الفصل السادس عشر
يعقوب ينال بركة إسحق بالغش - حزن عيسو - العواقب الشريرة لغلطتهما لكل أعضاء الأسرة - إرسال يعقوب إلى لابان - إسحق يجدد ويمنح بركة إبراهيم ليعقوب تامة (تك 27: 1 - 28: 9)
إن كانت هناك أية نقطة يلزم الحرص في أخذ حذرنا منها، فهي المتعلقة بتجريب الرب. فنحن هكذا نجرب الرب عندما إذ نصغي إلى ميولنا نتسائل مرة أخرى من جهة ما حسمه هو من قبل بصورة واضحة. فحيث يكون الله قد حسم الأمر، ليس لنا مطلقًا أن نتشكك ولا أن نتلكأ ونتخلف.
لكن إن كان هناك شيء يمكن وصفه بكونه حُسم بوضوح من قبل الله فهو يقينًا دعوة يعقوب ورفض عيسو. لقد تم الإنباء بصريح العبارة بنبوة حتى قبل ولادة الابنين، وكذلك برهن عيسو فيما بعد أنه غير أهل بالمرة لأن يكون وارثًا للوعد، أولًا بطياشته واستباحته، وبعد ذلك بمصاهرته للكنعانيين، الأمر الذي لم يكن هناك شيء أكثر منه مناقض على طول الخط لمشيئة الله ولمقاصد العهد.
بالرغم من هذه العلامات الواضحة، فإن إسحق تخلف وتقاعس عن إتباع توجيه الله. وفي الحقيقة هو طرح عواطفه الطبيعية في الميزان لترجح كفة عيسو. وكما سنبين الآن فإن إسحق تردد فعلًا في أن يمنح ويخصص الجزء الروحي من البركة لعيسو، لكن ما اعتبره كحقوق طبيعية للبكر بدت له غير قابلة للتحويل، وهذه هو قصد الآن أن يعترف رسميًا بها بأن يغدق عليه البركة.
وعن حق وصواب يلاحظ كاتب ألماني ويدرك ويقول: "هذه واحدة من أكثر التعقيدات المشهورة للحياة، مُظهرة بأوضح أسلوب أن يد أعلى تقود خيوط التاريخ حتى أنه لا يمكن لخطية ولا لخطأ أن تعرقلها في النهاية. كل واحد يغزل الخيوط التي أودعت له بحسب آرائه ورغباته، لكن في النهاية عندما يكتمل النسيج، نعاين النموذج الذي وضعه من قبل السيد، وتجاهه كل عامل ساهم فقط بجزء صغير من ملامحه".
في ذلك الوقت كان إسحق يبلغ من العمر 137 سنة(36) - وفي ذلك الوقت كان أخيه إسماعيل غير الشقيق قد مات منذ 14 سنة مضت، ومع أن إسحق قد تعين له أن يعيش 43 سنة أخرى (تك 35: 28)، فإن انحلال بصره وأمراض أخرى جعلت فكرة الموت قريبة منه.
في مثل هذه الظروف هو عزم أن يمنح رسميًا الامتيازات التي تخص البكر طبيعيًا على عيسو. لكن أضاف إلى هذا كنوع من الشرط الأولي أنه ينبغي لعيسو أن يأتي بصيد ويعد له طعامًا. ربما هو اعتبر سهولة الحصول على صيد كنوع من العلامة التي تبين رضا الله وموافقته، وإعداد الطعام كعلامة على المحبة والمودة.
لا يوجد ما يدعو للاستغراب في هذا التصرف، لأن من يؤمنون بالله ولكن لسبب ما يرفضون ضمنًا أن يتبعوا إرشاداته، يتطلعون على الدوام لعلامة ما تبررهم في وضعهم جانبًا الإيحاءات والإشارات الواضحة لمشيئته.
أما رفقة فقد أنصتت خلسة للحديث الذي دار بين زوجها وأبنها. وربما هي خمنت مثل هذا الحدث منذ وقت طويل مضى وكانت تتطلع إليه وتترقبه. والآن بدا أن الخطر ضاغط جدًا والظرف ملّح تمامًا. فهوذا ساعة زمن وبعدها يمكن أن يفقد يعقوب البركة إلى الأبد.
ولو نتكلم بطريقة بشرية فإن السلامة والأمان يكمنان في قرار سريع وفعل حاسم. لا يهم ما هي الوسائل المستخدمة لو فقط يمكن بلوغ الغاية. ألم يشر الله بوضوح إلى يعقوب بكونه الوارث للمواعيد؟ ألم يبرهن عيسو نفسه بكونه غير أهل بالمرة لهذا الأمر وذلك حتى قبل أن يتزوج من الكنعانيات؟ إنها فقط تحقق مشيئة الله عندما تمنع زوجها من أن يقترف خطأ عظيم، وتحفظ لابنها يعقوب ما قصد الله أن يمنحه إياه. هكذا قد تكون رفقة تحاججت في الأمر مع نفسها.
![]() |
يقينًا لو كان لها إيمان إبراهيم -الذي كان مستعدًا على جبل المريا أن يقدم أبنه ذبيحة، مؤمنًا أنه حتى لو ذبحه، فإن الله كان قادرًا على أن يقيمه من بين الأموات- ما كانت تصرفت ولا حتى شعرت أو خافت على النحو الذي عملته. لكن آنذاك كانت دوافعها مختلطة، بالرغم من حقيقة أنها وضعت في اعتبارها على الدوام الوعد، فإيمانها كان ضعيفًا وناقصًا، بالرغم من كونها تخيلت ذاتها تنفذ مشيئة الله.
أوقات مثل هذه تأتي على أغلبنا، عندما يكاد يبدو أننا ملزمين بالضرورة وتحثنا حكمة مقدسة أن نحقق عمليًا بقوتنا ما كان ينبغي لنا بالرغم من كل شيء أن نتركه بين يدي الله (لينفذه بالطريقة والوقت الذي يختاره). لو حدث ودخلنا في طريق كهذا، من المرجح جدًا أنه لن يمضي وقت طويل قبل أن نطرح مع الريح أية شكوك حول السبل المستخدمة لكي نؤّمن تحقيق الهدف المنشود، والذي ربما قد يبدو لنا أنه مطابق لمشيئة الله.
هنا أيضًا الإيمان هو الدواء الحقيقي: الإيمان الذي يترك لله تنفيذ مقاصده، ويكتفي بالثقة المطلقة بالله وأن يتبعه إلى حيثما يقوده. وطريق الله لن تعوقه قط أدغال الدهاء البشري وحيله. "من آمن لا يستعجل" [(إش 28: 16) بحسب النص]، بل ولا يحتاج للعجلة لأن الله سيعمل له كل شيء.
متابعة لقصدها وهدفها عرضت رفقة على يعقوب أن يستغل ضعف بصر أبيه وأن يتقمص شخصية عيسو. كان عليه أن يلبس ثياب أخيه التي تحمل رائحة الأعشاب والأشجار التي اعتاد أن يمر بينها عند الصيد وأن يغطي جلده الناعم بنوع من نوع من الفرو، بينما رفقة سوف تعد طعام لن يستطيع أبيه أن يميزه عن الطعام الذي كان سيعده عيسو له.
من الملاحظ أنه رغم كون يعقوب قد اعترض في البداية، فإن شكوكه كانت تنبع بالأولى من تخوفه أن ينكشف أمره وليس من الشعور بخطأ العرض الذي قدمته له والدته. لكن رفقة هدئت هواجسه ومخاوفه، ربما ثقة منها أنها طالما تفعل ما ظنت أنه مشيئة الله فلا يمكن إلا أن يحالفها النجاح.
في الواقع إن يعقوب وجد أن دوره أصعب جدًا مما توقعه. خداع، مراوغة وكذب مرارًا وتكرارًا كانوا مطلوبين لتهدئة الشكوك المتنامية للعجوز إسحق. وفي النهاية نجح يعقوب -بكم من الخزي والندامة يمكننا بسهولة تخيلها- في صرف شكوك أبيه، وأسبغ إسحق البركة عليه ومعها البكورية.
لكنه أمر يستحق انتباه خاص أنه بينما هذه البركة خصصت له كل من أرض كنعان والسيادة على إخوته، لا يوجد فيها سوى أدنى وأبهت إشارة إلى الوعد العظيم لإبراهيم. فالكلمات الوحيدة التي يمكن افتراض أنها تشير إليه هي هذه: "لِيَكُنْ لاَعِنُوكَ مَلْعُونِينَ وَمُبَارِكُوكَ مُبَارَكِينَ" (تك 27: 29).
لكن هذه واضح أنها مختلفة جدًا عن بركة إبراهيم: "وَيَتَبَارَكُ فِي نَسْلِكَ جَمِيعُ أُمَمِ الأَرْضِ" (تك 22: 18). من الواضح أن إسحق تخيل أنه بارك عيسو، فلم يجسر على أن يسبغ عليه الامتيازات الروحية المرتبطة بالبكورية. لذلك بعد كل ما عملا لم يدرك يعقوب ورفقة ما كانا يسعيان إليه!
وما كاد يعقوب يخرج من حضرة أبيه حتى دخل عيسو بالطعام الذي أعده. لو كان كل من إسحق ورفقة ويعقوب قد اخطئوا بما ساهم به كل واحد في الصفقة، فإن عيسو على الأقل يستحق لوم مساوي. فلن نتكلم عن معرفته السابقة بمشيئة الله حول هذه النقطة، فهو أخفى عن أخيه يعقوب أنه كان على وشك أن ينال برضا أبيه ما كان قد باعه فعليًا ليعقوب!
يقينًا كان يوجد هنا نفس القدر من الخداع وعدم الأمانة والكذب الذي كان ليعقوب. وعندما اكتشف إسحق الخداع الذي وقع فيه ارتعد ارتعادًا عظيمًا جدًا، لكنه رفض أن يسحب البركة التي نطق بها: "بَارَكْتُهُ. نَعَمْ وَيَكُونُ مُبَارَكًا!".
فالآن وللمرة الأولى يبدو أنه انقشع الضباب الذي خيم طويلًا في هذا الأمر حول الرؤية الروحية لإسحق. فهو يرى إصبع الله الذي تفادى الخطر الذي سبّبه ضعفه. هكذا بينما كل الأطراف في الصفقة كانت في خطأ وانحراف، أنجز الله قصده واعترف إسحق بهذه الحقيقة. والآن وللمرة الأولى أيضًا نال عيسو لمحة عما فقده فعلًا. إذ نقرأ أنه "بَعْدَ ذَلِكَ، لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرِثَ الْبَرَكَةَ رُفِضَ، إِذْ لَمْ يَجِدْ لِلتَّوْبَةِ مَكَانًا، مَعَ أَنَّهُ طَلَبَهَا بِدُمُوعٍ" (عب 12: 17).
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
بناء على إلحاح وتوسل حار لأي نوع من البركة، نطق إسحق بما كان في حقيقته نبوة عن مستقبل أدوم. ولو نترجمها حرفيًا نقرأها هكذا: "هوذا مسكنك سيكون بلا دسم الأرض، وبدون ندى السماء من فوق". وهذا يصف الوجه العام للجبال القاحلة لأدوم.
وبعدها استمر إسحق في وضع رسم تخطيطي لمستقبل تاريخ الأدوميين فقال: "وَبِسَيْفِكَ تَعِيشُ وَلأَخِيكَ تُسْتَعْبَدُ. وَلَكِنْ يَكُونُ حِينَمَا تَجْمَحُ أَنَّكَ تُكَسِّرُ نِيرَهُ عَنْ عُنُقِكَ" (تك 27: 40). لقد لوحظ جيدًا أن الجملة الأخيرة تشير إلى النجاحات المتفاوتة لصراعات المستقبل بين إسرائيل وأدوم وتُدخل في بركة يعقوب عنصر قضاء ودينونة.
وعندما نقارن كلمات إسحق مع تاريخ إسرائيل وأدوم حتى إلى زمن هيرودس الكبير، الأدومي الذي استولى على عرش داود، سنرى كيف أنه عن صواب تم تلخيص الأمر كله في رسالة العبرانيين: "بالإيمان إسحق بارك يعقوب وعيسو من جهة أمور عتيدة" (عب 11: 20). لأن كون إسحق آنذاك كان يتصرف بالإيمان وأنه ميّز بدون معرفة للأمر أنه بارك ليس بحسب ميله بل بحسب مشيئة وقصد الله، هذا يتضح من التاريخ اللاحق.
يبدو أن عيسو إذ امتلأ من البغضة والغيرة، عزم على التخلص من غريمه بقتل أخيه، وفقط هو أرجأ تنفيذ مقصده لحين موت أبيه الذي هو أيضًا اعتقد أنه قريب. وبطريقة ما فإن رفقة دائمة السهر والمراقبة حصلت على هذه الأخبار، وإذ كانت تعرف الانفعال السريع لابنها والذي وإن كان عنيفًا، لا يأوي داخله الغضب طويلًا، لذلك عزمت على أن ترسل يعقوب إلى أخيها لابان "أَيَّامًا قَلِيلَةً" بحسب تخيلها الذي يلذ له تصور قصر تلك الفترة)، بعدها ترسل وتأخذه من هناك.
لكن رحمة منها بزوجها أخفت عنه خطة عيسو لقتل أخيه، وعللت كسبب لرحيل يعقوب المؤقت ما هو بدون شك دافع قوي في ذهنها أنه ينبغي ليعقوب أن يتزوج واحدة من أقاربها. لأنه لما قالت: "مَلِلْتُ حَيَاتِي مِنْ أَجْلِ بَنَاتِ حِثَّ. إِنْ كَانَ يَعْقُوبُ يَأْخُذُ زَوْجَةً مِنْ بَنَاتِ حِثَّ مِثْلَ هَؤُلاَءِ مِنْ بَنَاتِ الأَرْضِ فَلِمَاذَا لِي حَيَاةٌ؟" فإن كانت لهجتها صعبة لكن حجتها كانت صحيحة وعلم إسحق هذا بالخبرة المؤلمة لزوجات عيسو.
ولذا أرسل إسحق يعقوب خصيصًا إلى لابان ليطلب زوجة وبتصرفه هكذا، جدد هذه المرة عن وعي ودراية البركة التي نالها يعقوب في المرة السابقة بطريق الغش والخداع. والآن يتكلم إسحق أيضًا بوضوح وجلاء، ليس فقط مكررًا قول نفس عبارات بركات العهد بكل ملئها، بل أيضًا أضاف عليها هذه الكلمات: "وَاللهُ الْقَدِيرُ يُبَارِكُكَ وَيَجْعَلُكَ مُثْمِرًا وَيُكَثِّرُكَ فَتَكُونُ جُمْهُورًا مِنَ الشُّعُوبِ. وَيُعْطِيكَ بَرَكَةَ إِبْرَاهِيمَ لَكَ وَلِنَسْلِكَ مَعَكَ لِتَرِثَ أَرْضَ غُرْبَتِكَ الَّتِي أَعْطَاهَا اللهُ لإِبْرَاهِيم" (تك 28: 3-4).
هكذا عتامة البصيرة الروحية لإسحق قد انقشعت تمامًا في النهاية. لكن الظلام الذي حول عيسو يبدو أنه آل فقط إلى نمو متزايد أعمق وأعمق. فإذ علم بالوصية التي أعطاها إسحق ليعقوب ابنه، واضح أنه انتبه لأول مرة لحقيقة: "أَنَّ بَنَاتِ كَنْعَانَ شِرِّيرَاتٌ فِي عَيْنَيْ إِسْحَاقَ أَبِيه(37)"، ولذا "أَخَذَ مَحْلَةَ بِنْتَ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ أُخْتَ نَبَايُوتَ زَوْجَةً لَهُ عَلَى نِسَائِهِ"، كما لو كان يريد إصلاح الأمور بمصاهرة من طرده إبراهيم بأمر من الله!
هكذا الفشل الروحي وعدم أهلية عيسو ظهرت في كل خطوة حتى عندما حاول أن يتصرف برقة وبحسب الأصول.
ولكي نختم سنقوم بعملية تغيير وتكييف للغة كاتب ألماني فنقول: بعد هذا الحدث عاش إسحق 43 سنة أخرى، لكنه لم يظهر مرة أخرى في هذا التاريخ. توقف خيط تاريخه الآن وتحولت الدفة ليعقوب الذي إليه آل الوعد.
سجل السفر فقط خبر موت إسحق وانضمامه إلى قومه عندما كان عمره 180 سنة وشبعان أيامًا، وأنه تم دفنه في مغارة المكفيلة بواسطة عيسو ويعقوب اللذين نعم هو على سرير موته بفرحة رؤيتهما إخوة متصالحين.
عندما غادر يعقوب أبيه إلى لابان خاله، كان أبيه إسحق يسكن في بئر سبع. وربما رغبته في أن يكون بالقرب من موضع مدفن أبيه قد يكون هو السبب استقراره مؤخرًا في ممرا حيث مات (تك 35: 27- 29).
أما رفقة التي عند وداع يعقوب جعلت يعقوب يعرف أنه حين يسكن غضب أخيه عيسو سترسل لتأخذه، ربما قد تكون ماتت حتى قبل عودة أبنها المحبوب إلى أرض كنعان. على كل حال الرسالة التي وعدت بها لم تُرسل أبدًا، بل ولم يُذكر اسمها عند عودة يعقوب.
_____
(36) لقد تم التيقن من عمر إسحق هكذا: عندما وقف يوسف أمام فرعون (تك 41: 46)، كان عمره آنذاك 30 سنة، ومن ثمَّ يكون عمره 39 عندما جاء يعقوب إلى مصر (حيث أنه جاء في السنة الثانية من المجاعة). لكن في ذلك الوقت كان عمر يعقوب 130 سنة (تك 47: 9). لذا يلزم أن عمر يعقوب كان 91 سنة عندما ولد يوسف، ومن حيث أن هذا حدث في السنة الرابعة عشر من مكوث يعقوب لدى لابان، يلزم أن هروب يعقوب من بيت أبيه حدث عندما كان عمره 77 سنة، وبإضافة ستين سنة كانت عمر إسحق عند ولادة يعقوب وعيسو، يكون عمر إسحق 137 سنة.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/zv4knf7