St-Takla.org  >   books  >   fr-angelos-almaqary  >   john-chrysostom-father-son-equality
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

كتاب مساواة الآب والابن في الجوهر: للقديس يوحنا ذهبي الفم - القمص أنجيلوس المقاري

5- العظة العاشرة: تذكار مدائح الشهداء | لماذا صلى المسيح؟ | إكمال الناموس وليس نقضه | المسيح أخذ جسدًا عن تواضع

 

محتويات: (إظهار/إخفاء)

تذكار مدائح الشهداء
تقاسم الكلمة
تذكر موضوع نقاش العظة السابعة
كلمات وأقوال المسيح
لماذا صلى المسيح؟
المسيح في طريقة تصرفه
توافق (وتناسق) العهدين
إكمال الناموس وليس نقضه
امتداح العين
الناموس يكتمل مع الوقت
رجعة إلى موضوع الناموس القديم والجديد
المسيح أخذ جسدًا عن تواضع
تعريف التواضع
حث أخير: ضرورة الغفران
دوافع عطوفة (تتسم بالحب) نحو الكل

العظة العاشرة

 

تذكار مدائح الشهداء

أثناء الأيام الكثيرة الماضية، ألقيت عظات تقريظ كثيرة، وفيها أخذت كموضوع لي جهادات الرسول (بولس) وتهللت في تعداد أعماله الروحية الفاضلة. وآن الأوان الآن لأن أنهي وفاء ديني لكم، ولا يوجد شيء يمنعني عن عمل هذا. لأن أيام كثيرة توسطت (حيث توقف عن متابعة ما سبق أن قاله في عظاته السابقة)، فأنا أعلم أنكم نسيتم كم أنا لازلت مدين به لكم. لكنني لن أخفي ديوني بسبب نسيانكم، بل سأشتاق بالأكثر لدفعها. أنا لا أفعل هذا فقط بسبب إنني مدين لكم، بل لأنه أيضًا مفيد لي.

في حالة التعاقدات ذات الصبغة المادية من المفيد للمدين أن تناسى الدائن. لكن عندما يكون التعاقد في أمر روحي، توجد هناك فائدة لمن هو مزمع أن يدفع الدين -مهما كان الدين كبيرًا- لو أن من سيدفع لهم ذكّروه باستمرار بديونه. لأن في هذا العالم المادي وفاء المال يطلق المدين من دينه. إن المال ينتقل للدائن وتتقلص أموال المدين، بينما ثروة الدائن تزيد. لكن ليس الأمر هكذا في الديون الروحية، إذ من الممكن بآن واحد وفاء الدين وفي نفس الوقت تحتفظ بملكيته، لكن الشيء الأعجب جدًا هو أنه إن دفعنا ديوننا حينئذ بالأخص نمتلك هذا الخير. لكن فائدتي تتقلص ومصادري تنخفض لو أنني احتفظت بثروتي (الروحية) مدفونة في ذهني تحت حفظ متواصل أو لم أشرك أحد فيها أبدًا. لكن لو أخذت ما في ذهني ونقلته لكل إنسان، لو أنني جعلت عددًا كبيرًا من الناس تقاسمني وتشاركني في كل شيء أرفع، فإن ثروتي الروحية ستزيد. بالتأكيد إنه صدق أن من يشرك آخرين يزيد ثروته، بينما الذي يخفيها يقلل من ربحه. ولديّ شاهد على هذا الذين أخذوا الوزنات فواحد منهم أُعطي خمسة والثاني وزنتين والثالث وزنة. اثنان منهم ضاعفوا وزناتهم التي أُعطيت لهم، ولهذا السبب تم إكرامهم. أما الثالث فاحتفظ بالوزنة لنفسه ولم يشرك فيها أحدًا. لذلك لم يستطع مضاعفة وزنته ولأجل هذا عوقب.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

تقاسم الكلمة

إذ نحن نسمع لهذا المثل ونخشى العقوبة التي يسردها، لذلك فلنقدم لإخوتنا الحسن الذي لنا ولا نخفيه بل لنشارك كل الناس فيه علانية. عندما نقاسم الآخرين فيه حينئذ سنصير أكثر غنى. عندما نجعل كثيرين مساهمين في مشروعنا التجاري حينئذ سنزيد غنانا. أنتم تظنون أن مجدكم يتقلص عندما تشاركوا مع كثيرين معرفة الأشياء التي تعرفونها أنتم فقط. في الحقيقة فهذا هو الوقت الذي سيزيد فيه مجدكم وربحكم. أقصد اللحظة التي فيها تطئون الخبث تحت أقدامكم، عندما تطفئون نار الغيرة، عندما تظهر حبًا عظيمًا لأخيك. لو تجولت على أنك الوحيد الذي يمتلك معرفة شيئًا ما، سيحيد الناس عنك ويكرهونك كشخص غيور (على مجده) وكاره للناس، والله سيوقع بك قصاصًا شديدًا كشخص شرير.

St-Takla.org Image: Martyr Lucy and Geminianus: Martyrs Lucy and her son Geminian of Rome (303). - Menologion of Basil II, 10th century manuscript, Vatican Library. صورة في موقع الأنبا تكلا: الشهيدة لوسي وابنها جيمينيانوس من روما (303 م.). - من مخطوط كتاب خدمات الإمبراطور باسيليوس الثاني، القرن العاشر، مكتبة الفاتيكان.

St-Takla.org Image: Martyr Lucy and Geminianus: Martyrs Lucy and her son Geminian of Rome (303). - Menologion of Basil II, 10th century manuscript, Vatican Library.

صورة في موقع الأنبا تكلا: الشهيدة لوسي وابنها جيمينيانوس من روما (303 م.). - من مخطوط كتاب خدمات الإمبراطور باسيليوس الثاني، القرن العاشر، مكتبة الفاتيكان.

بالإضافة إلى كل هذا فإن النعمة ذاتها ستتخلى عنك سريعًا وتهجرك. حتى عندما يُحفظ القمح في المخازن فإنه يفسد عندما يأكله السوس، لكن لو ذهبنا به إلى الحقول وزرعناه، ينتج حياة جديدة ويتضاعف. كذلك أيضًا لو أن الحديث الروحي تم الاحتفاظ به دومًا في القلب، فإنه سريعًا ينطفئ (يتلاشى) بسبب أن النفس تتآكل وتتدمر بغيرة تجعلها تضمر وتتلف. لكن لو أن الحديث زُرع في نفوس إخوتنا مثل بذور في حقل خصيب، فالكنز يتضاعف لمن يمتلكه ومن يناله.

إن النبع الذي يُسحب منه الماء دومًا يصير أنقى ويضخ ماء بكمية أعظم، لكن لو تم تغطيته يمتنع الماء. بنفس الطريقة لو أننا سحبنا من عطيتنا الروحية وكلمة الإرشاد، لو أننا أعطيناها باستمرار لمن يرغبون في الأخذ منها، فإنها ستتدفق بالأكثر. لكن لو تم دفنها (إخفائها) تحت ستار غيرة تتقاعس عن المشاركة مع آخرين ستمتنع وفي النهاية تنطفئ. لذلك حيث أن الأمر هكذا مفيد لي، هلموا ودعوني بأقصى مقدرتي أدفع علانية كل ديني لكم. لكن دعوني أولًا أذّكر أذهانكم بالترتيب وتتالي المحاورات التي تشكل الدين الذي أنا ملزم بدفعه.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

تذكر موضوع نقاش العظة السابعة

أنتم تعرفون وتذكرون إنني في أحاديثي قريبة العهد عن مجد الابن الوحيد (الجنس) عددت أسبابًا كثيرة لماذا هو تنازل وكيّف نفسه بالطريقة التي تكلم بها. أيضًا قلت أن المسيح في مناسبات كثيرة تكلم بطريقة وضيعة وبلهجة متواضعة، ليس فقط لأنه كان متشحًا بالجسد وضعف سامعيه (روحيًا)، بل أيضًا في أحيان كثيرة كان يعلمنا أن نكون متضعين في أذهاننا. في ذلك الوقت ناقشنا تلك الأسباب بما فيه الكفاية وأيضًا عندما ذكّرنا ذهنكم بالصلاة التي قدمها في إقامة لعازر والصلاة التي قدمها على الصليب نفسه. إنني برهنت بوضوح أنه فاه واحدة من هذه الصلوات كضمان لتدبير الفداء (انظر مت 26: 39)، والأخرى (يو 11: 41-42) ليقوّم ضعف من يسمعوه ولو أنه غير محتاج لمساعدة نفسه (بالصلاة).

وأنصتوا لهذا كدليل على أنه صنع أشياء كثيرة بينما كان يعلّم الناس أن يكونوا متضعين في أذهانهم. إنه سكب الماء في مغسل -وكما لو كان هذا غير كافي- فإنه أخذ منشفة واتزر بها وأنزل نفسه إلى أقصى أتضاع عندما بدأ بغسل أرجل تلاميذه (يو 13: 4-5)، وضمن بقية التلاميذ فإنه غسل قدمي يهوذا الخائن. من لا تصيبه الدهشة من هذا (التصرف)؟ إنه غسل قدمي من هو مزمع أن يخونه. عندما امتنع بطرس وقال: "لن تغسل رجليّ أبدًا" (يو 13: 8) لم يتخطاه المسيح بل قال له: "إن كنت لا أغسلك فليس لك معي نصيب" [تابع (يو 13: 8)]. حينئذ قال بطرس: "يا سيد ليس رجليّ فقط بل أيضًا يديّ ورأسي" (يو 13: 9).

هل ترى توقير هذا التلميذ (لمعلمه) سواء عندما رفض أو عندما وافق؟ فمع أن كلا المقولتين كانتا متناقضتين، لكنهما قيلتا من ذهن ملتهب (بالحب لسيده). هل ترى كيف أنه في كل الظروف كان متقدًا وجسورًا؟

لكن بينما أنا مزمع أن أقول لكم لأمنعكم من الظن أن المسيح له طبيعة وضيعة بسبب وضاعة ما فعله، اسمعوا (بالأولى) لما قاله لهم بعد أن غسل أقدامهم: "أنتم تدعونني معلمًا وسيدًا وحسنًا تقولون لأني أنا كذلك. فإن كنت وأنا السيد والمعلم قد غسلت أرجلكم فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض. لأني أعطيتكم مثالًا حتى كما صنعت أنا بكم تصنعون أنتم أيضًا" (يو 13: 13-15).

هل ترون أنه عمل أشياء كثيرة لكي يعطيهم مثالًا؟ المعلم المملوء حكمة يتلعثم مع تلاميذه الصغار المتلعثمين. لكن تلعثم المدرس لا يتأتى من نقص في قدرته بل هو علامة على الاهتمام الذي يشعر به تجاه أولاده. بنفس الطريقة لم يعمل المسيح هذه الأعمال بسبب وضاعة جوهره. إنه عملها بسبب أنه تنازل وكيّف نفسه لأجلنا.

لا ينبغي أن نعبر على هذا ببساطة. لو أننا فحصنا أفعاله في حد ذاتها، انظر أية سخافة ستترتب على هذا. لو رأينا أن الذي غسل أدنى كثيرًا من الذي يُغسل له -والمسيح هو الذي غسل بينما التلاميذ هم الذين غُسل لهم- إذًا سيكون المسيح أدنى من التلاميذ. لكن ولا حتى الإنسان الأحمق سيقول هذا، فهل ترون كم أنه من الخطأ ألا نعرف الأسباب لماذا فعل المسيح كل شيء عمله؟ بل ألا ترون كيف أنه من الأفضل أن نفحص كل أعماله بحرص شديد؟ لا ينبغي أن نكتفي بقول أن المسيح قال أو فعل شيئًا ما كان وضيعًا وخفيضًا. ينبغي أن نضيف أيضًا السبب لماذا (هو عمل أو قال هذا على هذا النحو الوضيع الذي لا تناسب مع كونه إله).

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

كلمات وأقوال المسيح

وهذا ما فعله المسيح هنا في حادثة غسل الأرجل. إن المسيح أشار أيضًا إلى نفس الشيء في موضع آخر. أولًا هو قال: "لأن مَن هو أكبر؛ الذي يتكئ أم الذي يخدم؟" (لو 22: 27)، ثم أضاف قوله: "أليس الذي يتكئ؟ ولكن أنا بينكم كالذي يخدم" [تابع (لو 22: 27)]. إنه قال هذا وفعل هذا بسبب أنه كان يُظهر أنه في حالات كثيرة أخذ لنفسه الأشياء الأحقر لكي يعلّم التلاميذ وفي نفس الوقت يفوز بهم في ممارسة الاتضاع.

ومن الواضح أنه احتمل هذه الأعمال الذليلة لكي يعلّم التلاميذ وليس بسبب أن طبيعته كانت أدنى. لأنه قال في موضع آخر: "أنتم تعلمون أن رؤساء الأمم يسودونهم والعظماء يتسلطون عليهم. فلا يكون هكذا فيكم. بل من أراد أن يكون فيكم عظيمًا فليكن لكم خادمًا. إن ابن الإنسان لم يأت ليًخدم بل ليخدم" (مت 20: 25-28). فإن أتى هو ليخدم ويعلّم الاتضاع فلا تنزعج. لا يخور قلبك لو رأيته في أي وقت أو أي موضع يتصرف أو يتكلم كعبد.

بهذه الطريقة قدم هو كثيرًا من صلواته بنفس الغرض. بالتأكيد فإن التلاميذ جاءوا إليه وقالوا "يا رب علّمنا أن نصلي كما علّم يوحنا أيضًا تلاميذه" (لو 11: 1). قل لي: ماذا كان عليه أن يفعل؟ هل كان عليه أن يرفض تعليمهم الصلاة؟ لكن لأجل هذا هو جاء لكي يقودهم إلى الطريقة الكاملة للحياة. هل كان عليه أن يعلّمهم؟ لذلك كان عليه أن يصلي.

لكن الهراطقة سيقولون: كان عليه أن يفعل هذا فقط بكلماته. لكن ممارسة التعليم بالكلام لا يقنع عادةٍ من يتعلمون كما يفعل التعليم بالفعل والمثال (العملي). بالتأكيد هذا هو السبب أنه لم يعلّم التلاميذ الصلاة فقط بكلماته، بل بالأحرى هو علّمهم دائمًا بمثال (عملي) وقضى ليالي بأكملها في الصحراء يصلي. إنه عمل هذا ليعلّمنا وينصحنا أنه عندما نزمع أن نتحادث مع الله، ينبغي أن نهرب من الضوضاء والزحام والتشويش. بالعكس ينبغي أن نذهب إلى موضع منعزل ونمضي فيه وقت لا تتعوق فيه خلوتنا. لا يقدم الجبل فقط الخلوة المطلوبة، بل أيضًا المخدع الذي لا ضوضاء أو ضجيج فيه يمكنه أن يقدم فرصة شبيهة.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

لماذا صلى المسيح؟

ينبغي لكم أن تعلموا أنه صلى لكي يتنازل ويكيف نفسه لنا. لقد برهنت هذا خصوصًا عندما تحدثت عن الأحداث التي تمت في إقامة لعازر. لكن الأمور الأخرى تجعل هذا أيضًا واضحًا. فمثلًا لماذا لم يصلي في حالة معجزاته الأعظم بينما صلى عندما كانت المعجزات التي أجراها أقل إبهارًا؟ لو هو صلى لأنه احتاج إلى معونة الآب وبسبب أن قوته كانت أدنى، لكان له أن يصلي ويدعو الآب لمساعدته في كل معجزاته. وإن لم يكن في الكل، فعلى الأقل كان له أن يصلي له في معجزاته الأعظم. لكننا نجد أنه عمل العكس. إنه لم يصلي عندما أجرى المعجزات الأعظم. لكننا نجد أنه عمل العكس. إنه لم يصلي عندما أجرى المعجزات الأعظم بسبب أنه كان يظهر لنا أنه عندما صلى، تصرف هكذا لكي يعلّم آخرين وليس بسبب نقص في قوته. بالتأكيد عندما بارك أرغفة الخبز لم يتطلع إلى السماء وصلى. إنه فعل هذا لأنه كان يعلّمنا ألا نتذوق الطعام على المائدة قبل أن نشكر الله الذي صنع الأكل لنأكله. عندما أقام كثيرًا من الموتى لم يصلّ بل صلى فقط عندما أقام لعازر. وقلنا في حديثنا السابق أن السبب في هذا كان هو تقويم ضعف من كانوا موجودين آنذاك. وهو نفسه أعطى هذا كسبب عندما أعلن بوضوح "لأجل هذا الجمع الواضح قلت" (يو 11: 42). في ذلك الحديث قدمت دليلًا وافيًا أن الذي أقام الميت لم تكن صلاته بل كلماته (لعازر هلم خارجًا). انظروا بتدقيق الآن حتى يكون لكم أيضًا معرفة أوضح عن هذا.

عندما كان هناك احتياج للثواب أو العقاب، لمغفرة الخطايا أو سن تشريعات، عندما كان على المسيح أن يصنع واحدة من الأشياء الأكثر عظمة، لن تجدوه يدعو الآب (طلبًا) للمعونة، ولا ستجدونه يصلي. كل هذه الأشياء ستجدون أنه فعلها بسلطانه الذاتي.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

المسيح في طريقة تصرفه

وسأعدد كل واحدة منها. ينبغي أن تلاحظوا بتدقيق عظيم كيف أنه لم يكن بحاجة إلى الصلاة في أيِّ من هذه المواقف.

إنه قال: "تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعد لكم" (مت 25: 34)، وأيضًا قال: "اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته" (مت 25: 41).

أتنظر كيف يعاقب ويكافئ بكل سلطان ودون احتياج للصلاة؟ وكذلك أيضًا عندما كان عليه أن يشفي المفلوج قال له: "لك أقول قم واحمل سريرك واذهب إلى بيتك" (مر 2: 11). وعندما كان عليه أن يحرر الصبية من الموت قال: "يا صبية لك أقول قومي" (مر 5: 41)، وعندما كان عليه أن يحل المفلوج من خطاياه قال له: "ثق يا بني. مغفورة لك خطاياك" (مت 9: 2). وأيضًا عندما كان عليه أن ينتهر الشياطين قال: "اخرج من الإنسان يا أيها الروح النجس" (مر 5: 8). عندما كان عليه أن يلجم البحر قال: "اسكت. أبكم!" (مر 4: 39). عندما كان عليه أن يطهر الأبرص قال: "أريد فاطهر" (مت 8: 3). عندما كان عليه أن يسن تشريعًا قال: "قد سمعتم أنه قيل للقدماء لا تقتل. وأما أنا فأقول لكم إن كل من يغضب على أخيه باطلًا يكون مستوجب الحكم. ومن قال يا أحمق يكون مستوجب نار جهنم" (مت 5: 21-22). هل ترون أنه صنع كل شيء بسلطان كسيد؟ إنه زج بالبعض في جهنم، وقاد آخرين إلى الملكوت، شفى المفلوج، طرد الشياطين إلى الهلاك، غفر خطايا، انتهر الشياطين، جعل البحر يبكم ويصير هادئًا.

ولكن أخبروني أيها تكون المعجزة الأعظم؟ هل الاقتياد إلى الملكوت والزج في جهنم؟ هل غفران الخطايا وسن شرائع بسلطان أو هل تكثير الخبز؟ أليس من الواضح، ألا يوافقني كل إنسان أن الأخيرة (تكثير الخبز) ليست في عظمة بقية المعجزات؟ لكن بالرغم من هذا لم يصل عندما أجرى المعجزات الأعظم، لأنه كان يُظهر أنه حتى عندما صلى في المعجزات الأقل لم يصلي بسبب نقص في قوته، بل بسبب أنه كان يعلّم من كانوا واقفين أمامه آنذاك.

لكي تعرفوا كم هي معجزة عظيمة أن تغفر خطايا سأقدم لكم نبيًا كشاهد لي. هذا النبي يظهر أن مغفرة الخطايا ليست من عمل أحد سوى الله فقط، وذلك عندما قال: "من هو إله غافر الإثم وصافح عن الذنب؟" (مي 7: 18). وإحضار النفوس إلى الملكوت هو عمل أعظم من ملاشاة الموت. لكنه اقتاد النفوس إلى الملكوت وفعل هذا بسلطانه الخاص (في حالة اللص اليمين). إن سن الشرائع ليس عمل من هم خاضعين، بل هو عمل من يحكمون. إن ذات طبيعة ما عُمل تعلن هذا، لأنه أمر يختص بالملوك فقط أن يسنوا الشرائع. إن الرسول (بولس) يبين هذا عندما يقول: "وأما العذارى فليس عندي أمر من الرب فيهن ولكنني أعطي رأيًا كمن رحمه الرب أن يكون أمينًا" (1كو 7: 25). حيث أن بولس كان خادمًا، فهو لم يجرؤ على إضافة شيئًا لما تم تشريعه بقانون من البدء.

إن المسيح لم يتصرف كما فعل بولس. فهو يذكر الشرائع القديمة بسلطان عظيم وبعد ذلك يقدم شرائع من عنده. إن سن الشرائع بدون أي صلاحية (من أحد) هو أمر يختص بسلطان ملوكي فقط. لكننا نجد المسيح يسن الشرائع بنفسه ويعدّل الشرائع القديمة. إن كان الحال هو هكذا فأي ملاججة متروكة لمن بوقاحة يعارضونه؟ هذا بالتأكيد يوضح أن المسيح هو من نفس جوهر الآب الذي ولده.

← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

توافق (وتناسق) العهدين

لكي ما أقوله يصير أكثر وضوحًا، لنمضِ إلى كل موضع في الأسفار حيث يتحدث المسيح عن الناموس. بعد أن صعد المسيح إلى الجبل، فلما جلس تقدم إليه تلاميذه ففتح فاه وعلّمهم قائلًا: طوبى للمساكين بالروح... طوبى للرحماء... طوبى لأنقياء... (انظر مت 5: 1-11)، ثم بعد هذه التطويبات قال: "لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل" (مت 5: 17). إنه لم يكن بسبب ما قاله (أي التطويبات) أنه صنع هذا التصحيح، بل بسبب ما كان مزمعًا أن يقوله. إنه كان مزمعًا في بدء الامتداد بالوصايا ولم يكن يرغب أن التلاميذ يظنوا أن أي زيادة يصنعها فيها تضارب (مع الوصايا القديمة) ولا أن أي إضافة يكون فيها تناقض مع الوصايا القديمة. لهذا السبب قال: "لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء" (مت 5: 17) أي أنني مزمع أن أقول أشياء أكثر كمالًا عن التي قيلت من قبل. فمثلًا: "سمعتم أنه قيل لا تقتل. وأما أنا فأقول لكم لا تغضبوا. سمعتم أنه قيل للقدماء لا تزن. وأما أنا فأقول لكم إن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه" (مت 5: 21-22، 27-28). وهناك أيضًا أقوال كثيرة مشابهة.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

إكمال الناموس وليس نقضه

لكن لا تظنوا أن إكمال الناموس ينقضه (أي يلغيه)، إنه ليس نقض بل إكمال. ما فعله المسيح بالأجساد، صنعه أيضًا مع الناموس. ماذا صنع مع الأجساد؟ عندما جاء ووجد أعضاء كثيرة مشوهة وكلها ضعيفة وناقصة، أكملها وأعادها إلى الحالة الصحيحة والسليمة. في هذه الأفعال وفي كل ما صنعه أظهر أنه كان هو الذي أسس الشرائع القديمة وأنه كان هو الذي خلق البشر.

كم كانت لهفة المسيح لإثبات هذا (لفائدة وخلاص البشر)، يتضح بالأكثر عندما شفى المسيح الأعمى (منذ ولادته). لذلك صنع المسيح الطين وطلى بالطين (موضع) عيني الأعمى وقال له اذهب اغتسل في بركة سلوام (انظر يو 9: 6-7). عندما أقام الميت بأمره فقط (لعازر هلم خارجًا)، عندما أدى معجزات أخرى كثيرة بمجرد كلمة، لماذا في هذه الحالة (التي للمولود أعمى) أضاف عليها عملًا بأن صنع طينًا وطلى بها عيني الأعمى؟ أليس من الواضح أنه تصرف هكذا حتى عندما تسمع أن الله أخذ ترابًا من الأرض وصنع الإنسان تعلم مما حدث هنا (في شفاء الأعمى منذ ولادته) أن المسيح هو الذي خلق الإنسان في البدء؟ لو لم يكن هذا هو ما يرغب في إثباته، فما عمله عندما صنع الطين (وطلى به عيني الأعمى) هو شيء سخيف ولا ضرورة له.

علاوة على ذلك هو أرادكم أن تعلموا أن الطين الذي استخدمه لم يساعده في استعادة نظر الأعمى. إن طلاء عينيه بمجرد أمر بدلًا من طلائها بذلك الطين كان أكثر من كافٍ. لهذا السبب هو أضاف أمرًا وقال له: "اذهب اغتسل في بركة سلوام" (يو 9: 7).

ربما يرغب النحات الرفيع المستوى في برهنة مهارته باستخدام واحدة من أعماله. وهكذا عندما يشكل تمثالًا، يترك جزءًا منه، لكيما بمهارته في صنع الجزء المتروك يبرهن على أنه صانع التمثال كله. بنفس الطريقة عندما أراد السيد المسيح أن يبرهن أنه هو الذي صنع الإنسان كله (في البدء) ترك هذا الإنسان ناقصًا (في خلقته). إنه تصرف هكذا لكي عقب مجيئه وإعطاء نظر للأعمى واستعادة الجزء الذي كان محذوفًا (أي ناقصًا) يغرس فينا الإيمان والاعتقاد أنه كان هو الذي صنع الإنسان كله (في البدء).

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

امتداح العين

ولاحظ أي جزء هو يستخدمه ليبين هذا. إنه لا يستعيد اليد أو الرجل، بل استعاد النظر للعينين، اللذان هما أجمل أعضائنا وأكثرها ضرورة لنا. بالتأكيد لا يوجد فينا جزء أكثر من أعيينا. حيث أنه استطاع أن يشكل (يخلق) أجمل وأكثر الأعضاء ضرورة لنا -أقصد الأعين- فمن الواضح تمامًا أنه يستطيع أن يشكل اليد والرجل وكل الأعضاء الأخرى.

يا لهذه العيون المطوبة (التي لهذا الأعمى)!

إنها صارت منظرًا لكل من كانوا واقفين بالقرب واجتذبت كل الناس إليها، وبجمالها تحدثوا وهي علّمت كل الواقفين بالقرب كم كانت عظيمة القوة التي للمسيح. بالتأكيد إن ما حدث كان غير متوقعًا وكان مضادة. إنسان أعمى كان يعلّم من لهم نظر كيف يروا. المسيح أوضح هذا عندما قال: "لدينونة أتيت أنا إلى هذا العالم حتى يبصر الذين لا يبصرون ويعمى الذين يبصرون" (يو 9: 39).

يا لهذا العمى الطوباوي! النظر الذي لم ينله من الطبيعة، ناله من النعمة. ولا التعوق الذي عاناه سبَّب خسارة إن قورن بالربح الذي حازه من الطريقة التي بها تم الشفاء. أي عينين يمكن أن تكون عجيبة أكثر من العينين اللتين تكرّم المسيح بوضع الطين عليهما بيديه الطاهرتين اللتين بلا عيب؟ ما حدث في حالة المرأة العاقر (أليصابات) حدث أيضًا هنا. إنها لم تتضرر أبدًا من التأخير، بل هي صارت أكثر شهرة بسبب أنها حبلت وولدت ابنًا ليس بقوانين الطبيعة، بل بقوانين النعمة. بنفس الطريقة لم يتضرر الأعمى بعماه السابق بل أيضًا نال أعظم منفعة منه، لأنه أُعتبر جديرًا أولًا أن ينظر شمس البر وأيضًا لأن الشمس التي في السماء مرئية الآن لعينيه.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

الناموس يكتمل مع الوقت

إنني أقول هذا لكي لا نشعر بانزعاج أو نقبل الأمر كرهًا عندما نرى واحدًا منا أو أي شخص آخر يعاني أي بلايا. لو احتملنا كل شيء يحدث لنا بإحساس الشكر والصبر، فكل بلية ستأتي إلى نهاية مفيدة لنا وتملأنا ببركات كثيرة. لكن هذا هو ما أود أن أقوله. المسيح أخذ أجسادًا كانت ناقصة لأنها كانت عادمة شيئًا ما وجعلها تامة وكاملة. بنفس الطريقة هو أخذ الناموس الذي كان ناقصًا وقوّمه وشكله وجعله في حالة أكثر كمالًا.

عندما تسمعني أقول أن الناموس لم يكن كاملًا، لا تظن أنني ألوم من صنع الناموس. إن الناموس لم يكن ناقصًا بسبب طبيعته ذاتها، إنه صار ناقصًا بمرور الوقت. في الوقت الذي فيه صيغ، كان الناموس تامًا جدًا وملائمًا بدقة للطبائع التي أخذته. لكن عندما تقدمت الطبيعة (البشرية) إلى حالة أكثر كمالًا، بعد ذلك من خلال تعاليم المسيح، صار الناموس القديم أقل كمالًا، ليس بطبيعته ذاتها، بل بسبب التقدم في الفضيلة الذي حدث من التعاليم التي أعطاها المسيح.

لنفترض أنه صنع قوسًا وسهامًا ليتدرب عليها أمير (صغير) وليس لاستخدامها في الحروب والمعارك. بالتأكيد هذه الأسلحة تصير عديمة الفائدة عندما يكبر الأمير وقد تعلّم أن يبرع في القتال. نفس الشيء حدث مع طبيعتنا. عندما كنا في حالة أقل كمالًا وكنا نتعلم بتدريب أنفسنا بالممارسة، أعطانا المسيح أسلحة مناسبة يمكننا أن نحملها بسهولة. عندما كبرنا فيما بعد ونضجنا بتقدمنا في الفضيلة، صارت تلك الأسلحة أقل ملائمة (لنا) لأننا تقدمنا في الكمال. لهذا السبب جاء المسيح ووضع في أيدينا أسلحة أخرى أفضل (من الأولى).

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

رجعة إلى موضوع الناموس القديم والجديد

انظروا إلى الفطنة العظيمة والحكمة اللتين يظهرهما المسيح عندما يذكر الشرائع القديمة وبعد ذلك يقدم الجديدة. لأنه قال "سمعتم أنه قيل للقدماء لا تقتل" (مت 5: 21).

أخبرنا أيها المسيح: من قال هذا؟ هل أنت قلته أم أبيك؟ لكنه لا يخبرنا من الذي قاله.

لماذا بقى صامتًا عن هذه النقطة؟ لماذا أحجم عن توضيح من قال هذا؟ لماذا قدم الناموس دون أن يسمّي من صاغه؟ إن السبب كان هذا: لو كان له أن يقول: "قال أبي لا تقتل أما أنا فأقول لكم لا تغضبوا" لبدت لهجته صعبة على فهم سامعيه بسبب نقص ذكائهم. لأنهم لم يكونوا قادرين بعد على فهم أنه بصياغة هذه الشرائع الجديدة لم يكن يلغي الشرائع الأقدم بل كان يضيف إليها، ولقال الذين كانوا يسمعونه (آنذاك): ماذا تقصد؟ هل أبوك يقول لا تقتل وأنت تقول لا تغضب؟

إن المسيح رغب في أن يجعل الكل يتحاشوا الظن أنه كان معارضًا للآب أو أنه يقول شيئًا ما أكثر مما قاله الآب، كما لو كان هو أحكم من الآب. لهذا السبب لم يقل: "قد سمعتم من الآب".

أيضًا لو كان له أن يقول: "قد سمعتم أنني قلت للقدماء" لبدا هذا غير محتمل لهم بالأكثر بما لا يقل عن العبارة السابقة. انظر ماذا حدث عندما قال "قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن" (يو 8: 58). لقد حاولوا أن يرجموه، فماذا كانوا سيفعلون لو أضاف أنه هو أيضًا الذي أعطى الناموس لموسى؟ لهذا السبب لم يقل شيئًا عن نفسه ولا عن الأب، بل دعا هذه التسمية تعبر وقال "سمعتم أنه قيل للقدماء لا تقتل" (مت 5: 21).

عندما عوض المسيح ما كان مفقودًا في الأجساد الناقصة، علّم الناس من هو الذي خلق الإنسان في البدء. إنه يفعل هنا نفس الشيء. بتقويم (تطوير) الناموس وإضافة ما هو ناقص، يعلّمنا أنه كان هو أيضًا الذي أعطى الناموس في البدء. لهذا السبب لم يذكر سواء نفسه أو الآب عندما كان يتحدث عن خلقة الإنسان. في هذه الحالة لم يسّمِ من الخالق، بل ترك هذا غير مميز عندما قال: "الذي خلق في البدء، خلقهما ذكر وأنثى" (مت 19: 4) في كلماته هذه لم يقل شيئًا عمن كان هو الخالق، لكن بأعماله علّمنا من خلق الإنسان عندما زوده بما كان مفقودًا في الأجساد الناقصة. كذلك أيضًا هنا عندما قال: "سمعتم أنه قيل للقدماء" صمت عمن يكون قائلها، لكن بذات أعماله كشف أنه كان هو القائل. لأن الذي عوض ما كان ناقصًا كان هو الذي في البدء قدم الناموس (لهم). علاوة على ذلك هو يذكر الشرائع القديمة ذاتها. إنه يفعل هذا لكيما يعرف من كانوا يسمعوه، بمقارنة القديم والجديد أن ما يقوله ما قاله معارضة للآب، وأن له نفس القوة مثل الآب الذي ولده. إن اليهود فهموا هذا وقد أصابتهم الدهشة. وكونهم أُصيبوا بالدهشة، اسمع للإنجيلي الذي أوضح هذا عندما قال: "بهتت الجموع من تعليمه، لأنه كان يعلّمهم كمن له سلطان وليس كالكتبة" (مت 7: 28-29).

إن الهرطوقي يقول: فماذا لو أساءوا تفسير هذا؟ المسيح ما لامهم. هل لامهم؟ إنه لم يوبخهم. هل وبخهم؟ بالعكس هو أكدّ رأيهم. لأنه في الحال (بعد عظة الجبل) جاء إليه أبرص وقال له: "يا سيد إن أردت تقدر أن تطهرني" (مت 8: 2). وماذا قال المسيح له؟ "أريد فاطهر" (مت 8: 3). لماذا لم يقل فقط "اطهر"؟ في الواقع أن الأبرص شهد أن المسيح لديه القوة عندما قال "إن أردت". لكن لكي لا تظنوا أن الكلمات "إن أردت" تختص فقط لرأي الأبرص، المسيح نفسه أضاف كلماته "أريد فاطهر". بهذه الطريقة هو قصد أن يظهر أن القوة كانت له من كل وجه وأنه يعمل كل ما يعمله بسلطانه الخاص. إن لم يكن الأمر هكذا، لكان ما قاله هو عبثًا وغير ضروري.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

المسيح أخذ جسدًا عن تواضع

لذلك إذ قد علمنا أن المسيح له القوة في كل شيء، فإذا رأيناه في مكان ما آخر يعمل أو يقول شيئًا ما وضيعًا وخفيضًا، نتذكر أنه يعمل هذا إما لأجل الأسباب التي عددتها حديثًا أو لأنه رغب في أن يُحضر سامعيه إلى أتضاع الذهن. لكن ليتنا لأجل هذا السبب لا نجلب عليه عدم اعتبارنا له في جوهر خفيض ووضيع(146).

إنه احتمل أن يأخذ لنفسه ذات جسد الإنسان، لكنه فعل هذا من باب التواضع وليس لأنه كان أقل من الآب (لأن التجسد كان جزء من تدبير الفداء). ما هو الدليل على هذا؟

ولكن أعداء الحق ينشرون خبرًا مؤداه أن سبب أخذه جسدًا هو لأنه كان أقل من الآب (في الجوهر). لأنهم يقولون: "لو كان هو مساوٍ للآب الذي ولده، فلماذا لم يأخذ الآب الجسد لنفسه؟ لماذا كان الابن هو الذي أخذ شكل العبد؟ أليس من الواضح أن الابن أخذ هذه الهيئة لأنه كان أدنى من الآب؟

في الواقع لو كان التدني (أي كونه أقل من الآب) هو السبب الذي لأجله أخذ الابن طبيعتنا البشرية، إذًا كان على الروح القدس، الذي هو أدنى من الابن كما يقولون هم (لأننا لا نقول بهذا) أن يصير جسدًا. لأنه لو كان الآب أعظم من الابن لكون الابن أخذ جسدًا، بينما الآب لم يصر جسدًا، فالروح سيصير أعظم من الابن لنفس هذا السبب، لأن الروح لم يأخذ جسدًا.

لكننا لا نرغب في إثبات هذا بمحاورات إيضاحية (من عندنا). لذلك هلموا ولنبرهنه من الأسفار المقدسة ذاتها. لنظهر أنه أخذ جسدًا لنفسه بسبب تواضعه. إن بولس لديه معرفة دقيقة عن هذه الأشياء. عندما يزمع أن يحثنا لشيء ما مفيد لنا، فهو يستخرج أمثلة الفضيلة من السماء ذاتها. فمثلًا هو يحضنا كثيرًا على المحبة والصدقة. كذلك عندما أراد أن يحث تلاميذه أن يحبوا بعضهم البعض، فإنه أحضر (مثال) المسيح أمامهم وقال: "أيها الرجال أحبوا نساءكم كما أحب المسيح أيضًا الكنيسة" (أف 5: 25). أيضًا عندما كان يتكلم عن الصدقة (لأجل فقراء أورشليم) فعل نفس هذا الشيء. لهذا السبب قال بولس: "فإنكم تعرفون نعمة ربنا يسوع المسيح أنه من أجلكم افتقر وهو غني لكي تستغنوا أنتم بفقره" (2كو 8: 9). ما يقصده بولس هو شيء ما مثل هذا: كما أن سيدكم صار فقيرًا بأخذه الجسد، كذلك يلزمكم أن تصيروا فقراء في المال. لأنه كما أن فقر التكريم (أو المجد) لم يضره، كذلك أيضًا الفقر فيما يخص المال لن يمكنه أن يضركم، بل سيجلب لكم ثروة عظيمة (روحيًا).

أيضًا عندما كان يتحدث إلى أهل فيلبي عن التواضع، أحضر أمامهم مثال المسيح وقال: "بتواضع حاسبين بعضكم أفضل من أنفسهم" (في 2: 3)، ثم مضى بعد ذلك إلى القول: "فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضًا، الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلًا لله، لكنه أخلى نفسه آخذًا صورة عبدٍ" (في 2: 5-7).

← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

تعريف التواضع

لذلك لو سمح المسيح لنفسه أن يأخذ جسدًا لأنه كان أدنى من الآب في الطبيعة، فما عُمل لم يكن عملًا تواضعيًا. إذًا سيكون من العبث وغير الضروري لبولس أن يُحضر المسيح كمثال عندما كان يحض تلاميذه على التواضع. لأنه عمل من باب التواضع عندما يطيع واحد من يعادله في الرتبة. وبولس أشار إلى هذا عندما قال: "الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلًا لله. لكنه أخلى نفسه آخذًا صورة عبدٍ" (في 2: 6-7).

ماذا يقصد بولس عندما قال: "لم يحسب خلسة أن يكون معادلًا لله، لكنه أخلى نفسه آخذًا صورة عبدٍ" (في 2: 6-7)؟

إنه يقصد: لو أن إنسانًا سرق شيئًا ما لا يخصه واستمر في الاحتفاظ به، لن يختار أن يتخلى عنه حتى لو كان يخشى ذلك ولا يمكنه أن يشعر بالثقة (الآمان) أنه سيحتفظ بما سرقه. أما الإنسان الذي له قنية ما لا يمكن أن تُنزع منه، لا يشعر بأي خوف حتى لو أُخفيت قنيته (إن ألوهية الابن ومساواته للآب في الجوهر لا يمكن أن تُنزع منه حتى لو أُخفيت بالطبيعة البشرية التي أخذها السيد المسيح في التجسد).

فمثلًا لتوضيح ما أقوله بمثال. لنفترض أن إنسانًا ما له عبد وابن. لو صرخ العبد مطالبًا بحريته -حرية ليس من حقه أبدًا أن يطالب بها- وإن قاوم سيده. حينئذ لا يمكنه أن يباشر أي عمل دنئ أو يطيع أي أمر. لماذا؟ لأنه يخشى أن هذا العمل ذاته ربما يؤذي الحرية التي طلبها. إنه يخشى أن إطاعة أي أمر تضع عقبة في طريقه، لأنه سرق كرامة واحتفظ بها على عكس ما يستحق. لكن الابن لن يعتفي عن صنع أي عمل دنئ لأنه يعرف أنه حتى لو أنجز كل خدمات خدم أبيه، فحريته لن تتأذى أبدًا، بل ستبقى غير متغيرة. إتمام عمل العبيد لا يمكن أن ينزع الكرامة والمجد اللذين له بالطبيعة. لماذا؟ لأن مجده لا يكون له لأنه سرقه كما فعل العبد (في المثل الذي قيل منذ قليل)، بل إن مجده له بسبب ولادته ذاتها، فمن اليوم الأول له على الأرض كان المجد له بالوراثة.

هذا ما كان يوضحه بولس عن المسيح. حيث أن المسيح كان حرًا بالطبيعة وابنًا حقيقيًا ولم يختلس المساواة مع الآب بالسرقة. لذلك حيث أنه لم يكن بحاجة إلى إخفاء هذه المساواة، فبكل ثقة هو أخذ شكل العبد وجسده(147). هو علم جيدًا أن التنازل والتكيف لا يمكن أن يقلل أبدًا من مجده. لأن مجده لم يكن غريبًا عنه أو لم يدخله من خارج نفسه، لم يُعط له بالسرقة، لم يكن مجده مجد آخر لا يخصه. كان مجد المسيح حقيقيًا ومجده الخالص له بالطبيعة.

لهذا السبب هو أخذ شكل العبد وجسده. هو علم جيدًا وتيقن أن هذا لا يمكن أبدًا أن يضره. لذلك فالتجسد لم يضره أبدًا بل احتفظ بنفس مجده حتى في صورة العبد [ولكن بطريقة خفية رآه من حوله بحسب (يو 1: 14)]. هل ترون أن ذات أخذه جسدًا لنفسه هو دليل على أن الابن مساو للآب الذي ولده وأن هذه المساواة ليست غريبة عنه ولا أتته من خارج نفسه؟ هل ترون أن هذه المساواة لا تذهب وتجئ بل هي قوية وراسخة (فيه) لا تتغير، نوع المساواة التي تكون طبيعية بين ابن وأبيه؟

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

حث أخير: ضرورة الغفران

لذلك لنقدم كل هذه البراهين للهراطقة. وعلى قدر ما أنه يتوقف على جهودنا فلنقودهم بعيدًا عن اعتقادهم الهرطوقي الشرير ولنحضرهم إلى الحق. وبالنسبة لنا ليتنا لا نظن أن الإيمان (الصحيح) وحده كافي لخلاصنا. ينبغي لنا أن نشعر بالاهتمام لسلوكنا ونعطي بمثال بحياة في غاية الكمال. بهذه الطريقة سنجهز لأنفسنا منفعة مفيدة من مصدرين: من الإيمان ومن الأعمال الصالحة.

إنني حرضتكم حديثًا على النبوغ في الفضيلة والآن أيضًا أعطيكم نفس النصح. لنضع جانبًا كل بغضتنا لبعضنا البعض. ليت لا أحد منا يعادي جاره ولو ليوم واحد. ينبغي أن يتخلص من الغضب قبل حلول الليل. إن لم يفعل هذا بل مضى في بغضته سيصنف قائمة من كل ما قيل وعُمل، وهذا سيجعل من العسير إنهاء الشجار ويجعل إتمام الصلح أكثر صعوبة.

أحيانًا تنخلع عظام جسدنا (من المفاصل) ولو تم إعادتها بدون تأخير، فإنها ستعود إلى موضعها الأصلي بدون ألم كثير ولا متاعب، لكن لو بقت خارج المفصل لفترة طويلة، من العسير عليها أن تعود ثانية وترجع إلى الموضع الذي يخصها، وبعد ردها تحتاج إلى أيام كثيرة للارتباط بدقة لتصير مرتفقة جيدًا وتظل في موضعها.

بنفس الطريقة لو صالحنا أعداءنا ووفقنا سويًا الأجزاء المخلوعة بدون تباطؤ، فلن تأخذ منا مجهودًا كبيرًا للعودة إلى صداقتنا السابقة. لكن لو تركنا البغضة تعمينا ومضى وقت طويل، حينئذ يخجلنا خزينا ونحتاج لمعونة آخرين لتردنا سويًا مرة ثانية ولإعادة وضع ما قد انخلع. وحتى بعد عودتنا إلى الموضع ثانية، لا نزال نحتاج إلى معونة الآخرين لنرى أننا قابعين بالضبط في الموضع وابتدأنا في الاتحاد سويًا إلى أن نستعيد إخلاصنا القديم والدالة والثقة بيننا.

لا تجعلوني أقول شيئًا الآن عن السخرية والخزي. دعوني فقط أسأل كم عظيمة هي الملامة التي نستحقها إن احتجنا لمعونة الآخرين ليصالحونا مع أعضائنا ذاتها؟ لكن ليس هذا هو الشيء المريع الذي يحدث عندما نؤخر ونرجئ المصالحة. وماذا يحدث غير هذا؟ بسبب التأخير، نستاء من أشياء ليس المقصود منها الإساءة على الإطلاق. مهما يقوله عدونا، سننظر إليه بشك، ليس فقط كلماته، بل سلوكه الظاهري، الطريقة التي ينظر بها إلينا، طريقة مشيه.

عندما نلقى عليه نظرة، منظره يلهب قلوبنا المتقسية بالبغضة. وحتى عندما لا نراه فإن تذكره يسبب لنا الألم والضيق. لأنه كقاعدة: ليس فقط منظر من آذونا (وجرحوا مشاعرنا) بل أيضًا تذكر الضرر الذي فعلوه يسبب لنا ألمًا مستمرًا. بل عندما نسمع شخصًا ما آخر يتحدث عن عدونا، نحن كذلك نبدأ في الحديث عنه بنفس الطريقة العدائية كما في السابق. في الحقيقة نحن ببساطة نقضي كل حياتنا في حزن وضيق. لأنه بينما نحن نحافظ على هذه الحرب الثابتة داخل نفوسنا، نسبب لأنفسنا ضررًا أعظم عن الذي نسببه لأعدائنا.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

دوافع عطوفة (تتسم بالحب) نحو الكل

أيها الأحباء أنتم تعرفون كل هذا وتدركوا هذا جيدًا. لذلك ليتنا نجتهد على الأخص ألا نجعل أي إنسان عدوًا لنا. لو نشأت بغضة لأي شخص آخر، لنتصالح في نفس اليوم. لو وصل غضبنا إلى ثاني أو ثالث يوم، سيصير الثالث سريعًا يومًا رابعًا وخامسًا وهذه الكراهية ستطول أيامها. كلما طال إرجائنا للمصالحة، كلما أحمّرينا بالخجل بالأكثر. ألا تزال تخزى من الذهاب إلى من أساء إليك وتقدم له مصافحة السلام؟ فعل مصالحة كهذا سيفوز باستحسان كل إنسان ويستحق إكليلًا ونشيد مدح. إنه يقتني منفعة لنا وكنز مملوء ببركات لا تُحصى. عدوك نفسك سيستقبلك بابتهاج. كل شخص واقف بالقرب سيمتدحك. لكن حتى لو وبخك الناس ولاموك، الله بدون شك سيكلك.

لكن لو انتظرت حتى يأتي إليك عدوك أولًا ويطلب مسامحتك له، لن نقتني مثل هذه المنفعة العظيمة. سيسبقك هناك ويأخذ الجائزة قبلك وسيحول لنفسه كل البركات. لكن كيف يمكنك أن تؤذي نفسك أو تصير أسوأ لو سبقته ووصلت هناك أولًا؟ بالعكس أنت تغلبت على غضبك وأظهرت نفسك ساميًا على أهوائك وأعطيت مثالًا حسنًا لحياة الفضيلة. بكونك مطيعًا لله جعلت بقية حياتك مرغوبة بالأكثر وحررت نفسك من المتاعب والاضطراب.

ليس فقط أمام الله بل أيضًا في حكم البشر، إنه أمر خطير وفيه مخاطرة أن يكون لك أعداء كثيرين. بل لماذا أقول كثيرين؟ إنه من الخطورة أن يكون لك ولو عدو واحد، كما أنه مما يؤكد طمأنينتنا لو كان كل الناس أصدقاء لنا. لا فيض الغنى، لا أسلحة، لا حصون، لا خنادق أو أي شيء آخر بطبيعته، يمكن أن يعطينا آمانًا مثل الصداقة الحقيقية.

الصداقة هي حصن، هي آمان، هي فيض غنى وثروة، هي نعيم. إنها تجعلنا نجتاز حياتنا ببهجة وتمنحنا نعمة الحياة الآتية. لذلك ليتنا نتأمل في كل هذه الأمور ولنعتبر كم هي منفعة عظيمة سنقتنيها منها لو عملنا كل شيء وأعددنا كل وسيلة لمصالحة أعدائنا معنا. علاوة على ذلك لنعمل كل ما نستطيع حتى نمنع الخصومة بيننا والذين سيكونون أعداءنا. أخيرًا لنعمل بأقصى جهد يمكننا لنجعل الأصدقاء الذين لنا أكثر أمنًا في محبتهم لنا.

بالتأكيد الحب هو البداية والنهاية لكل فضيلة. ليته يحدث أن نستمتع بحب ثابت وحقيقي للآخرين وأن نأتي إلى ملكوت السموات بنعمة ورأفة ربنا يسوع المسيح الذي له المجد والقوة إلى أبد الآبدين آمين.

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

(146) أي ليتنا لتصرفاته المتضعة لا ننظر إليه نظرة فيها عدم تقدير له وننعته بأن له جوهر خفيض وأقل من جوهر الآب.

(147) وردت هذه العبارة بحسب النص هكذا "أخذ طبيعة وشكل العبد" وآثرنا ترجمتها هكذا منعًا لسوء الفهم.


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/books/fr-angelos-almaqary/john-chrysostom-father-son-equality/christ-prays.html

تقصير الرابط:
tak.la/2nk72xb