بينما كان الليل يلفّ الكون، والظلمة تُحلِّق على القلوب والعقول، وصدَى الموت يتردَّد على مسامع الخليقة.. صدَى لا يحمل همهمات لرجاءٍ يبدو أنّه قادمٌ. منازل البشر وأحلامهم مُطفأة السُرُج. ظلّ الموت يرخي سدوله على الجميع وكأنّه جبارٌ يُخيِّم على المسكونة بأجنحته السوداء لئلا يصلها شعاعٌ من ضياء.. حتّى وُلِدَ الربّ يسوع.. أشرق نورٌ انسكبت أشعّته على قبور الحياة الإنسانيّة. لقد جاء النور إلى العالم، ليُعْلِن أنّه النورُ للعالم.
أنا هو نور العالم
يو 8: 12
نوره صار لنا هتاف تسبيح وأنشودة حمد نُردّدها في سهرنا اللّيلي (ثيوطوكيّة الإثنين) معلنين أن فجر الضياء لنا هو المسيح، وليس إشراقة شمسٍ مخلوقة:
الله هو نور
وساكن في النور
تُسبّحه ملائكة النور
« أنا هو نور العالم »؛ كلماتٌ لم يقلها الربّ على جبل التجلِّي بينما كان وهج الضياء يتلألأ منه، ولكنها كلمات قالها بعدما أطلق المرأة التي أُمسِكَت في الفعل المُخجِل، وكأنّه كان يعلن عن سرِّ انهزام الظلمة أمام حنوُّه على الخاطئة. أعادت كلماته اللَّهب لمجامر القلوب المُنطفئة بالخطيئة، فبدأ ينسلّ شعاعٌ من بخورٍ عطرٍ، يتصاعد كبرقعٍ حريري عن وجهٍ قيّده خمار العالم.
« أنا هو نور العالم »، كلماتٌ قالها في خزانة الهيكل، في رواق النساء، المكان العّام الذي يستوعب كلّ أطياف الشّعب؛ هناك كانت توجد أربع منارات ضخمة ترتفع كلٌّ منها 75 قدمًا، بها أربع قوارير ذهبيّة للزيت، يملأها أحد الشباب المنحدر من النسل الكهنوتي، وكانت تُوقَد في الليلة الأولى من عيد المظال أو عيد سوكوت Sukkot بحسب الاصطلاح العبري، بعد الذبيحة المسائيّة. كانت المنارات تُلقي بضيائها على المدينة كلّها، وكان الجميع يحتفل حولها بفرحٍ عظيمٍ إذ كان يرقُص الأتقياء حول المنارات الأربع وهم حاملون في أيديهم مشاعلَ، بينما يعزف اللاّويون على القيثارات والدفوف.
كانت المنارات منيرة بالليل، وكأنّها عمود النّار الذي كان يصحب الشعب التائه قديمًا. كان هذا هو المثال والرمز للمسيّا.
عند الرابيين؛ “النور هو اسم المسيّا”، فقد أنار المسيح الحياة والخلود، وأشرق للشعب الجالس في الظلمة وظلّ الموت.
كانت الخاطئة مُلقاة على الأرض وقد رشقها الحاضرون بوابلٍ من الاتّهامات، بينما كانت خيوط الظلمة تزحف لتخنق شعلة ضوء النّهار، حتّى جاءت كلمة المُخلِّص لها، لتُطلِق المرأة المُدانة، بالغفران. وقتها أُشعِلَت شمعدانات الخزانة بضيائها الصدّاح، فكانت كلمات المُخلِّص: « أنا هو نور العالم ». مشهدٌ يعجز اللّسان عن وصفه ويقشعر أمامه البدن؛ مشهد تحرُّر الإنسان الساقط (المرأة) من الدينونة والخطيئة والموت، وتحرُّر الكون من الظلمة بضياءٍ ليس مصدره مشاعل زيتيّة، ولكن شخص المخلِّص.. الإله الكلمة.
منذ ذاك الحين وطلبة البشريّة ورجاء صلاتها يناجيه قائلاً: “تعالى إلينا اليوم يا سيّدنا المسيح وأضِئ علينا بلاهوتك العالي..” إنها تسبحتنا فجر كلّ ثلاثاء.
كانت كلمات الشاعر الألماني الشهير جُيته على فراشه أثناء ملاقاته الموت: “المزيد من الضياء! المزيد من الضياء!”.. بينما طلب أحد القديسين في لحظاته الأخيرة ممّن حوله أن يطفئوا الأنوار قائلاً: “لقد أشرقت الشمس”. مَنْ يخنقه الظلام يبحث عن الضياء كغريقٍ يبحث عن خشبة النّجاة، ومَنْ يُدْرِك النور الحقيقي لا يعبأ بظلمةٍ زائفةٍ مؤقّتةٍ تحيطه من خارج.
هناك مَنْ يتوصَّل إلى معرفة الله بخبرةٍ ألميّةٍ من فقر وقسوة الظلام، وهناك مَنْ يتوصَّل إلى معرفة الله بإشراقة النور البَهِج. لكلٍّ منا مدخل، ولكن تبقَى ردود أفعالنا هي التعبير عن وعينا واختيارنا.. إن اخترنا النور علينا أن نتيقّن من صدق منبع النور.. فقد يتشكّل الشيطان في شبه ملاكٍ من نور!!
حينما نبحث عن ماهيّة النور نبحث عن معنَى الحياة نفسها. فالحياة لا تُعاش إلاّ تحت شعلة النور، والإنسان لا يستطيع أن يسير إلاّ على أرضٍ قد سبق وافترشها النور. كان النور أوّل خليقة الله؛ كلمةٌ قالها فأغرق الكون، المُزمَع أن يتخلّق من العدمِ، بالضياء. لقد بدأ بالنور لأنّه ما من حركة ولا حياة دونما ضياء.
النور هو غذاءٌ للنبات.. ضرورة حياة.. بدونه تبقَى البذرة في كفنِ الأرضِ.. تموت وحدها. ونحن إن لم نَرَ أنّ النور ضرورة سلوك وغاية أبديّة، لن نكون أبناء النور، ولن نستطيع أن نسلك كأنوارٍ في العالم، كما لن نُعاين بهاء ومجد النور الأبدي. إنّ المُخلِّص يحمل في ذاته سِرَّ الحياة الجديدة القائمة المُنْتشلة من بين أظافر الموت، وما الحياة الجديدة إلاّ نور للعالم..
فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس
يو 1: 4
إنّ نور المُخلِّص ليس لمحة عابرة لخلاصٍ مؤقّت من الظلمة -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى- ولكنّه نور ينبع من الحياة ويصبّ في الحياة، فتجديد الحياة هو محور عمل النور بل وغايته أيضًا.
ينشد القديس غريغوريوس اللاّهوتي عن الاستنارة / المعموديّة، فيقول:
الاستنارة هي ضياء النفوس وبهاؤها وتغيير الحياة.
هي قضيّتنا مع الله.
المعموديّة هي مساعدة ضعفنا،
دفع بهيميتنا إلى الخارج،
اتّباع الروح القدس،
شركتنا مع الابن.
هي قيام الخليقة المُنْطرِحة،
وإغراق الخطيئة،
وانحلال الظلمة والشركة مع النور.
الاستنارة هي عربةٌ تنقلنا إلى الله،
هي تغرُّبٌ مع المسيح،
وسند للإيمان،
وكمال العقل،
ومفتاح ملكوت السماوات،
وانتقالٌ إلى الحياة،
وفك القيود،
وإلغاء العبوديّة..
إنّ ضياء الربّ هو نعمته التي تُرافِق من قبلوها ظِلاًّ ملاصقًا لحياتهم. لقد سمَّى الآباء المعموديّة استنارة، لأنّ فيها ننتقل من ظلمة الموت إلى نور الحياة ونور القيامة، وحينما ينعكس ضياء النعمة علينا نستنير، وكأنّنا صرنا مصابيح مُتحرِّكة لهداية عالمٍ يستمرِئ الظلام.
المصابيح توضَع على المنارة لتنير لتائهي العالم العابرين بين لُججه المتلاطمة. من استنارة المعموديّة تبدأ استنارة الحياة وخوض رحلة معرفة الله بالعمل والنعمة. ليست الاستنارة أنّ ندرك الله في ذاته.. في جوهره.. ولكن أن نستشعره يملأ عالمنا ويُجدِّد أذهاننا بلمسات نعمته التي تُعلِّمنا السير على هدي الحقِّ الأبدي.
إنّ النور يتخلَّق من النار المشتعلة، وحينما يخبو اللَّهب يخبو الضياء. ونحن حينما نشتعل شوقًا وغيرةً بروح الله الساكن فينا، يتأجَّج داخلنا لهب الحضرة الإلهيّة التي تُلقي بضيائها على مسكن القلب، فيستنير، ويبدأ في التعرُّف إلى ما هو من النور وما هو من الظلمة.
الله ساكنٌ في نورٍ لا يُدنَى منه، ولكن في الربّ يسوع صارت لنا الإمكانيّة لأن ندنو من النور لننظره؛ أو بالأحرى أن يدنو هو منّا ليتيح لنا أن ننظره؛ « كثيرون يقولون: ‘مَنْ يُرينا خيرًا؟’. ارفع علينا نور وجهك يا ربُّ » (مز4: 6).
النور الإلهي أصبح نارًا مُطهِّرة لآثامنا.. لم يعد نور الله مُرهبًا لضعفنا كما في القديم؛ إذ قد ارتاع الشعب الإسرائيلي قديمًا حينما رأوا النار العظيمة وألسنة اللّهب تصل للسماء من وسط الظلام، والجبل يموج بجلبةٍ.. يحوطه سحابٌ وضبابٌ.. سمعوا الصوت ولكنّهم ارتاعوا من رؤية مجد الله الحيّ، فأرسلوا عنهم موسَى ليعاين وينظر ويسمع وحده لأنّهم خافوا أن تبتلعهم النّار الإلهيّة؛ « وأمَّا الآن فلماذا نموت؟ لأنّ هذه النّار العظيمة تأكُلنا. إنْ عدنا نسْمعُ صوت الرّب إلهِنا أيضًا نموت » (تث 5: 25)
مَنْ يخشى من نار المجد يخشَى من قبح أعماله وأسراره التي تتجسّد فيها الظلمة. مَنْ يقترب من نور المسيح لن يموت ولكن سيشرق عليه شمس البرّ لتطهيره من الخطايا السالفة. إلاّ أن التطهُّر هو عملٌ دائم لم يحدث مرّة واحدة وانتهَى الأمر؛ نحن نحتاج إشراقة النور كلّ صباح، لأنّ موت العالم يحاصرنا ويخترقنا في كلّ مساء.. إن سكنّا في دائرة النور واللّهب الإلهي نقبل الحياة ونستنير ونُعاين، بل ونلمس بجسدنا الجديد، الحياة الأبديّة..
إنّ مناجاتنا لله كلّ صباح هي: “ليُشرِق لنا نور وجهك، وليُضِئ علينا نور علمك الإلهي”، وذلك لأنّ المُخلِّص هو “النور الحقيقي الذي يُضيء لكلّ إنسانٍ آتٍ إلى العالم”، هكذا ندعوه في صلاتنا. بل وهو “الذي أظهر لنا نور الآب” حسبما كتب القديس غريغوريوس اللاّهوتي في ليتورجيّته.
إنّه اللّهب الذي تجسَّد لكي نستطيع أن نبصره ونرى في وجهه مجد الآب. في المسيح، أصبح نور الله يعني دفئ الحضور الذي يُلطِّف من قساوة القلب ويذيب كلّ ثلوجه المترسبِّة عبر عشرات السنين. إنّه حالة نختبرها في الصلاة حينما نلمح شعاعًا من الاستنارة يُجدِّد مفاهيمنا الحياتيّة ويعيد ترتيب أولوياتنا ويملأنا بسلامٍ نترجَّى ديمومته. نور المُخلِّص المُشرِق في الصلاةِ هو نورُ الثالوث عينه الذي يُحفِّز الإيمان الرّاكد في قلوبنا ويهبنا شجاعة المُجاهرة به، بل ويعطينا كلمات الصلاة والشهادة.
عند المُخلِّص سننظر نورًا لا يأتي مثله من مصابيح العالم ولا شموسه. نور الحقِّ هو ما سنراه عند الربّ وفيه وبه..
إنّ هذا النور هو الإله، هو القدير،
هو أيضًا فائق الرقّة والدعة.
آه! كيف يراعي الإنسان في معاملته له!..
إنّه لا يثقِّل على الروح المُهمّشة بالخطيئة،
لكنّه يشفي القلب المسحوق باليأس..
هو يوحي للروح بالرجاء وبغلبتها.
هذه هي المعاينة والخبرة التي يرصدها لنا الأرشمندريت صفروني سخاروف.
قد يرى البعض أنّ له من المعارف والعلاقات ما يكفي لتأمين ضياءً للمسير والنجاح في العالم، ولكنّه لا يعلم أنّه قد قرَّر السير على ضياء شمعة خافتة وسط عالم يموج برياحٍ عاصفة ستذبح اللَّهب في مهده. ولكن ما الذي يجعلنا نُفضّل شموعنا الذاتيّة عن شمس البرّ؟ كانت إجابة المسيح: الأعمال الشريرة.
إنّ الرؤية هي شركة بين العين والنور؛ فالعين لا تملك القدرة على الرؤية وحدها. فارقٌ كبير بين الرؤية والقدرة على الرؤية. أن نجاهد فتلك هي القدرة ولكن أن نعاين فتلك نعمة وشركة يهبها الله لنا بإشراقة مجده. إنْ تواجد شخصٌ بصير في غرفةٍ مظلمة لن يرى شيئًا، وإنْ تواجد أعمَى تحت وهج النور لن يرى شيئًا!! النور والعين هما العمل الإنساني والنعمة الإلهيّة، بدونهما لن تتحقّق معاينتنا القلبيّة لله.
ولكنّ هل يمكن للنفوس التي لم تَتَلَقَّ تطهيرًا من الروح أن يكون لها شركة مع النور؟ يجيب القديس مكاريوس الكبير في رسالته الثانية فيقول: “النفس التي لم تتعرّف بعد على الروح فإنه يستحيل عليها أن تقترب إليه ولا أن تشخص في ضيائه الإلهي أو تعيش في نوره البرّاق”. ومعرفة الروح تبدأ حينما نولد من فوق..
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/articles/fr-seraphim-al-baramosy/a/face.html
تقصير الرابط:
tak.la/hyyqk8r