غضب في النص الذي يقول فيه إشعياء: "ألا تتأمل برجزك (حرفيًا بروح فظ) لتذبحهم؟" [(إش 27: 8) بحسب النص السبعيني]. إن المعونة التي يرسلها الرب تُدعى أيضًا روح: "الروح الذي أمام وجهنا، ربنا الممسوح" [(مرا 4: 20) بحسب النص السبعيني]. إذًا بحسب الأنوميين فإن الله سيكون كل هذه الأشياء بالنسبة لنا وسيتكون من عدة عناصر مثل هذه الأشياء الكثيرة.
43- لكن دعونا لا نتصرف بحماقة بتقديم أمور لا تحتاج إلى دحض. وتعالوا الآن لنضع نهاية لمناقشتنا مع الأنوميين ولنوجه كل اهتمامنا لمسألة الصلاة. فكلما كانوا أكثر إثمًا كلما تضرعنا أكثر وطلبنا بإلحاح إلى الله ليتخلوا يومًا ما عن جنونهم "لأن هذا حسن ومقبول لدى مخلصنا الله الذي يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون" (1تي 2: 3-4).
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

44- لذلك ليتنا لا نتوقف عن التضرع لأجلهم، لأن الصلاة سلاح عظيم، كنز لا يفنى، ثروة لا تتبدد، ميناء هادئ دائمًا، أساس للسكينة (وسلام القلب). إن الصلاة هي أصل ومنبع لآلاف البركات. إنها أقوى من الإمبراطورية ذاتها.
45- كثيرًا ما يحدث للإمبراطور لابس التاج أن يمرض ويرقد في سريره محمومًا بالحمى، ويقف حوله الأطباء وحرسه الخاص وخدمه وقواد جيشه، لكن لا مهارة الأطباء ولا وجود أصدقائه أو ملازمة خدامه ولا مختلف العقاقير يمكن أن تريحه من المرض. فلا عظمة حاشيته ولا وفرة الغنى أو أي مصادر بشرية أخرى بإمكانها أن تلطف المرض. لكن لو دخل حجرته إنسان له دالة عند الله ولمس جسد الإمبراطور وقدم لأجله صلاة قوية لله، فإن المرض سيزول. فما لم تفلح فيه الثروة وزمرة الخدم والمهارة الطبية بل ولا جاه الإمبراطور نفسه، فإن صلاة إنسان فقير كفيلة بأن تتمه.
46- لست أتكلم عن الصلاة المقدمة بخفة وتراخي، بل المقدمة بغيرة من نفس متضايقة وقلب تائب. هذه هي الصلاة التي تصعد إلى السماء. هذا النوع من الصلاة هو مثل الماء (في جريانه). فطالما الماء يجري على أرض مسطحة ويجد أمامه أرض متسعة فهو لا يتجه إلى أعلى، لكن لو وضع له المسئولون عن الري حواجز على الأرض ومواسير بحيث يضطر نتيجة الضغط الواقع عليه أن يتجه لأعلى، فهو سيخرج مندفعًا لأعلى مثل السهم. نفس هذا الأمر ينطبق تمامًا على الذهن البشري. فطالما هو يستمتع بحرية تامة (أي بحبوحة الحياة) بمعزل عن الخوف فهو في حالة استرخاء ويجول كيفما شاء له. عندما يزحف نحوه ضغط الضيقات الأرضية فيضغطه ويعصره فإنه يُصعد للسموات صلوات نقية وقوية.
47- ولكي تعلم أن الصلوات التي تُقال في وقت الضيق لها فرصة أفضل في الاستجابة فاسمع ما يقوله النبي: "إلى الرب في ضيقتي صرخت فاستجاب لي" (مز 120: 1). لذلك ليتنا نثير غيرة ضميرنا ونذل نفوسنا بتذكر خطايانا ليس لكي نسحقها من القلق، بل لكي نجعلها مؤهلة لأن تُسمع صلواتها وتُستجاب، ولكي نجعلها تحيا في يقظة وانتباه ومؤهلة لإدراك السماء ذاتها. لا شيء آخر سوى الضيق والحزن يجعل الإهمال والتراخي يهربان. فهما يجمعان ذهننا من الجولان في كل اتجاه ويجعلانه يتأمل ذاته، والإنسان الذي يصلي بهذه الطريقة -في ضيقه- فبعد صلاة كهذه سيجلب الفرح إلى نفسه ذاتها.
48- إن تجمع عظيم من السحب يجعل الجو (السماء) في الأول ملبدًا ومعتمًا، لكن بعد أن ترسل السحب زخّات متوالية من المطر وتفرغ ذاتها من الماء المحمّلة به يصبح الجو صحوًا هادئًا. بنفس الطريقة فطالما الحزن والضيق يظلان مقيدان ومضغوطان في قلوبنا، فهما يشّلان تفكيرنا. لكن عندما يتم تفريغهما وملاشاتهما بكلمات تضرعنا والدموع التي تتساقط من أعيننا ونحن نصلي فهما يجلبان إشراقة عظيمة للنفس. لماذا؟ لأن معونة الله تدخل إلى نفس الإنسان الذي يصلي مثل أشعة الشمس.
49- لكن ما هذه الكلمات الباردة التي يقدمها عديد من الناس كعذر لعدم الصلاة؟ إذ يقولون: "إنني افتقد الدالة للحديث بطلاقة مع الله"، "إنني ممتلئ خزي ولا أستطيع أن أفتح فمي". إن حذركم التقوي هو من إيحاء الشيطان وكلماتكم هذه هي ستار لإهمالكم وعدم اكتراثكم. إن الذي يرغب في إغلاق الأبواب التي تعطيكم مدخلًا إلى الله هو الشيطان. هل تفتقد الدالة للاقتراب والتحدث بحرية إلى الله؟ إن كنت حقًا تعتقد أنك تفتقد إلى الدالة، إذًا فإن دالتك عظيمة جدًا وهذا في حد ذاته معونة عظيمة. لكن إن كنت تعتقد أن لك حرية في الحديث إلى الله عن استحقاق، فهذا من ناحية أخرى سبب للخزي ويستحق بذلك دينونة عظيمة.
50- لنفترض أنك أديت أعمالًا بارة كثيرة ولنفترض أنك لست ترى في نفسك شرًا، ولنفترض إذًا أنك تعتقد -عن استحقاق- أن لك دالة للتقدم إلى التحدث لله. إذًا فأنت تحرم نفسك من كل منافع صلاتك ولكن حتى لو كان ضميرك مثقل بحمل عشرة آلاف خطية، فأنت لا تزال تمتلك دالة عظيمة للتقدم والتحدث إلى الله طالما أنك مقتنع أنك أقل الناس جميعًا.

51- مع ذلك فإنه ليس من التواضع أن تعتقد أنك خاطئ، بينما أنت فعلًا خاطئ، لكن عندما يكون الإنسان مدركًا أنه أتم فعل أعمال بارة عظيمة، ولكنه لا يظن أنه شيء عظيم في ذاته، فهذا هو التواضع الحقيقي. عندما يكون إنسان مثل بولس ويمكنه القول "إنني لست أشعر بشيء في ذاتي -ويمكنه أن يضيف بعد ذلك قوله- لكنني لست بذلك مبررًا" (1كو 4: 4)، ويمكنه أن يقول أيضًا: "المسيح يسوع جاء إلى العالم ليخلص الخطاة الذين أولهم أنا" (1تي 1: 15) فهذا هو التواضع الحقيقي. إنه متضع حقيقي ذاك الذي بينما هو عظيم في أعماله، لكنه يرى نفسه -في داخله- أنه وضيع. إلا أن الله في صلاحه غير المنطوق به يرحب ويقبل ليس فقط المتواضعين بعقولهم، بل أيضًا أولئك الذين لديهم الشجاعة لأن يعترفوا بخطاياهم، فلأنهم هكذا هيأوا نفوسهم له، فهو بدوره يُبدي عطف وشفقة تجاههم.
52- ولكي تعرف كم أنه حسن أن لا تظن أنك شيء عظيم، ارسم لنفسك مركبتين، ولواحدة منهما شد إليها فريقًا مكونًا من البر والكبرياء وللأخرى فريقًا مكونًا من الخطية والاتضاع، فسترى أن المركبة التي يجرها الفريق الذي فيه الخطية تفوقت على تلك التي فيها البر. إن الخطية لم تفز في السباق بسبب قوتها، لكن لأجل رفيقها في النير الذي هو الاتضاع. كما أن الفريق الخاسر لم ينهزم لأن البر ضعيف، بل لثقل وضخامة الكبرياء. لذلك فإن التواضع بسموه الفائق يتغلب على ثقل الخطية وهو السبّاق في النهوض إلى الله. وبنفس الطريقة لثقلها العظيم وضخامتها تتغلب على خفة البر وتجره بسهولة إلى الأرض.
53- ولكي أُسهّل عليك رؤية أن فريقًا أسرع من الآخر، فلنستعيد تذكر مثل الفريسي والعشار. كان فريق الفريسي يتكون من البر والكبرياء وهذا واضح في قوله: "اللهم أشكرك أني لست مثل باقي الناس الخاطفين الظالمين الزناة ولا مثل هذا العشار" (لو 18: 11).
يا لهذا الجنون! فإن ادّعاءه بتفوقه على كل الناس لم يكف كبرياءه، بل أنه داس العشار الواقف بجانبه تحت أقدام غطرسته الشديدة. وماذا فعل العشار؟ إنه لم يحاول أن يتفادى الإهانات ولا اضطرب من الاتهام بل بصبر قبل ما قيل. لكن السهم الموجه إليه من عدوه صار له بمثابة دواءٍ شافٍ، والإهانة صارت له سبب مديح، والاتهام صار له إكليل انتصار.
54- إن التواضع له من البركة والمنفعة ما يجعلنا لا نشعر بإساءة من يسيئون إلينا أو نتصرف مثل حيوانات مفترسة عندما يهيننا جارنا. مثل هذه الأشياء يمكنها أن تجلب لنا خيرًا عظيمًا وخالصًا كما حدث في حالة العشار. فقد قبل الإهانات وأزاح عن كاهله حمل خطاياه. إذ قال: "اللهم ارحمني أنا الخاطئ" (لو 18: 13) فذهب إلى بيته مبررًا دون ذاك الفريسي. إن الكلمات كانت أفضل من الأعمال وما قيل فاق ما عُمل. إن الفريسي قدم بره وصومه وإعطاءه العشور، والعشار قال مجرد كلمات، لكنه تخلص من حمل خطاياه. إن الله لم يسمع مجرد كلماته بل نظر النية التي بها نطق هذه الكلمات، ورأى أيضًا روح العشار المتضعة والمنسحقة فرحمه وعامله بعطف وحب.
55- لست أقول هذا لكي نسقط في الخطية، بل لكي نكون متواضعين. إن كان العشار -وإثمه أحط أشكال الإثم- ليس يتصاغر متضع، بل بمجرد اعتراف بما هو عليه، نال لنفسه مثل هذه النعمة العظيمة من الله، فكم بالأولى جدًا تكون المعونة الإلهية التي ستأتي على من صنعوا أعمالًا عظيمة لكنهم لا يعتقدون في قرارة أنفسهم أنهم شيء عظيم؟
56- لذلك أنصحكم وأتوسل إليكم ألا تكفوا عن الاعتراف بخطاياكم لله. افتحوا ضمائركم أمام الله وأروه جروحكم واطلبوا منه دواء لشفائها. لا تكشفها لمن سيوبخك، بل لمن سيشفيك. حتى لو بقيت صامتًا فالله يعرف كل شيء. اعترف بخطاياك حتى تكون أنت الشخص المستفيد. أخبره بها، حتى تزيح عن كاهلك في الحال حمل خطاياك عنك وتذهب مبررًا من خطاياك.
57- إن الثلاثة فتية احتملوا أتون النار ودفعوا حياتهم (بالاستعداد والنية) ثمنًا لاعترافهم بإيمانهم بالرب. وبالرغم من ذلك وبعد أعمال كثيرة عظيمة مثل هذه قالوا: "الآن ليس لنا أن نفتح أفواهنا لأن الخزي والعار قد صار لعبيدك والذين يخافونك" (دا 3: 33 السبعينية) لكن لماذا إذًا تفتحون أفواهكم؟ فيجيبون: لكي نقول نفس الشيء عينه وهو أننا لا نستطيع أن نفتح أفواهنا، ولكي بهذه الطريقة ننال رضى الرب.
إن قوة الصلاة أطفأت قوة النار وألجمت وحشية الأسود، وأنهت الحروب وأوقفت المعارك وسكّنت العواصف وطردت الشياطين وفتحت أبواب السماء وشطرت سلاسل الموت وجعلت المرض يهرب وهزمت الإهانات والإساءات وثبتت المدن المهتزة، وهي تبعد الضربات المرسلة من فوق وتلغي مؤامرات وخيانات الناس وبالاختصار تلاشي كل أمر مهلك.
58- وأيضًا فأنا لا أتكلم عن الصلاة التي تأتي فقط من الشفاه، بل أتكلم عن الصلاة التي تصعد من عمق القلب. عندما ترسل الأشجار جذورها عميقًا في الأرض، فهي لا تنكسر أو تقتلع مهما هاجمتها آلاف العواصف. لماذا؟ لأن جذورها تعمقت بقوة وشدة في باطن الأرض. هكذا هو الأمر مع الصلاة. فتلك الصلوات التي تُرسل من عمق القلب، فلأنها تأمنت بجذورها، فهي ترتفع إلى السماء ولا يمكن لتفاهات العقل أن تعوقها بهجماتها. لهذا السبب قال النبي: "من الأعماق صرخت إليك يا رب" (مز 130: 1).
59- إنني أقول هذا ليس فقط لكي تظهروا استحسانكم عنها بأعمالكم(133). إن أخبرت الناس عن مصائبك الشخصية، وإن وصفت لهم بصوت حزين الشرور التي حاقت بك، ربما قد تجد بعض العزاء في ضيقتك، هذا إن كنت تعتقد أن حديثك عن متاعبك سيجعلها تتبخر. لكن إن أشركت ربك في الآلام التي تشعر بها داخلك فهناك ضمان أكيد أنك تنال راحة وتعزية فائضة. إن الناس كثيرًا ما يتضايقون من الشخص الذي يأتي إليهم بأحزانه وشكواه المرّة. بل أنهم أحيانًا يدفعونه عن طريقهم ليتخلصوا منه، لكن الله لا يتصرف بهذه الطريقة. إن الله يدع الشخص الحزين يأتي إليه، بل أنه يجتذبه إلى نفسه، بل إن بقيت اليوم كله تبثه شكواك فهو سيجيبك أكثر ويمنحك طلباتك.

60- بالتأكيد أن المسيح أكد نفس هذا الأمر عندما قال: "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم" (مت 11: 28). والآن هو يدعونا، فليتنا نتوجه إليه، وعندما يجتذبنا لنفسه ليتنا لا نهرب بعيدًا عنه. حتى لو كانت نفوسنا محمّلة بعشرة آلاف خطية، فلنسرع بالأولى جدًا إليه. إن البشر الذين قد تثقلوا بخطايا عديدة من قبل كانوا هم المعنيين الذين دعاهم للمجيء إليه عندما قال: "لم آت لأدعو أبرارًا بل خطاة إلى التوبة" (مت 9: 13)، وهو في هذا النص يعني أولئك المثقلين بالأحمال والذين في ضيقة، وأيضًا الواقعين تحت ثقل خطاياهم. إن الله قد دُعي إله التعزية وإله الرحمة (2كو 1: 3)، لأنه دائمًا يعمل على تشجيع وتعزية أولئك المتضايقين والمذلين حتى لو أخطأوا عشرة آلاف مرة.
61- والآن فلنستودع أنفسنا له ولنسرع إليه ولا نقف بعيدًا عنه. إذ باجتياز هذا الاختبار عمليًا سنتحقق من صدق كلماته. لن يوجد شيء يمكنه أن يسبب حزنًا أو ضيقًا لنا إن صلينا بعزيمة تامة لأنه مهما كان الشر الذي يأتي علينا فسوف ندفعه عنا بسهولة بالصلاة.
62- وما الغريب إن كانت قوة الصلاة تلاشي كل المصاعب التي تنبع من كياننا البشري؟ ألا تطفئ الصلاة بسهولة الطبيعة الشريرة لخطايانا وتجعلها تختفي؟ هل نرغب في إكمال مسيرة هذه الحياة بسهولة؟ هل نرغب في أن نتخلص من كل الخطايا التي جلبناها على أنفسنا؟ هل نرغب في أن نقف بدالة أمام منبر المسيح؟ إذًا ليتنا لا نتوقف عن أن نعد لأنفسنا دواءً ناجعًا لها، دواء ً يتكون من دموعنا وغيرتنا وتحفظنا المثابر وصبر احتمالنا.
63- بهذه الطريقة سنستمتع بصحة دائمة ونكتسب بركات للحياة القادمة. ليته يحدث أن نقتني كل هذا بنعمة وصلاح ربنا يسوع المسيح الذي له المجد مع الآب والروح القدس الآن وإلى الأبد ولى أبد الآبدين آمين.
_____
(133) انظر عظة 1 فقرة 47، وعظة 3 فقرة 43.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/7zv6r37