"وكان عنوان مكتوب فوقه بأحرف يونانية ورومانية وعبرانية هذا هو ملك اليهود" (لو23: 38).
كانت هذه رسالة موجهة إلى العالم كله؛ إلى الفلاسفة اليونان، ورجال السلطة الرومانيين، ورجال الدين العبرانيين.. إلى الأمم بأنواعهم، وإلى اليهود. إن هذا هو المسيح الرب والملك.
وتذكّرت القديسة مريم قول الملاك لها في البشارة: "ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولا يكون لملكه نهاية" (لو1: 32، 33).
تذكّرت أيضًا ما رآه دانيال النبي في رؤياه وسجّله في السفر قائلًا: "كنت أرى في رؤى الليل وإذا مع سحب السماء مثل ابن إنسان أتى وجاء إلى القديم الأيام فقربوه قدامه. فَأُعْطِيَ سلطانًا ومجدًا وملكوتًا، لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول، وملكوته ما لا ينقرض" (دا 7: 13، 14).
ألم تبصر السيدة العذراء المجوس الذين جاءوا من المشرق قائلين: "أين هو المولود ملك اليهود فإننا رأينا نجمه في المشرق وأتينا لنسجد له؟" (مت2: 2).
هذا الذي قال عنه الملاك المبشر للرعاة: "ها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب، أنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب" (لو2: 10، 11).
ومدينة داود هي بيت لحم اليهودية التي قال عنها ميخا النبي: "أما أنت يا بيت لحم أفراتة، وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا، فمنك يخرج لي الذي يكون متسلطًا على إسرائيل، ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل" (مى5: 2).
عندما اقترب السيد المسيح من الصليب في الأسبوع الأخير، حدثت مناقشة بينه وبين الجمع الذي كان واقفًا من اليهود إذ قال السيد المسيح: "الآن دينونة هذا العالم. الآن يُطرح رئيس هذا العالم خارجًا. وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إليَّ الجميع. قال هذا مشيرًا إلى أيَّة ميتة كان مزمعًا أن يموت. فأجابه الجمع: نحن سمعنا من الناموس أن المسيح يبقى إلى الأبد. فكيف تقول أنت أنه ينبغي أن يرتفع ابن الإنسان. من هو هذا ابن الإنسان؟" (يو12: 31-34).
كان فهم اليهود لأسفار الكتاب المقدس مرتبطاً بآمال وتطلعات أرضية، لذلك كانوا ينتظرون مجيء المسيح الملك الذي سوف يملك على جميع شعوب العالم وتبقى مملكته على الأرض إلى الأبد.
كانوا يعتقدون -بحسب فهمهم الخاص- أن الله قد ميّزهم على كل شعوب الأرض وأن مملكة داود سوف تمتد لتشمل الأرض كلها وتخضع لهم كل شعوب العالم تحت رئاسة المسيح المنتظر من نسل داود.
لذلك تعجبوا من قول السيد المسيح: "أنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إليَّ الجميع" (يو12: 32). فسواء كان المقصود بكلامه -في نظرهم- الارتفاع على الصليب كما قصد هو نفسه أو مغادرة هذا العالم بمفارقة روحه لجسده، أو حتى بصعوده حياً إلى السماء.. فإن كل هذه الأمور قد تتعارض مع اعتقادهم بالملك الأرضي الذي كانوا يتطلعون إليه بشوق كبير جعلهم لا يفهمون طبيعة إرسالية السيد المسيح إلى العالم.
ربما اتجهت أنظارهم إلى ما ورد عن المسيح في نبوءة دانيال النبي "كنت أرى في رؤى الليل وإذا مع سحب السماء مثل ابن إنسان أتى وجاء إلى القديم الأيام فقربوه قدامه. فَأُعْطِيَ سلطانًا ومجدًا وملكوتًا لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول وملكوته ما لا ينقرض" (دا 7: 13، 14).
وكشعب كان يعاني في ذلك الوقت من الاستعمار الروماني الذي فرض عليهم الجزية وأساء معاملتهم، كانت أشواقهم ملتهبة نحو مجيء المسيح الذي يحررهم من الاستعمار ويقيم مملكة داود، ويجعل كل شعوب العالم تتعبد له وتدفع له الجزية "كل الشعوب والأمم والألسنة". ويظل هذا الوضع قائمًا على الأرض إلى الأبد بلا زوال ولا انقراض. وبذلك يحيون في سعادة جسدية لا تعاني من استعمار ولا من حروب ولا من جوع ولا من عوز يتفوقون فيها على كل شعوب العالم ويستعبدونهم.
كان السيد المسيح قد ذكر في نقاشه مع تلميذيه أندراوس وفيلبس عبارة: "ابن الإنسان"إذ قال لهما رداً على طلب اليهود اليونانيين الذين صعدوا ليسجدوا في العيد أن يروه "قد أتت الساعة ليتمجد ابن الإنسان" (يو12: 23). وبعدها قال لأبيه السماوي: "أيها الآب مجّد اسمك. فجاء صوت من السماء: مجدت وأمجّد أيضًا. فالجمع الذي كان واقفًا وسمع قال قد حدث رعد. وآخرون قالوا قد كلّمه ملاك. أجاب يسوع وقال: ليس من أجلي صار هذا الصوت بل من أجلكم" (يو12: 28-30).
ارتبك الجمع لسبب ما سمعوه من كلام السيد المسيح، وما حدث في حديثه مع الآب السماوي. واختلط عليهم الأمر ما إذا كان هذا هو المسيح. لذلك بدأوا يقارنون بين كلام السيد المسيح وبين مفاهيمهم الشخصية في تفسير الأسفار المقدسة وقالوا: "نحن سمعنا من الناموس أن المسيح يبقى إلى الأبد. فكيف تقول أنت إنه ينبغي أن يرتفع ابن الإنسان. من هو هذا ابن الإنسان؟" (يو12: 34).
والمقصود هنا في كلامهم هل أنت هو ابن الإنسان المذكور في نبوة دانيال "مثل ابن إنسان أتى وجاء إلى القديم الأيام فقرّبوه قدامه. فَأُعْطِيَ سلطانًا ومجدًا وملكوتًا لتتعبد له كل الشعوب.. سلطانه سلطان أبدي.." (دا 7: 13، 14). وإن كنت أنت هو فلماذا لن تبقى على الأرض وتملك إلى الأبد؟ خاصة وأنت تقول: "قد أتت الساعة ليتمجد ابن الإنسان" (يو12: 23). ودانيال يقول عن ابن الإنسان أنه قد أُعطي سلطانًا ومجدًا.. وسلطانه.. ما لن يزول وملكوته ما لن ينقرض..
لم يفهم اليهود أن ملكوت المسيح الأبدي هو ملكوت السماوات، وأن مجد المسيح هو مجد الروحيات وليس الأرضيات، وأن حرية المسيح هي الحرية من الخطية؛ الحرية التي سوف يحرر بها شعبه من عبودية إبليس ومن الهلاك الأبدي، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. ولكن للأسف قد أعمى الشيطان عيون اليهود لكي لا يؤمنوا به.
وقد علّق القديس يوحنا الإنجيلي على هذه الواقعة والمناقشة بقوله: "ومع أنه كان قد صنع أمامهم آيات هذا عددها لم يؤمنوا به. ليتم قول إشعياء النبي الذي قاله: يا رب من صدق خبرنا، ولمن استعلنت ذراع الرب. لهذا لم يقدروا أن يؤمنوا لأن إشعياء قال أيضًا: قد أعمى عيونهم وأغلظ قلوبهم لئلا يبصروا بعيونهم ويشعروا بقلوبهم ويرجعوا فأشفيهم. قال إشعياء هذا حين رأى مجده وتكلّم عنه.." (يو12: 37- 41).
قال السيد المسيح: "أنا إن ارتفعت عن الأرض، أجذب إليَّ الجميع. قال هذا مشيرًا إلى أية ميتة كان مزمعًا أن يموت" (يو12: 32، 33).
وقال أيضًا لليهود: "متى رفعتم ابن الإنسان، فحينئذ تفهمون أني أنا هو" (يو8: 28).
في كل ذلك كان يؤكد أنه سوف يملك على خشبة الصليب، لأنه بالصليب سوف يجتذب إليه الجميع، ويصير ملكًا على قلوبهم. وبالصليب سوف يفهم البشر أن يسوع المسيح -ابن الإنسان- هو هو نفسه ابن الله الوحيد، الذي غلب الموت وانتصر عليه، بقيامته منتصرًا من الأموات.
هذا ما قاله معلمنا بطرس الرسول مع باقي الآباء الرسل لليهود في يوم الخمسين عن صلب السيد المسيح: "هذا أخذتموه مسلَّمًا بمشورة الله المحتومة وعلمه السابق، وبأيدي أثمة صلبتموه وقتلتموه. الذي أقامه الله ناقضًا أوجاع الموت إذ لم يكن ممكنًا أن يُمسك منه" (أع2: 23، 24).
ثم تكلّم عن داود وملكه فقال: "فإذ كان نبيًا وعلِم أن الله حلف له بقسم أنه من ثمرة صلبه يقيم المسيح حسب الجسد ليجلس على كرسيه، سبق فرأى وتكلّم عن قيامة المسيح أنه لم تترك نفسه في الهاوية، ولا رأى جسده فسادًا. فيسوع هذا أقامه الله ونحن جميعًا شهود لذلك" (أع2: 30-32).
واستخلص معلمنا بطرس الرسول النتيجة بقوله: "فليعلم يقينًا جميع بيت إسرائيل أن الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم ربًا ومسيحًا" (أع2: 36).
مهما بلغ ملوك العالم إلى قمة المجد والعظمة والسلطان، فإن مُلكهم قد زال بموتهم.. انهزموا جميعًا أمام الموت.. ولم ينتصر أحد منهم عليه.
فكم من ممالك زالت وانقضت؟.. وكم من حضارات تبدلت وطغت عليها حضارات أخرى.
أراد ملوك المصريين القدماء أن يخلدوا مُلكهم، فاخترعوا فن التحنيط وفنون المقابر والرسوم والألوان، والتماثيل والأهرامات وغيرها.. ولكن هذه كلها لم تحفظ لهم المُلك.. بل جسدت مأساة الإنسان في قمة حضارته وقدرته، وفي قمة هزيمته أمام الموت. كان الأمل الوحيد للإنسان هو القيامة من الأموات..
وجاء السيد المسيح ليصير باكورة للراقدين.. وليمنح الحياة الأفضل للذين قبلوه حتى للذين لم يعرفوا فن التحنيط.
هذا هو الملك الحقيقي الذي قال عن نفسه: "أنا هو القيامة والحياة. من آمن بي ولو مات فسيحيا" (يو11: 25).
تحقق قول دانيال النبي: "فَأُعْطِيَ سلطانًا ومجدًا وملكوتًا لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول وملكوته ما لا ينقرض" (دا 7: 14).
إنه سلطان الحياة الأبدية الذي قال عنه السيد المسيح في مناجاته للآب قبل الصليب مباشرة: "أيها الآب قد أتت الساعة مجّد ابنك، ليمجدك ابنك أيضًا. إذ أعطيته سلطانًا على كل جسد، ليعطي حياة أبدية لكل من أعطيته" (يو17: 1، 2). وصار له السلطان أن يمنح الحياة الأبدية للذين قبلوه وآمنوا به.
إنه مجد القيامة الذي قال عنه السيد المسيح لتلاميذه: "كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده" (لو24: 26).
إنه مُلك الله على قلوبنا هذا الذي اشترانا كقول الكتاب "أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم، الذي لكم من الله، وأنكم لستم لأنفسكم. لأنكم قد اشتريتم بثمن فمجدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي لله" (1كو6: 19، 20).
لقد صرنا هيكلًا للروح القدس.. وصار ملكوت الله داخلنا، كما وعدنا السيد المسيح.. وصرنا أولادًا لله "فإن كنا أولادًا، فإننا ورثة أيضًا. ورثة الله ووارثون مع المسيح" (رو8: 17).
إن من يملك الله على قلبه وعلى حياته، يصير مؤهلًا لميراث ملكوت السماوات في المجد الأبدي.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/anba-bishoy/christ/this.html
تقصير الرابط:
tak.la/njj72kv