|
محتويات: (إظهار/إخفاء) |
|
تلخيص لما سبق القوات السماوية لا تعرف الله معرفة تامة الله لم يره أحد قط الابن الوحيد يعرف الآب |
1- من الممكن أن نكتفي بما قد بيّناه مؤخرًا أن الله غير مُدرك للبشر، بل غير مدرك حتى للشاروبيم والسيرافيم، وبهذا نعتقد أن مهمتنا قد انتهت وأنه لم يعد هناك شيء آخر نقدمه في هذا الموضوع، لكن الهدف الرئيسي لرغبتنا لا يتوقف فقط عند إفحام الأنوميين المعارضين بقدر ما هو بالأكثر توعية وإرشاد اجتماعكم العزيز، لذلك سأعود اليوم أيضًا لنفس الموضوع وسأتقدم مستطردًا في حديثي هذا.
2- إن الوقت الذي أمضيته في هذه المناقشات سيزيد من معرفتكم بالأنوميين وسيجعل مكافأة انتصاري على هؤلاء الهراطقة أكثر عظمة إن اكتسح شرحي أي بقايا لا تزال عالقة من خطئهم. إننا في المرعى مطلوب منا أكثر من مجرد قطع الحشائش الضارة عند مستوى الأرض، لأنها ستنمو حيث أن جذورها لا زالت موجودة تحت الأرض، فينبغي علينا أن ننزعها بجذورها من باطن الأرض ونعرّضها لحرارة الشمس حتى تذبل وتجف في الحال.
3- تعالوا إذًا ولنجعل حديثي يقتادكم مرة أخرى إلى السموات. لست أفعل هذا بدافع فضولي لعمل استقصاءات باطلة، بل أفعل هذا لأني مشتاق أن انتزع الروح الجدلية غير اللائقة لأولئك الذين لا يفهمون أنفسهم ويرفضون أن يعترفوا بمحدودية طبيعتهم البشرية. هذا هو السبب في برهاني المستفيض بأن ليس فقط ظهور الله بل حتى ظهور ملائكته كان صعبًا على الرجل البار دانيال أن يحتمله. وقد أوضحت هذا عندما رويت لكم كل حكايته وأظهرت لكم كيف أن دانيال قد شحب لونه وارتعد وكان في حالة ليست بأفضل من أُناس على فراش الموت. لماذا؟ لأن روحه كانت تسعى للإفلات من قيود جسده.
4- عندما تقضي حمامة عمرها وهي محبوسة في قفص، فهي تصير أليفة وسهلة القياد، وعندما تنظر شيئًا ما يخيفها تصير مرتعبة، وتطير لأعلى القفص وتبحث عن طريق خلال النوافذ لرغبتها للهروب من ضيقتها هذه. هكذا بنفس الطريقة كانت روح دانيال تسعى في تلك اللحظة للهروب من جسدها، فتندفع من موضع لآخر محاولة الهرب، ولو كانت نجحت لهجرت جسدها وطارت بعيدًا، لكن الملاك أمسكها بسرعة وخلّصها من ضيقها وهدأ مخاوفها وأعادها ثانية لمسكنها.
![]() |
5- لقد رويت -آنذاك- هذه القصة للأنوميين لعلهم يعرفون الفرق الشاسع بين (طبيعتي) الإنسان والملاك، وكنت آمل أنهم عندما يدركون كيف أنهم أقل (رتبة) من الملائكة يعودون إلى رشدهم وينتزعون من أنفسهم الفضول الوقح الذي أظهروه تجاه ربهم.
إن الرجل دانيال لم يحتمل أن ينظر إلى ملاك بالرغم من كل الدالة التي كانت له عند الله، لكن هؤلاء الأنوميين الذين هم أبعد ما يكون عن فضيلة دانيال، لهم من الفضول لاستقصاء ليس مجرد (طبيعة) ملاك بل رب الملائكة ذاته.
6- لقد تغلب دانيال على وحشية الأسود، ونحن لا نستطيع أن نسود على ثعالب. لقد شق التنين نصفين وهزم طبيعة هذا الوحش المفترس لاتكاله على الله، ونحن نخاف من مجرد حيوانات زاحفة، لكن دانيال هذا الذي أتمم كل هذه الأمور، عندما رأى ملاكًا آتيًا إليه لم تبق فيه قوة بعد. فأي دفاع لأولئك الأنوميين لمحاولتهم وضع جوهر الله تحت الفحص والاستقصاء عن قرب؟
7- وفي ذلك اليوم عندما تحدثت إليكم، لم يتوقف حديثي عند هذه النقطة، بل إنني صعّدت حديثنا للدرجة التي بها تضمن حديثنا الكلام عن تلك القوات العلوية الحكيمة وقد أظهرناهم يحيدون عيونهم ويغطون وجوههم بأجنحتهم ويقفون منتصبين على أرجلهم ويرفعون أصواتهم بتسبيح لا ينقطع. لقد فعلنا هذا لأن تلك القوات السماوية تعبّر لنا بكل وسيلة عن دهشتها ومخافتها المقدسة. ولأنهم حكماء وأكثر قربًا لذلك الجوهر المبارك وغير الموصوف، فإنهم يعرفون أفضل منا أنه غير مُدرك وحكمتهم الفائضة تزيد وقارهم وتقواهم.
8- لقد أخبرناكم أيضًا ما هو معنى "لا يُدنى منه" وكيف أنها أعظم تعبيرًا عن "غير المُدرك" وكتعليل لهذا أوضحنا أن الشيء غير المُدرك يُستنتج أنه غير مُدرك فقط بعد أن يسعى الناس ويحاولوا أن يدركوه، لكن الشيء الذي لا يُدنى منه، من البداية لا يُسمح لأحد أن يستقصيه أو حتى يقترب منه. ولكي نوضح هذا احتجنا لمثال واستخدمنا البحر لهذا الغرض. وقد أخبرناكم أيضًا أن بولس لم يقل "الذي هو نور لا يُدنى " بل قال "الساكن في نور لا يُدنى". فإن كان المسكن لا يُدنى منه، فكم بالأولى الله الساكن فيه. وبولس لم يقل هذا ليحد الله في موضع محدد، بل ليثبت بأكثر يقين أن الله لا يمكن أن يُدرك أو يُقترب منه.
9- علاوة على ذلك عقدنا مقارنة مع قوات سماوية أخرى مثل الشاروبيم وأظهرنا كم أن فوقهم مقبب وحجر بلوري وشبه العرش ومنظر نار لها لمعان وقوس قزح. وبعد كل هذه الأشياء قال النبي: "هذا منظر شبه مجد الرب" (حز 1: 28). وبكل هذه الوسائل أظهرنا تلطف الله وتكيفه وأظهرنا أن ذات جوهره أعظم من أن تحتمل القوات السماوية رؤيته.
10- إنني قد لخصت هذه الأمور ليس جزافًا، لكن حيث أني وعدت بدين عليَّ أن أوفيه، فإنني أود أن أعرف بالتحديد ما دفعته وبقية الرصيد الواجب عليّ، وهذا ما يفعله كل مدين، فإنهم يحضرون الصك المسجل عليه دينهم، وبعد أن يظهروه لدائنيهم يدفعون (بقية) ما يتوجب عليهم من قرض. وأنا أيضًا فتحت ذاكرة أذهانكم كما لو كنت أفرد الصك، وأشّرت كما لو بإصبعي لما دُفع من الدين والآن سأواصل دفع بقية الرصيد الواجب عليّ.

11- ماذا إذًا قد تُرك لي لإثباته؟ أنه لا يوجد سلاطين أو رئاسات أو قوات أو أي كائنات أخرى مخلوقة لها إدراك تام لله (في جوهره). إنني أقول كائنات أخرى لأن مثل هذه الكائنات موجودة، لكن نحن نجهل حتى أسماءها. فانظر كم يكون جنون وحمق الأنوميين الهراطقة. فنحن لا نعرف حتى أسماء خدام الرب، ولكنهم فضوليين يستقصون جوهر الرب ذاته. إنه يوجد ملائكة ورؤساء ملائكة وعروش وسلاطين ورؤساء وقوات، لكنهم ليسوا بالقوات الوحيدة القائمة في السماء. إنه يوجد قبائل وأمم بلا حد أو عدد ولا يمكن أن توجد كلمة تستطيع وصفها لأذهانكم.
12- أين الدليل على أنه يوجد مزيد من القوات السماوية والتي لا نعرف حتى أسماءها؟ إنه بولس هو الذي قال هذا. وقد أعلن هذا في معرض حديثه عن المسيح فقال: "أجلسه -أي أجلس المسيح- فوق كل رئاسة وسلطان وقوة وسيادة وكل اسم يُسمّى ليس في هذا الدهر فقط بل في المستقبل أيضًا" (أف 1: 21). هل ترون أنه توجد أسماء في السماء ستُعرف وليست معروفة الآن؟ لهذا السبب قال بولس: "ليس في هذا الدهر فقط بل في المستقبل أيضًا.
13- ولماذا هو أمر يدعو إلى الدهشة إن كانت هذه القوات السماوية ليس لها إدراك تام عن جوهر الله؟ إن إثبات هذا ليس هو بالمهمة الصعبة. إن كثير من تدابير الله لفداء العالم ليست معلومة لهذه القوات السماوية ذاتها أو للرئاسات أو السلاطين أو السيادات. وسأبرهن على هذا من ذات كلمات بولس أنهم عرفوا بعضًا من تدابير الله في نفس الوقت الذي عرفناه نحن البشر وأنهم لم يعرفوه قبلنا. في الواقع أنهم ليس فقط لم يعرفوها في نفس وقت معرفتنا لها، بل أنهم عرفوها من خلالنا.
14- قال بولس: "الذي في أجيال أُخر لم يعُرف به بنو البشر كما قد أُعلن الآن لرسله القديسين وأنبيائه بالروح أن الأمم شركاء في الميراث والجسد ونوال موعده في المسيح بالإنجيل الذي صرت أنا خادمًا له" (أف 3: 5-7). وما الذي يوضح أن القوات السماوية عرفت هذا في نفس الوقت (معنا)؟ اسمع ما تلا ذلك: "لي أنا أصغر جميع القديسين أُعطيت هذه النعمة أن أبشر بين الأمم بغنى المسيح الذي لا يُستقصى" (أف 3: 8). ماذا يعني الرسول بكلمة لا يُستقصى؟ إنه يعني الذي لا يمكن أن يُفحص، ليس فقط ما لا يمكن استكشافه بل ما لا يمكن حتى أن ننقب عنه أو ما لا يمكن لنا أن نجد له أثر (مُدرك).
15- مرة أخرى دع الأنوميين يتيقنون كم أن السهام التي أرسلها عليهم بولس كثيرة وقوية ومتواصلة؟ إن كان الغنى لا يُستقصى، فكيف يمكن لمن يمنح عطايا هذا الغنى نفسه أن يكون محل استقصاء؟
"... وأنير الجميع في ما هو شركة السر المكتوم منذ الدهور في الله خالق الجميع بيسوع المسيح لي يُعّرف الآن عند الرؤساء والسلاطين في السماويات بواسطة الكنيسة بحكمة الله المتنوعة" (أف 3: 9-10). هل تسمعون كيف أن هذه القوات العلوية قد عرفت هذه الأمور في نفس وقت معرفتنا لها وليس قبلنا؟ لأن خادم الملك لا يعرف ما هو مزمع أن يعمله الملك، "لكي يُعرّف الآن عند الرؤساء والسلاطين في السماويات بواسطة الكنيسة بحكمة اله المتنوعة" (أف 3: 10). انظروا كم هي عظيمة الكرامة التي أسبغها الله على الطبيعة البشرية بأن يجعل القوات السماوية تعرف أسرار الملك (السماوي) معنا ومن خلالنا.
16- لكن أي دليل يوضح لنا أن بولس يتحدث عن تلك القوات السماوية؟ بالتأكيد أنه يعرف الشياطين كسلاطين ويدعوهم بهذه الأسماء عندما يقول: "إن مصارعتنا ليست مع دم ولحم بل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر" (أف 6: 12). هل هو يريد إذًا القول أن الشياطين قد علمت حينئذ هذا السر؟ بالتأكيد لا. بل أنه عن القوات التي تقطن السماء تحدث، لأنه بعد أن قال: "عند الرؤساء والسلاطين" أضاف قوله "في السموات" (أف 3: 10)، فهم إذًا السلاطين التي في السماويات بينما الأخرى هي التي تحت السماء. لهذا السبب فهو يضعهم في مصاف "ولاة العالم" (أف 6: 12)، مريدًا بهذا أن يُظهر أن السماء مستحيلة عليهم وأنهم لا يظهرون قوتهم إلا هنا في هذا العالم فقط.

17- هل ترون كيف أن هذه القوات العلوية عرفت هذه الأسرار معنا ومن خلالنا؟ لنستخدم كلماتنا لنوفي ديننا بإظهار أن لا الرئاسات أو السلاطين يعرفون جوهر الله. من يؤكد لنا هذا؟ لم يعد من يؤكد لنا هذا بولس أو إشعياء أو حزقيال، فمن هو هذا الإناء المختار الآخر؟ إنه يوحنا ابن الرعد نفسه -حبيب المسيح والذي اتكأ على صدر الرب وشرب من هناك المياه الإلهية- فماذا إذًا قال يوحنا؟ "الله لم يره أحد قط" (يو 1: 18). حقًا أنه ابن الرعد، لأنه أطلق كلمة مدوية أعظم من أي بوق وصوتها كافٍ لإفحام معارضينا.
18- لنرى إذًا أي اعتراض يمكن أن يُقام ضد ما قاله يوحنا.
أخبرني يا يوحنا ماذا تعني عندما تقول "الله لم يره أحد قط"، فبماذا نفتكر عن الأنبياء الذين قالوا أنهم رأوا الله؟ فإشعياء قال "رأيت الرب جالسًا على عرش عالٍ ومرتفع" (إش 6: 1)، وأيضًا دانيال قال: "كنت أرى أنه قد وضعت عروش وجلس القديم الأيام" (دا 7: 9)، وميخا قال "قد رأيت الرب جالسًا على كرسيه وكل جند السماء وقوف لديه" [(1مل 22: 19) بحسب النص السبعيني]، وأيضًا نبي آخر قال: "رأيت الرب قائمًا على المذبح فقال أضرب كرسي الرحمة" (عا 9: 1). ويمكنني أن أجمع لك نصوص كثيرة مشابهة لأعطيك دليلًا على ما أقول. فكيف إذًا يقول يوحنا: "الله لم يره أحد قط؟"
19- إن يوحنا يقول هذا حتى تعرف أنه يتكلم عن معرفة واضحة وإدراك تام (بأن الله غير مُدرك) فكل الاقتباسات السابقة عن رؤية الله كانت لمحات من تكيف الله وتنازله (ليتمكن البشر من رؤيته)، وكون أنه لم يوجد واحد من هؤلاء الأنبياء قد رأى جوهر الله ذاته، فهذا واضح من كون كل واحد منهم رآه بطريقة مختلفة فالله كائن بسيط ولا يتكون من أجزاء وليس له شكل أو هيئة، والله قد برهن نفس هذا الأمر عن طريق نبي آخر، وقد أقنع (بذلك) الأنبياء الآخرين أنهم لم يروا طبيعة جوهره كما هو، وذلك عندما قال: "قد كثرت الرؤى وبيد الأنبياء مثّلت أمثالًا" (هو 12: 10)، وما كان يقوله الله بهذا هو: أنني لم أظهر جوهري ذاته لكني تنازلت بتلطف وكيفت نفسي لمستوى ضعف عيونهم.
20- مع ذلك فإن يوحنا لم يقصد فقط الإنسان عندما قال "الله لم يره أحد قط"، وهذا قد تم إثباته بما قلته، أقصد بالنطق النبوي الذي يقرر "كثّرت الرؤى وبيد الأنبياء مثّلت أمثالًا" (هو 12: 10). وهذا أيضًا واضح مما قاله الله لموسى عندما أراد أن يرى الله وجهًا لوجه فقال الله له: "لا يراني أحد ويعيش". لذلك فإن هذه النقطة واضحة ويمكننا أن نوافق عليها. (لكن) يوحنا لم يكن يتكلم فقط عن الطبيعة البشرية، بل أيضًا عن القوات السماوية عندما قال"الله لم يره أحد قط"، ولهذا السبب قدم الابن الوحيد الجنس ليعلّم هذا المبدأ. ولكي لا يجعل أحد يقول: كيف يتم إثبات هذا، مضى إلى القول "الابن الوحيد الجنس الذي هو في حضن الآب هو خبّر" (يو 1: 18) وبهذه الطريقة قدم يوحنا (لنا) شاهدًا جديرًا بالثقة ومعلمًا لهذا المبدأ.
21- لو كان يوحنا يريد أن يوضح هنا فقط نفس الحق الذي أظهره موسى، لما كان هناك حاجة لأن يضيف "أن الابن الوحيد الجنس هو الوحيد الذي خبَّر". لأنه بدون هذه الإضافة في نص يوحنا لن يكون الابن الوحيد الجنس هو الوحيد الذي خبر. لأنه قبل أن ينطق يوحنا هذه الكلمات بزمن طويل (كما لو كانت هذه الكلمات قد سمعها يوحنا من الابن الوحيد نفسه)، فإن موسى النبي ما أن سمعها من الله حتى جعل هذا الحق واضحًا لنا. لكن يوحنا قدّم الابن الوحيد كشاهد له، لأنه كان مزمعًا أن يسمو أكثر مما قيل لموسى وليعلن أنه حتى القوات العلوية لم تر الله، لذلك قدّم (هنا) الابن الوحيد الجنس ليعلّمنا هذا الحق.
22- ينبغي لك أن تفهم هنا أن "الرؤية" بالنسبة للقوات العلوية هي بمثابة معرفتهم، لأن القوات العلوية أرواح وليس لها عيون أو جفون. فما هو رؤية بالنسبة لنا هو معرفة بالنسبة لهم. لذلك عندما تسمعه يقول "الله لم يره أحد قط" ينبغي لك أن تفهم أن الكلمات التي تسمعها تعني أن لا أحد يعرف الله في جوهره بمنتهى الدقة. وبالنسبة للسيرافيم عندما تسمع أنهم يحيدون عيونهم ويغطون وجوهم وأيضًا فإن الشاروبيم يفعلون نفس الشيء، فلا ينبغي لك أن تظن أن لهم عيون، فمثل هذا الشكل والهيئة هو شيء يختص بالأجساد. ما ينبغي لك أن تفتكره هو أن النبي بهذه التعابير يشير إلى معرفة هذه القوات العلوية.
23- وهكذا عندما يقول النبي أنه لا يمكنهم أن يحتملوا أن ينظروا الله حتى لو تنازل الله وكيّف نفسه لضعفهم (الطبيعي)، فهو يعني بالضبط أنهم لا يستطيعون أن يحتملوا إدراكه بمعرفة تامة صرفة، وهم لا يتجاسرون على النظر بمثابرة إلى جوهره النقي والكلي، وهم لا يجرؤن على النظر إليه حتى بعد أن كيّف نفسه لهم، إذ أن النظر بمثابرة معناه أن تعرف.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

24- إن يوحنا الإنجيلي علم أن معرفة مثل هذه الأمور هي شيء فوق مستوى الطبيعة البشرية وأن الله غير مُدرك للقوات العلوية. لهذا السبب فهو لكي يعلّمنا هذا المبدأ، قدم لنا من هو جالس عن يمين الله والذي هو له معرفة تامة بهذه الأمور، ويوحنا لم يقل مجرد لقب "الابن" مع أنه حتى لو كان قد قال هذا فقط لكان يكفي لردع ألسنة الأنوميين الوقحين. إن كثيرين دُعوا باسم المسيح لكن هناك مسيح واحد. كثيرون دُعوا أرباب، لكن هناك رب واحد. كثيرون دعُوا آلهة لكن يوجد إله واحد (1كو 8: 5). كذلك بالمثل كثيرون دعوا أبناء لكن الابن (الوحيد الجنس) هو واحد. إن إضافة هذه الصفة لهي كافية لإظهار العظمة الخاصة للابن الوحيد.
25- مع ذلك فإن يوحنا لم يكتف بهذا بل بعد أن قال "الله لم يره أحد قط"، أضاف قوله "الوحيد الجنس الابن الذي هو في حضن الآب هو خبّر" (يو 1: 18)، فهو قال أولًا "الوحيد الجنس" ثم بعد ذلك ذكر لقب "الابن". وحيث أن لقب "الابن" لقب شائع جدًا، وحيث أن كثيرين لهذا السبب يحطون من مجده ويعتبرونه واحدًا من كثيرين، لأن تعبير الابن شائع لدى كل الناس، لذلك وضع يوحنا في المقام الأول ما هو مختص بعظمته الخصوصية وما ينتمي له هو فقط وليس لأي شخص آخر والذي هو بالتحديد لقب "الوحيد الجنس". ومن هذا اللقب نتيقن أن لقبه كابن ليس عموميًا (لكثيرين) بل خاص به هو فقط ولا ينتمي لأحد غيره.
26- لكي أجعل مقصدي أكثر وضوحًا، سأقول نفس الشيء مرة ثانية لكن بتفصيل أكثر. إن لقب "الابن" ينتمي للبشر وينتمي للمسيح، لكنه ينتمي لنا بالمشابهة ولكن للمسيح بمعناه الأصلي. إن لقب "الوحيد الجنس" يخصه هو فقط ولا ينتمي لأحد غيره ولو بالمشابهة. لذلك من اللقب الذي لا يخص أحد غيره بل له هو وحده فقط ينبغي لك أن تفهم أن لقب "الابن" الذي ينتمي لكثيرين هو له في معناه الأصلي. لهذا السبب فإن يوحنا قال أولًا "الوحيد الجنس" وبعد ذلك لقب الابن.
27- إن كان هذان اللقبان لا يقنعانك، فيوحنا يقول: دعني أذكر لك شيئًا ثالثًا (مختص به) ولو أنه فظ وعلى مستوى بشري لكن يمكنه أن يقود مثل هذه المخلوقات -كزواحف على الأرض- إلى إدراك عظمة الابن الوحيد الجنس. ما هو هذا الشيء (الثالث)؟ إنه تعبير "الذي هو في حضن الآب". إن هذا التعبير لهو تعبير فظ لكن يمكنه أن يبرهن البنوية الخالصة (للسيد المسيح) إن فهمنا هذا بالمعنى الذي يليق بالله.
28- عندما تسمع الكلمات "عرش"، "الجالس عن اليمين" فلا تفهمها كعرش أو موضع أو مكان محدد، بل عليك أن تفهمها على مستوى الكرامة الكامنة فيه والتي هي بالتحديد تشير إلى مساواته بالآب وبأنه من نفس طبيعته. بنفس الطريقة عندما تسمع كلمة "حضن" لا ينبغي لك أن تظن أنه يوجد حضن أو موضع ما، بل ينبغي أن تفهم كلمة "حضن" على أنها تعني قرب الابن ودالته عند الآب الذي ولده. إن القول بأن الابن يقيم في حضن الآب يبين لنا ويقرّب لأذهاننا بتوضيح أكثر قربه من الآب عن التعبير "جالس عن يمين الآب" لأن الآب لن يدع الابن في حضنه إن لم يكن من نفس الجوهر، ولا الابن يمكنه أن يحتمل البقاء في حضن الآب لو كان من طبيعة أقل من طبيعة الآب.
29- لذلك حيث أنه الابن ووحيد الجنس ويقيم في حضن الآب فهو يعرف تمامًا كل ما يعرفه الآب. لهذا السبب فإن يوحنا الإنجيلي استخدم هذه التعبيرات ليضع أمام أذهاننا المعرفة التامة التي للابن عن الآب. لأن يوحنا كان يتكلم (هنا) عن المعرفة. أما لو كان يوحنا لا يتكلم عن معرفة الابن للآب، فلماذا تكلم عن الحضن؟ لو كان الله ليس جسديًّا -وهو بالتأكيد ليس كذلك- ولو لم يكن يوحنا يعرف البنوة الخالصة وقرب الابن للآب، فإن كلمة "حضن" تكون قد اُستخدمت عبثًا وبدون داعٍ. لماذا؟ لأنها لا تؤدي أي غرض بالنسبة لنا، لكنها لم تُنطق باطلًا - حاشا لله! فالروح لا يقول أي شيء عبثًا، بل هو يُعلن عن قرب (ومعّية) الابن للآب.
30- بعد أن أتم يوحنا الإنجيلي إعلانه العظيم أنه ولا حتى المخلوقات السماوية ترى الله، بمعنى أن ليس لها المعرفة التامة بالله، فهو يرغب أن يقدم معلّم جدير بهذا الحق. لذلك فإن يوحنا أرسى هذه الكلمات لكي لا تشك فيه أبدًا فيما بعد بل تصدقه في كل شيء أنك تؤمن بالابن -الوحيد الجنس- والكائن في حضن الآب.
إنه لم يوجد من هو معاند ويرغب بمنتهى الوقاحة أن يناقضني فأنا أؤكد أن هذا هو برهان أزلية الابن، فمن الكلمات المنطوقة لموسى "أنا هو الكائن" (خر 3: 14)، نحن نفهم أن الله أزلي، كذلك أيضًا من تعبيره "الذي هو في حضن الآب" يمكننا أن نفهم أن الابن في حضن الآب منذ الأزل.
31- لقد برهنت لكم بكل هذه الحجج أن جوهر الله غير مُدرك لكل الخليقة، والآن يتبقى لي أن أبيّن أن الابن والروح القدس كلاهما فقط يعرفان الله (الآب) معرفة تامة وكاملة. لكن دعوني الآن أُرجئ هذا الموضوع إلى حديث آخر لكي لا أرهق أذهانكم بكثرة الحجج، ودعوني الآن أعود لكلمات وعظي المعتاد.
32- ما هو هذا الوعظ المعتاد الذي لي؟ إنني توسلت إليكم أن تثابروا على الصلاة الجادة بذهن يقظ ونفس ساهرة. لقد كلمتكم عن هذا الموضوع من فترة طويلة ورأيت أنكم استجبتم في الحال لما قلته. إنه سيكون شيئًا سخيفًا من جانبي أن ألومكم عندما تكونوا مهملين ولا أمدحكم وأعبّر عن عرفاني وشكري لأنكم أطعتم نصحي في هذا الأمر.
33- سأعبّر عن عرفاني بإخباركم عن السبب لماذا هذه الصلاة لها أولوية على الصلوات الأخرى، ولماذا -في تلك اللحظة- يأمر الشماس من عليهم أرواح شريرة أن يؤتى بهم إلى الداخل ويأمرهم أن يحنوا رؤوسهم. لماذا -إذًا- هو يفعل هذا؟ لأن قوة وتأثير الشياطين (في الإنسان المصروع منهم) هي قيد مرعب ومن الصعب التعامل معه، إنها سلسلة تفوق في قوتها قوة الحديد.
34- عندما يظهر القاضي في المحكمة ويكون على وشك أن يأخذ موضعه في المنصة العالية، فإن السجانين يقودون كل المساجين من زنزاناتهم ويجلسوهم في القفص الحديدي (عند منصة القضاء). إن المساجين يكونوا قذرين ولباسهم غير مهندم وشعرهم طويل وغير ممشط وملابسهم مهلهلة وبالية. كذلك بالمثل عندما يكون المسيح مزمعًا أن يأخذ موضعه -إن جاز القول- في المنصة العالية وليكشف نفسه في الأسرار ذاتها، فإن آباءنا الروحيين قد رتبوا أن المصروعين من الشياطين يُقادون إلى الكنيسة كاقتياد السجان للمسجونين.
35- ليس الهدف من هذا أن يعطي المصروع من الشياطين حسابًا عن أخطائه -كما ينبغي على أولئك المساجين أن يفعلوا- أو أن يُعاقبوا ويُعذبوا. لا بل بالحري لكي أهل المدينة الموجودين هنا في الكنيسة يرفعون صلوات تضرع بنفس واحدة لأجل المصروعين من الشياطين. وبهذه الطريقة كلكم بصوت وقلب واحد تتوسلون وتطلبون من ربنا كلنا أن يرحم هؤلاء الناس.
36- وكما لُمنا -آنذاك- أولئك الذين في ذلك الوقت خرجوا من صلاة كهذه وفي اللحظة المقدسة - وغادروا الكنيسة ليشغلوا أنفسهم في موضع آخر، فأنا الآن أريد أن ألومكم أنتم يا من بقيتم في الكنيسة، ليس لأنكم بقيتم في الكنيسة، بل لأنه بينما بقيتم هنا في الكنيسة إلا أنكم تظهرون انطباعًا ليس بأفضل من الذين غادروها ليشغلوا أنفسهم (بشيء) خارجها. كيف يكون الأمر هكذا؟ هذا لأنكم تواصلون حديثكم مع بعضكم البعض في اللحظة المقدسة والتي هي ممتلئة برعدة ومخافة مقدسة.
37- ماذا تفعلون يا أصدقائي؟ هل ترون حشدًا عظيمًا من إخوتكم المساجين واقفين بالقرب منكم ولا تكفوا عن حديثكم مع بعضكم البعض عن أمور غير مفيدة بالنسبة لهم؟ ألا يكفيكم مجرد منظرهم ليخيفكم ويجعلكم تشفقون عليهم؟ هل يكون أخوك في قيود ولا تكترث لذلك؟ ليتك تخبرني: أي عذر سيكون لك لكونك هكذا غير شفوق وقاسي القلب وفظ؟ بينما أنت تثرثر ولا تُظهر لأخيك أي اكتراث بل قلة اهتمام، أفلا تخاف من أن يقفز شيطان ما منه وبدون أدنى خوف يدخل فيك؟ ولماذا يخاف الشيطان من أن يفعل هذا؟ إذ فيك يجد موضعًا فارغًا ومزينًا ومكنوسًا، وفيه يجد بيتًا بابه مفتوح.
38- ألن يكون من اللائق في تلك اللحظة أن تجتمعوا سويًا وتذرفوا أنهارًا من الدموع وتبتل عيونكم من البكاء ويرتفع الأنين والنحيب من كل الحاضرين في الكنيسة؟ إذ أنهم بعد أن شاركوا في الأسرار وبعد نوالهم نعم المعمودية وبعد أن كانوا معدودين في جيش المسيح، أستطاع الذئب أن ينتزعهم مثل حملان من القطيع ويبقيهم تحت سلطانه. هل يمكنك أن تنظر إلى هذه البلية وتمتنع دموعك؟ كيف يمكن لمثل هذا التصرف -من جانبكم- أن يستوجب الدفاع عنه؟ ألا ترغب في أن تشارك في آلام أخيك؟ على الأقل انتبه لنفسك وخف لئلا يصيبك ما أصاب أخيك.
39- أخبرني من فضلك، لو رأيت -مثلًا- منزل جارك وقد شب فيه الحريق، حتى لو كان هو عدوك اللدود، أفلن تجري لتطفئ النار تحسبًا منك لئلا تمتد النيران وتشتعل في واجهة بيتك؟ افتكر هكذا أيضًا في حالة المصروعين من الشياطين. إن قوة وتأثير الشياطين هو نوع من اللهب والحريق الذي هو صعب التحكم فيه. إذًا كن حذرًا لئلا يشق الشيطان طريقه إليك ويمسك بنفسك بل عندما ترى أنه قريب منك اهرب بكل سرعة ممكنة إلى الرب.
40- ومن ثم بعد أن يرى الشيطان أن روحك ملتهبة ومستيقظة سيتيقن أن ذهنك غير قابل للوقوع تحت سطوة هجماته. ولكن إن نظرك مهملًا ومتكاسلًا، فإنه سيسارع إلى الدخول فيك كما لو كان يدخل إلى موضع مهجور (من الحراسة). أما إن نظرك الشيطان منتبهًا ويقظًا ومتشبثًا بالسموات ذاتها (عن طريق الصلوات)، فلن يكون له جرأة حتى أن ينظر إلى وجهك. لذلك إن أخذت موضوع إخوتك باستخفاف فعلى الأقل انتبه لنفسك وأغلق بابا روحك في وجه الشيطان الأثيم.
41- لا يوجد شيء هكذا ترجح كفته في صد هجمات الشيطان علينا مثل الصلاة المثابرة والتضرع (بلجاجة). إن هذا التنبيه بالذات والذي ينادي به الشماس "لنقف منتصبين" (أي لنقف حسنًا) لم يوجد اعتباطًا أو بدون هدف في صلاة القداس. لقد جُعل هذا التنبيه لكي تقيم أذهاننا (في الصلاة) بدلًا من زحفها على الأرض. وقد جُعل أيضًا لكي نلقي جانبًا الضعف الذي يأتينا من هموم الحياة اليومية وبعد ذلك نكون قادرين على جعل أرواحنا تقف منتصبة أمام الله.
42- إنه حقًا عندما يأمرنا الشماس أن نقف منتصبين، فهذا الأمر أُعطي ليس للجسد بل للنفس. ولننصت لبولس الذي استخدم هذا التعبير بنفس الطريقة، إذ أنه عندما كتب لأُناس تعثروا وخاروا تحت ثقل التجارب التي هاجمتهم قال: "قوّموا الأيادي المسترخية والركب المخلعة" (عب 12: 12). ما هو ردنا إذًا؟ هل نقول أنه كان يتحدث عن أيادي وركب الجسد؟ إطلاقًا! إنه لا يتحدث عن عدائين (متسابقين في الجري) وملاكمين ومصارعين، بل إنه بهذه الكلمات كان يحث الناس على استنهاض قوتهم وعزيمتهم الداخلية لأنها قد ضعفت من جراء التجارب.
43- تأمل بجانب من أنت واقف، تأمل مع من ستدعو الله، إنه مع الشاروبيم. تأمل في هؤلاء الذين ستنضم إليهم لتكّون هذا الخورس وهذا سيكون كفيل بأن يوقظ فيك الغيرة. ولو أنك متسربلًا بجسد ومُعرقل به، لكن تأمل في حقيقة كونك أُعتبرت جديرًا بأن تنضم للقوات السماوية لتسبح منشدًا لرب الكل. لكن إن سمح أي شخص لنفسه بأن يفقد غيرته وعزيمته، فدعه لا يشارك في تلك التسابيح المقدسة والسرية. ليت هموم الحياة لا تسبي أفكار أحد في تلك اللحظة، وليته يقف أمام عرش المجد مباشرة ويرفع لك تسبيحه المقدس لإله المجد والعظمة.
44- هذا هو السبب الذي لأجله يأمرنا الشماس أن نقف منتصبين في تلك اللحظة المقدسة. لأنه أن تقف حسنًا هو أن تقف بطريقة تليق بمن هو مجرد كائن بشري يقف أمام الله - أي بخوف ورعدة وبروح يقظة ومنتبهة. هذه الكلمات تنطبق أيضًا على الروح كما يوضح ذلك بولس أيضًا عندما يقول "اثبتوا هكذا في الرب أيها الأحباء" (في 4: 1). إن كان رامي السهام مزمع أن يطلق سهامه لكي تضرب الهدف المعين لها، فإنه يعتني أولًا بإعداد نفسه للوقوف في الوضع المضبوط قبالة الهدف وبعد ذلك يشرع في إطلاق سهامه. فإن كنت مزمع أن تطلق سهامك على رأس الشيطان الخبيث، فاهتم أولًا بوضع أفكارك، ثم بعد ذلك خذ وضعًا مستقيمًا ومنتصبًا وفي غير ربكة (اضطراب) حتى تجد سهامك المصوبة هدفها المطلوب...
ملاحظة: هنا حذفت جزء يتكلم فيه ذهبي الفم عن من يقومون بسرقة نقود المؤمنين في الكنيسة ويشوشون عليهم الصلاة، فيرجو من ناحية المؤمنين ألا يأتوا للكنيسة ومعهم نقود كثيرة، ومن ناحية أخرى يرجو منهم ألا يحزنوا لفقد مالهم بل يشكروا الله كما أيوب. ويختم بالقول:
50- وأنت ستستعيد كل ما فقدته ليس ضعفين أو ثلاثة أضعاف بل مائة ضعف إن احتملت خسارتها بشجاعة وسترث (أيضًا) الحياة الأبدية. ليتنا كلنا ننال هذا بنعمة وصلاح ربنا يسوع المسيح الذي له المجد من الآن وإلى الأبد وإلى دهور الدهور آمين.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/dddq45n