* تأملات في كتاب
رسالة يعقوب الرسول: |
← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16 - 17 - 18 - 19 - 20 - 21 - 22 - 23 - 24 - 25 - 26
المحاباة بتكريم الغَني واحتقار الفقير (يع1:2-9)
كسر وصية واحدة خطأٌ في الناموس كله (يع10:2-12)
إيمان بدون أعمال ميت لا يكفي للخلاص (يع13:2-26)
يَا إخْوَتِي،
لاَ يَكُنْ لَكُمْ إيمَانُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، رَبِّ الْمَجْدِ، فِي الْمُحَابَاةِ.
فَإنَّهُ إنْ دَخَلَ إلَى مَجْمَعِكُمْ رَجُلٌ بِخَوَاتِمِ ذَهَبٍ فِي لِبَاسٍ بَهِيٍّ،
وَدَخَلَ أَيْضًا فَقِيرٌ بِلِبَاسٍ وَسِخٍ،
فَنَظَرْتُمْ إلَى اللاَّبِسِ اللِّبَاسَ الْبَهِيَّ وَقُلْتُمْ لَهُ: «اجْلِسْ أَنْتَ هُنَا حَسَنًا». وَقُلْتُمْ لِلْفَقِيرِ: «قِفْ أَنْتَ هُنَاكَ» أَوِ: «اجْلِسْ هُنَا تَحْتَ مَوْطِئِ قَدَمَيَّ» فَهَلْ لاَ تَرْتَابُونَ فِي أَنْفُسِكُمْ، وَتَصِيرُونَ قُضَاةَ أَفْكَارٍ شِرِّيرَةٍ؟
اسْمَعُوا يَا إخْوَتِي الأَحِبَّاءَ
أَمَا اخْتَارَ اللهُ
فُقَرَاءَ هذَا الْعَالَمِ أَغْنِيَاءَ فِي
الإيمَانِ، وَوَرَثَةَ الْمَلَكُوتِ
الَّذِي وَعَدَ بِهِ الَّذِينَ يُحِبُّونَهُ؟
وَأَمَّا أَنْتُمْ فَأَهَنْتُمُ الْفَقِيرَ.
أَلَيْسَ الأَغْنِيَاءُ يَتَسَلَّطُونَ عَلَيْكُمْ وَهُمْ يَجُرُّونَكُمْ إلَى الْمَحَاكِمِ؟
أَمَا هُمْ يُجَدِّفُونَ عَلَى الاسْمِ الْحَسَنِ الَّذِي دُعِيَ بِهِ عَلَيْكُمْ؟
فَإنْ كُنْتُمْ تُكَمِّلُونَ النَّامُوسَ الْمُلُوكِيَّ حَسَبَ الْكِتَابِ
«تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ» فَحَسَنًا تَفْعَلُونَ.
وَلكِنْ إنْ كُنْتُمْ تُحَابُونَ، تَفْعَلُونَ خَطِيَّةً، مُوَبَّخِينَ مِنَ النَّامُوسِ كَمُتَعَدِّينَ.
لأَنَّ مَنْ حَفِظَ كُلَّ النَّامُوسِ، وَإنَّمَا عَثَرَ فِي وَاحِدَةٍ، فَقَدْ صَارَ مُجْرِمًا فِي الْكُلِّ. لأَنَّ الَّذِي قَالَ: «لاَ تَزْنِ»، قَالَ أَيْضًا: «لاَ تَقْتُلْ».
فَإنْ لَمْ تَزْنِ وَلكِنْ قَتَلْتَ، فَقَدْ صِرْتَ مُتَعَدِّيًا النَّامُوسَ.
هكَذَا تَكَلَّمُوا وَهكَذَا افْعَلُوا كَعَتِيدِينَ أَنْ تُحَاكَمُوا بِنَامُوسِ الْحُرِّيَّةِ.
لأَنَّ الْحُكْمَ هُوَ بِلاَ رَحْمَةٍ لِمَنْ لَمْ يَعْمَلْ رَحْمَةً، وَالرَّحْمَةُ تَفْتَخِرُ عَلَى الْحُكْمِ.
مَا الْمَنْفَعَةُ يَا إخْوَتِي إنْ قَالَ أَحَدٌ إنَّ لَهُ إيمَانًا وَلكِنْ لَيْسَ لَهُ أَعْمَالٌ، هَلْ يَقْدِرُ الإيمَانُ أَنْ يُخَلِّصَهُ؟
إنْ كَانَ أَخٌ وَأُخْتٌ عُرْيَانَيْنِ وَمُعْتَازَيْنِ لِلْقُوتِ الْيَوْمِيِّ،
فَقَالَ لَهُمَا أَحَدُكُمُ: «امْضِيَا بِسَلاَمٍ، اسْتَدْفِئَا وَاشْبَعَا»
وَلكِنْ لَمْ تُعْطُوهُمَا حَاجَاتِ الْجَسَدِ، فَمَا الْمَنْفَعَةُ؟
هكَذَا الإيمَانُ أَيْضًا، إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَعْمَالٌ، مَيِّتٌ فِي ذَاتِهِ.
لكِنْ يَقُولُ قَائِلٌ: «أَنْتَ لَكَ إيمَانٌ، وَأَنَا لِي أَعْمَالٌ»
أَرِنِي إيمَانَكَ بِدُونِ أَعْمَالِكَ، وَأَنَا أُرِيكَ بِأَعْمَالِي إيمَانِي.
أَنْتَ تُؤْمِنُ أَنَّ اللهَ وَاحِدٌ. حَسَنًا تَفْعَلُ. وَالشَّيَاطِينُ يُؤْمِنُونَ وَيَقْشَعِرُّونَ! وَلكِنْ هَلْ تُرِيدُ أَنْ تَعْلَمَ أَيُّهَا الإنْسَانُ الْبَاطِلُ أَنَّ الإيمَانَ بِدُونِ أَعْمَال مَيِّتٌ؟
أَلَمْ يَتَبَرَّرْ إبْرَاهِيمُ أَبُونَا بِالأَعْمَالِ، إذْ قَدَّمَ إسْحَاقَ ابْنَهُ عَلَى الْمَذْبَحِ؟ فَتَرَى أَنَّ الإيمَانَ عَمِلَ مَعَ أَعْمَالِهِ، وَبِالأَعْمَالِ أُكْمِلَ الإيمَانُ، وَتَمَّ الْكِتَابُ الْقَائِلُ: «فَآمَنَ إبْرَاهِيمُ بِاللهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرًّا» وَدُعِيَ خَلِيلَ اللهِ. تَرَوْنَ إذَنْ أَنَّهُ بِالأَعْمَالِ يَتَبَرَّرُ الإنْسَانُ، لاَ بِالإيمَانِ وَحْدَهُ.
كَذلِكَ رَاحَابُ الزَّانِيَةُ أَيْضًا، أَمَا تَبَرَّرَتْ بِالأَعْمَالِ، إذْ قَبِلَتِ الرُّسُلَ وَأَخْرَجَتْهُمْ فِي طَرِيق آخَرَ؟
لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الْجَسَدَ بِدُونَ رُوحٍ مَيِّتٌ، هكَذَا الإيمَانُ أَيْضًا بِدُونِ أَعْمَال مَيِّتٌ.
«يَا إخْوَتِي
لاَ يَكُنْ لَكُمْ إيمَانُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ رَبِّ الْمَجْدِ فِي الْمُحَابَاةِ» (يع1:2)
يَا إخْوَتِي:
لا يتفق
إيمانكم المسيحي، إيمَانُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ رَبِّ الْمَجْدِ
مع المحاباة. فالله لا يحابي أحدًا ولا يُمَيز ذكرًا أو أنثي، عبدًا أو حرًا،
يهودي أو أممي، غنيًا أو فقيرًا. الجميع واحدٌ في المسيح.
علَّمنا احتقار العالم والمال والذهب والثياب الفاخرة. ورَفَع الفقراء إذ تجسد
وعاش فقيرًا بينهم. وحذَّر الأغنياء، فمن يُمَيز الغَني يُمَيز ثروته، ويكشف
عن محبته للمال أصل كل الشرور. للأسف غار آساف النبي من الأشرار بسبب
غناهم حينما رآهم ناجحين، وعاتب الرب قائلًا «غِرْتُ مِنَ الْمُتَكَبِّرِينَ، إذْ رَأَيْتُ سَلاَمَةَ الأَشْرَار. لأَنَّهُ
لَيْسَتْ فِي مَوْتِهِمْ شَدَائِدُ، وَجِسْمُهُمْ سَمِينٌ. لَيْسُوا فِي تَعَبِ
النَّاسِ، وَمَعَ الْبَشَرِ لاَ يُصَابُونَ»
(مزمور3:53-5).
«فَإنَّهُ إنْ دَخَلَ إلَى مَجْمَعِكُمْ رَجُلٌ بِخَوَاتِمِ ذَهَبٍ فِي لِبَاسٍ بَهِيٍّ
وَدَخَلَ أَيْضًا فَقِيرٌ بِلِبَاسٍ وَسِخٍ،
فَنَظَرْتُمْ إلَى اللاَّبِسِ اللِّبَاسَ الْبَهِيَّ
وَقُلْتُمْ لَهُ: اجْلِسْ أَنْتَ هُنَا حَسَنًا.
وَقُلْتُمْ لِلْفَقِيرِ: قِفْ أَنْتَ هُنَاكَ أَوِ اجْلِسْ هُنَا تَحْتَ مَوْطِئِ قَدَمَيَّ»
(يع2:2- 3)
لا يصِحُّ أن ننخَدِع بالغِنَى الزائل لأنه كَزَهْرِ الْعُشْبِ يَزُولُ(يع10:1)
«فَهَلْ لاَ تَرْتَابُونَ فِي أَنْفُسِكُمْ، وَتَصِيرُونَ قُضَاةَ أَفْكَارٍ شِرِّيرَةٍ؟» (يع4:2)
ألا تتشككون وتوَبِّخكم ضمائرُكم داخلكم عندما تجعلون أَنْفُسَكُمْ قُضَاةً تحكمون بأَفْكَارٍ عالمية شِرِّيرَةٍ، مبنية على غِنَى الإنسان المادي وفقره.
«اسْمَعُوا يَا إخْوَتِي الأَحِبَّاءَ:
أَمَا اخْتَارَ اللَّهُ فُقَرَاءَ هَذَا الْعَالَمِ أَغْنِيَاءَ فِي الإيمَانِ،
وَوَرَثَةَ الْمَلَكُوتِ الَّذِي وَعَدَ بِهِ الَّذِينَ يُحِبُّونَهُ؟» (يع5:2)
يقول مارِ بولس الرسول «لَيْسَ كَثِيرُونَ شُرَفَاءُ. بَلِ اخْتَارَ اللهُ جُهَّالَ الْعَالَمِ لِيُخْزِيَ الْحُكَمَاءَ وَاخْتَارَ اللهُ ضُعَفَاءَ الْعَالَمِ لِيُخْزِيَ الأَقْوِيَاءَ وَاخْتَارَ اللهُ أَدْنِيَاءَ الْعَالَمِ وَالْمُزْدَرَى وَغَيْرَ الْمَوْجُودِ لِيُبْطِلَ الْمَوْجُودَ لِكَيْ لاَ يَفْتَخِرَ كُلُّ ذِي جَسَدٍ أَمَامَهُ.» (1كو26:1-29). ولندرك أن الغِني والفَقر كلاهما يحارب الإنسان، فإذا اعتمد على غناه، يُغريه التنعُم ويقوده إلى الفساد. وإذا تذمر على فقره، يحيا بلا رِضى ولا شُكر.
«وَأَمَّا أَنْتُمْ فَأَهَنْتُمُ الْفَقِيرَ.
أَلَيْسَ الأَغْنِيَاءُ يَتَسَلَّطُونَ عَلَيْكُمْ وَهُمْ يَجُرُّونَكُمْ إلَى الْمَحَاكِمِ؟» (يع6:2)
فسليمان الحكيم يقول «المستهزئ بالفقير يعير خالقه»(أم5:17).
فبينما الأغنياء يتسلطون عليكم ويجرونكم إلى المحاكم ويجدفون على اسم إلهكم وأنتم لا تقاوموا الشر بالشر بل تعاملونهم حسنًا لأنكم تنفذون وصية الله بمحبة الكل.
«أَمَا هُمْ يُجَدِّفُونَ عَلَى الاِسْمِ الْحَسَنِ الَّذِي دُعِيَ بِهِ عَلَيْكُمْ؟» (يع7:2)
سليمان الحكيم يقول «ظَالِمُ الْفَقِيرِ يُعَيِّرُ خَالِقَهُ» (أم14: 31)، «الْمُسْتَهْزِئُ بِالْفَقِيرِ يُعَيِّرُ خَالِقَهُ» (أم5:17). ويقول آساف عن الأَغْنِيَاءُ «جَعَلُوا أَفْوَاهَهُمْ فِي السَّمَاءِ وَأَلْسِنَتُهُمْ تَتَمَشَّى فِي الأَرْضِ» (مز73: 9).
الفقر والغنى كلاهما بركة، ويمكن للشيطان أن يحارب بأي منهما، فيُسقِط الأغنياء في محبة المال والاتكال عليه، والانشغال بملاهي الدنيا ومفاسدها. ويُسقط الفقراء في التذمر وشهوة الغِنى والإحساس بالعوز والمرارة. ما أفضل أن نحيا كفقراء ونحن نغني كثيرين.
«فَإنْ كُنْتُمْ تُكَمِّلُونَ النَّامُوسَ الْمُلُوكِيَّ حَسَبَ الْكِتَابِ تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ
فَحَسَنًا تَفْعَلُونَ. وَلَكِنْ إنْ كُنْتُمْ تُحَابُونَ تَفْعَلُونَ خَطِيَّةً مُوَبَّخِينَ مِنَ النَّامُوسِ كَمُتَعَدِّينَ»(يع8:2- 9).
«فَإنْ كُنْتُمْ تُكَمِّلُونَ النَّامُوسَ... فَحَسَنًا تَفْعَلُونَ»
فَإنْ كُنْتُمْ بإكرامكم الأغنياء تُكَمِّلُونَ النَّامُوسَ الْمُلُوكِيَّ أي ناموس الله ملك الملوك، وتُنَفِّذون الوصية الكتابية تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ أي تُحِب الكل الفقراء والأغنياء فَحَسَنًا تَفْعَلُونَ.
وَلَكِنْ إنْ كُنْتُمْ بإكرامكم للأغنياء تُحَابُونَهم خوفًا، فأنتم تَفْعَلُونَ خَطِيَّةً وتستحقون التوَبَّيخ مِنَ النَّامُوسِ كَمُتَعَدِّينَ له، كمرائين ومُحابين للوجوه. فحسنًا قال الله «لاَ تَرْتَكِبُوا جَوْرًا فِي الْقَضَاءِ. لاَ تَأْخُذُوا بِوَجْهِ مِسْكِينٍ وَلاَ تَحْتَرِمْ وَجْهَ كَبِيرٍ. بِالْعَدْلِ تَحْكُمُ لِقَرِيبِكَ» (لاويين15:19)
← (ستجد كذلك تفاسير أخرى هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت لمؤلفين آخرين).
«لأَنَّ مَنْ حَفِظَ كُلَّ النَّامُوسِ وَإنَّمَا عَثَرَ فِي وَاحِدَةٍ فَقَدْ صَارَ مُجْرِمًا فِي الْكُلِّ
لأَنَّ الَّذِي قَالَ لاَ تَزْن قَالَ أَيْضًا لاَ تَقْتُلْ.
فَإنْ لَمْ تَزْنِ وَلَكِنْ قَتَلْتَ فَقَدْ صِرْتَ مُتَعَدِّيًا النَّامُوسَ.» (يع10:2، 11)
هذا هو جوهر الاستماع لكلمة الله، هل تُطيع النَّامُوس أم لا؟؟
فالذي يطيع النَّامُوس يُطيعُه كُله، يُطيع الوصية السادسة كما يُطيع الوصية السابعة، والذي يكسِر وصيةً من النَّامُوسِ صِار مُتَعَدِّيًا على النَّامُوس غير مطيعٍ لله واضع النَّامُوس. فالمشكلة في القلب الذي لديه استعداد أن يكسر الوصية.
«لأَنَّ الَّذِي قَالَ لاَ تَزْن قَالَ أَيْضًا لاَ تَقْتُلْ» فلا فرق بين خطية وأخرى، الشتيمة كالقتل، الفرق بينهما في درجة الخطية، فرق بين شتيمة وشتيمة وبين قتل وقتل، بين من يخطئ بإرادة كاملة وبين من يخطئ بجهل أو انزلق إلى الخطية دون أن يقصد أو يريد، بين من يشتم أخًا ومن يشتم أباه أو أمه أو كاهنًا أو أسقفًا. كما تُقاس بمَن هو المُخطِئ ومدى معرفتِه لكلمة الله.
«هَكَذَا تَكَلَّمُوا وَهَكَذَا افْعَلُوا كَعَتِيدِينَ أَنْ تُحَاكَمُوا» (يع12:2)
ما دُمنا سنُحاكَم ونُحاسَب عن كلماتنا وأفعالنا في اليوم الأخير، فلنستعد إذَنْ لهذا. فالذين يتكلمون ويسلكون بغير تدقيق مُتَّكلِين على مراحم الله الكثيرة لابد أن يعرفوا أن زكريا الكاهن العظيم الذي شهد عنه الروح القدس أنه كان سالكًا في جميع وصايا الرب وأحكامه بلا لوم، عندما تكلم بغير دِقَّةٍ أمام الملاك ضرَبَهُ بالخَرَس، فلَمْ يتكلم تِسعَة أشهر «لأَنَّكَ بِكَلاَمِكَ تَتَبَرَّرُ وَبِكَلاَمِكَ تُدَانُ» (متى37:12). «إنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ بَطَّالَةٍ يَتَكَلَّمُ بِهَا النَّاسُ سَوْفَ يُعْطُونَ عَنْهَا حِسَابًا يَوْمَ الدِّينِ» (مت 12: 36). «لأَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنَّنَا جَمِيعًا نُظْهَرُ أَمَامَ كُرْسِيِّ الْمَسِيحِ، لِيَنَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا كَانَ بِالْجَسَدِ بِحَسَبِ مَا صَنَعَ، خَيْرًا كَانَ أَمْ شَرًّا» (2كو5: 10).
«كَعَتِيدِينَ أَنْ تُحَاكَمُوا بِنَامُوسِ الْحُرِّيَّةِ» (يعقوب12:2)
ناموس الحرية هو ناموس العهد الجديد الذي يمنعنا عن الخطية لا خوفًا من عقاب الله بل حبًا له «نَحْنُ نُحِبُّهُ لأَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا أَوَّلًا» (1يوحنا19:4)، وقد قال الرب «أَجْعَلُ نَوَامِيسِي فِي أَذْهَانِهِمْ، وَأَكْتُبُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ» (عب8: 10، عب10: 16). فمحبة الله هي الناموس المكتوب في قلوبنا، والذي يمنعنا من أن نخطئ إليه، وقد ذُكِر ناموس الحرية في الإصحاح السابق «وَلَكِنْ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى النَّامُوسِ الْكَامِلِ- نَامُوسِ الْحُرِّيَّةِ- وَثَبَتَ، وَصَارَ لَيْسَ سَامِعًا نَاسِيًا بَلْ عَامِلًا بِالْكَلِمَةِ، فَهَذَا يَكُونُ مَغْبُوطًا فِي عَمَلِهِ» (يع25:1).
«لأَنَّ الْحُكْمَ هُوَ بِلاَ رَحْمَةٍ لِمَنْ لَمْ يَعْمَلْ رَحْمَةً،
وَالرَّحْمَةُ تَفْتَخِرُ عَلَى الْحُكْمِ.» (يع13:2)
حقًّا قال ربنا يسوع في موعظته الشهيرة على الجبل
«طُوبَى
لِلرُّحَمَاءِ لأَنَّهُمْ يُرْحَمُونَ»(متى7:5).
أما من لا يرحَم، سَيَدِينُه الله بلا رحمة.
قال أحد القديسين "إن الله سوف لا يدينه"، فسألوه "هل لم تخطئ؟"،
قال "لا، بل برحمةٍ لم أدِنْ أحدًا، لذلك فالله سيرحمني ولا يدينني لأنه قال
«لأَنَّكُمْ
بِالدَّيْنُونَةِ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ تُدَانُونَ وَبِالْكَيْلِ الَّذِي
بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ»
(متى2:7).
الإيمان وحده لا يخلص بل الإيمان العامل بالمحبة
«مَا الْمَنْفَعَةُ يَا إخْوَتِي إنْ قَالَ أَحَدٌ إنَّ لَهُ إيمَانًا وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَعْمَالٌ؟
هَلْ يَقْدِرُ الإيمَانُ أَنْ يُخَلِّصَهُ؟»(يع14:2)
هذا النص يعني:
· أَنَّ الإيمَانَ بِدُونِ أَعْمَالٍ مَيِّت
· أَنَّ الإيمَانَ وحده لا يُخَلِّصَ
«إنْ كَانَ أَخٌ وَأُخْتٌ عُرْيَانَيْنِ وَمُعْتَازَيْنِ لِلْقُوتِ الْيَوْمِيِّ،
فَقَالَ لَهُمَا أَحَدُكُمُ: امْضِيَا بِسَلاَمٍ، اسْتَدْفِئَا وَاشْبَعَا،
وَلَكِنْ لَمْ تُعْطُوهُمَا حَاجَاتِ الْجَسَدِ، فَمَا الْمَنْفَعَةُ؟» (يع2: 15-16)
وقال القديس يوحنا الحبيب «وَأَمَّا مَنْ كَانَ لَهُ مَعِيشَةُ الْعَالَمِ، وَنَظَرَ أَخَاهُ مُحْتَاجًا، وَأَغْلَقَ أَحْشَاءَهُ عَنْهُ، فَكَيْفَ تَثْبُتُ مَحَبَّةُ اللهِ فِيهِ؟» (1يو17:3).
كما أن حاجات الإنسان الفقير لا تُعالَج بالكلام الحُلْو وحده، كذلك احتياج الإنسان للخلاص لا ينفَعُه الإيمان وحده، بل الإيمان العامل بالمحبة (غلاطية 5: 6). «وَإنْ كَانَ لِي كُلُّ الإيمَانِ حَتَّى أَنْقُلَ الْجِبَالَ وَلَكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ فَلَسْتُ شَيْئًا» (1كو13: 2).
«هَكَذَا الإيمَانُ أَيْضًا، إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَعْمَالٌ، مَيِّتٌ فِي ذَاتِهِ» (يع2: 17)
هذا هو الموضوع الأساسي في رسالة القديس يعقوب الرسول: "الحياة العملية". يحكي لنا سِفر الأعمال أنه إذ علِمَ التلاميذ أن جوعًا عظيمًا عتيدًا أن يصير على المسكونة، ماذا فعلوا؟ «فَحَتَمَ التَّلاَمِيذُ حَسْبَمَا تَيَسَّرَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ أَنْ يُرْسِلَ كُلُّ وَاحِدٍ شَيْئًا خِدْمَةً إلَى الإخْوَةِ السَّاكِنِينَ فِي الْيَهُودِيَّةِ. فَفَعَلُوا ذَلِكَ مُرْسِلِينَ إلَى الْمَشَايِخِ بِيَدِ بَرْنَابَا وَشَاوُلَ»(أعمال11: 27-30). الرُّسُل لم يكن لهم إيمان فقط بل إيمانٌ عامل. فاهتموا بالمحتاجين، وعلَّموا المؤمنين هكذا، الإيمان العامل بالمحبة؛ ليُعطوا المحتاجين. كذلك القديس مار بولس جعل المؤمنين في كنائس مَكِدُونِيَّةَ أن يتبرعوا للمحتاجين «ثُمَّ نُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا الإخْوَةُ نِعْمَةَ اللهِ الْمُعْطَاةَ فِي كَنَائِسِ مَكِدُونِيَّةَ، أَنَّهُ فِي اخْتِبَارِ ضِيقَةٍ شَدِيدَةٍ فَاضَ وُفُورُ فَرَحِهِمْ وَفَقْرِهِمِ الْعَمِيقِ لِغِنَى سَخَائِهِمْ، لأَنَّهُمْ أَعْطَوْا حَسَبَ الطَّاقَةِ، أَنَا أَشْهَدُ، وَفَوْقَ الطَّاقَةِ، مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، مُلْتَمِسِينَ مِنَّا، بِطِلْبَةٍ كَثِيرَةٍ، أَنْ نَقْبَلَ النِّعْمَةَ وَشَرِكَةَ الْخِدْمَةِ الَّتِي لِلْقِدِّيسِينَ» (2كو8: 1 – 4).
هذا هو الإيمان العامل بالمحبة، ولذلك قال القديس يوحنا الحبيب
«يَا أَوْلاَدِي، لاَ نُحِبَّ بِالْكَلاَمِ وَلاَ بِاللِّسَانِ، بَلْ
بِالْعَمَلِ وَالْحَقِّ» (1يو3: 18)
ثلاث مرات يقول فيها «الإيمَان بِدُونِ أَعْمَالٍ مَيِّت» (يع2: 17، 20، 26)
الإيمَان بِدُونِ أَعْمَالٍ مَيِّت
الجسد بِدُونِ روح مَيِّت
وهنا نجد أن الإيمَانَ يقابله الجسد (لا الروح)، والأعمال تقابلها الروح،
وهذا يُبرِز أهمية الأعمال الصالحة في تشبيهها بالروح.
«لَكِنْ يَقُولُ قَائِلٌ: أَنْتَ لَكَ إيمَانٌ، وَأَنَا لِي أَعْمَالٌ
أَرِنِي إيمَانَكَ بِدُونِ أَعْمَالِكَ، وَأَنَا أُرِيكَ بِأَعْمَالِي إيمَانِي.
أَنْتَ تُؤْمِنُ أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ حَسَنًا تَفْعَلُ وَالشَّيَاطِينُ يُؤْمِنُونَ وَيَقْشَعِرُّونَ»
(يع2: 18 و19)
«وَالشَّيَاطِينُ يُؤْمِنُونَ وَيَقْشَعِرُّونَ»
رجلٌ في المجمع بكفرناحوم به شيطان صرخ قائلًا:
«آهِ مَا لَنَا وَلَكَ يَا يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ أَتَيْتَ لِتُهْلِكَنَا
أَنَا أَعْرِفُكَ مَنْ أَنْتَ قُدُّوسُ اللَّهِ» (مر1: 24؛ لو8: 28)
هذا الشيطان يؤمن بلاهوت يَسُوعَ النَّاصِرِيّ ويعترف أنه قُدُّوسُ اللَّهِ، ولكنه يَقْشَعِرُّ، أي أن إيمانه لا يُثمر أعمالًا صالحة وحياةً مقدسة.
لذلك قال «أَنْتَ تُؤْمِنُ أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ حَسَنًا تَفْعَلُ»، هذا هو الإيمان. لكن ينبغي أن يثمر الإيمان باللَّهَ الوَاحِد هيبةً منه، تجعلنا لا نخطئ. كما يُثمر محبة له تجعلنا نُنَفِّذ وصاياه، نُصلِّي له كل حين بكل أشواقنا. هكذا يرَى الناسُ بِأَعْمَالِنا إيمَانَنا.
أولًا: قصة أبينا إبراهيم
بين العهد القديم والقديس بولس ويعقوب الرسول
وردت حياة أبينا إبراهيم في سفر التكوين في (تك 12: 1 – 25: 18)
وأشار إشَعْيَا النبي الإنجيلي إلى إبراهيم أب الآباء فقال على لسان الله:
«إبْرَاهِيمَ خَلِيلِي، الَّذِي أَمْسَكْتُهُ مِنْ أَطْرَافِ الأَرْضِ، وَمِنْ أَقْطَارِهَا دَعَوْتُهُ»(إش41: 8، 9).
لذلك أشار يعقوب الرسول في رسالته إلى هذا اللقب (خليل الله) فقال «فَآمَنَ إبْرَاهِيمُ بِاللَّهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرًّا، وَدُعِيَ خَلِيلَ اللَّهِ.» (يع2: 23)
فَإذَا كَلاَمُ الرَّبِّ إلَيْهِ قَائِلًا «لاَ يَرِثُكَ هذَا، بَلِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ أَحْشَائِكَ هُوَ يَرِثُكَ... فَآمَنَ بِالرَّبِّ فَحَسِبَهُ لَهُ بِرًّا». (تك 15: 4، 6)
فَآمَنَ إبْرَاهِيمُ بِاللَّهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرًّا». (يع2: 23)
يقول مار بولس «إذَنْ نَحْسِبُ أَنَّ الإنْسَانَ يَتَبَرَّرُ بِالإيمَانِ بِدُونِ أَعْمَالِ النَّامُوسِ. أَمِ اللهُ لِلْيَهُودِ فَقَطْ؟ أَلَيْسَ لِلأُمَمِ أَيْضًا؟ بَلَى لِلأُمَمِ أَيْضًا؟...
أَفَنُبْطِلُ النَّامُوسَ بِالإيمَانِ؟ حَاشَا بَلْ نُثَبِّتُ النَّامُوسَ.
فماذا نقول إن أبانا إبراهيم قد وجد حسب الجسد لأنه إن كان إبراهيم قد تبرر بالأعمال فله فخر. ولكن ليس لدى الله. لأَنَّهُ مَاذَا يَقُولُ الْكِتَابُ؟ «فَآمَنَ إبْرَاهِيمُ بِاللَّهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرًّا» (رو 3: 28 – 4: 3)
ويقول أيضًا «بِالإيمَانِ إبْرَاهِيمُ لَمَّا دُعِيَ أَطَاعَ أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ عَتِيدًا أَنْ يَأْخُذَهُ مِيرَاثًا، فَخَرَجَ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ إلَى أَيْنَ يَأْتِي. بِالإيمَانِ تَغَرَّبَ فِي أَرْضِ الْمَوْعِدِ كَأَنَّهَا غَرِيبَةٌ، سَاكِنًا فِي خِيَامٍ مَعَ إسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ الْوَارِثَيْنِ مَعَهُ لِهَذَا الْمَوْعِدِ عَيْنِهِ. لأَنَّهُ كَانَ يَنْتَظِرُ الْمَدِينَةَ الَّتِي لَهَا الأَسَاسَاتُ، الَّتِي صَانِعُهَا وَبَارِئُهَا اللهُ» (عب11: 8- 10)
بِالإيمَانِ قَدَّمَ إبْرَاهِيمُ إسْحَاقَ وَهُوَ مُجَرَّبٌ قَدَّمَ الَّذِي قَبِلَ الْمَوَاعِيدَ، وَحِيدَهُ الَّذِي قِيلَ لَهُ «إنَّهُ بِإسْحَاقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ». إذْ حَسِبَ أَنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى الإقَامَةِ مِنَ الأَمْوَاتِ» (عب 11: 17 – 19)
أشار القديس يعقوب الرسول إلى قصة أبينا إبراهيم وتقديم إسْحَاق ابنه على المذبح كمَثَل لأهمية الأعمال الصالحة فقال:
«ولَكِنْ هَلْ تُرِيدُ أَنْ تَعْلَمَ أَيُّهَا الإنْسَانُ الْبَاطِلُ أَنَّ الإيمَانَ بِدُونِ أَعْمَالٍ مَيِّتٌ؟ أَلَمْ يَتَبَرَّرْ إبْرَاهِيمُ أَبُونَا بِالأَعْمَالِ، إذْ قَدَّمَ إسْحَاقَ ابْنَهُ عَلَى الْمَذْبَحِ؟ (تك22: 9-12). فَتَرَى أَنَّ الإيمَانَ عَمِلَ مَعَ أَعْمَالِهِ، وَبِالأَعْمَالِ أُكْمِلَ الإيمَانُ، وَتَمَّ الْكِتَابُ الْقَائِلُ: فَآمَنَ إبْرَاهِيمُ بِاللهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرًّا (تك15: 6)، وَدُعِيَ خَلِيلَ اللهِ (إش41: 8).تَرَوْنَ إذَنْ أَنَّهُ بِالأَعْمَالِ يَتَبَرَّرُ الإنْسَانُ، لاَ بِالإيمَانِ وَحْدَهُ»(يع2: 20-24)
«وَلَكِنْ هَلْ تُرِيدُ أَنْ تَعْلَمَ أَيُّهَا الإنْسَانُ» (يع2: 20)
الكلام هنا ليس لكل إنسان، بلْ لِمَنْ لَه أُذُنٌ لِلسَّمْعِ، الذي يُريدُ أنْ يُعَلِّم ويتعَلَّم الحق، أما الذين يتمسكون بأفكارهم الخاطئة بلا فهم فلا جدوى من الحديث معهم ومناقشتهم. وهذا ما قاله الرسول «الْمُبَاحَثَاتُ الْغَبِيَّةُ وَالسَّخِيفَةُ اجْتَنِبْهَا، عَالِمًا أَنَّهَا تُوَلِّدُ خُصُومَاتٍ»(2تي2: 23)
«أَيُّهَا الإنْسَانُ الْبَاطِلُ»: الحديث بشدة فالذي يدَّعى أنه يحيا بالإيمان، والإيمان وحده كافٍ للخلاص، كما قال لُوثَر مؤسس البروتستانتية الأول "كن شريرًا أو فاسقًا... وآمِن بالرب يسوع الذي يُبرِّر الفاجر فتخلُص". هذا الإنسان باطلٌ في أفكاره وتعاليمه، كما هو باطلٌ في اتِّكاله على إيمانه الباطلبدون أعمال.
«إنَّ الإيمَانَ بِدُونِ أَعْمَالٍ مَيِّتٌ» (يع2: 20، 17، 26)
«أَلَمْ يَتَبَرَّرْ إبْرَاهِيمُ أَبُونَا بِالأَعْمَالِ» (يع2: 21)
إبراهيم أبونا: كتب القديس مار يعقوب وهو يهودي الجنس إلى اليهود الذين في الشتات هذه الرسالة، وهم جميعًا الكاتب والمكتوب إليهم من نسل إبراهيم حسب الجسد، ولذلك قال «إبْرَاهِيمُ أَبُونَا»، وهي عبارة تنطبق على الذين لهم إيمان إبراهيم، فنحن الأُمَم صِرنا أبناء إبراهيم لأننا نؤمن إيمان إبراهيم، وهذه أيضًا دليل على الأُبُوَّة الروحية.
«أَلَمْ يَتَبَرَّرْ... بِالأَعْمَالِ»
نحن لا نُنكِر قَيمة الإيمان، فبِدونِه لا يخلُص بَشَر «بِدُونِ إيمَانٍ لاَ يُمْكِنُ إرْضَاؤُهُ» (عب6:11). فهل يخلُص الإنسان بدون الإيمان بالله والتجسد والصلب والفداء والقيامة و... حاشا لنا أن نُنكِر أهمية الإيمان. ومع هذا ينبغي أن نتعلَّم من هذه الآية أن الإيمان وحده لا يبرر الإنسان، ولا الأعمال وحدها، بل بالإيمان والأعمال معًا يَتبرر.
فالنصُّ الكتابي هنا يُظهِر دَور الأعمال في تبرير إبراهيم أبينا، ويُكمله نصٌّ كِتابي آخَر في (رو4: 3) يُرينا دَوْرَ الإيمان في تبرير إبراهيم أبينا «لأَنَّهُ مَاذَا يَقُولُ الْكِتَابُ؟ فَآمَنَ إبْرَاهِيمُ بِاللهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرًّا» (رو4: 1)
«أَلَمْ يَتَبَرَّرْ... بِالأَعْمَالِ إذْ قَدَّمَ إسْحَاقَ ابْنَهُ عَلَى الْمَذْبَحِ؟» (يع2: 21)
على الرغم أن مار يعقوب أشار إلى عمل واحد وهام من أعمال أبينا
إبراهيم، إلا إنه قال «أَلَمْ يَتَبَرَّرْ... بِالأَعْمَالِ» (بالجمع) وهذا إشارة لأحد أمرين:
(أ) أنَّ موضوع تقديم إبراهيم لإسحاق ابنه على المذبح، فيه مجموعة من الأعمال الصالحة. فيه طاعةٌ وخضوع لمشيئة الله، كما فيه حب وتضحية. فيه تقديمُ الروحيات عن الجسديات وزُهد عن أمور العالم.
(ب) أو أن أبانا إبراهيم تبرر ليس فقط بهذا العمل، بل بأعماله كلها.
«إذْ قَدَّمَ إسْحَاقَ ابْنَهُ عَلَى الْمَذْبَحِ» لم يقل ذبح إسْحَاق ابنه، بل قدَّمه على المذبح (ليذبحه) (تك22: 10)
«فَتَرَى أَنَّ الإيمَانَ عَمِلَ مَعَ أَعْمَالِهِ
وَبِالأَعْمَالِ أُكْمِلَ الإيمَانُ» (يع2: 22)
«فَتَرَى: أي أننا نرى من قصة أبينا إبراهيم.
أَنَّ الإيمَانَ عَمِلَ مَعَ أَعْمَالِهِ: ليس الإيمان فقط هو الذي برر إبراهيم وجعله مقبولًا أمام الله، بل الإيمان مع الأعمال، بالاثنين صار مقبولًا.
«وَبِالأَعْمَالِ أُكْمِلَ الإيمَانُ»(يع2: 22)
الإيمان شجرة، قيمتُها في ثمارها. فإن أثمرت ثمارًا صالحة، تكون قد أكملت الهدف منها. هكذا الحياة الصالحة النقية هي ثمرة الإيمان، وبدونها يُمسي الإيمان مَيِّتًا بلا قيمة. أما أن يُثمِر الإيمانُ أعمالًا وصلاحًا وتقوى يُصبح إيمانًا حيًّا مُثمرًا كالحنطة، أَوَّلًا نَبَاتًا، ثُمَّ سُنْبُلًا، ثُمَّ قَمْحًا مَلآنً فِي السُّنْبُلِ (مر28:4).
الإيمان يثمر الأعمال الصالحة ويدفع اليها.
والأعمال الصالحة تُكمِل الإيمان المُستقيم وتُثبِت وجوده.
«وَتَمَّ الْكِتَابُ الْقَائِلُ فَآمَنَ إبْرَاهِيمُ بِاللَّهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرًّا
وَدُعِيَ خَلِيلَ اللَّهِ» (يع2: 23)
ماذا يُقصَد القديس يعقوب بكلمة الكتاب حينما قال وَتَمَّ الْكِتَابُ الْقَائِلُ؟
كان يُقصَد به العهد القديم بِقِسْمَيْهِ
· التوراة: أسفار موسى الخمسة.
· الأنبياء: باقي أسفار العهد القديم من أنبياء كبار وصغار.
لأنَّ هذه الآية مُقتبَسٌ نصفها الأول من التوراة (تكوين15: 6)، والنصف الآخَر من الأنبياء (إشعياء41: 8، 9).
وسِفر التكوين يشرح لنا كيف أعطى الله إبراهيم وعدًا:
«الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ أَحْشَائِكَ هُوَ يَرِثُكَ» (تك15: 4)، ثم يذكُر إيمانه بالوعد
«فَآمَنَ بِالرَّبِّ فَحَسِبَهُ لَهُ بِرًّا» (تك15: 6)
«فَآمَنَ إبْرَاهِيمُ بِاللَّهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرًّا» (يع2: 23)
تكررت هذه العبارة في (يع2: 23)،(رو4)، (غلا3: 6).
أَيُّ إيمانٍ هذا لأبينا إبراهيم أبِ جميع المؤمنين، الذي قال له الرب «اذْهَبْ مِنْ أَرْضِكَ وَمِنْ عَشِيرَتِكَ وَمِنْ بَيْتِ أَبِيكَ إلَى الأَرْضِ الَّتِي أُرِيكَ» (تك12: 1)، فترك كُل شيء الأهل والأرض والممتلكات مؤمنًا أن الرب سيقوده في أرض غريبة. وفى الغُربة طلب الله منه، إسحاق الذي تُحِبه قَدِّمْهُ لي. فترك ابنه الوحيد وقدَّمَه على المذبح مؤمنًا أن الرب الذي وعده قادر أن يقيمه (رو4: 17). كان إيمان إبراهيم شجرة مُثمِرة، إيمان يحمِل الطاعة والعطاء والبَذل والتجرُّد عن المال والأهل والابن الوحيد، إيمان مملوء بالفضائل.
عندما رفع أبونا أبراهيم السِّكِّين ليذبح إسحاق، كاد يقول عريانًا خرجتُ من بطن أمي وعُريانًا أعود إلى هناك إلا أن أبانا إبراهيم بعين الإيمان لم يقُلْها، فكان مؤمنًا أنه بإسحاق سيكون له نسْلٌ.
«وَدُعِيَ خَلِيلَ اللَّهِ» (يع2: 23)
هذا هو النِّصْفُ الثاني من الآية وهو مقتبَس من سِفر إشَعْيَا النبي القائل «إبْرَاهِيمَ خَلِيلِي الَّذِي أَمْسَكْتُهُ مِنْ أَطْرَافِ الأَرْضِ، وَمِنْ أَقْطَارِهَا دَعَوْتُهُ» (إشعياء41: 8، 9). عجيبٌ هو الله في حُبِّه واتضاعه، إذ يدعو إنسانًا أنه خَلِيلُه وصديقه! ما هذا الاتضاع يا رب وما هذا الحب؟!
تقول يا رب «هَلْ أُخْفِي عَنْ إبْرَاهِيمَ مَا أَنَا فَاعِلُهُ» (تك18: 17). وبدأ الرب يشكو لإبراهيم غضبه لفساد سدوم وعمورة، وإبراهيم في دالة كبيرة يشفع قائلًا: «أَفَتُهْلِكُ الْبَارَّ مَعَ الأَثِيمِ؟ حَاشَا لَكَ أَنْ تَفْعَلَ مِثْلَ هذَا الأَمْرِ، أَنْ تُمِيتَ الْبَارَّ مَعَ الأَثِيمِ، فَيَكُونُ الْبَارُّ كَالأَثِيمِ. حَاشَا لَكَ! أَدَيَّانُ كُلِّ الأَرْضِ لاَ يَصْنَعُ عَدْلًا؟!» (تك 18: 23، 25)
هل رأينا صداقةً مثل هذه؟الله في حُبِّه يعرِض على إبراهيم تدبيره للبشرية، وفي اتضاعه يترك إبراهيم يُحَدِّثه بكل هذه الدالة.
نعم يا رب ما أروعك. وأخيرًا ينتهي القديس يعقوب إلى هذه النتيجة:
«تَرَوْنَ إذَنْ أَنَّهُ بِالأَعْمَالِ يَتَبَرَّرُ الإنْسَانُ، لاَ بِالإيمَانِ وَحْدَهُ» (يع2: 24)
«أَنَّهُ كَمَا أَنَّ الْجَسَدَ بِدُونَ رُوحٍ مَيِّتٌ، هَكَذَا الإيمَانُ أَيْضًا بِدُونِ أَعْمَالٍ مَيِّتٌ» (يع2: 26).
ثلاث مرات يقول فيها الإيمان بدون أعمال ميت (يع2: 17، 20، 26).
← (ستجد كذلك تفاسير أخرى هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت لمؤلفين آخرين).
ثانيًا: قصة راحاب
بين العهد القديم والقديس بولس ويعقوب الرسول
وَرَدَتْ قِصة راحاب في سفر يشوع بن نون الإصحاحين الثاني والسادس «فَأَرْسَلَ يَشُوعُ بْنُ نُونٍ.. جَاسُوسَيْنِ سِرًّا، قَائِلًا: اذْهَبَا انْظُرَا الأَرْضَ وَأَرِيحَا. فَذَهَبَا وَدَخَلاَ بَيْتَ امْرَأَةٍ زَانِيَةٍ اسْمُهَا رَاحَابُ وَاضْطَجَعَا هُنَاكَ... فَأَرْسَلَ مَلِكُ أَرِيحَا إلَى رَاحَابَ يَقُولُ: أَخْرِجِي الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ أَتَيَا إلَيْكِ... فَأَخَذَتِ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَيْنِ وَخَبَّأَتْهُمَا... وَقَالَتْ لِلرَّجُلَيْنِ عَلِمْتُ أَنَّ الرَّبَّ قَدْ أَعْطَاكُمُ الأَرْضَ، وَأَنَّ رُعْبَكُمْ قَدْ وَقَعَ عَلَيْنَا، وَأَنَّ جَمِيعَ سُكَّانِ الأَرْضِ ذَابُوا مِنْ أَجْلِكُمْ، لأَنَّنَا قَدْ سَمِعْنَا كَيْفَ يَبَّسَ الرَّبُّ مِيَاهَ بَحْرِ سُوفَ قُدَّامَكُمْ عِنْدَ خُرُوجِكُمْ مِنْ مِصْرَ،....سَمِعْنَا فَذَابَتْ قُلُوبُنَا وَلَمْ تَبْقَ بَعْدُ رُوحٌ فِي إنْسَانٍ بِسَبَبِكُمْ، لأَنَّ الرَّبَّ إلهَكُمْ هُوَ اللهُ فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ وَعَلَى الأَرْضِ مِنْ تَحْتُ... فَأَنْزَلَتْهُمَا بِحَبْل مِنَ الْكُوَّةِ، لأَنَّ بَيْتَهَا بِحَائِطِ السُّورِ، وَهِيَ سَكَنَتْ بِالسُّورِ وَقَالَتْ لَهُمَا اذْهَبَا إلَى الْجَبَلِ لِئَلاَّ يُصَادِفَكُمَا السُّعَاةُ، وَاخْتَبِئَا هُنَاكَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ..... نَحْنُ نَأْتِي إلَى الأَرْضِ، فَارْبِطِي هذَا الْحَبْلَ مِنْ خُيُوطِ الْقِرْمِزِ فِي الْكَوَّةِ الَّتِي أَنْزَلْتِنَا مِنْهَا» (يش2: 1– 18)
هذه قصة راحاب كما قدمها العهد القديم، يأخذ منها القديس مار بولس جانبًا، ويأخذ القديس مار يعقوب جانبًا آخر.
مار بولس الرسول يكرز دائمًا لغير المؤمنين ليؤمنوا. فيُكَلِّم اليهود في رسالته إلى العبرانيين، ويُشير إلى قصة راحاب قائلًا «بِالإيمَانِ رَاحَابُ الزَّانِيَةُ لَمْ تَهْلِكْ مَعَ الْعُصَاةِ، إذْ قَبِلَتِ الْجَاسُوسَيْنِ بِسَلاَمٍ» (عب11: 31). فمار بولس ينظر إلى القصة من وجهة إيمان راحاب، فيتأمل في عبارتها التي قالت فيها «لأَنَّ الرَّبَّ إلهَكُمْ هُوَ اللهُ فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ وَعَلَى الأَرْضِ مِنْ تَحْت» (يش2: 11). ولذلك يرى أن تصرُّفات راحاب دليل على إيمانها فيقول «بِالإيمَانِ رَاحَابُ الزَّانِيَةُ لَمْ تَهْلِكْ» (عب31:11).
ويأتي القديس يعقوب الصغير يُكمل قائلًا:
«كَذَلِكَ رَاحَابُ الّزَانِيَةُ أَيْضًا، أَمَا تَبَرَّرَتْ بِالأَعْمَالِ، إذْ قَبِلَتِ الرُّسُلَ
وَأَخْرَجَتْهُمْ فِي طَرِيقٍ آخَرَ؟»(يع2: 25)
يُبَيِّن أن إيمان راحاب بإله السماء والأرض لم يبقَ إيمانًا نظريًا، بل كان دافعًا للأعمال الصالحة. وهكذا اجتهدت لتساعد شعب الله وقبلت الرُّسُل وعملت لإنقاذهم، وأنزلتْهم من الكُوَّة التي في بيتها من أجل نُصرَة شعب الله.
«لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الْجَسَدَ بِدُونَ رُوحٍ مَيِّتٌ،
هَكَذَا الإيمَانُ أَيْضًا بِدُونِ أَعْمَالٍ مَيِّتٌ» (يع2: 26)
سبق شرحها مع عدد 25.
← تفاسير أصحاحات يعقوب: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5
الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح
تفسير يعقوب 3 |
قسم
تفاسير العهد الجديد القمص يوحنا فايز زخاري |
تفسير يعقوب 1 |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/bible/commentary/ar/nt/fr-youhanna-fayez/james/chapter-02.html
تقصير الرابط:
tak.la/3439htj