يكتب القديس باسيليوس الكبير فيقول:
“في بعض الأحيان يصبح رخاء الحياة نفسها نوعًا من الإغراء!!”
يكرز البعض بإنجيل الرفاهة والرخاء وببركاتٍ تؤمن رغد العيش!! وكأنّ إنجيلاً جديدًا يرتسم بأقلامٍ معاصرة تريد أن تحصر المسيح في الغنَى. يرون أنّ البركة هي شفاءٌ للأجساد وتطيٌّبٍ لها، وأنّها تفتح خزائن العالم لأبناء الله ليغرفون قدر حاجتهم!!!
مازال العالم يقدِّم مُسحَاء جدُد يتمسّحون في مسيح الناصرة يخطبون باسمه ليتنكروا، فيعلّموا بما لم يبح به يسوع بيت لحم لا في المخادع ولا على السطوح..
مازال الأنبياء الكذبة ينشرون أعشاب العقائد الغريبة عن ملكوت الله بين ربوع العالم يتسلّحون بآيات مبتسرة ومفاهيم مشوّهة وإعلام مغرض ودعايات مبهرة وخُطب لامعة.. لازالوا يريدون أن ينزعوا عن يسوع جماله الطبيعي.. جمال الألوهة.. يريدون أن يضعوا مساحيق معاصرة ليبيعوه في سوق النخاسة الجديد ليربحوا أتباعًا وأموالاً وصيتًا وشهرة.. يتكلمون كبطرس في لحظة ضعفه ويقولون حاشاك يا ربّ أن تتألم / تفتقر وينظر إليهم الربّ حزينًا معلنًا أن هذا صوت شيطانٍ رابض..
مازال البعض يقف عند ناصية العهد القديم رافضين أن يتقدّموا ليعاينوا ملكوتًا ليس من هذا العالم.. يرفضون أن يقبلوا بأنّ السلام والفرح في الروح هو المُلك الحقّ.. يتطلُّعون إلى ثيابٍ برّاقة كما لهيرودس ولا يعلمون أنّ خلفها يترصّد الموت لينفجر دودًا يأكل الجسد قبل أن يرفل في الرفاهة..
يحلمون ببركة إبراهيميّة ونسل كبير ودولة عظيمة ولا يعلمون أنّ كلّ هذا كان من أجل النسل الذي ستتبارك فيه جميع الأمم.. لقد جاء الابن إلى العالم والعالم رفض أن يتوقف أمامه لأنه محب للظلمة ويخشَى النور الحقيقي..
تناسوا كلمات المسيح باستحالة عبادة الله والمال وكلاهما سيّد؛ سيادة الله هي ملكوت أبدي، وسيادة المال هي عظمة وقتيّة.. فقاعة خادعة.. بخار يظهر قليلاً ثم يضمحل..
جاء المسيح وتعلّق على خشبة بلا منظر ولا جمال لنشتهيه إن نظرناه بأعين العالم، ولكن إن كانت لنا بصائر مجدّدة ومعمّدة بالنور رأينا مجدًا هائل الإشراق لا نملك أمامه إلاّ أن ننطرح كما التلاميذ على جبل التجلّي.. نطالب مع بطرس بالمكوث حيث الربّ المضيء بمجد الألوهة.. ولكن من يرفض الروح لن يرى بهاء المسيح ولن يعاين الآب؛ فالآب بالابن يُرى...
أوصانا المسيح قبل انطلاقه المظفّر إلى الآب بأخوته الصغار، وحينما سئل من هم؟؟ أجاب أنهم المتألمين والمرضى والمسجونين والجوعى والحزانى.. فيهم يعلن عن ذاته ويتقبّل بسرور عطايا محبّتنا..
طوّب الربّ الحزانى لأنّ في حزنهم يستعلن الاتكال على الله والالتجاء إليه كنبع للفرح الحقّ الذي لا يمكن لعالم متغيّر مادي أن يهبه أو يؤمّنه..
جاء المسيح ومازال العالم لم يتعرّف عليه.. متعثّر في صليبه.. يريد أن ينزع عنه الأسمال الباليّة ليلبسه ثوبًا إمبراطوريًّا.. ولكن كما كان في القديم هكذا يحدث: يمضى المسيح من وسطهم هكذا..
أيّها المسيح.. الابن الحي أبد الدهور
افتح بصائرنا المعتمة
التي تريد أن تنفتح على لآلئ العالم وتنسبها لملكوتك
لحظة إشراقة من مجد الحياة الجديدة على القلب
تبطل كلّ تساؤل ليس من إنجيلك
وتحطّم كلّ صخرة إن وضعت أمام قبرك لتمنع قيامتك
أمجدك أيّها الربّ يسوع
الحال في كلّ فقير ومتألم وحزين ومظلوم
إن قبل بالشكر ألمه وعانق صليبه
هبنا أن نراك..
كتب روبرت تيلتون أحد معلّمي حركة إنجيل الرخاء قائلاً:
“أؤمن أنّ مشيئة الله من جهتكم جميعًا هي الرخاء، إذ أراها في كلمة [الله]، لا لأني وجدتها فاعلة في حياة البعض. أنا لا أضع عيناي على البشر بل على الله الذي يهبني القدرة على أن أصبح غنيًّا”(1)
تسمّى تلك الحركة بـ“إنجيل / لاهوت الرخاء / الثروة / الصحّة”، وأيضًا تسمّى بحركة “كلمة الإيمان” وكذلك “إنجيل النجاح”. وتنادي أنّ المؤمن لا يمكن أن ينال منه المرض ولا الفقر ولا الضيق، فكلّ تلك الأمور قد أبطلها المسيح -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى- ومن ثمّ فإنّ كلّ من يطلب أموال، عربات، حسابات في البنوك، سلطة، صحة.. إلخ بالضرورة سينالها إن كان مؤمنًا حقًّا!!!
ويرى كينيت كوبلاند أنّ الحصول على الرخاء محكوم بعدّة قوانين وهو يتحقّق من خلال نسق روحي معيّن. ويعلّم كرفلو دولار بأنّ الرخاء هو بمثابة عقد قد تمّ إبرامه بين الله والإنسان ينتج عن حصول الإنسان على الغنى والثروة. ويأتي التعليم العام لذاك اللاّهوت بأنّ المسحة ما هي إلاّ نزع لعنصر المرض والاحتياج المادّي، جنبًا إلى جنب مع انتزاع دنس الروح.
والقارئ لتاريخ حركة إنجيل الرخاء يرصد في البداية إحدى الشخصيّات المؤثّرة في تلك الحركة وهو كنيون E. W. Kenyon (بداية القرن العشرين) وقد ارتبط في وقت لاحقٍ من حياته بالحركات الخمسينيّة ومن ثمّ كتب عن قوّة الإعلان الخاص (الإعلان فوق الطبيعي supernatural revelation) وكانت لكتاباته وخاصة فيما يتعلَّق بأهميّة الإفصاح الإيجابي positive confession عمّا يعتري النفس وما تأمل فيه، تأثيرًا في حركات الشفاء والتي بدأت تشقّ لها مكانًا بعد الحربّ العالمية الثانية، وخاصة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة.
وبدأ أورل روبرتس Oral Roberts في المناداة بلاهوت الرخاء في العام 1947. وفي مطلع الخمسينيّات كان يبحث عن دعم لحركته فطالب جماعته بالتبرُّع مؤكِّدًا لهم أن ما سوف يضعونه سوف يستردونه وأكثر من مصدرٍ غير معلوم. وفي نفس الوقت علّم أ. أ. ألن A. A. Allen بأنّ الله سوف يحلّ بطرق معجزيّة كلّ المشاكل الماليّة التي يتعرّض لها أتباعه، وذلك من خلال الإيمان.
في ستينيات القرن المنصرم، بدأت تتداخل حملات الشفاء مع التعليم بإنجيل الرخاء. وفي السبعينيات بدأ أورل روبرتس Oral Roberts بالمناداة بما يسمّى بـ“بذار الإيمان” وهي بعض الأموال التي يهبها المؤمن للراعي والكنيسة ومن ثمّ يحصل عليها لاحقًا أكثر بكثير من الأوّل، وكان هذا الأمر بالطبع لسدّ نفقات الخدمة والدعاية لها. وفي نفس الوقت تقريبًا ظهر على المسرح ت. إل. أوزبورن T. L. Osborn والذي كان يتباهي بالثراء الشخصي كأحد معالم البركة من الله.
اتّسع نطاق تلك الحركة بانضمام كينيث هيجين Kenneth Hagin لها والذي امتدّ تأثيره من خلال البث الإذاعي والكتابات المتعدّدة، فضلاً عن تأسيسه لما أطلق عليه RHEMA كمركز للتدريب الكتابي في عام 1974، والذي خرّج ما يربو عن العشرة آلاف شخص متتلمذين على هذا المنهاج اللاّهوتي.
جيمي سواجرت Jimmy Swaggart وجيم باكر Jim Bakker اجتذبا الاهتمام إلى تلك التعاليم في الولايات المتّحدة في الثمانينيّات، إلاّ أنّ الفضائح التي طالتهما كانت سببًا في تراجع تأثيرهما على الجموع، فقد أودع باكر السجن لاتهامه بعمليات نصبٍ واحتيالٍ..
وجد هذا التعليم مكانًا في حركات الخمسينيّة المحدثة Neo-Pentecostal والتي وجدت لها مكانًا لاحقًا في ركب الحركات الكاريزماتيّة، وخاصة في التسعينيّات. وتمّ تصدير حركة إنجيل الرخاء إلى أوروبا الغربيّة في بدايات الألفيّة الجديدة.
ونظرًا لتضحُّم ثروات الحركات المعنيّة بنشر إنجيل الرخاء، فتح شاك جراسلي Chuck Grassley بمجلس الشيوخ الأمريكي تحقيقًا حول هذا الأمر، تضمّن المؤسسات الخدميّة لـ: كينيث كوبلاند Kenneth Copeland Ministries، كريفلو دولار Creflo Dollar Ministries، بيني هن Benny Hinn Ministries، إدي لونج Bishop Eddie Long Ministries، جويس ماير Joyce Meyer Ministries، باولا وايت Paula White Ministries.
يستخدم وعّاظ تلك الحركة بعض الآيات أملاً في البحث لهم عن مكانٍ في الكتاب المُقدَّس يستطيعون من خلاله الترويح لفكرتهم، من تلك الآيات:
هَاتُوا جَمِيعَ الْعُشُورِ إِلَى الْخَزْنَةِ لِيَكُونَ فِي بَيْتِي طَعَامٌ وَجَرِّبُونِي بِهَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ
إِنْ كُنْتُ لاَ أَفْتَحُ لَكُمْ كُوى السَّمَاوَاتِ وَأُفِيضُ عَلَيْكُمْ بَرَكَةً حَتَّى لاَ تُوسَعَ. (ملاخي 3: 10)
في البداية علينا أن ندرك الفارق بين العهديْن من جهة الإعلان؛ فالعهد القديم كان يرتكز على حقيقتين مترابطتين وهما الأرض والمسيّا، ومن ثمّ لم يكن هناك حديث في العهد القديم عن أسخاطولوجيا من أي نوعٍ اللّهم إلاّ الهاوية التي كانت ماثلة في أذهان الأنبياء والتي تحدّث عنها سفر المزامير في غير موضعٍ. لذا فإنّ الإسخاطولوجيا المسيحيّة كانت في العهد القديم مدينة الله أي أورشليم وجبل صهيون والأرض التي تفيض لبنًا وعسلاً. إذًا فالإعلان الأوّلي في العهد القديم كان مكانيًّا للتعبير عن تآلف شعب الله معًا بحضرة يهوه كملك عليهم..
أمّا في العهد الجديد انتقل مركز ثقل الوعي المسيحي مع المسيح الذي جلس عن يمين العظمة في السماويات إلى ملكوت الله.. أورشليم الجديدة التي ليس فيها زواج ولا ميراث ولا ألم ولا شرّ.. إلخ فانتقلت معها الوصيّة من الارتكاز الزمني إلى الارتكاز الأبدي.
إن تناولنا الآية السابقة على هذا القياس نجد أنّ تلك الآية تتناغم مع إعلان العهد القديم قبل مجيء الابن؛ فأرض كنعان هي الحلم إذًا بركة الغنى والنسل هي الحلم المقابل. أمّا في العهد الجديد فإنّ البركة انتقلت ممّا هو مادي ووقتي وزائل إلى الكنز الذي لا يفنى فلا يفسده سوس ولا ينقبه سارق لأنّه كنز في الوجود الأسمى.. في الله.
إذًا انتقل المسيح بنا في العهد الجديد من أورشليم الفلسطينيّة إلى أورشليم العليا وهو ما شرحه القديس بولس باستفاضة. لذا فإن دعوى العودة من البركات العليا الكامنة والكائنة في الابن إلى مدار البركة الزمنيّة الزائلة هو حالة تهوُّد صريح وانتكاسة إيمانيّة وكأنّ الابن لم يتجسَّد ولم ينقل البصيرة البشرية من الأرض إلى السماء.
وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ (يوحنا 10: 10)
يأتي شرح الآية في سياق الغنى مُحيِّرًا للغاية؛ فالنصّ إن ترجمناه بشكلٍّ أدق، يقول: “لقد أتيت لتكون لهم الحياة، ولتكون لهم بوفرة ἐγὼ ἦλθον ἵνα ζωὴν ἔχωσιν, καὶ περισσὸν ἔχωσιν.” وحينما يُقدِّم المسيح الحياة فإنّه لا يقدمها كعطيّة منفصلة عن ذاته، ولا تفهم تلك الآية بعيدًا عن كلماته القائلة: “أنا هو الطريق والحقّ والحياة”. فالحياة التي يقدمها بوفرة هي الحياة الجديدة المتحرِّكة في القلب حينما تبذر فيه بذار الملكوت.
إذًا إشكاليّة هذا النصّ لديهم أنّهم ينحصرون في فهم الحياة ببعدها الزمني فقط غير مدركين الإعلان الإلهي بأنه هو الحياة. وفي المقابل يأتي النصّ الذي يصف مشهد الميلاد بالتعقيب على حالة البشريّة أنّها كالجلوس في الظلمة وظلّ الموت، ليوضّح أن الموت لم يكن يعني الموت البيولوجي ومن ثمّ الحياة ليست هي الحياة البيولوجيّة؛ فالموت هو الانفصال عن الله والحياة هي الاتحاد بالله من جديد وإعادة الصلّة بجسد الابن الممدّد على الصليب ليصالح السمائيين مع الأرضيين. فمن يؤمن بالابن ولو مات فسيحيا؛ وهذا إشارة إلى انعدام سلطان الموت على المرتبطين بالابن كجسد للرأس المتحرّك نحو الآب. أمّا الحديث عن الحياة الأفضل في مدار الزمن فقط فليس له سند كتابي في العهد الجديد أو لاهوتي أو آبائي من أي نوعٍ كان.
فَيَمْلأُ إِلَهِي كُلَّ احْتِيَاجِكُمْ بِحَسَبِ غِنَاهُ فِي الْمَجْدِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ. (فيلبي 4: 19)
لا يمكن أن تفهم تلك الآية إلاّ بالرجوع إلى العدد الرابع عشر من نفس الأصحاح إذ يقول القديس بولس: “غَيْرَ أَنَّكُمْ فَعَلْتُمْ حَسَناً إِذِ اشْتَرَكْتُمْ فِي ضِيقَتِي”.
فالقديس بولس إذًا يعاني من ضيقةٍ ماديّة وقد شاركته الكنيسة بالعطاء حتى يتحقَّق مفهوم الجسد الواحد. فلو كان الله يُسدّد احتياجات الجميع كبركةٍ لكلّ مؤمن تكون ضيقة بولس نفسها محيّرة بل ومناقضة لهذا المفهوم، فكيف يسد الله الاحتياج في الوقت الذي يترك القديس بولس يعاني من ضيقةٍ ما؟!!!
هنا القديس بولس يصلّي من أجل كنيسة شاركته في حساب العطاء وقدّمت بسخاء فلا يملك إلاّ أن يطلب من الله أن يسدد الاحتياجات لهم لأنّهم ينفقون أحيانًا فوق الطاقة لئلا تعاق الخدمة. ولا حديث هنا عن ثروة أو رخاء، فقط عن تسديد احتياج..
الأمر الآخر الجدير بالذكر أنّه يقول:” بحسب غناه في المجد” فالغنى الإلهي هو المجد، فمَنْ يُقدِّم فلسيه، سوف ينال أجرًا عظيمًا في ملكوت السماوات، تلك هي المعادلة الجديدة، مقايضة الأرضي بقلبٍ محبٍّ وشاكرٍ، بالسمائي بفيض ووفرةٍ إلهيّة. وكما يبتهل الكاهن في خدمة القدّاس الإلهي وفي الطلبة الخاصة بالعطايا والقرابين: “أعطهم [يقصد من يقدّم من حاجته لشركة الكنيسة] ما لا يفسد عوضًا عمّا يفسد. السمائيّات عوض الأرضيّات. الأبديّات عوض الزمانيّات”. فالله لا يمكن أن يتمركز فيما يفسد ويقوقع عطيته في هذا الإطار المحدود. الله روح وعطاياه الفاخرة هي للروح.. أما الباقي يزاد بحسب التدبير الإلهي لشعبه المرتحل في خضمّ الحياة المتلاطمة.
أَيُّهَا الْحَبِيبُ، فِي كُلِّ شَيْءٍ أَرُومُ أَنْ تَكُونَ نَاجِحاً وَصَحِيحاً، كَمَا أَنَّ نَفْسَكَ نَاجِحَةٌ. (3يوحنا 2)
من جديد نجد اقتطاع النصّ من سياق الحديث يفسد المعنى بل ويقذف به بعيدًا عن هدف الكاتب وقصد الكتاب ولحمته المترابطة؛ فالقديس يوحنّا حينما كان يضرع من أجل نجاح غايس، يرى أنّ النجاح هو السلوك في الحقّ، إذ يكتب في العددين الثالث والرابع من نفس الأصحاح:” لأَنِّي فَرِحْتُ جِدّاً إِذْ حَضَرَ إِخْوَةٌ وَشَهِدُوا بِالْحَقِّ الَّذِي فِيكَ، كَمَا أَنَّكَ تَسْلُكُ بِالْحَقِّ. لَيْسَ لِي فَرَحٌ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا: أَنْ أَسْمَعَ عَنْ أَوْلاَدِي أَنَّهُمْ يَسْلُكُونَ بِالْحَقِّ.” فالنجاح عند القديس يوحنّا هو إتباع الحقّ والسلوك فيه. وإن أخذنا تلك الطلبة من أجل النجاح الإنساني فهي تصلح أيضًا ولكن على الهامش التأملي للمعنى الأصلي للكاتب، ولكننا لا نجد أثرًا للثراء الإنسان والرخاء الإنساني؛ فالنجاح في المسيحيّة لا يعني تكديس المال وارتقاء سلّم السلطة بل الشهادة للمسيح وتبعيّة الحقّ وتمليك الحبّ من القلب والخضوع للروح بوعي مستنير بالوصيّة.
فمن أين الحديث عن الغنى الزمني والرفاهة الماديّة.. اجتزاء مخلِّ يضرب رسالة الإنجيل في الصميم ويحوِّل إنجيل ربّنا يسوع المسيح إلى آلية غنى مادّي وكأنّ المسيح جاء من أجل مجتمع إنساني مُذهَّب؟!!
وهكذا سنجد أنّ كلّ الآيات التي يستندون إليها هي محاولة للعودة مرّة أخرى لإطار البركة الزمنيّة؛ بركة العهد القديم، ويبقى مجيء المسيح عبثًا!!!!
ولكن الجذور تبدو واضحة جليّة، فبعض القادة الروحيين يريدون أن يصالحوا مجتمعاتٍ علمانيّة التوجُّه، وليس من مصالحة أفضل من الحديث عن إنجيل يجلب الرخاء والمال والسلطة..
تلك المصالحة هي محاولة لإعادة الجسور مع مجتمعات قد تعتّمت قديمًا بممارسات ليست من الإنجيل في شيء، في العصور الوسطى، ولكنّها كانت محاولة لتأمين السلطة من خلال النصّ ليصبح الضمير هو مخضع الجموع لصولجان الرئاسة جنبًا إلى جنب مع قوّة الجند وبأس العسكر.
وكانت النتيجة المقابلة ثورة على الكنيسة الكاثوليكيّة والتي توارت طويلاً خلف اللباس الإمبراطوري والصولجان الدنيوي. فكانت حركات الإصلاح ردًّا قاسيًا على فساد مستمر، ولكن ما بين الأقطاب يكمن الحقّ يتلمس بصائر الإيمان بعيدًا عن رغبات السيادة من جهة والانتقام من جهة أخرى.
وتحرّك الإصلاح قدمًا ليلازم الثورة الفرنسيّة في تحرّرها من الإقطاع والملكيّة والطبقيّة فكان متماهيًا مع حركة المجتمع، وفي المقابل كان الانهيار والانكسار شديد الوطأة على قيادات مسيحيّة تحالفت مع السلطة في بعض البلدان الأوربيّة لتكون لها ذراعًا روحيًّا ولتصر السلطة لها ذراعًا زمنيًّا فيما عرف بنظريّة السيفين كما أوردها بوضوح برناردوس (1090-1153)، إذ كتب: “تعلّمنا الكلمات الإنجيليّة أنّ السيفين الروحي والزمني هما تحت إمرة بطرس.. إلاّ أن السيف الروحي تستخدمه الكنيسة، بينما السيف الزمني يستخدم لحساب الكنيسة، الأوّل تستخدمه يد الكاهن، أمّا الثاني تستخدمه يد الملوك والفرسان تحت إمرة الكاهن وبموافقته. فمن الضروري أن يخضع الثاني للأوّل وأن تكون السلطة الزمنيّة تحت سيادة السلطة الروحيّة”
لا أعلم أي إنجيلٍ علّم بهذا!!! ولكن كان تلك روحًا سائدة في بعض الأقطار والمدن. والعجيب أنّ ترتليان نفسه، أحد أقطاب التقليد الغربي، يكتب: “الراية الإلهيّة والراية البشريّة لا تتفقان معًا، كذلك قياس المسيح وقياس الشرير. فقط المسيحي يستطيع أن يشن حربًا بدون سيف لأنّ الربّ أباد السيف”.
فمن أين جاء هذا التحالف البغيض؛ بالتأكيد ليس من الإنجيل والآباء، ولكن بانتقائيّة واقتطاع نصوص من سياقاتها وأهدافها كما هي العادّة.
وأطلّت الحداثة برأسها لتحطِّم ثوابت المسلّمات وتنفض تراب الخرافة عن العقل، ولكنها فيما تحرِّر العقل أصابت منه موطن الإيمان فشلُّت حركة الإيمان بينما قفز العقل في مضمار العلم والمعرفة التجريبيّة قفزات هائلة. وحينما استفاقت الكنيسة في الغرب على هول الإخفاق ونتائجة حاولت أن توجد بديلاً مناسبًا يعيد المجتمع الباحث عن الرخاء إلى حضن الإيمان، ولكنها فيما تسعى خطّت إنجيلاً ليس من يسوع في شيء، ولا من مكانٍ له في الكنيسة؛ هو إنجيل منحول الفكرة من جذورها.
قد يكون إنجيل الرخاء هو الوجه المقابل لإنجيل الإماتة المانيّة (نسبة إلى ماني الذي رأى أن الجسد شرّ وصنيعة إله الشرّ يجب إماتته على الدوام) أو السلطة، الذي كان سائدًا في العصور الوسطى والذي كان يحمل شبهة مانيّة وغنوسيّة باعتبار الجسد عدوًّا يجب أن يسحق بالجلد والقهر والذل حتى تتحرّر الروح.
هل نحن بصدد رواقية وأبيقوريّة يتصارعان ولكن تحت لواء يسوع؟!!! يبدو هذا. فالأبيقوريّة الملتحفة باللّذة والرواقية المصارعة للجسد هما وجهي العملة القديم لصراع إنجيل الرخاء وإنجيل الإماتة (المانيّة) في عصرنا الحديث.
ومن الأمور التي يجب أن تسترعي انتباهنا أنّ فكرة إنجيل الرخاء بدأت في خمسينيّات القرن المنصرم، مع بداية انتشار الإعلام المرئي، وهو ما يفسّر لنا أن مثل هذا الخطاب اللاّهوتي يحتل مكانًا أساسيّا على شاشات التلفاز عبر الكثير من المحطّات في مختلف البلدان. والإعلام معني بالربح والانتشار؛ فالانتشار والقبول من المشاهد يساوي ربحًا كما أنّ الربح يحقِّق انتشارًا. ولا يمكن تحقيق تلك المعادلة الربح / الانتشار حينما يرتكز الخطاب على حمل صليبٍ وقبول ألمٍ، بل إن المسيح المصلوب عينه يجب أن يختبئ ويتوارى لأن مشهد الألم غير جاذبٍ لإنسان العالم. والبديل الكرازة بمسيح مقبول من الجميع وإن كان آخر غير مسيح الناصرة.
الهرطقة دائمًا هي محاولة توفيقيّة وتجميليّة لبيع الفكرة المتناغمة مع روح العصر، ولكن كلمات المسيح حادّة كالسيف فالباب الضيِّق لا يمكن أن يتّسع يومًا والطريق المتهالك لن تبنى على جانبيه ناطحات سحاب الرخاء والرّاحة.
لا يفهم من هذا أن المسيحيّة كارزة بألمٍ مجرّد، كلاّ، بل بالحري بنعمة وإن عبر أشواكٍ من ألم، فمن يحب يتحمّل من أجل محبوبه وعورة الطريق. كذلك المسيحيّة ليست هي ديانة الصليب، كلاّ، فهي ديانة الصليب / القيامة.. القبر / النور.. الموت / الحياة. الكرازة بالألم المجرّد يُسْقِط في فخ إنجيل الإماتة المانيّة، والكرازة بالراحة المطلقة دونما صليب يدفع بالعقل نحو إنجيل الرخاء.
كما إنّ المسيح مصلوب / قائم.. مائت / حي.. هكذا المسيحي مصلوب / قائم , مائت / حي ولكن بذاك الذي عبّد الطريق بذبيحة نفسه ليكرّس لنا مكانًا وموطنًا عند الله الآب.
تبدأ الفكرة كما اضطلعت على بعض ملامحها في كتابات بعضهم في ربط البركة الإلهيّة بالحالة الزمنيّة للمؤمن المسيحي، مدعية أنه لا يمكن أن يكون المسيحي مؤمنًا حقًا ويحيا في ألمٍ ومرضٍ وحاجة وفاقة!!!
إلاّ أنّ ميلاد المخلِّص يطلعنا على أوّل بذرة يزرعها في رحم إيماننا؛ فلقد وُلد السيّد ملك الكون والخليقة وربّها العلي في مزودٍ من خشبٍ متهرّأ يشاركه الرقاد حيوانات عجماء. لماذا؟؟؟ لأن المذود مبدأ إلهي؛ فالمسيح جاء ليلاشي الطبقيّة وليعلن أن شركته في فقر البشر إن هو إلا شركته فقر كلّ بشريٍّ آمن به وسار وراءه ليهبه سلامًا وفرحًا قلبيًّا وإن استمر الفقر ينشب مخالبه في وجدانه الإنساني.
حينما تقدّمت مريم ويوسف إلى الهيكل لتقدّم عن تطهيرها كانت تقدمتها كتلك التي للفقراء؛ زوجي حمام / فرخي حمام، فمبدأ المزود الفقير مازال مستمرًا في بيت الربّ..
هرب إلى مصر من بطش ملكٍ عاتٍ باحث عن الصولجان وإن على جثث الأطفال الصغار.. عاش في مصر كاللاجئين مرتحلاً من مكان إلى مكان دون سكنٍ دائم أو راحة للعائلة المقدّسة..
عاش نجارًا حرفيًّا يحيا كفاف العيش، لم يسكن يومًا قصرًا منيفًا ولا امتطى جوادًا ملكيًّا ولا ارتدى ثيابًا مذهبّة ولا تطيّب برياحين الولاة. ظلّ يحيا الكفاف لم يتخطّاه يومًا قط. علّم أنه ليس له أين يسند رأسه، فإن كان له نصيبٌ من المال لأمّن مكانًا مناسبًا أينما حلّ، له ولأتباعه ليرتاحوا من عناء الطرقات الوعرة ما بين أقاصي اليهوديّة والجليل والسامرة. طالب أحدهم أن يترك ماله ليتبعه!! ألم يكن ممكنًا له أن يؤكِّد على نفع المال إن وضع في مكانه الصحيح، ولكنه يحرّر أتباعه أولاً من عبوديّة المادّة حتى يستطيعوا أن يتعاملوا مع المادّة إن ملأت خزائنهم.
لم يشترى طعامًا للجموع ولكنّه تضرّع من أجلهم حتى يأكلوا من يد الله، ليشير إلى العناية الإلهية وقت الحاجة لا ليؤصِّل لغنى ينسكب على المُصلِّي. كان يعلم أنّ الطعام قادر أن يجتذب جموع لذا كان حريصًا أن يكون مشبعًا لقلوب البشر أولاً لا بطونهم حتى يكون أتباعه بني الملكوت لا حفنة من الجياع إلى خبز ومأوى.
وكما جاء في مذود ليرسِّخ مبدأ مشاركة الفقير في فقره، مات على صليبٍ ليعلن أنّ المسيحي مصلوب إلى نهاية أيامه؛ والمسيحيّة بجملتها بتعبير المطران جورج خضر “مصلوبيّة”، تحمل الصليب وإن كان وجهه مرضًا أو جوعًا أو عريًا أو فقرًا...
فالمسيح المولود فقيرًا والهارب كلاجئٍ والعامل كحرفيٍّ بسيط والمائت كمصلوبٍ ملعونٍ بحكم الشريعة يدّعون أنّه دعا إلى الغنى ورفاهة العيش؟!!!
بعد قيامته أطلق الكنيسة والتي كانت ترزح تحت سيف الاضطهاد ولازالت لا لأنها لم تنل بركة من الآب بل بالحري لأنه متجهة نحو الله الآب في يسوع المسيح.
لم يكن لبطرس ويوحنّا مالاً ولا فضّة ولا ذهب بل اسم الخلاص المحيي؛ هذا ما قدّماه للمفلوج. ولم يكن الشفاء سوى العلامة الإلهيّة على حضور يسوع كربٍّ فيه ملء قوّة الله؛ فالمعجزة في العهد الجديد كانت تأكيدًا على لاهوت أو إشارة إلى لاهوت. فالأجساد التي مآلها الفناء لن تكون مركز كرازة الإنجيل ولكن الكرازة ستجعل من بعض آيات الشفاء علامة لغير المؤمن حتى يصرخ أنّ المسيح ربٌّ لمجد الله الآب.
كان بولس نفسه يحمل شوكة في جسده طوال حيّاته تضرّع من أجلها ولكن طلبته لم تقبل فقد كانت النعمة هي العطيّة الإلهيّة والتي تنسكب بوفرة على قلبٍ قابل للألم كذبيحة طاعة لمشيئة الله.
لم يتورّع القديس بولس أن يؤكّد أنّه فقير بالجسد ولكنه يغني كثيرين، أفلم يكن أهلاً للبركة التي تغنيه بالجسد هو شخصيًّا؟!!! ولكن الغنى موطنه الروح التي تسحب الجسد والنفس إلى بلدة الله وهناك تستعلن المشيئة الإلهيّة لأحداث العالم وخطوبه التي تحيّر النفس وتجعلها تدور في دائرة الـ“لماذا؟؟” عوضًا عن الـ“أمين”.
ومن يطالع تاريخ الكنيسة الأولى يجد أنّ الاضطهاد كان سمت واضح لها. أفلم تكن خاضعة لمخلِّصها فكان الألم عقوبته لها؟!!
جناح الهيكل الملطّخ بدماء يعقوب أخي الربّ، وطرقات أورشليم الملطّخة بدماء إستفانوس، وكذلك أرضيّة مجمع اليهود الملطّخة بدماء الرسل المجلودين، كلّها تصرخ أنّهم كانوا يقدمون ذبائح حبٍّ وشكر لم يحسبوا أنفسوا مؤهّلين لها؛ فالألم لا يصير ألمًا لتابعي يسوع بل أملاً في عناق حار طوال الأبد.
ألم يلتقي تلاميذ يسوع مسيحهم ملطّخين بالدماء ما عدا يوحنّا؛ أكانوا تحت وطأة انتقام إلهي؟!!
إنّ الحبّ إن لم يصر ذبائحي فلا يستحق أن يُدعى حبًّا.
وماذا عن سراديب روما التي استوطنها مسيحيو روما في جوعٍ وعطش وعري وملاحقة من قبل السلطات طوال عقود، أكانت غضبًا يحجب البركة أم بركة تحمل النعمة؟!!
ألم يعلن المسيح صراحة: “اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ سَتَبْكُونَ وَتَنُوحُونَ وَالْعَالَمُ يَفْرَحُ. أَنْتُمْ سَتَحْزَنُونَ وَلَكِنَّ حُزْنَكُمْ يَتَحَوَّلُ إِلَى فَرَحٍ” (يو 16: 20)
هذا التصريح يقوض دعاوى الرخاء المزعوم فنحن لسنا في تناغم مع قيم العالم؛ لأن أفراح العالم ليست أفراحنا، وأفراحنا ليست سوى شوكة لمنطق العالم العقيم. سنحزن ولكن هذا الحزن سيتحوّل إلى فرح وقيامة وسكنى دائمة.. على هذا الرجاء يحيا المسيحي..
ويطالعنا القديس يعقوب بتصريحٍ لا يحمل مواربة، إذ يكتب “اسْمَعُوا يَا إِخْوَتِي الأَحِبَّاءَ، أَمَا اخْتَارَ اللَّهُ فُقَرَاءَ هَذَا الْعَالَمِ أَغْنِيَاءَ فِي الإِيمَانِ، وَوَرَثَةَ الْمَلَكُوتِ الَّذِي وَعَدَ بِهِ الَّذِينَ يُحِبُّونَهُ؟” (يع 2: 5). من تلك الكلمات تتضّح المقاربة ما بين غنىً وفقر؛ فالفقر فيما للعالم من متع وقنيةٍ بينما الغنى هنا في الإيمان. إذًا فإن إمكانيّة تحقُّق معادلة الفقير فيما للعالم / الغني فيما لله تقوِّض الدعوى أيضًا بربط البركة ببحبوحة العيش.
جاءت كلمة الفقراء في اليونانيّة: πτωχός (بحسب Friberg Lexicon) وهي تعني من يعتمد على آخرين من أجل الدعم one dependent on others for support. هذا الفقير فيما للعالم لم يختاره الله ليصبح غنيًّا فيما للعالم، لم يقل الرسول هذا، ولكن ليصير غنيًّا πλουσίους في الإيمان ἐν πίστει ؛ فحيثما يكون الكنز هناك القلب يكون كما تحدّث المسيح من قبل. كنز المسيحي مرتكز في الأبديّة وإليها يتطلّع قلب المسيحي ويتحرّك. وحينما يغتني المسيحي بإيمانٍ حيٍّ يتأهل ليرث ملكًا معدًّا في المسيح عن يمين الآب.
لهذا نصلي مسبحين الله قائلين (تسبحة نصف الليل / أبصالية الأربعاء):
إن كنا معوزين من أمول هذا العالم
وليس لنا شيء لكي نعطيه صدقة.
فلنا الجوهرة اللؤلؤة الكثيرة الثمن
الاسم الحلو المملوء مجدًا الذي لربنا يسوع المسيح.
إذا ما لازمناه في إنساننا الداخلي
فهو يجعلنا أغنياء حتى نعطي آخرين
ويكتب القديس كليمندس السكندري في كتابه المربّي (2. 3. 38)، فيقول: “إنّ الثراء غير المنضبط هو معقل للشرّ، والذين تتعلّق أعينهم به ويشتهونه لن يدخلوا أبدًا ملكوت السماوات لأنّهم يسمحون لأنفسهم بأن تلوَّث بما للعالم إذ يحيون بافتخارٍ وترفٍ.. الغنى الحقيقي هو الفقر في الرغبات، والنُبل الحقيقي ليس في الثراء ولكن ما يأتي من ازدرائه..”
ويقدّم لنا القديس بولس نفس المقاربة ما بين الفقر والغنى حينما يقول: “كَحَزَانَى وَنَحْنُ دَائِماً فَرِحُونَ. كَفُقَرَاءَ وَنَحْنُ نُغْنِي كَثِيرِينَ. كَأَنْ لاَ شَيْءَ لَنَا وَنَحْنُ نَمْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ” (2كو 6: 10). هنا يضع لنا فقرًا في مقابل الغنَى، عدم ملكية وفي نفس الوقت امتلاك كلّ شيْ πάντα κατέχοντες!!! (امتلاك الكلّ)..
ويبدو من الكلمات أنه كيف يكون فقيرًا ويغني كثيرين إن كان يتحدّث عن فقر مادي وغنى مادي في نفس الوقت؟؟؟ هل حُرم القديس بولس من البركة، وفي نفس الوقت أُعطي القدرة لكي يهبها لآخرين؟!! فلو كان الأمر هكذا تكون هناك إمكانيّة لنوال البركة وأنت فقير تمامًا كبولس، الأمر الذي يجتث دعاوى ضرورة ارتباط البركة بالغنى. ولكن الكلمات لها مفهوم آخر غير تلك الرؤى السطحيّة التلفيقيّة لخدمة أغراض دعائيّة ماديّة لا تؤهِّل لملكوت ابن الله.
ولو كانت الكلمات هنا عن غنى مادي وملكية مادّية فإن كلمة نملك كلّ شيء تبدو محيّرة للغاية!! فهل نحن مدعوون كمسيحيين لنملك كلّ شيء مادي في العالم، أين ومتى تحقّق ذلك مع أي مسيحي في أي عصرٍ؟!!
الكلمات تقول لنا إن المسيح جاء ليدعو من يراهم الناس بلا إمكانيات ليهبهم إمكانيات فائقة حتى يكون المجد النهائي مقدّمًا لله. ألم يحارب مع جدعون بثلاثمائة رجل فقط وانتصر جدعون فكان المجد ليهوه العليّ؛ فَقَالَ الرَّبُّ لِجِدْعُونَ: «بِالثَّلاَثِ مِئَةِ الرَّجُلِ الَّذِينَ وَلَغُوا أُخَلِّصُكُمْ وَأَدْفَعُ الْمِدْيَانِيِّينَ لِيَدِكَ. وَأَمَّا سَائِرُ الشَّعْبِ فَلْيَذْهَبُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَكَانِهِ» (قض 7: 7)
هذا ما يريده الله أن يدرك الإنسان أنه غناه ومعارفه وملكاته لن تؤهِّله لنوال الروح واتّباع السيّد إلى مائدته المعدّة، بل بالحري طرح كلّ معرفة وغنى وقدرات خاصّة ومواهب تحت أقدامه والاعتراف بالفقر أمام عظم الدعوة، وقتها يهب الروح لعون الإنسان ولدفعه لإتمام أعمال بحسب مشيئة الله دونما افتخار العمل ودونما خمول استنادًا على نعمة فوقيّة.
عند القديس أغسطينوس “كلّ شي” تعني: “الحياة الدائمة في العالم الآتي” (الرسالة 157 إلى هيلاريوس Hilarius).
مع المسيح نحن نملك كلّ شيء؛ فالروح يفحص كلّ شيء حتى أعمق الله.. والروحي يحكم في كل شيء ولا يحكم فيه من أحد كما كتب القديس بولس في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس وفي الإصحاح الثاني.
أين إنجيل الرخاء والرّاحة من كلمات القديس بولس: “إِلَى هَذِهِ السَّاعَةِ نَجُوعُ وَنَعْطَشُ وَنَعْرَى وَنُلْكَمُ وَلَيْسَ لَنَا إِقَامَةٌ. وَنَتْعَبُ عَامِلِينَ بِأَيْدِينَا. نُشْتَمُ فَنُبَارِكُ. نُضْطَهَدُ فَنَحْتَمِلُ. يُفْتَرَى عَلَيْنَا فَنَعِظُ. صِرْنَا كَأَقْذَارِ الْعَالَمِ وَوَسَخِ كُلِّ شَيْءٍ إِلَى الآنَ.” (1كو4: 11-13). إنّ الكلمة المحوريّة في هذا الحديث هي: “إلى هذه الساعة Αχρι τῆς ἄρτι ὥρας” فهل كان القديس بولس مرفوضًا من الله لذا كان يجوع ويعطش ويلكم ويعرى بل ويصير كأقذار العالم ووسخ كلّ شيءٍ!!!
ليس هذا فقط بل في رسالته الثانية إلى الكورنثيين يضع حجر زاوية لرسوليّته وتكريسه بحسب مشيئة الله مستندًا على ما ناله من الألم بل وما يحيا يوميًّا من آلامات من أجل نشر كلمة الله عبر البلدان المختلفة، إذ يكتب: “أَهُمْ خُدَّامُ الْمَسِيحِ؟ أَقُولُ كَمُخْتَلِّ الْعَقْلِ: فَأَنَا أَفْضَلُ. فِي الأَتْعَابِ أَكْثَرُ. فِي الضَّرَبَاتِ أَوْفَرُ. فِي السُّجُونِ أَكْثَرُ. فِي الْمِيتَاتِ مِرَاراً كَثِيرَةً. مِنَ الْيَهُودِ خَمْسَ مَرَّاتٍ قَبِلْتُ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً إِلاَّ وَاحِدَةً. ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ضُرِبْتُ بِالْعِصِيِّ. مَرَّةً رُجِمْتُ. ثَلاَثَ مَرَّاتٍ انْكَسَرَتْ بِيَ السَّفِينَةُ. لَيْلاً وَنَهَار اًقَضَيْتُ فِي الْعُمْقِ. بِأَسْفَارٍ مِرَاراً كَثِيرَةً. بِأَخْطَارِ سُيُولٍ. بِأَخْطَارِ لُصُوصٍ. بِأَخْطَارٍ مِنْ جِنْسِي. بِأَخْطَارٍ مِنَ الأُمَمِ. بِأَخْطَارٍ فِي الْمَدِينَةِ. بِأَخْطَارٍ فِي الْبَرِّيَّةِ. بِأَخْطَارٍ فِي الْبَحْرِ. بِأَخْطَارٍ مِنْ إِخْوَةٍ كَذَبَةٍ. فِي تَعَبٍ وَكَدٍّ. فِي أَسْهَارٍ مِرَاراً كَثِيرَةً. فِي جُوعٍ وَعَطَشٍ. فِي أَصْوَامٍ مِرَاراً كَثِيرَةً. فِي بَرْدٍ وَعُرْيٍ.” (2كو 11: 23-27).
كيف يستقيم التعب والأخطار والجوع والعطش والصوم والبرد والعري والضرب والرجم والجلد وانكسار السفينة، على مفهوم إنجيل الرخاء المنحول؟!!!
ويعلّق القديس مكاريوس الكبير على تلك الأتعاب الرسوليّة فيقول: “لقد كُتِب هذا في الحقيقة لكي نتشبّه بهم نحن أيضًا، لذلك فعندما تُهانون ويُفتَرى عليكم أو تُضرَبون فعليكم أن تضعوا في قلوبكم أنكم قد اكتسبتم فوائد عظيمة، وأنكم صرتم شركاء ورفقاء للرسل والشهداء القديسين وأنه عليكم أن تنتظروا ما هو أردأ لكي تربحوا أكثر. وهذا هو الذي لأجله ينبغي على المسيحيين أن يُثابروا لكي يُعتَرَف بهم كتلاميذ لأولئك الذين اشتهروا بذلك”.
وفي نفس السياق يؤكِّد القديس بطرس غير مرّةٍ على الألم الذي يقود للمجد فيقول:” لأَنَّ هَذَا فَضْلٌ إِنْ كَانَ أَحَدٌ مِنْ أَجْلِ ضَمِيرٍ نَحْوَ اللهِ يَحْتَمِلُ أَحْزَاناً مُتَأَلِّماً بِالظُّلْمِ. لأَنَّهُ أَيُّ مَجْدٍ هُوَ إِنْ كُنْتُمْ تُلْطَمُونَ مُخْطِئِينَ فَتَصْبِرُونَ؟ بَلْ إِنْ كُنْتُمْ تَتَأَلَّمُونَ عَامِلِينَ الْخَيْرَ فَتَصْبِرُونَ، فَهَذَا فَضْلٌ عِنْدَ اللهِ.” (1بط2: 19 - 20).
ويؤكِّد القديس بطرس على مبدأ الشركة في آلام المسيح كأنه بديهة مسيحيّة، لذا يدعو الكنيسة ألاّ تتعجّب إن طالتها نيران الاضطهاد وكأنّه أمرٌ غريب عن المشيئة الإلهيّة. فالألم إن كان من أجل الخير ومختومًا بختم الخضوع للمسيح كسيّد أوحد ونبع أوحد للمسيرة الإنسانيّة نحو الله، يكون ألم المجد ويتحوّل إلى بهجة فائقة وإشراقة مجد فائق الحسن يوم استعلان يسوع المسيح؛” أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، لاَ تَسْتَغْرِبُوا الْبَلْوَى (التجربة) الْمُحْرِقَةَ الَّتِي بَيْنَكُمْ حَادِثَةٌ، لأَجْلِ امْتِحَانِكُمْ، كَأَنَّهُ أَصَابَكُمْ أَمْرٌ غَرِيبٌ، بَلْ كَمَا اشْتَرَكْتُمْ فِي آلاَمِ الْمَسِيحِ افْرَحُوا لِكَيْ تَفْرَحُوا فِي اسْتِعْلاَنِ مَجْدِهِ أَيْضاً مُبْتَهِجِينَ. إِنْ عُيِّرْتُمْ بِاسْمِ الْمَسِيحِ فَطُوبَى لَكُمْ، لأَنَّ رُوحَ الْمَجْدِ وَاللهِ يَحِلُّ عَلَيْكُمْ. أَمَّا مِنْ جِهَتِهِمْ فَيُجَدَّفُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا مِنْ جِهَتِكُمْ فَيُمَجَّدُ. فَلاَ يَتَأَلَّمْ أَحَدُكُمْ كَقَاتِلٍ، أَوْ سَارِقٍ، أَوْ فَاعِلِ شَرٍّ، أَوْ مُتَدَاخِلٍ فِي أُمُورِ غَيْرِهِ. وَلَكِنْ إِنْ كَانَ كَمَسِيحِيٍّ فَلاَ يَخْجَلْ، بَلْ يُمَجِّدُ اللهَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ.” (1بط4: 12-16)
وفي سفر الرؤيا نجد يوحنّا يرسم بقلمه المشهد السمائي الذي رآه، فيقول:
“هَؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ أَتُوا مِنَ الضِّيقَةِ الْعَظِيمَةِ، وَقَدْ غَسَّلُوا ثِيَابَهُمْ وَبَيَّضُوهَا فِي دَمِ الْحَمَلِ. مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ هُمْ أَمَامَ عَرْشِ اللهِ وَيَخْدِمُونَهُ نَهَاراً وَلَيْلاً فِي هَيْكَلِهِ، وَالْجَالِسُ عَلَى الْعَرْشِ يَحِلُّ فَوْقَهُمْ. لَنْ يَجُوعُوا بَعْدُ وَلَنْ يَعْطَشُوا بَعْدُ وَلاَ تَقَعُ عَلَيْهِمِ الشَّمْسُ وَلاَ شَيْءٌ مِنَ الْحَرِّ. لأَنَّ الْحَمَلَ الَّذِي فِي وَسَطِ الْعَرْشِ يَرْعَاهُمْ، وَيَقْتَادُهُمْ إِلَى يَنَابِيعِ مَاءٍ حَيَّةٍ، وَيَمْسَحُ اللهُ كُلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عُيُونِهِمْ” (رؤ7: 14-17).
ما هي الضيقة العظيمةτῆς θλίψεως τῆς μεγάλης (الضيقة هنا بحسب الكلمة اليوناني تشير إلى الانضغاط والمعاناة والألم بل وأحيانًا الإحباط distress) إن كانت حياة أبناء الله رخاءً ورغدًا في العيش؟؟ وكيف نفهم” لَنْ يَجُوعُوا بَعْدُ وَلَنْ يَعْطَشُوا بَعْدُ” إن كانوا شباعى في العالم؟!!! لماذا هذا الإعلان بعدم وجود الجوع والعطش في الأبديّة إن لم تكن تلك إشكاليّة لأولاد الله في العالم؟؟!! كثير من علامات الاستفهام والتعجُّب تظهر أن من يقرون تلك المفاهيم لم يكلّفوا أنفسهم عناء قراءة الإنجيل بخضوع لمنطق الثالوث، لا منطق العالم الموضوع في الشرير.
وأخيرًا يناجينا القديس يوحنّا الذهبي الفم، قائلاً:
فلنتخل عن محبّة الثروة
بل ولنخمد رغبتنا فيها
حتى نستطيع أن نضرم بداخلنا الرغبة فيما هو أبدي
إنها الغلبة التي دعانا المسيح لها..
قَدْ كَلَّمْتُكُمْ بِهَذَا لِيَكُونَ لَكُمْ فِيَّ سلاَمٌ.
فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ
وَلَكِنْ ثِقُوا:
أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ
(يو 16: 33)
_____
(1) Robert Tilton, God’s Word about Prosperity (Dallas, TX: Word of Faith Publications), 1983.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/articles/fr-seraphim-al-baramosy/a/gospel.html
تقصير الرابط:
tak.la/p53fpbw