St-Takla.org  >   books  >   fr-angelos-almaqary  >   bible-history-edersheim-1
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

كتاب تاريخ العهد القديم للعلامة ألفريد إدرشيم: الجزء الأول: عالم ما قبل الطوفان وتاريخ رؤساء الآباء الأولين - القمص أنجيلوس المقاري

17- الفصل السابع عشر: رؤيا يعقوب في بيت إيل - وصوله إلى بيت لابان - زواج وعبودية ثنائية ليعقوب - هربه من حاران - مطاردة لابان ومصالحته مع يعقوب (تك 28: 10 - 31: 55)

 

الفصل السابع عشر

رؤيا يعقوب في بيت إيل - وصوله إلى بيت لابان - زواج وعبودية ثنائية ليعقوب - هربه من حاران - مطاردة لابان ومصالحته مع يعقوب (تك 28: 10 - 31: 55)

 

لقد كانت رحلة طويلة ومملة في أول يوم غادر فيه يعقوب بيته في بئر سبع(38). لقد سافر أكثر من أربعين ميلًا على الجبال التي فيما بعد كانت من نصيب يهوذا وعبر ما كان لها أن تصير أرض بنيامين. لقد غابت الشمس وآخر وهجها اختفى من تلال أفرايم الرمادية عندما وصل يعقوب إلى وادي غير مستوي مُغطى بأحجار وألواح كبيرة من الصخور.

وهنا كان أول موضع حيث عسكر إبراهيم لبعض الوقت عند دخوله الأرض، ومنه قام إبراهيم ولوط بعمل مسح للأرض قبل انفصالهما. هناك أمامه مباشرة تقع لوز الكنعانية، ووراءها بمسيرة عدة أيام يمتد طريقه الوعر والمضني إلى حاران. لقد كان موضع موحش، وادي الأحجار هذا حيث أمضى يعقوب ليلته الأولى. لكنه قد يتفق بالأكثر مع مزاج يعقوب حيث جعله يمشي ويمشي منذ الصباح الباكر ناسيًا الوقت والطريق إلى أن صار غير قادر على متابعة رحلته بعد.

لكن يبدو أن الأمر كان عرضيًا وبغير ترتيب، لأننا نقرأ أنه "صادف مكانًا وبات هناك" (تك 28: 11)، فاختيار البقعة كان يقينًا بتحديد من الله. وفي الحال أعد مرقده ليرتاح وينام. وإذ جعل كومة من بعض الحجارة المتناثرة في الوادي بحيث تكون وسادة له، رقد ونام. وهكذا كان في حلمه أنه بدا كما لو أن أحجار الوادي هذه قام ببنائها معًا يد غير مرئية، درجة على درجة بحيث صار سلّم، ولما كان يعقوب يراقب الموقف وجد السلم يرتفع ويرتفع إلى أن وصل السماء التي بدا أنها انشقت لكي تستقبله.

وعلى طول هذا الممر العجيب تتحرك الملائكة صاعدة ونازلة عليه ونور الملائكة ينعكس على مساره إلى أن ينتهي بالقمة حيث كان واقف الرب شخصيًا والذي تكلم مع النائم لوحده من أسفل وقال له: "أَنَا الرَّبُّ إِلَهُ إِبْرَاهِيمَ أَبِيكَ وَإِلَهُ إِسْحَاقَ". ولكونها صامتة في خدمتها، لا تزال الملائكة صاعدة ونازلة على السلم من أسفل حيث يرقد يعقوب إلى أعلى حيث تكلم الرب.

الرؤيا والكلمات التي نطق بها الرب يفسران الواحد الآخر، فالواحد رمز للآخر. في تلك الليلة الأولى، عندما كان مطرودًا من بيته وهاربًا، أفكار ثقيلة وشكوك ومخاوف تتزاحم حوله، عندما رأسه تحتها وسادة من صخور وادي لوز، جدد له الرب بصريح العبارة بأتم أسلوب الوعد والبركة التي أُعطيت أولًا لإبراهيم، ثم أضاف عليها هذه التعزية أنه أيًا كان الشيء والعائق الذي أمامه: "وَهَا أَنَا مَعَكَ وَأَحْفَظُكَ حَيْثُمَا تَذْهَبُ وَأَرُدُّكَ إِلَى هَذِهِ الأَرْضِ لأَنِّي لاَ أَتْرُكُكَ حَتَّى أَفْعَلَ مَا كَلَّمْتُكَ بِهِ" (تك 28: 15).

فما سمعه يعقوب، ذاك رآه أيضًا في رؤيا رمزية. كان الوعد هو السلم الحقيقي الذي بناه الله والذي وصل من هذا الموضع القفر الذي يرقد عليه التائه المسكين، مرتفعًا إلى السماء حيث محضر الرب شخصيًا، وعليه طريق لامع على صفيه الملائكة الخدام، حيث كل شيء غير معروف وغير مسموع للعالم.

St-Takla.org Image: Jacob's dream (Genesis 28:11-12) - from "Treasures of the Bible" book, by Henry Davenport Northrop, D.D., 1894. صورة في موقع الأنبا تكلا: حلم يعقوب (التكوين 28: 11-12) - من كتاب "كنوز الإنجيل"، لـ هنري دافينبورت نورثروب، د. د.، 1894 م.

St-Takla.org Image: Jacob's dream (Genesis 28:11-12) - from "Treasures of the Bible" book, by Henry Davenport Northrop, D.D., 1894.

صورة في موقع الأنبا تكلا: حلم يعقوب (التكوين 28: 11-12) - من كتاب "كنوز الإنجيل"، لـ هنري دافينبورت نورثروب، د. د.، 1894 م.

والوعد بذلك السلم السري الذي يربط الأرض بالسماء لا يزال هكذا لكل من هو بالحق من إسرائيل. من أسفل يرقد رجل مسكين وعاجز ومهجور، فوق يقف الرب شخصيًا، وعلى سلم الوعد الذي يربط الأرض بالسماء، ملائكة الله في صمتهم وخدمتهم التي لا تنقطع مطلقًا، نازلين جالبين معونة، وصاعدين لكي يحضروا خلاصًا جديدًا. بل هذا السلم هو المسيح، لأنه بهذا السلم نزل الله بنفسه إلينا في شخص ابنه الحبيب الذي -إن جاز القول- الوعد صار حقيقة، مثلما هو مكتوب: «مِنَ الآنَ تَرَوْنَ السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً وَملاَئِكَةَ اللَّهِ يَصْعَدُونَ وَيَنْزِلُونَ عَلَى ابْنِ الإِنْسَانِ» (يو 1: 51).

"فَاسْتَيْقَظَ يَعْقُوبُ مِنْ نَوْمِهِ وَقَالَ: "حَقًّا إِنَّ الرَّبَّ فِي هَذَا الْمَكَانِ وَأَنَا لَمْ أَعْلَمْ!"

حل على يعقوب خوف مختلف تمامًا عن خوف الوحدة أو الشك. لقد كان رهبة الشعور بحضرة -الساهر على الدوام والمهتم أبدًا- إله العهد، هو الأمر الذي جعله يشعر، مثل كثيرين في ظروف مشابهة، فقال: "مَا أَرْهَبَ هَذَا الْمَكَانَ! مَا هَذَا إلاَّ بَيْتُ اللهِ وَهَذَا بَابُ السَّمَاءِ!".

وباكرًا في الصباح التالي حوّل يعقوب وسادته الحجرية إلى عمود تذكاري وكرّسه لله. ومن الآن فصاعدًا لن يكون هذا الوادي الصخري بالنسبة له لوز الكنعانية بل بيت إيل، أي "بيت الله"، مثلما أعلن يوحنا المعمدان أن الله بإمكانه أن يقيم من حجارة كهذه أبناء لإبراهيم. وفي نفس الوقت نذر يعقوب نذرًا أنه عندما يحقق الله وعده ويرده بسلام، هو من جانبه أيضًا سيجعل الموضع بيت لإيل، بتكريسه للرب وتقديم عشر كل ما يعطيه إياه، وهو الأمر الذي نفذه يعقوب (تك 35: 6-7).

لا توجد حوادث أخرى حدثت وجديرة بالتسجيل لحين وصول يعقوب إلى نهاية رحلته في "أَرْضِ بَنِي الْمَشْرِقِ" (تك 29: 1). وهنا وجد يعقوب نفسه عند بئر، حيث على غير العادة السائدة كان ينتظر هناك ثلاثة قطعان قبل وقت المساء المعتاد لسقيها بوقت طويل. وقدم العلاّمة روبنسون هذه الملاحظة الشخصية التي يمكن أن تساعدنا على فهم الظروف: "على أغلب الآبار يوضع حجر عريض وسميك ومنبسط، به فتحة دائرية مقطوعة في الوسط بمثابة فم البئر. هذه الفتحة نجدها في أحيان كثيرة مُغطاة بحجر ثقيل، مطلوب رجلين أو ثلاثة لدحرجته".

نحن لا نعرف إن كانت هذه القطعان يتم حجزها لحين وجود عدد كافي من الرجال لدحرجة الحجر أم إنها كانت العادة أن يتم الانتظار لحين وصول كل القطعان. على كل حال عندما تيقن يعقوب أن القطعان كانت من حاران وأن الرعاة يعرفون لابان أخي رفقة وعندما رأى الجميلة راحيل ابنة خاله قادمة بقطيعها تقدم ودحرج الحجر بنفسه وروى قطيع خاله، وفي حرارة مشاعره كونه يجد نفسه ليس فقط أمام هدف رحلته، بل أيضًا الله أشار بوضوح لمن يمكنها أن تحوز إعجابه ومحبته فقبّل ابنة خاله. حتى في هذا المشهد البسيط الملاحظ المدقق لشخصية وطبيعة يعقوب لن يخفق في التعرف على العجلة التي بها كان يتوقع يعقوب مقدمًا خطوات قيادة الله له.

عندما سمع لابان والد راحيل بكل الظروف، استقبل يعقوب بكونه قريبه. اختباره لشهر إضافي أكد في ذهنية هذا الرجل الأناني والطماع الانطباع الحسن عن إمكانية استخدام يعقوب كراعي، وهو الانطباع الذي يلزم أن أنتجه تدخله النشط عند البئر حيث سقي غنمه هناك.

تحت مظهر الصراحة والبساطة وعرض بالسخاء، كثيرًا ما يخفي الناس الأنانيين والماكرين مقاصدهم الخبيثة، ألح لابان على يعقوب أن يحدد أجرته. كان يعقوب قد دأب على حب راحيل. وبدون أن يستشير رأي الله في الأمر، عرض آنذاك على لابان أن يخدمه سبعة سنوات كمهر لها. وهذه كانت بالضبط الفترة التي يمكن فيها أن يخدم العبراني كعبد، وباختصار هو عرض أن يصير عبدًا لأجل راحيل. بنفس الإخلاص الذي أتقن لابان الادعاء به كما من قبل وافق على العرض: "أَنْ أُعْطِيَكَ إِيَّاهَا أَحْسَنُ مِنْ أَنْ أُعْطِيَهَا لِرَجُلٍ آخَرَ (غريب). أَقِمْ عِنْدِي" (تك 29: 19).

إن صفقة بيع بنته هكذا لم تكن مؤسسة على عوائد ذلك الوقت، وبنتي لابان نفسيهما شعرتا بحط من كرامتهما لم يستطيعا مقاومته كما يتضح من قولهما فيما بعد عندما وافقتا على الهرب من بيت أبيهما: "أَلَنَا أَيْضًا نَصِيبٌ وَمِيرَاثٌ فِي بَيْتِ أَبِينَا؟. أَلَمْ نُحْسَبْ مِنْهُ أَجْنَبِيَّتَيْنِ لأَنَّهُ بَاعَنَا وَقَدْ أَكَلَ أَيْضًا ثَمَنَنَا؟" (تك 31: 14-15).

بدت فترة عبودية له أنها مرت بسرعة وفي نهاية سبع سنوات طالب هو بعروسه. لكن الآن كان ليعقوب أن يختبر كيف أن خطيته تعقبته ووجدته، فكما هو خدع أبيه، كذلك الآن خدعه لابان. فإنه استغل العادة الشرقية التي تقضي بضرورة جلب العروس مُغطاة ببرقع لزوجها، فقام باستبدال راحيل بأختها الكبرى ليئة. لكن كما في السابق فإن الله بدون علم من الكل قد سيطر وهيمن على خطأ وخطية إسحق ويعقوب، كذلك الآن تصرف الآن في حالة لابان ويعقوب.

لأن ليئة بقدر ما يمكننا أن نحكم، كانت هي الإنسانة التي عيّنها الله ليعقوب والتي فضّل عليها راحيل لأجل جمالها. لأن من ليئة ولد يهوذا الذي من صلبه كان لوعد إبراهيم أن يتحقق. ليئة كما سنرى في سياق الرواية، هي التي كانت تخشى الرب وتعبده، بينما راحيل كانت متعلقة بخرافات بيت أبيها، بل طبيعة وشخصية الأخت الكبرى ليئة تؤهلها بطريقة أفضل لدعوتها الجديدة أكثر من العنيدة والمشاكسة إلى حد ما وإن كانت البنت الأصغر والأجمل للابان.

وبالنسبة للابان صاحب هذه الخدعة، فإنه احتمى وتعلل بعادة قومية بمقتضاها لا يتم تزويج البنت الصغرى قبل الكبرى. لكنه عرض في الحال أن يعطيه راحيل أيضًا مقابل خدمة سبع سنوات. وافق يعقوب وتم الاحتفال بزواجه الثاني بعد انتهاء فرح ليئة والذي يستمر أسبوع كعادة الشرقيين.

← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

لقد كان خطأ بيّن الاستنتاج من صمت الكتاب أن هذا الزواج الثنائي ليعقوب نال استحسان إلهي. كما هو الحال على الدوام، الكتاب يذكر حقائق فقط لكن لا يعلّق عليها. ورأي الله يتضح بما فيه الكفاية من أحزان وتجارب ومخازي دامت مدى الحياة، والتي جازاه الله بها بتدابيره، وجاءت كنتائج لهذا الزواج الثنائي.

إن الضعف الخاطئ ليعقوب ظهر أيضًا في حياته الزوجية بتفضيل غير عادل وقاسي لراحيل على حساب أختها ليئة، ومعاملات الله التوبيخية والمبكتة ليعقوب ظهرت في كونه بارك الزوجة المكروهة بالبنين، بينما منع عن راحيل عطية مُشتهاة جدًا في أسرة حيث كل ما كان ثمين مرتبط بوارث للمواعيد. وفي نفس الوقت كان هذا المنع يمكن أن يفيد في إعطاء الدرس ثانية، والذي أُعطي أولًا لإبراهيم ومن بعده لإسحق، كيف أن هذه العطية في أسرة رؤساء الآباء بالأخص لها أن تكون هبة مباشرة من الرب (انظر أيضًا مز 127: 3).

ولدت ليئة في تتابع سريع أربع بنين، أعطتهم أسماء ذات مغزى، فرأوبين يعني "انظروا ابنًا" لأنها قالت: "إن الرب قد نظر إلى مذلتي"، وشمعون ويعني "سماع" وقالت: "إن الرب قد سمع إني مكروهة"، ولاوي يعني "اقتران" ودعته هكذا على رجاء "وقالت الآن هذه المرة يقترن بي رجلي"، ويهوذا أي "حمدًا وتسبيحًا للرب" فقالت: "هذه المرة أحمد الرب".

إنه أمر يستحق انتباه خاص أنه في ولادة ثلاثة على الأقل من أولئك البنين، ليس فقط اعترفت ليئة بالله، بل اعترفت به خاصة بكونه الرب إله العهد. نحن لا نفترض أن راحيل التي لم يكن لها بنين، انتظرت كل هذا الوقت بدون سعي لأن تزيل ما اعتبرته من باب الغيرة والحسد امتياز وتميز أختها عليها.

في الواقع أن النص المقدس لا يشير في أي موضع إلى أن أبناء يعقوب ولدوا بنفس التتابع الزمني الذي تم تسجيل أسمائهم. على العكس نحن لدينا كل مبرر لأن نفترض أن هذا لم يكن هو الحال. إنه أمر يتفق تمامًا مع لهجة راحيل المشاكسة والمتذمرة أنها لم تنتظر طويلًا، بل بمجرد أنها وجدت ذاتها فعليًا في هذا الوضع غير المواتي مقارنة بأختها، أقنعت زوجها أن يجعلها أم من خلال بلهة جاريتها، مثلما فعلت سارة مع هاجر.

هكذا خطايا الوالدين كثيرًا جدًا ما تظهر في سلوك أبنائهم من بعدهم. فبدلًا من أن ينتظر الرب أو ينهمك في الصلاة [كما فعل إسحق في حالة رفقة زوجته (تك 25: 21)]، أذعن يعقوب لرغبة راحيل، فولدت جاريتها ابنين على التوالي، أسمتهما راحيل دان أي "قاضيًا"، كما لو أن الله قد حكم وقضى فما يختص بالظلم الذي لحق بها!، ونفتالي أي "مصارعتي" قائلة: "مصارعات الله قد صارعت أختي وغلبت". وفي كلا الموقفين نلاحظ أنها أشبعت وروت روح الغيرة من أختها، وأنه وإن كانت قد اعترفت بالله وأقرت به، لكنها لم تعترف به بكونه الرب بل بكونه "إلوهيم" إله الطبيعة وليس إله العهد صاحب الوعد.

إن نجاح راحيل هنا رغم أنه نجاح ظاهري لكنه كان بمثابة قدوة سيئة لأختها ليئة إذ برهن أنه مُعدي كعدوى المرض. عندما أدركت ليئة أنها لم تعد كما من قبل أم (بولادات أخرى)، وربما بدون أن تنتظر لحين ولادة الابنين اللذين تبنتهما راحيل، اقتدت بمثال أختها وقدمت ليعقوب جاريتها زلفة كزوجة.

إن تراجع مستوى إيمانها يظهر أيضًا في الاسمين اللذين اختارتهما لابني زلفة. فعند ولادة الأكبر هتفت ليئة قائلة: "قد جاء السعد" ولذلك دعت اسمه جاد أي سعدًا، ونفس الفكرة تم التعبير عنها في اسم الابن الثاني "أشير" أي "مغبوطًا". وفي كل هذا لم تتذكر ليئة الله بل فقط فكرت في نجاح مخططها.

لكن عدد البنين الذي تم منحه الآن للأختين لم يزيل غيرتهما المتبادلة ولا استرد السلام والهدوء لبيت يعقوب. فمشاهد مؤلمة جدًا حدثت، وعندما في النهاية ولدت ليئة ثانية أبنين، اعترفت في الواقع بالله في أسمائهما، لكنها الآن مثل أختها اعترفت بإلوهيم وليس بالرب، بينما يبدو أنها رأت في أولهما مكافأة لأجل إعطاء زلفة لزوجها، لذا كان اسمه "يساكر" (أي يعطي أو يُحضر مكافأة)، بينما نظرت لآخر بنيها واعتبرته "زبولون" أي "مسكنًا" كعربون أنه من حيث كونها ولدت ست بنين سوف يساكنها ويقيم معها زوجها!

لقد سبق أن قررنا منذ قليل أنه يلزمنا ألا نضع في اعتبارنا الترتيب الذي به تم ذكر أبناء يعقوب في السفر بكونه يشير إلى تتابعهم الفعلي(39). لقد تم عدهم على هذا النحو، جزئيًا لإظهار الدوافع المختلفة للأختين، وجزئيًا لكي يتم الجمع معًا لأبناء مختلف الأمهات.

كون الرواية الكتابية ليس المقصود منها أن تقدم لنا التتابع الفعلي للبنين يتضح أيضًا من موضوع دينة، فميلاد الابنة الوحيدة دينة (أي قضاء وحكم) يُذكر عقب ميلاد زبولون مباشرة. فكلمات النص العبري هنا تعني ضمنًا أن دينة ولدت في فترة متأخرة وأنها في الواقع تم ذكرها لوحدها بسبب ارتباطها لحادثة وردت في سيرة يعقوب فيما بعد وإن كان لدينا مبرر للاعتقاد أن يعقوب كان لديه بنات آخرين غيرها (انظر تك 37: 35؛ 46: 7) وإن كانت أسمائهن وتاريخهن لم يُذكر.

والآن في النهاية يبدو أن أفكار أفضل جاءت إلى راحيل. فعندما نقرأ إنه عند إعطائها ابن قيل "وسمع لها الله وفتح رحمها"، ونحن لنا رخصة في الاستنتاج أن صلاة إيمان قد حلت في قلبها محل الموضع السابق لغيرتها وحسدها لأختها. فالابن الذي ولدته آنذاك في السنة الرابعة عشر من عبودية يعقوب لدى لابان دعته يوسف هو اسم له معنى مضاعف فيعني "نازع" لأنها بحسب كلامها قالت: "قد نزع الله عاري"، و"زيادة" حيث أنها اعتبرت ابنها هذا كعربون أن الله -هذه المرة دعته الرب- قائلة: "يزيدني الرب ابنًا آخر".

لقد اكتمل وانتهى المكوث الطويل ليعقوب مع حماه لابان. أربعة عشر سنة عبودية للابان تركته فقيرًا مثلما كان عند أول قدومه إليه. إن مطالب أسرته المتنامية والفهم (أي التفاهم) الأفضل الذي توطد الآن في أسرته، يلزم أنه أشار عليه باشتهاء العودة إلى وطنه. لكن عندما أفضى بهذه الرغبة لحماه، كان لابان غير راغب في التخلي عمن انتفع منه بشدة.

بالتشوش المميز للأفكار الوثنية مع المعرفة المعتمة والضئيلة للرب، قال لابان ليعقوب - وهنا سوف نترجم النص حرفيًا: "ليتني أجد نعمة في عينيك (فلا تفارقني)، لأني قد تفاءلت(40) (تيقنت بالسحر)، فباركني الرب بسببك" (تك 30: 27).

← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

نفس المحاولة لوضع يهوه الرب كإله لإبراهيم بجانب إله ناحور، دون أن ينكر في الواقع وجود الرب، بل بكونه الإله الوحيد الحي والحقيقي - تحدث مرة ثانية عندما قطع لابان عهدًا مع يعقوب (تك 31: 53). وهو أمر يتكرر أيضًا مرارًا كثيرة في التاريخ المتأخر لإسرائيل. كل من الأمم الغريبة وإسرائيل ذاتها، في حالة ارتدادها، لم تنكر أن الرب كان الله، بل حاولت أن تضعه على نفس المستوى مع الآلهة الأخرى الكاذبة. والآن يعلّمنا الكتاب أنه أن نضع أي إله آخر مزعوم على نفس المستوى مع الإله الحي والحقيقي وحده، تعتبر جهل عظيم وبمثابة خطية عظيمة تعادل إنكاره تمامًا.

بطريقته الخاصة مع الادعاء بحسن الطوية والسخاء في العطاء، يدعو لابان يعقوب الآن أن يحدد أجرته في عمله معه مستقبلًا. لكن في هذه المرة كان للمخادع أن ينخدع. إذ وضع يعقوب أساس عرضه على حقيقة أنه في الشرق الماعز في الأغلب لونه أسود، والخرفان لونها أبيض، قدم يعقوب ما بدا أنه طلب في غاية التواضع بأن كل ما هو أرقط (أي ما كان لونه سواد وبياض) وأبلق (أي أسود منقط بأبيض أو العكس) في القطيع يكون من نصيبه.

وافق لابان بكل سرور على العرض واعتني بأن يقوم بالفرز بنفسه وسلّم نصيب يعقوب لبنيه(41)، بينما سلّم ليعقوب رعاية قطيع لابان. وأخيرًا وضع مسافة مسيرة ثلاثة أيام بين قطيع يعقوب وقطيعه.

لكن بالرغم من هذا عرف يعقوب بحيلة معروفة جيدًا في الشرق بالتغلب بالحيلة والمراوغة بحيث أن ما هو استثناء في عالم الوراثة يصير كثيرًا والعكس بالعكس فصار لديه الكثير من الغنم القوي مما هو مخطط وأرقط وأبلق. وبقي الامتياز والاستفادة إلى جانب يعقوب حتى عندما غير لابان مرارًا وتكرارًا شروط الاتفاق (تك 31: 7). وهذا يبين ويبرهن بوضوح أن حيلة يعقوب لم تكن السبب الحقيقي والفريد لنجاحه.

في الواقع إنه مباشرة عقب أول اتفاق مع لابان تكلم ملاك الله مع يعقوب في حلم مؤكدًا له أنه حتى بدون استخدام مثل هذه الحيل، سوف ينصفه الله في قضيته مع لابان (تك 31: 12-13). إذًا تصرف يعقوب مرة أخرى كما عندما كان في بيت أبيه. فهو تعجل ولم ينتظر الرب ليحقق وعده، فقرر أن يستخدم سبله الخاصة ويطبق مكره وحيله لتنفيذ مقصد الله، بدلًا من أن يستودع قضيته إليه.

وكما كان له في السابق أن له عذر ضعف أبيه وعنف أخيه، كذلك الآن قد يبدو أنه كما لو كان في حالة دفاع محض وكما لو أن خداعه كان ضروري لحمايته، فلجأ إلى ألاعيبه فقط في الربيع وليس في الخريف(42) لكي يكون النتاج الثاني للسنة من نصيب حماه بالأساس. والعواقب برهنت أنها مشابهة جدًا لتلك التي ترتبت على خداعه في بيت أبيه.

إن التزايد السريع لثروة يعقوب أثناء السنوات الستة لهذه الصفقة قد أثارت عداوة وحسد لابان وبنيه حتى أن يعقوب شعر أنه من الضروري لسلامته أن يغادر حتى لو لم يتلق توجيه إلهي بهذا (لكنه فعليًا تلقى توجيه من الرب بالعودة تك 31: 3).

لكن هذا (التوجيه الإلهي) وضع نهاية لكل تردد، وإذ نقل ما ينوي فعله لزوجتيه وضمن موافقتهما القلبية، غادر سرًا بينما لابان كان بعيدًا يجز غنمه، الأمر الذي أعاقه لبعض الوقت. لقد مرت ثلاثة أيام قبل أن يُخبر لابان بهرب يعقوب. فقام في الحال بتعقبه، وأخذ إخوته معه والذي أثار غضبه بالأكثر هو سرقة آلهته المنزلية والتي أخذتها راحيل معها بدون علم يعقوب طبعًا.

وفي اليوم السابع باغت لابان وأقاربه يعقوب وقافلته في جبل جلعاد. وكان يمكن للعواقب أن تكون وخيمة لولا أن الله تدخل ليحذر لابان في حلم ألا يؤذي أو يضر يعقوب. لكونه أخفق ولم يصل لمبتغاه في بحثه عن ترافيمه الضائعة من خلال مكر ودهاء أبنته راحيل، بالرغم من ريائه عند قوله أنه كان سيودعهم بالفرح والأغاني لو لم يتسلل يعقوب خفية، فإنه وقف في حالة تبكيت من أنانيته وقسوته.

في الحقيقة لو أن سلوك يعقوب حتى في هروبه كان أبعد ما يكون عن الصراحة والاستقامة، فإن تصرف لابان كان مجردًا من الأخلاقيات. لكن تم استعادة السلام بينهما وقطعا عهدًا بمقتضاه لا يتعدى أي طرف الرجمة والعمود الذي أقاموه لأجل مقاصد عدائية، وأعطاها يعقوب اسم عبري ولابان نفس الاسم بالكلداني ويعني رجمة الشهادة.

وإن كان لابان من باب الرياء أعطى لهذا العمود اسم إضافي "المصفاة"، فإنه أمر في غاية الأهمية وذات مغزى مهم أن نلاحظ الأحداث العظيمة في حياتنا وبالأخص تحالفاتنا ومباشراتنا. لأن المصفاة تعني "برج المراقبة" والكلمات التي صاحبت إعطاء الاسم كانت:"لِيُرَاقِبِ الرَّبُّ بَيْنِي وَبَيْنَكَ حِينَمَا نَتَوَارَى بَعْضُنَا عَنْ بَعْضٍ".

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

(38) نحن نستشف من النص المقدس أن يعقوب أمضى أول ليلة في طريقه في بيت إيل.

(39) في البركة الأخيرة ليعقوب (تك49)، سنجد تتابع مختلف تمامًا لبنيه، وهذه المرة أيضًا جاء التتابع ليتوافق مع مقاصد الرواية أكثر منه بحسب الترتيب الزمني لولادتهم.

(40) إنه حدث مثير للانتباه جدًا أن الكلمة العبرية للتفاءل هي نفسها المستخدمة لكلمة "الحية". ففي الطقوس الوثنية أيضًا عبادة الحية كانت مرتبطة بالسحر، وفي كل هذا نتعرف كيف أن الديانة الكاذبة والسحر يمكننا بالحق أن نقتفي أثرهما فنصل إلى الحية القديمة التي هي الشيطان.

(41) تعليق للمترجم: هنا المقصود أن ما يمكن أن ينتج طبيعيًا بحسب المواصفات التي وضعها يعقوب جعلها لابان مع بنيه، ليمنع عن يعقوب أية ميزة ظنًا منه بهذا أن ينجح في جعل يعقوب يخدمه مجانًا دون أن يكون له ذنب لكون يعقوب هو الذي وضع على نفسه هذا الشرط التعجيزي من وجهة نظر لابان.

(42) هكذا نفهم من (تك 30: 41-42). يُفترض أن نتاج الربيع أقوى من الذي للخريف.


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/books/fr-angelos-almaqary/bible-history-edersheim-1/jacobs-vision.html

تقصير الرابط:
tak.la/8cphzsg