St-Takla.org  >   books  >   fr-angelos-almaqary  >   john-chrysostom-incomprehensible-nature-of-God
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

كتاب طبيعة الله غير المدركة: للقديس يوحنا ذهبي الفم - القمص أنجيلوس المقاري

2- العظة الأولى: التلمذة الحقيقية | المحبة | حدود العقل البشري أمام أعماق حكمة الله | رحلة المعرفة الجزئية نحو المعرفة التامة

 

1- ما هذا الذي أراه؟ الراعي(129) ليس بموجود هنا، ومع ذلك فإن قطيعه في غاية النظام والانتظام، وهذا أمر يشير إلى نجاح الراعي وفضيلته كون قطيعه يُظهر منتهى الاجتهاد والانتباه سواء في حضوره أم غيابه.

إن الخراف غير الناطقة ينبغي لها أن تبقى في حظائرها عندما لا يوجد من يقودها إلى المرعى، لأنه توجد هناك خطورة أن يضلوا طريقهم بعيدًا في حالة خروجهم دون وجود من يعتني بهم. إلا أننا لا نجد هنا خرافًا غير ناطقة، وحتى مع وجود راعيكم بعيدًا عنكم، فإنكم قد اجتمعتم سويًا في مراعيكم(130) المعتادة وذلك لحسن نظامكم وانتظامكم.

 

2- ولكن راعيكم موجود هنا، فهو وإن كان غير موجود هنا بالجسد، لكنه موجود بالروح والذهن، وهو وإن كان غير موجود وسطكم جسديًا، لكننا نشعر بحضوره للنظام والترتيب الذي أظهرتموه أنتم كقطيع خاص له. وهذا الأمر يثير إعجابي الشديد به وأنا اعتبره مطوبًا جدًا لأن له مثل هذه القوة التي غرس بها مثل هذا الاجتهاد والانتباه فيكم.

بالتأكيد نحن نبدي إعجابنا بالقائد بالأكثر عندما تحفظ الفرقة العسكرية التي تحت إمرته النظام والانضباط حتى في غيابه. وهذا هو ما كان يتطلع إليه بولس الرسول -في تلاميذه- عندما قال "إذًا يا أحبائي كما أطعتم كل حين ليس كما في حضوري فقط، بل الآن بالأولى جدًا في غيابي... " (في 2: 12).

 

St-Takla.org Image: Spiritual discipleship, Christian religious studies, spiritual and theological education with teacher and students (Image 8) - AI art, idea by Michael Ghaly for St-Takla.org, 30 November 2024. صورة في موقع الأنبا تكلا: التلمذة الروحية، الدراسات الدينية المسيحية، التعليم الروحي واللاهوتي، الطلاب والمعلم (صورة 8) - فن بالذكاء الاصطناعي، فكرة مايكل غالي لموقع الأنبا تكلاهيمانوت، 30 نوفمبر 2024 م.

St-Takla.org Image: Spiritual discipleship, Christian religious studies, spiritual and theological education with teacher and students (Image 8) - AI art, idea by Michael Ghaly for St-Takla.org, 30 November 2024.

صورة في موقع الأنبا تكلا: التلمذة الروحية، الدراسات الدينية المسيحية، التعليم الروحي واللاهوتي، الطلاب والمعلم (صورة 8) - فن بالذكاء الاصطناعي، فكرة مايكل غالي لموقع الأنبا تكلاهيمانوت، 30 نوفمبر 2024 م.

3- لماذا قوله "بالأولى جدًا في غيابي؟" لأنه إن أتى ذئب إلى القطيع فمن السهل أن يتم طرده بعيدًا عن القطيع في وجود الراعي. ولكن إن كان الراعي غائبًا، فهناك خطورة عظيمة تواجه القطيع إذ لا يوجد هناك من يحميه من الذئب. وفضلًا عن ذلك، عندما يكون الراعي متواجدًا، فإنه يشارك خرافه في مكافأة الغيرة والاجتهاد، وعندما يكون بعيدًا عنهم، فإنه يجعل فعل صلاحهم يُرى من ذاته كشيء يخصهم.

 

4- والآن فإنه هو معلّمكم والذي حتى في غيابه (عنكم بالجسد) يتحدث بكلمات بولس الرسول إليكم (انظر في 2: 12)، فأيًا كان الموضع الكائن فيه في هذه اللحظة، فأنتم واجتماعكم أمام عيني ذهنه، وأيًا كان الموضع الكائن فيه الآن وأيًا كان الناس الذين معه يتحدث إليه، فإنه لا يراهم بنفس الطريقة -في هذه اللحظة- كما يراكم حتى لو لم تكونوا أمام عينيه.

 

5- إنني أعرف محبة معلمكم (نحوكم)، إنها محبة تشع وتلتهب بدفء هائل. إنه يحفظه في عمق أعماق قلبه ويعززه بغيرة فائضة. لأنه يفهم بوضوح أن هذا الحب هو البركة الأساسية لكم، وفيه تجد كل البركات أصلها ومصدرها. إن لم تكن هناك محبة، فالبركات الأخرى لا تفيدكم بشيء. إن المحبة هي العلامة المميزة لتلاميذ الرب، وهي ختم عبيد الله وبها نتعرف على تلاميذه (الحقيقيين)، والسيد المسيح قال: "بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي". بماذا؟ أخبرني من فضلك بماذا؟ هل بإقامة الموتى أو إبراء البرص أم بإخراج الشياطين؟ لا، فالمسيح قد تجاوز كل هذه الآيات والعجائب عندما قال: "بهذه يعرف الجميع أنكم تلاميذي، إن كان لكم حب بعضُ لبعض" (يو 13: 35).

 

6- إن القدرة على أداء مثل هذه العجائب هي عطية من فوق وتأتي فقط من خلال النعمة. أما عطية الحب فينبغي أيضًا نوالها باجتهاد وغيرة الإنسان نفسه. إن نبل الإنسان لا ينطبع عادة في العطايا التي تعطى من فوق بمثل هذه الطريقة التي بها تتميز الإنجازات التي تأتي نتيجة لجهود الإنسان نفسه. لذلك فإن السيد المسيح قال أنه يتم التعرف على تلاميذه ليس باجتراح الآيات والعجائب بل بالمحبة. لأنه عندما توجد المحبة، فمن يمتلكها لا ينقصه أي قدر من الحكمة، بل له ملء الفضيلة الكاملة. وبنفس الطريقة عندما لا توجد محبة فإن الإنسان يكون مجردًا من كل بركة. لهذا السبب فإن بولس الرسول يمجد المحبة ويعليها جدًا في كتاباته، وبالرغم من كل ما قاله عن المحبة، فإنه لم يوضح تمامًا قيمتها الحقيقية.

 

7- لأنه ما الذي يمكنه أن يعادل هذا الحب الذي اكتنف كل الأنبياء والناموس كله؟ فبدونه لا شيء يمكنه أن يخلص الإنسان حتى ولو كان له الإيمان والفهم ومعرفة الأسرار، بل الاستشهاد أو أي موهبة أخرى، لأن بولس الرسول يقول: "إن سلمت جسدي حتى احترق ولكن ليس لي محبة فلا انتفع شيئًا" (1كو 13: 3)، وأيضًا في موضع آخر حيث يبين أن الحب أعظم من كل الأشياء وتاج كل البركات فيقول: "أما النبوات فستبطل والألسنة فستنتهي والمعرفة فستبطل" [(1كو 13: 8) بحسب النص]، "أما الآن فيثبت الإيمان والرجاء والمحبة، هذه الثلاثة ولكن أعظمهن المحبة" (1كو 13: 13).

 

8- إلا أن حديثي عن المحبة قد قادنا بالتأكيد لمسألة أخرى ليست بالعادية لأن بطلان النبوة وانتهاء الألسنة لا يثير أي مشكلة عويصة. لأن هذه المواهب الممسوحة بالروح القدس خدمتنا ككارزين إلى وقت معين وقد توقفت الآن، لكن زوالها لا يمكنه أن يضر بالكلمة التي نكرز بها.

وانظر فهذا الأمر لا يعيق أو يبطل الكرازة بالتقوى. لكن زوال المعرفة يثير مشكلة. لأنه بعد أن قال بولس الرسول: "أما النبوات فستبطل والأسنة فستنتهي" واصل كلامه قائلًا "والمعرفة فستبطل". إذًا إن كان على المعرفة أن تبطل، فإن موقفنا لن يتحسن بل سيزداد سوءًا، إذ بدون المعرفة سندمر الشيء الذي يجعلنا بشرًا بالتمام.

 

9- إن النبي قال: "اتق الله واحفظ وصاياه، لأن هذا هو الإنسان كله" (جا 12: 13). فإن كان الإنسان هو في اتقائه الله، وإن كان اتقاء الله يأتي من المعرفة، لكن حيث أن المعرفة ستزول كما يقول بولس، إذًا فنحن سنتلاشى تمامًا حيث لا توجد معرفة، وكل ما نحن عليه (من جهة العلم والمعرفة) سيبطل وسنكون في وضع ليس أفضل بل أسوأ كثيرًا من الكائنات غير العاقلة، لأن ما يميزنا عنها هو المعرفة، بينما في كل الأشياء الأخرى التي تختص بالجسد فإنهم يتفوقون علينا جدًا.

 

10- إذًا ما هذا الذي يقوله بولس وعن ماذا يتحدث عندما يقول: إن المعرفة ستبطل؟ إنه لا يقول هذا عن المعرفة الكاملة والتامة بل عن المعرفة الجزئية. إنه يتحدث عن بطلانها كمقدمة لشيء أفضل، حيث أن المعرفة الجزئية عندما تزول لن تصير بعد جزئية بل كاملة وتامة.

 

11- إن فترة الطفولة ستزول لكن كيان (جوهر) الطفل لن يختفي أو يتوقف عن الوجود. إن عمر الطفل سيزداد فيحوله لإنسان كامل وتام، ونفس هذا الأمر ينطبق على المعرفة. إن بولس الرسول يقول إن هذه المعرفة القليلة لن تظل بعد قليلة إذ ستصير هائلة بالنمو المتواصل. هذا هو معنى البطلان، وقد جعل الرسول هذا الأمر واضحًا لنا من خلال الكلمات التي تلت، فبعد أن سمعته يقول أنها ستبطل، فإنه لم يرغب في أن يجعلك تظن أنه بطلان كامل، بل أوضح أنه ازدياد وتقدم لشيء ما أفضل.

 

12- لذلك بعد أن قال: "أنها تبطل"، واصل كلامه فقال: "لأننا نعرف بعض المعرفة ونتنبأ بعض التنبؤ. ولكن متى جاء الكامل فحينئذ يبطل ما هو بعض" (1كو 13: 9-10). لذلك فإن الناقص لن يعد موجودًا بل الكامل، والنتيجة أن المعرفة الناقصة ستبطل ولن تعد موجودة أما المعرفة الكاملة ستبقى. هذا لأن الزوال هو تكميل وتطور إلى نحو شيء أفضل.

 

13- ليتكم تنظرون لحكمة بولس، فإنه لم يقل: "نحن نعرف جزئيًا" بل قال "إننا نعرف بعض المعرفة وندرك جزئيًا". وربما تكونوا متشوقين لتسمعوا عن كم هو عظيم الجزء الذي ندركه وما مقدار الجزء الذي فشلنا في إدراكه، سواء كنا أدركنا الجزء الأكبر أو الجزء الأصغر. إذًا لكي تعرفوا أنكم أدركتم الجزء الأصغر، وليس فقط الأصغر بل (ربما) هو واحد في المائة أو واحد في العشرة آلاف، فاسمعوا لكلمات بولس الرسول التي هو مزمع أن يقولها.

 

14- ولكن قبل قراءة كلمات الرسول لكم، سأعطيكم مثالًا يمكنه أن يضع أمام أذهانكم على قدر ما يمكن أن تقدمه الأمثلة وهو مقدار الجزء الذي فشلنا في إدراكه، وكم هو عظيم الجزء الذي سندركه فيما بعد. كم أن البون شاسع بين المعرفة التي ستُعطى لنا والمعرفة التي لنا الآن كمقدار الفرق بين الرجل الكامل والبالغ والطفل الرضيع. هكذا وبهذا القدر تسمو وتعلو المعرفة الآتية على معرفتنا الحالية.

 

15- كون هذا الأمر حقيقيًا وكون المعرفة القادمة أعظم جدًا من المعرفة الحالية، فهذا أمر نتركه أيضًا لبولس الرسول ليخبركم به. لأنه بعد أن قال: "لأننا نعرف بعض المعرفة"، ولأنه أراد أن يبين مدى فهمنا (البسيط) وأننا ندرك شيئًا يسيرًا (من المعرفة والفهم)، واصل كلامه قائلًا: "لما كنت طفلًا كطفل كنت أتكلم وكطفل كنت أفطن وكطفل كنت أفتكر. ولكن لما صرت رجلًا أبطلت ما للطفل" (1كو 13: 11). لقد شبّه الرسول المعرفة الحالية بمقام الطفل، والمعرفة الآتية بمقام الرجل الكامل والبالغ.

16- وبولس الرسول لم يقل: عندما كنت صبيًا (الصبي هو من له من العمر 12 سنة)، بل قال: لما كنت طفلًا. وهو بهذا التعبير يبين لنا أنه يقصد الطفل الذي لا يزال يرضع ويغتذي باللبن من ثدي أمه. ولكي تعرفوا أن الكتاب المقدس يدعو مثل هذا كطفل، فاسمعوا المزمور القائل: "أيها الرب سيدنا ما أمجد اسمك في كل الأرض حيث جعلت جلالك فوق السموات. من أفواه الأطفال والرضع هيأت حمدًا" (مز 8: 1-2). هل رأيتم أن الكتاب المقدس يتحدث في كل موضع عن الرضيع على أنه طفل؟

 

17- ثم لأن الرسول قد سبق فرأى بقوة الروح وقاحة أُناس العصور القادمة(131)، فإنه لم يكتف بمثال واحد بل جعل الأمر مؤكدًا بمثال ثاني وثالث. عندما أرسل الله موسى لليهود أعطاه ثلاثة براهين (انظر خر 4: 1-9) ليتيقنوا من صدق إرساليته من الله، فإن أخفق اليهود في تصديق الآية الأولى لعلهم ينصتون إلى الثانية، وإذا احتقروا أيضًا الثانية، ربما يعطون اعتبارًا للآية الثالثة ويصغوا وينتبهوا للنبي.

 

18- إن بولس الرسول بنفس الطريقة قد أعطى ثلاثة أمثلة. إنه يعطي المثال الأول الذي للطفل عندما يقول: "لما كنت طفلًا كطفل كنت أفطن" (1كو 13: 11)، والمثال الثاني كان عن النظر في المرآة، والثالث (للصورة غير الواضحة) في لغز، لأنه بعد أن قال "لما كنت طفلًا" واصل كلامه قائلًا: "إننا ننظر الآن في مرآة في لغز" (1كو 13: 12). ها أنتم ترون المثال الثاني يشير إلى ضعفنا الحالي وكيف أن معرفتنا ناقصة وغير كاملة. وانظروا أيضًا المثال الثالث عندما يضيف "في لغز". بالتأكيد أن الطفل الصغير يرى ويسمع أشياء كثيرة وينطق بأصوات عديدة، لكن ليس شيء مما يراه أو يسمعه أو ينطقه واضحًا ومميزًا. إنه يفكر لكن أفكاره غير متناسقة.

 

19- أنا أيضًا أعرف أشياء كثيرة، لكن لا أعرف كيف أشرحها. إنني أعرف أن الله موجود في كل مكان، وأنا أعرف أنه موجود في كل مكان بكامل كيانه، لكنني لست أعرف كيف هو موجود في كل مكان. إنني أعلم أنه أبدي وليس له بداية لكني لست أعرف كيف يكون هذا الأمر. إن عقلي عاجز عن إدراك كيف يمكن لكيان أن يتواجد حيث لا ينال هذا الكيان وجوده من نفسه أو من آخر. إنني أعلم أن الله الآب ولد ابنًا لكني لا أعرف كيف تمت هذه الولادة. إني أعلم أن الروح القدس منبثق منه، لكني لا أعرف كيف يتم هذا الانبثاق منه.

وأيضًا فأنا آكل الطعام لكن لا أعرف كيف يتحول إلى مخاط ودم وعصارات وإفرازات. إن كنا لا نفهم كنّة الطعام الذي نراه ونأكله كل يوم، فهل يصح إذًا أن نكون فضوليين ونحشر أنفسنا فيما يختص بجوهر الله؟

← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

 

20- أين أولئك الذين يقولون أنهم أدركوا ويمتلكوا ملء المعرفة؟ إن الحقيقة (الساطعة) هو أنهم قد سقطوا في منتهى الجهل العميق. لأن من يدّعون أنهم قد أدركوا المعرفة التامة في الحياة الحاضرة يحرمون أنفسهم من المعرفة التامة التي للحياة القادمة. وبالنسبة لي فإنني أقر أن معرفتي ناقصة وغير كاملة. وإن كنت أقول أن هذه المعرفة ستبطل، إلا أنني أتقدم على الطريق إلى حالة أفضل وأكثر كمالًا، وهناك بمجرد أن تبطل المعرفة الجزئية والناقصة ستصير هذه الجزئية معرفة أكثر كمالًا.

 

21- أولئك الذين يقولون أن معرفتهم تامة وكاملة وكلية، إن أقروا أن هذه المعرفة التي لهم ستبطل في المستقبل، فهم بذلك يبرهنون على أنهم سيتجردون من كل معرفة. لماذا؟ لأن هذه المعرفة (التامة) التي لهم ستبطل ولن يحل محلها معرفة أكثر اكتمالًا منها، إن كانوا كما يزعمون الآن أن معرفتهم تامة جدًا.

 

22- إنهم يصرّون بعناد على امتلاكهم للمعرفة الكاملة هنا على الأرض. إن كانت المعرفة الكاملة ستكون لهم هنا (على الأرض)، فلن تكون لهم المعرفة الجزئية والناقصة المختصة بهذه الحياة، وفي نفس الوقت سيضيعون على أنفسهم المعرفة التامة والأكثر كمالًا التي تأتي في الحياة الآتية. أنتم تدركون هذا الأمر. أليس كذلك؟ أنتم ترون مثل هذا الشر العظيم الناجم عن الفشل في البقاء في الحدود التي ثبتها الله لنا من البدء. ولهذا السبب فإن آدم على رجاء كرامة أفضل سقط عن الكرامة التي له. ونفس هذا الأمر يحدث لمن لهم حب جشع للمال. كثيرون منهم ولمرات عديدة فقدوا ما يملكون لأنهم اشتهوا أكثر مما لديهم. كذلك أيضًا أولئك الذين يعتقدون أن لهم ملء المعرفة سيفقدون أيضًا المعرفة الجزئية المتعلقة بهذا العالم.

 

23- لذلك فأنا أتوسل إليكم أن تهربوا من جنون هؤلاء الناس. إنهم يسعون بعناد واستماتة لمعرفة ما هو الله في جوهره. وأنا أقول لكم أن هذا منتهى الجنون. هل تريدون أن تعرفوا لماذا هذا الأمر هو منتهى الجنون؟ سأبرهن لكم على هذا من أقوال الأنبياء. ليس فقط أنه واضح أن الأنبياء لا يعلمون ما هو جوهر الله، بل أنهم أيضًا لا يعرفون مدى اتساع حكمته، مع أن جوهره لا ينبع من حكمته بل حكمته نابعة من جوهره. إن كان الأنبياء لا يمكنهم أن يدركوا بالتمام حكمته، فكم يكون حمق وجنون الأنوميين إذ يعتقدون أنه يمكنهم أن يجعلوا ذات جوهر الله خاضع لقواهم وإدراكاتهم العقلية؟

 

24- لذلك، لنسمع ما يقوله النبي عن هذا الأمر: "عجيبة هذه المعرفة بالنسبة لي" (مز 139: 6)، بل لنرى ما يقوله بعد ذلك: "أحمدك يا رب لأنك عجيب برهبة" (مز 139: 14). لماذا برهبة؟ نحن نبدي إعجابنا بجمال الأعمدة وفن الرسم على الحوائط أو بالأجساد في ريعان شبابها، وأيضًا نحن نبدي إعجابنا بالاتساع الهائل والعمق السحيق الذي للبحر، لكننا نتعجب برهبة عندما نغوص ونرى كم أنه عميق جدًا. إن النبي غاص على هذا النمط وتطلع إلى بحر حكمة الله غير المحدود فأصابته رجفة. لقد ارتعب جدًا وانسحب وقال بصوت عالٍ: "أحمدك لأنك عجيب برهبة، عجيبة هي أعمالك" (مز 139: 14)، وأيضًا قوله: "عجيبة هذه المعرفة بالنسبة لي. إنها سامية جدًا ولا أستطيع أن أدركها".

 

25- هل ترون فطنة العبد وكم أن قلبه شكور؟ ما يقوله هو هذا: أنني أحمدك لأن لي رب لا أستطيع أن أدركه. مع العلم بأنه لا يتحدث عن جوهر الله. لقد تجاوز موضوع عدم إدراك جوهر الله كما لو كان شيء يوافقه عليه كل إنسان (في أنه بالتأكيد غير مُدرك). إن ما يتكلم عنه هنا هو حضور الله في كل مكان. وهو يوضح أن هذا الأمر بالذات -الذي هو وجود الله في كل مكان- هو أمر غير مفهوم بالنسبة له. ولكي أبرهن لكم أنه يتحدث عن وجود الله في كل مكان، أصغ لما يلي: "إن صعدت إلى السموات فأنت هناك. وإن فرشت في الهاوية فها أنت" (مز 139: 8). هل ترون كيف أن الله موجود في كل مكان؟ إن النبي لا يعرف كيف كان هذا الأمر صحيح، لكنه يرتعد ويضطرب ويرتبك عندما يفكر كثيرًا في هذا الأمر.

 

26- كيف إذًا لا يمكن أن يكون منتهى الجنون لمن هم أقل بكثير جدًا عن النبي في النعمة أن يكونوا فضوليين ويحشروا أنفسهم فيما يختص بجوهر الله ذاته؟ فمع أن نفس هذا النبي قال: "إذ أوضحت لي غوامض حكمتك ومستوراتها" (مز 51: 6)، إلا أنه بعد أن تعلّم (بعض من) غوامض حكمة الله ومستوراتها يقول أن هذه الحكمة ذاتها غير مدركة وفائقة التصور: "عظيم هو ربنا وعظيمة هي قوته ولا يوجد حد لحكمته" [(مز 147: 5) بحسب النص]، بمعنى أنه لا توجد طريقة لإدراكها. لذلك ما الذي تقولونه أيها الهراطقة؟ هل حكمة الله بعيدة عن إدراك النبي ونحن ندرك جوهره؟ أليس هذا جنون فاضح؟ إن عظمته لا حدود لها وأنتم تزعمون بتحجيم جوهره؟

 

27- إن إشعياء النبي كان يتأمل هذه الأمور عندما قال "من سيعلن جيله" (إش 53: 8). إنه لم يقل "من يعلن؟" بل قال "من سيعلن؟" وبهذه الطريقة حجب إمكانية أي إعلان عن جيله في المستقبل. وداود من ناحية يقول: "إن معرفتك عجيبة جدًا لي" (مز 139: 6)، وإشعياء من ناحية أخرى يقول إن هذا الإعلان عن جيله حُجب ليس فقط عنه بل أيضًا عن كل كائن بشري. مع ذلك دعنا نرى إن كان بولس -من حيث أنه قد نال قسطًا عظيمًا من النعمة- هو أيضًا لم يعرف جيله. لكن بولس هو الشخص الذي قال: "إننا نعلم بعض العلم ونتنبأ بعض التنبؤ" (1كو 13: 9)، وهو لم يناقش موضوع جوهر الله في هذا الموضع، لكنه سواء ههنا أو في موضع آخر يتحدث عن الحكمة التي صارت ظاهرة في تدبير الله وعنايته.

 

28- ولم يتحدث بولس أيضًا عن العناية الإلهية الكاملة التي تشمل حسن رعايته للملائكة ورؤساء الملائكة والقوات السماوية. إن ما يناقشه بولس هنا هو مجرد جزء من العناية الإلهية التي يقدمها الله بتفضله لرعاية البشر على الأرض. وأيضًا فإن تفحصه هذا يلمس مجرد أمر زهيد من هذا الجزء. لأنه لم يفحص بالتمام والكمال ذلك الجزء من عناية الله التي بها يشّكل أجسادهم ويقوتها من منتجات الأرض، والتي بها يضبط العالم ويعطي محاصيل سنوية يقوت بها البشر والحيوانات. لقد تجاوز بولس كل هذه الأمور وفحص فقط جزءًا بسيطًا من عناية الله التي بها رفض اليهود وقبل الأمم (انظر رو 9-11).

 

29- عندما نظر بولس لهذا الجزء الصغير في حد ذاته صار كما لو كان ينظر بحرًا شاسعًا جدًا ولا قرار لعمقه، فللحال انسحب وهتف متعجبًا: "يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه. ما أبعد أحكامه عن الفحص" (رو 11: 33). إن بولس لم يقل "إن أحكامك لا تُدرك" بل قال "إن أحكامه لا تُفحص". فإن كانت أحكامه لا يمكن أن تٌفحص فلا يمكن أن تكون هناك إمكانية لإدراكها. ثم إن كان قد قال بعد هذا "ما أبعد طرقه عن الاستقصاء" فأخبرني من فضلك: هل طرقه لا تُستقصى بينما هو نفسه يمكن أن يكون مُدركًا؟

 

30- ولماذا أحدثك فقط عن طرقه، إن المكافآت التي حفظها الله لنا هي أيضًا لا تُدرك إذ أنه مكتوب: "ما لم تر عين ولم تسمع به أُذن ولم يخطر على بال إنسان ما أعدّه الله للذين يحبونه" (2كو 2: 9). إن عطيته أيضًا فائقة على كل وصف، لأن بولس يقول: "شكرًا لله على عطيته التي لا يُعبّر عنها" (2كو 9: 15)، ويقول أيضًا "وسلام الله الذي يفوق كل عقل" (في 4: 7).

ماذا تقولون أيها الهراطقة؟ إن أحكامه لا تُفحص وطرقه لا تُستقصى وسلامه يفوق كل عقل وعطيته فائقة على كل وصف وما أعدّه الله لمن يحبونه لا يخطر على قلب بشر وعظمته لا حد لها وفهمه لا نهائي - فهل كل هذه الأشياء غير مدركة بينما الله فقط يمكن أن يكون مدركًا؟ أي جنون جامح كامن في الإنسان الذي يقول مثل هذا القول.

 

31- ليتك توقف الهرطوقي ولا تدعه ينصرف. أخبرني -أيها الهرطوقي- ما رأيك في قول بولس الرسول "إننا نعلم بعض العلم" (1كو 13: 9)؟ فيجيب الهرطوقي: إن بولس لا يتحدث عن جوهر الله بل عن ضبطه وحكمه للكون.

حسن جدًا. إن كان بولس يتحدث عن ضبط الكون، فإن انتصارنا قد كمل! لأنه إن كان ضبطه للكون أمر غير مُدرك، إذًا فبالأولى جدًا أن الله نفسه في غير متناول قوى إدراكنا. لكن لكي تعلم أن بولس لا يتحدث هنا عن ضبط الله للكون بل عن الله نفسه فاسمع لما يلي.

 

32- بعد أن قال بولس: "إننا نعلم بعض العلم ونتنبأ بعض التنبؤ" (1كو 13: 9)، بعد ذلك بقليل قال: "الآن أعرف بعض المعرفة لكن حينئذ سأعرف كما عُرفت" (1كو 13: 12). إذًا من هو الذي كان يعرف بولس؟ هل هو الله أم قوة ضبط الكون؟ من الواضح أنه الله. لذلك فإنه يقول عن معرفته الحالية أنها ناقصة وجزئية. إنه يقول ناقصة ليس كأنه يعرف جزءًا من جوهر الله ولا يعرف جزء غيره، لأن الله بسيط وغير مركب من أجزاء.

 

33- إن بولس قال هذا لأنه من ناحية يعلم أن الله موجود ومن ناحية أخرى لا يعلم ما هو الله في جوهره. إنه يعلم أن الله حكيم لكنه لا يعلم مدى عظمة حكمته. إنه يعلم أن الله عظيم لكنه لا يعلم كيف أو ما هو كنه عظمته. إنه أيضًا يعلم أن الله موجود في كل مكان، لكنه لا يعلم كيف يكون هذا الأمر هكذا. إنه يعلم أنه يمد الكل بما يحتاجونه ويحفظهم ويقودهم إلى الكمال لكنه لا يعلم الطريقة التي بها يفعل الله كل هذه الأشياء، لذلك قال "إننا نعلم بعض العلم ونتنبأ بعض التنبؤ"

 

34- لنفترض -ويبدو أنها فكرة طيبة أن نفعل هذا- أننا نسينا بولس والأنبياء للحظة، ولنصعد الآن إلى السموات لنرى إن كان يوجد هناك من يعرفون الله في جوهره. لكن حتى إن وجد في السماء كائنات لها مثل هذه المعرفة، فينبغي أن ندرك أنهم لا يشابهوننا في شيء لأن الهوة التي تفصل بين (طبيعة) البشر و(طبيعة) الملائكة عظيمة جدًا وهذا الأمر يعطينا سببًا وجيهًا جدًا لأن نحاول أن نكتشف ما إذا كانت الملائكة لها مثل هذه المعرفة. لذلك فلننصت للملائكة لكي تعرف (أيها الهرطوقي) -وتعرف باستفاضة- إنه ولا حتى في السماء توجد أي قوة مخلوقة تعرف الله في جوهره.

 

35- إذًا ماذا تظن؟ هل تظن أن الملائكة يتحدثون ويتساءلون فيما بينهم عن الجوهر الإلهي؟ إطلاقًا! إذًا فماذا يفعل الملائكة؟ إنهم يمجدون الله ويعبدونه ويسبحون بلا توقف تسابيحهم الروحية وتسابيح الغلبة بشعور تقَّوي مملوء رهبة. فالبعض يسبح قائلًا: "المجد لله في الأعالي" (لو 4: 12)، والسيرافيم يسبحون قائلين "قدوس، قدوس، قدوس" (إش 6: 3)، ويبعدون عيونهم لأنهم لا يستطيعون أن يحتملوا حضور الله عند نزوله وتفضله ليكيف نفسه ليروه، والشاروبيم يقولون "مبارك مجد الرب في هذا المكان" (حز 3: 12)، ليس كأن الله يحده مكان، حاشا لله! بل إنهم يتكلمون على طريقة البشر كما لو أنهم يقولون "حيث هو كائن" أو "في أي موضع له"، هذا إن جاز التعبير بهذه الطريقة عن الله، لأن ألسنتنا تتحدث بلغة البشر.

 

36- هل ترون مدى عظمة الرهبة المقدسة في السماء ومدى الوقاحة المتكبرة هنا على الأرض؟ إن الملائكة في السماء يمجدونه، وأولئك الهراطقة على الأرض يحشرون أنفسهم ويتناقشون فيما يختص بجوهر الله. في السماء يمجدونه ويسبحونه وعلى الأرض نجد فضوليين بطريقة غريبة. في السماء يغطون وجوههم، وعلى الأرض يحاول الفضوليون بعناد ووقاحة أن يثبتوا أنظارهم على مجده الذي لا يُنطق به، فمن لا يئن ومن لا يبكي عليهم لهذا الجنون والحمق المطبق الذي لهم؟

 

37- إنني لست أرغب في أن أطوّر هذا النقاش فيستطيل. ومع ذلك حيث أنها المرة الأولى التي فيها أنزل لألتقي بخصومي في الحلبة، فإنني اعتقد أنها ميزة لكم الآن أن أكتفي بما قلته منذ قليل، وبهذه الطريقة فإن المجادلات التي سأطورها (فيما بعد) لن تأتي عليكم بطريقة مباغتة وكاسحة لما ستتذكرونه من المجادلات التي أعطيتها للتو.

 

38- على أي حال إن سمح الله وشاء سنعالج هذا الموضوع باستفاضة في المستقبل. لقد شعرت برغبة جارفة منذ وقت طويل مضى -مثل أم تتمخض- لأن أعد هذه المحاورات والحجج وأقدمها لكم. لكنني ترددت وتراجعت عندما وجدت كثيرين ممن هم مرضى بهذا المرض يصغون لكلماتي ويجدون لذّة فيما أقول. وحيث أنني لا أرغب في أن أُخيف فريستي، لذلك ألجمت لساني لبعض الوقت لكي لا أشتبك معهم في هذه المشاحنات. إنني أردت أن أجعلهم في وضع تراجع تام قبل أن أجرد نفسي لملاقاتهم في الحلبة.

 

39- لكن عندما سمعت -والشكر لله- أنهم يصيحون ويدعونني بتحدٍ لدخول الحلبة تشددت وتشجعت وأعددت نفسي لهذا العمل وأمسكت بأسلحتي التي بها نحن: "هادمين ظنونًا وكل علو يرتفع ضد معرفة الله" (2كو 10: 5). إنني لم أمسك هذه الأسلحة لكي أضرب أعدائي للأرض (أي أقتلهم)، بل لكي أرفعهم عن الأرض حيث أنهم منبطحين عليها. لأن هذه الأسلحة لها القدرة على ضرب المعاندين وإعطاء عناية شديدة لمن لهم فطنة في الاستماع، وهذه الأسلحة لا تجرح بل هي بالأولى تشفي من هم مرضى.

 

40- لذلك ليتنا لا نهيج ضد هؤلاء الناس وليتنا لا نتخذ الغضب كعذر، بل لنتحدث إليهم بوداعة ورقة. فليس هناك وسيلة أكثر فعالية وقوة من المعاملة برقة وعطف. لهذا السبب فإن بولس الرسول أوصانا أن نتمسك بمثل هذا السلوك من كل قلبنا عندما قال: "وعبد الله لا يجب أن يخاصم بل يكون مترفقًا بالجميع" (2تي 2: 24)، إنه لم يقل "مترفقًا فقط بإخوتك" بل قال "مترفقًا بالجميع". وأيضًا عندما قال: "ليكن حلمكم معروفًا" (في 4: 5)، لم يقل معروفًا عند إخوتكم، بل قال "معروفًا عند جميع الناس"، وهو يقصد بذلك أي صلاح تفعلونه إن كنتم تحبون من يحبونكم (فقط)؟

 

41- لكن إن كان حبهم يؤذيك ويجرك لتشاركهم شرهم، فحتى لو كانا والديك عليك أن تهرب منهما، ولو كانت عينك فاقلعها، لأن متى الإنجيلي قال لنا: "إن كانت عينك اليمنى تعثرك فاقلعها وألقها عنك" (مت 5: 29). لكن متى الإنجيلي لم يكن يتحدث هنا عن الجسد (من حيث كونه طبيعة محسوسة). كيف لنا أن نتيقن من هذا؟ لأنه لو كان يتحدث هنا عن طبيعة الجسد، فإن اللوم والتوبيخ سيعود ثانية على صانع هذه الطبيعة.

 

42- ثم إنه لن تكون هناك فائدة من اقتلاع عين واحدة، لأنه إن كانت العين الأخرى موجودة فهي نفسها ستقود الإنسان للخطية تمامًا مثلما صنعت العين اليمنى. ولكي تتيقن أنه لم يكن يتحدث عن العين في حد ذاتها، فإن متى الإنجيلي أضاف عليها كلمة "اليمنى"، وهو بهذا يبين لك أنه إن كان لك صديق عزيز عليك كعينك اليمنى ويجعلك تخطئ فعليك أن تهجره وتقطع نفسك من صداقته لك. أي خير يكون لك إن كان لك عين ستؤدي إلى تدمير (إهلاك) جسدك كله؟

 

43- إن كانت الصداقات -كما قلت- ستسبب لنا أذية فلنهرب منها ونتخلى عنها. لكن إن وجد أُناس لا يسببون لنا ضررًا في موضوع التقوى فلنكسبهم ونضمهم كأصدقاء لنا. لكن إن لم يكن ذا نفع لك وهو يضرك (بصداقته) فاقطع نفسك من مثل هذه الصداقة وانتفع بكونك ظللت بمعزل عن ضرره لك. وإن وجد من يضرونك فتحاشى أن تجعل منهم أصدقاء لك. فقط اهرب منهم، لا تنازع ولا تقدم على عراك معهم. وهذا ما يوصي به بولس الرسول عندما يقول: "إن كان ممكنًا فحسب طاقتكم سالموا جميع الناس" (رو 12: 18).

← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

 

44- أنتم عبيد لإله السلام، الذي أخرج الشياطين وصنع أعمالًا خيّرة كثيرة، وحتى عندما دعوه شيطانًا لم يقذفهم بصاعقة، والذين كانوا يجدفون عليه لم يحولهم إلى غبار ولم ييبس ألسنتهم الوقحة والمتعجرفة. كان يمكنه أن يصنع بهم كل هذه الأشياء، لكنه اكتفى بدفع التهمة عنه بقوله: "أنا ليس بي شيطان، لكني أكرم أبي" (يو 8: 49).

 

45- وعندما ضربه عبد رئيس الكهنة، ماذا قال؟ إن كنت قد تكلمت رديًا فاشهد على الرديء وإن حسنًا فلماذا تضربني؟" (يو 18: 23) فحيث أن رب الملائكة يترافع عن نفسه ويقدم كشف حساب إلى عبد فلا توجد حاجة لمزيد من الكلام. اكتف أنت بتفكر هذه الكلمات في ذهنك وتأمل بها دائمًا وقل: "إن كنت قد تكلمت رديًا فاشهد على الرديء وإن حسنًا فلماذا تضربني؟" وتفكر فيمن قالها ولمن قالها ولأي غرض قالها وسيكون لك في تأمل هذه الكلمات نوع من الحصانة (حرفيًا الرقية) الإلهية التي لا تنقطع، وهذه الكلمات ستصير قادرة على تهدئة كل جيشان نفسك.

 

46- تأمل كرامة من أُهين وتفاهة من أهانه وشناعة الإهانة ذاتها. إن المسيح ليس فقط عومل باحتقار، بل إن العبد أيضًا ضربه، ولم تكن هذه مجرد ضربة بل لطمة على وجهه، ولا شيء يشين الإنسان أكثر من أن يُضرب على وجهه والمسيح قد احتمل كل هذا لكي تتعلم من عظمة ضبطه لنفسه أن تضبط نفسك.

 

47- لنتفكر مليًا في هذه الأمور الآن، وعندما تكون هناك ضرورة فلنستعيد تذكرها. لقد أظهرتم استحسانكم لما قلت، والآن اظهروا استحسانكم بأعمالكم. إن الرجل الرياضي يتدرب في مدرسة المصارعة لكي يُظهر في مبارياته ما انتفع به من تدريب فيها. لذلك عندما يأتي عليكم الغضب اظهروا المنفعة التي نلتموها من استماعكم لي هنا. داوموا على ترديد هذه الكلمات مرارًا قائلين: "إن كنت قد تكلمت رديًا فاشهد على الرديء، وإن حسنًا فلماذا تضربني؟".

 

48- احفروا هذه الكلمات في قلوبكم، ولهذا السبب فأنا أداوم على تذكيركم بها. إنني أفعل هذا لكي يثبت في نفوسكم كل شيء ذكرته لكم، ويظل تذكر هذه الكلمات دائم، ولا تُمحى أيضًا المنفعة التي تحصلون عليها من تذكركم إياها. إن حفظنا هذه الكلمات محفورة في أعماق ذهننا، فلن يوجد بيننا من هو قاس القلب وأحمق وعديم الشعور فيترك نفسه ويستسلم لموجة الغضب. إن هذه الكلمات ستصير قادرة على كبح ألسنتنا أفضل من أي لجام عندما تنجرف بعيدًا متجاوزة العقل. وهي ستصير قادرة على تقليص هيجان الفكر وتحفظه هادئًا وساكنًا بصفة دائمة ويمكنها أن تجعل السلام التام يحل داخلنا.

 

49- ليتنا نستمتع بهذا السلام بنعمة ومحبة ربنا يسوع المسيح الذي له المجد مع أبيه والروح القدس الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور آمين.

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

(129) يقصد البابا فلافيان خليفة البابا ملاتيوس بطريرك إنطاكية.

(130) يقصد هنا الكنيسة.

(131) هنا يقصد ذهبي الفم الأنوميين ومن على شاكلتهم ممن ادّعوا بوقاحة بمعرفتهم لله كمعرفة الله لنفسه.


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/books/fr-angelos-almaqary/john-chrysostom-incomprehensible-nature-of-God/discipleship-love.html

تقصير الرابط:
tak.la/b29s6w4