إن هروبك من محبة المديح والكرامة ومن محبة الرئاسة يستدعي الآتي:
1 - ينبغي أن تعرف أن المجد الذي تأخذه من الناس هو مجد زائف.
وربما يكون عن جهل. لأن الذين يمدحونك لا يعرفون حقيقتك. لأنهم يحكمون حسب الظاهر. لا يقرأون أفكارك، ولا يعرفون مشاعرك وإحساساتك الداخلية، ولا خطاياك الخفية وسقطاتك.
وبعض الناس قد يمدح على سبيل المجاملة، أو بسبب التشجيع، والبعض يمدح بسبب أدبه الخاص، أو بسبب التملق، أو لغرض معين في نفسه. ومديح الناس قد يضر الكثيرين ويضللهم، ويبعدهم عن معرفة النفس، وعن تقويمها.
والمسكين الذي يحب المديح يهمه أن يُمدح كيفما كان الأمر، ويلذ له أن يصدق كل ما يُقال فيه خير، سواء عن حق أو عن باطل!
2 - أما أنت فاعرف أن مديح الناس لا يوصلك إلى ملكوت الله.
لأن الله هو فاحص القلوب والكُلَى (رؤ2: 23)، وهو العارف الخبايا والأسرار. وفي حكمه عليك، لا يعتمد على كلام الناس عنك.
لذلك ينبغي أن تصادق من يوجهك ويوبخك. أما إذا مدحك الناس، فتذكر خطاياك ونقائصك واعترافاتك التي تخجلك، والأخطاء البشعة التي وقعت فيها في حياتك. وبذلك يخف عليك الم المديح.
3 - قل لنفسك: أنا ما زلت سائرًا في الطريق، ولا أعرف كيف سأنتهي؟
والكتاب يقول "انظروا إلى نهاية سيرتهم" (عب13: 7)."فكثيرون بدأوا بالروح، وكملوا بالجسد" (غل3: 3). والكتاب يقول أيضًا "من يظن أنه قائم، فلينظر أن لا يسقط")1كو10: 12). وما أكثر حروب الشيطان، وما أشد حيله وخداع مكره، فاحفظني يا رب، لأن "الخطية طرحت كثيرين جَرْحَى، وكل قتلاها أقوياء" (أم7: 26)، وأنا لا أحسب نفسي أقوى من الذين سقطوا...
4 - للهروب من المديح، سواء مديح الناس، أو مديح نفسك لك، انظر إلى المستويات التي هي أعلى منك بكثير. فتصغر نفسك في عينيك.
إنك إن نظرت إلى الخطاة والضعفاء في مستواهم الروحي، أو إلى من هم أقل منك فضيلة وبرًا، ربما بالمقارنة تجد أنك "بار في عيني نفسك" (أي 32: 1). وإن نظرت إلى من هم أقل منك فهمًا وعلمًا ربما بالمقارنة تصبح "حكيمًا في عيني نفسك" (أم3: 7).
إن أولاد الله صاروا متواضعين، لأنهم كانوا باستمرار ينظرون إلى الكمال المطلوب منهم، حسب قول الرب "كونوا أنتم كاملين، كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل" (مت5: 48)، وأيضًا إلى قول الرب "كونوا قديسين، لأني أنا قدوس" (1بط1: 16).
وبنظرتهم إلى القداسة والكمال، كانوا يرون أنهم "في الموازين إلى فوق" (مز 62: 9). فيقول كل منهم لنفسه "وزنت بالموازين بالموازين فوُجدت ناقصًا" (دا 5: 27).
كانوا يصلون إلى درجات عظيمة في الصوم والصلاة والنسك وإنكار الذات وفي كل فضيلة يجاهدون للوصول إليها، كانوا في نظر أنفسهم ضعفاء ومساكين، لآن المستوى العالي الذي كانوا يتطلعون إليه، ما زال بعيدًا عنهم. وهناك درجات لم يصلوا إليها!
إذا مدحتك نفسك على فضيلة معينة قد وصلت إليها، فتذكر ما وصل إليه الآباء في هذه الفضيلة بالذات، حينئذ تدرك انك لا شيء...
إذا مدحتك نفسك مثلًا لمواظبتك على صلاة الأجبية، تذكر أنك تصلي بعض المزامير. وهناك آباء يصلون كل المزامير. ومنهم مَن كان يقضي الليل كله في الصلاة. ومن كان يمارس الصلاة الدائمة. ومن كان يصلب فكره في الصلاة حتى ما يخطر عليه فكر آخر كالتدريب الذي تدرب عليه القديس مكاريوس الإسكندراني. وتذكر أيضًا الصلاة بخشوع، والصلاة بدموع، والصلاة بحرارة وحب وإيمان... حينئذ تجد أنك مجرد مبتدئ في عمل الصلاة. وربما لم تصل بعد إلى درجة مبتدئ؟
وبالمثل قارن نفسك بالدرجات العليا لباقي الفضائل...
فهل يحاربك المجد الباطل، لأنك مدقق في دفع العشور؟ فهل أنت أيضًا تدفع البكور؟ وإن كنت كذلك، فاعرف أن المسيحية ارتفعت فوق هذا المبدأ في العطاء، إذ قال الرب "مَنْ سألك فأعطه" (مت5: 42). وقال أيضًا "إن أردت أن تكون كاملًا، فاذهب وبع مالك وأعط للفقراء، فيكون لك كنز في السماء، وتعالَى اتبعني" (مت19: 21). وإن وصلت إلى هذا فأمامك قصة لأحد القديسين كان متناهيًا في عمل الرحمة: فباع كل ما يملك وأَعْطَى الفقراء. وإن لم يبق له شيء ليعطيه، باع نفسه عبدًا، وأعطى ثمن نفسه للفقراء! أقول لك هذا، لا لتفعل مثله، فهذا غير ممكن الآن. وإنما لكي تتضع...
5 - لكي تهرب من الكرامة، اعرف المعنى الحقيقي للمتكأ الأخير.
فليس المتكأ الأخير أن تجلس في المكان الأخير. فهناك من يتصرف هكذا لكي يٌقال عنه إنه متضع. وقد يتخذ المتكأ الأخير من الظاهر، بينما محبة المجد الباطل تقتله من الداخل. فالمتكأ الأخير حقًا، هو أن تشعر في أعماقك أنك حقًا في المتكأ الأخير، من جهة المكانة، وليس من جهة المكان. قال أحد الرهبان للقديس تيموثاوس "يا أبي، إني أرى فكري مع الله دائمًا" فأجابه القديس: "الأفضل لك يا ابني أن ترى نفسك تحت كل الخليقة".
قيل عن اثنين من الرهبان الشبان إنهما دخلا إلى مائدة الدير. وكانت ذلك الحين مقسمة إلى موائد الشيوخ وأخرى للشبان. فدعا الشيوخ واحدًا منهما أن يجلس معهم فجلس. وأما الآخر فذهب إلى مائدة الشبان. وعند الانصراف قال هذا الأخير لزميله "كيف تجرأت -وأنت شاب- أن تجلس مع الشيوخ؟ فأجابه "إنني لو جلست على مائدة الشبان، ربما كانوا يقدمونني على أنفسهم في كل شيء، لأنني أقدم منهم. ولكنني عندما جلست على مائدة الشيوخ، كنت أشعر بضآلتي وعدم استحقاقي، وبأني لا استحق الكلام. وجلست في استحياء مطرقًا كل الوقت. وكنت في المتكأ الأخير".
إذن فحتى لو أجلسك الناس في المتكأ الأول، قل لنفسك: إن كل هؤلاء الناس أفضل مني. إن وقفت مثلًا تدرس الأطفال في مدارس الأحد، اعتبر أنهم ملائكة أفضل منك. واطلب من الله أن تكون في بساطتهم ونقاوتهم وكرامتهم عند الله...
كان أحد مدرسي مدارس الأحد إذا وقع في مشكلة، يطلب من أطفال فصله أن يصلوا من أجله في ضيقته. وكان يقول: إنني جربت صلواتهم في مشاكل حياتي. وكنت أشعر أشعر أنها قوية ولها مفعول كبير، أكثر من صلواتي الخاصة.
6 - وإن أردت الهروب من محبة المديح، اهرب من محبة الرؤى والمعجزات.
لئلا يعرف الشياطين عنك هذا، فيضلوك برؤى كاذبة من عندهم. ويقول الرسول "إن الشيطان نفسه يغير شكله إلى شبه ملاك نور" (2كو11: 14). ظهر الشيطان مرة لأحد القديسين وقال له "أنا جبرائيل الملاك وقد أرسلني الله إليك" فرد عليه القديس "لعلك أرسلت إلى غيري وأخطأت الطريق. أما أنا، فإني إنسان خاطئ لا أستحق أن يظهر لي ملاك" قال ماراسحق "إن الذي يرى خطاياه، أفضل ممن يرى ملائكة".
حقًا إن الرؤى لا تخلص نفسك في اليوم الأخير، فلا تطلبها. إنما معرفتك بخطاياك، فهي التي تقودك إلى التوبة وخلاص نفسك.
يدخل في هذا المجال أيضًا من يسعون إلى التكلم بالسنة، لا لتبشير الغرباء عن لغتهم، إنما بسبب الادعاء إنهم قد وصلوا إلى الملء!! والبعض منهم يقول لغيره: تعالَ لكي أمنحك الروح والملء فتتكلم بألسنة...!!
7 - إن أردت أن تهرب من المديح، ينبغي أن تخفي أعمالك الفاضلة عن الناس.
لأنك إن كنت تعمل الخير من أجل الله، وليس من أجل كرامة من الناس، فماذا يهمك إن كان الناس يرون هذا الخير منك أو لا يرونه، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى. بل إن إظهار فضائلك لهم، قد يفقدك أجرك عند الله، إذ تكون قد استوفيت خيراتك على الأرض (مت6).
في إحدى المرات، تقابل بعض رهبان شيهيت مع الأم سارة، وكشفوا لها أفكارهم. فقالت لهم بالحقيقة أنكم إسقيطيون. الذي لكم من الفضائل تخفونه. وما ليس فيكم من النقائص تنسبونه إلى أنفسكم...
وفي مرة أخرى، كان يعيش في برية شيهيت راهب سوري الأصل. هذا جاء إلى القديس مكاريوس الكبير وقال له "لي سؤال يا أبي: عندما كنت في سورية، كنت أستطيع أن أصوم كثيرًا، وأطوى الأيام صومًا. أما الآن في مصر فلا أستطيع أن أكمل اليوم صومًا فلماذا؟". وحيث أن الأديرة في سورية كانت في المدن في وسط الناس، لذلك ردَ عليه القديس مكاريوس قائلًا "لقد كنت تطوى الأيام صومًا لأنك كنت تتغذَّى على المجد الباطل، الذي هو مديح الناس لك أثناء الصوم والانقطاع عن الطعام. أما في البرية فلا يراك أحد، ولذلك تجوع بسرعة"!
لذلك قال القديسون: إن الفضائل إذا عُرفت، تبيد وتنتهي. وبسبب هذا، كانوا يخفون فضائلهم ومعرفتهم وحكمتهم.
أما إن أراد الله أن يُظهر فضائلك وحكمتك، فلتكن مشيئته. ولكن لا يكن ذلك منك أنت. فحاذر أن تفتخر بنفسك، أو أن تجلب لنفسك صيتًا حسنًا.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/xbmv4r7