"قد كرسوا كل حياتهم لله فكانت كل دقيقة من أعمارهم تنفق في الخدمة... هكذا كانوا يعتبرون الخدمة الروحية عملهم الرئيسي ويرون باقي أعمال العالم أمورًا ثانوية"..
حدث في تلك الليلة أنني كنت وحيدًا في غرفتي الخاصة، متمددًا على مقعدي وناظرًا إلى لا شيء، وإذ بابتسامة خاطئة تمر على شفتي -لعلني كنت أفكر في نفسي كخادم- وهنا حدث حادث غريب: هل ثقلت رأسي فنمت أم اشتطت أفكاري فتحولت إلى أحلام؟ أم أشهر الله لي أحدي الرؤى لست أدري، ولكنني أدري شيئًا واحد وهو أنني نظرت فإذا أمامي جماعة من الملائكة النورانيين، وإذا بهم يحملونني على أجنحتهم ويصعدون بي إلى فوق، وأنا أنظر إلى الدنيا من تحتي فإذا هي تصغر شيئًا فشيئًا حتى تتحول إلى نقطة صغيرة مضيئة في فضاء الكون، وأنصت إلى أصوات العالم وضوضائه فإذا بجسمي يخف ويخف حتى أحسّ كأنني روح من غير جسد – فاتلفت في حيرة حولي لأرَى أرواحًا كثيرة سابحة مثلي في الفضاء اللانهائي، وأري من الملائكة ألوفا وربوات ربوات ها هم الشاروبيم ذوو الستة الأجنحة والساروفيم الممتلئون أعينا – وها هي أصوات الجميع ترتفع في نغم واحد موسيقي عجيب "قدوس، قدوس، قدوس" ولا أتمالك نفسي فأنشد معهم دون أن أحس "قدوس الله الآب... قدوس أبنه الوحيد... قدوس الروح القدس" واستيقظ عن إنشادي لأسمع نغمة قدسية خافتة لم تسمعها أذن من قبل، فاتجه في شوق شديد نحو مصدر الصوت، فإذا أمامي على بُعْد مدينة جميلة نورانية معلقة في ملك الله، تموج بالتسبيح والترتيل، كلما أسمع منها نغمًا يمتلئ قلبي فرحًا، وتهتز نفسي اشتياقًا، ثم أنا أنظر فأري في المدينة على بُعْد أشباحًا أجمل من الملائكة: هوذا موسى ومعه إيليا وجميع الأنباء، هوذا أنبا أنطونيوس وأنبا أثناسيوس وجميع القديسين، ها هم أبائي الأساقفة وآبائي الكهنة -ها هو أب اعترافي- ثم هاهم بعض زملائي ومدرسي مدارس الأحد... ولم أستطع أن أتأمل أكثر من ذلك بل اندفعت في قوة نحو تلك المدينة النورانية، ولكن عجبًا – إنني لا أستطيع التقدم، فهناك ملاك جبار كله هيبة وجلال ووقار يعترض سبيلي قائلًا:
* "مكانك قِفْ! إلى أين أنت ذاهب؟" فأجيبه:
* "إلى تلك المدينة العظيمة يا سيدي الملاك – إلى حيث زملائي وأخوتي وآبائي القديسون". ولكن الملاك ينظر إلى فوق في دهشة ويقول:
* "ولكنها مدينة الخدام فهل أنت خادم؟ "فلما أجبته بالإيجاب قال لي:
* "أنك مخطئ يا صديقي فأسمك ليس في سجل الخدام وعصفت بي الدهشة فصرخت في هذا الملاك حارس المدينة:
* كيف هذا؟ لعلك لا تعرفني يا سيدي الملاك. اسأل عني مدراس الأحد واجتماعات الشباب واسأل عني الكنائس والجمعيات. بل اسأل عني أيضًا في مدينة الخدام إذ يعرفني هناك كثير من زملائي مدرسي مدارس الأحد....."
وأجابني الملاك في صرامة وصراحة:
* "أنني أعرفك جيدًا، وهم أيضًا يعرفونك، ولكنك مع ذلك لست بخادم فهذا حكم الله".
ولم أحتمل تلك الكلمات، فوقعت على قدمي أبكي في مرارة، ولكن ملاكًا آخر أتى ومسح كل دمعة من عيني، وقال لي في رفق:
* "أنك يا أخي في المكان الذي هرب منه الحزن والكآبة فلماذا تكتئب؟ - تعال معي ولنتفاهم".
وجلسنا منفردين نتناقش فقال لي:
*"إن أولئك الذين تراهم في مدينة الخدام قد كرسوا كل حياتهم لله، فكانت كل دقيقة من أعمارهم تنفق في الخدمة. أليست هكذا كانت حياة بولس وباقي الرسل؟ أليست هكذا كانت حياة موسى والأنبياء؟ أليست هكذا كانت حياة الأساقفة والكهنة والشمامسة؟ أليست هكذا كانت حياة القديسين؟ أما أنت يا صديقي فلم تكن مكرسا بل كنت تخدم العالم. وكل ما لك من خدمة روحية هو ساعة واحدة في الأسبوع تقضيها في مدارس الأحد، وأحيانا كانت خدماتك الأخرى تجعلك تعطي الله ساعة ثانية، فهل من أجل ساعتين في الأسبوع تريد أن تجلس إلى جانب الرسل والأنبياء والكهنة في مدينة الخدام؟" وكنت مطرقًا خجلًا أثناء ذلك الحديث كله، غير أنني قاومت خجلي وتجرأت وسألت الملاك: "ولكنني أرى في مدينة الخدام بعضًا من زملائي مدرسي مدارس الأحد وهم مثلي في خدمتي" فأجابني الملاك:
*"كلا أنهم ليسوا مثلك. حقيقة أنهم كانوا يخدمون ساعة أو أكثر في مدارس الأحد ولكنهم كانوا يقضون الأسبوع كله تمهيدًا لتلك الساعة، فكانوا يصرفون وقتا كبيرا في تحضير الدروس ووسائل الإيضاح، وطرق التشويق، والصلاة من أجل كل ذلك، وبحث حالات التلاميذ واحدا واحدا، والتفكير في طريقة لإصلاح كل فرد على حدة، يضاف إلى ذلك انشغالهم في الافتقاد، وفي ابتكار طرق نافعة لشغل أوقات تلاميذهم أثناء الأسبوع – ثم كانت لهم خدمات أخرى مختفية لا تعرفها، وهكذا يعتبرون الخدمة الروحية عملهم الرئيسي، ويرون باقي أعمال العالم أمورا ثانوية – لا أعني أنهم أهملوا مسئولياتهم وواجباتهم العالمية بل كانوا مخلصين لها جدا وناجحين فيها للغاية وأن كان عملهم العالمي أيضًا لا يخلو من الخدمة، وهكذا حسبهم الله مكرسين".
وتعجبت من هذه العبارة فسألت: "وكيف أستطيع أن أكون خادما وأنا مشغول بعملي؟" فأجابني الملاك:
"لعلك نسيت يا أخي عمومية الخدمة! يجب أن تخدم الله في كل وقت وفي كل مكان: في الكنيسة وفي الطريق وفي منزلك وفي مكان عملك وأينما حللت أو تنقلت.
"لا يجب إذن الفصل بين المهنة والخدمة، فعندنا في مدينة الخدام مدرسون استطاعوا أن يجذبوا كل تلاميذهم المسيحيين إلى مدارس الأحد، وأن يصلحوهم ويتعهدوهم بالعناية المستمرة. وعندنا في مدينة الخدام أطباء لم يتخذوا الطب تجارة وإنما اهتموا قبل كل شيء بصحة مرضاهم مهما كانت حالتهم المالية، فكانوا في أحيان كثيرة يداوون المريض ويرسلون له الدواء – كل ذلك بدون أجر، بل كانوا يقومون بتأسيس المستشفيات والمستوصفات المجانية، وعندنا في مدينة الخدام موظفون استطاعوا أن يقودوا كل زملائهم في العمل إلى الكنيسة للاعتراف والتناول من الأسرار المقدسة. وهناك أيضًا مهندسون ومحامون وفنانون وتجار وصناع: كل أولئك كانوا خدامًا في مهنهم، فهل كنت أنت كذلك؟"
فخجلت من نفسي ولم أجب ولكن الملاك قال لي في تأنيب مؤلم...
* "هذا عن الخدمة في مكان عملك: ثم ماذا عن خدمتك في أسرتك!- أن يشوع الذي تراه في مدينة الخدام كان يقول "أما أنا وبيتي فنعبد الرب". أما أنت فلم تخدم بيتك بل كنت على العكس في نزاع مستمر مع أفراد أسرتك، بل فشلت في أن تكون قدوة لهم وأن تجعلهم يقتدون بك. ثم ماذا عن أصدقائك وزملائك وجيرانك ومعارفك؟ كنت تزورهم في عيدي الميلاد والقيامة دون أن تحدثهم عن الميلاد والقيامة، وعن الولادة الجديدة والقيام من الخطية بل تفرح معهم فرحا عالميا، وأتيحت لك فرص كثيرة لخدمتهم ولم تستغلها، فهل تعتبر نفسك بعد كل ذلك خادمًا؟!"
وطأطأت رأسي خجلًا للمرة الثالثة، ولكني مع ذلك احتلت على الإجابة فقلت:
* "ولكنك تعلم يا سيدي الملاك أنني شخص ضعيف المواهب ولم أكن مستطيعا أن أقوم بكل تلك الخدمة.
واندهش الملاك، وكأنما سمع هذا الرأي لأول مرة، فقال في حدة:
* "مواهب"؟ ومن قال أنك بدون المواهب لا تستطيع أن تخدم! هناك يا أخي ما يسمونه العظة الصامتة: لم يكن مطلوبا منك أن تكون واعظا وإنما أن تكون عظة... ينظر الناس إلى وجهك فيتعلمون الوداعة والبشاشة والبساطة، ويسمعون حديثك فيتعلمون الطهارة والصدق والأمانة، ويعاملونك فيرون فيك التسامح والإخلاص والتضحية ومحبة الآخرين فيحبونك ويقلدوك ويصيروا بواسطتك أتقياء دون أن تعظ أو تقف على منبر، ثم هناك صلاتك من أجلهم وقد تجدي صلاتك أكثر من عظاتك".
وللمرة الرابعة تولاني الخجل والارتباك، فلم أحر جوابا واستطرد الملاك في قوله:
* "وكان يجب عليك أيضًا -كعظة صامتة- أن تبتعد عن العثرات فلا تتصرف تصرفا مهما كان بريئًا في مظهرة أن كان يفهمه الآخرين على غير حقيقته فيعثرهم – وهكذا تكون "بلا لوم" أمام الله والناس كما يقول الكتاب: جاعلا أمام عينيك كخادم قول بولس الرسول: "كل الأشياء تحل لي، ولكن ليست كل الأشياء توافق" (1كو12:6).
← اقرأ قصص أخرى هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في قسم القصص.
وتأملت حياتي فوجدت أنني في أحوال كثيرة جعلت الآخرين يخطئون ولو عن غير قصد. وقطع على الملاك حبل تأملاتي قائلًا في رفق:
* "ولكن ليس هذا هو كل شيء. أنني أشفق عليك كثيرًا يا صديقي الإنسان. وقد كنت أشفق عليك بالأكثر أثناء وجودك في العالم، وخاصة في تلك اللحظات التي كنت تتألم فيها من "البر الذاتي". كنت تنظر إلى خدماتك الكثيرة فتحسب أنك مثال للخدمة وبينما لم تكن محسوبا خادما إلى الإطلاق. ولعلك قد اقترفت أخطاء كثيرة أخرى، منها أن خدمتك كانت خدمة رسميات، فقد كنت تذهب إلى مدارس الأحد كعادة أسبوعية، وكعادة أيضًا كنت تصلي بالأولاد، وكنت ترصد الغياب والحضور، فتعطي للمواظب جائزة، وتهمل الغائب غير مسئول عنه، وهكذا خلت خدمتك من الروح ومن المحبة، ولم تستطع أن تصل إلى أعماق قلوب الأولاد، لأن كلماتك وتصرفاتك لم تكن خارجة من أعماق قلبك. ولم يكن في الترتيل الذي تعلمهم إياه روح البهجة، ولم تكن في أوامرك لهم روح المحبة، وهكذا لم تحدث في خدمتك تأثيرًا، وكذلك كنت في عظاتك في الكنائس أيضًا: تعظ لأن الكاهن طلب منك ذلك فوعدته وعليك أن تنفذ، فكنت تهتم بتقسيم الموضوع وتنسيقه، وإخراجه في صورة تجذب الإعجاب أكثر مما تهتم بخلاص النفوس، وكان صوتك رغم علوه وإيقاعه ووضوحه باردًا خاليًا من الحياة، وكنت تبتهج -ولو داخليًّا فقط- بمن يقرظ موضوعك دون أن تهتم هل جدد الموضوع حياة ذلك الشخص أم لا. ألا ترى يا صديقي أنك كنت تخدم نفسك ولم تكن تخدم الله ولا الناس. ولعل من دلائل ذلك أيضًا أنك كنت ترحب بالخدمة في الكنائس الكبيرة المشهورة الوافرة العدد دون الكنائس غير المعروفة كثيرًا.
"ثم أنه نقص من خدمتك في هذه الناحية أمران هما: حب الخدمة وحب المخدومين... أما عن حب الخدمة فيتجلى في قول السيد المسيح: "طوبي للجياع والعطاش إلى البر" فهل كنت جوعانًا وعطشانًا إلى خلاص النفوس؟ هل كنت طول الأسبوع تحلم بالساعة التي تقضيها وسط أولادك في مدارس الأحد؟ هل كنت تشعر بألم إذا غاب أحدهم، وبشوق كبير إلى رؤية ذلك الغائب فلا تهدأ حتى تجده وتعيد عليه شرح الدرس! – ثم الأمر الآخر وهو حب المخدومين: هل كنت تحب من تخدمهم، وتحبهم إلى المنتهى مثلما كان السيد المسيح يحب تلاميذه؟ هل كنت تعطف عليهم فتغمرهم بالحنان؟ وهل أحبك تلاميذك أيضًا؟ أم كنت تقضي الوقت كله في انتهارهم ومعاقبتهم بالحرمان من الصور والجوائز؟ من قال لك أن تلك الطريقة صالحة لمعالجة الأولاد؟ أن المحبة يا صديقي الإنسان هي الدعامة الأولى للخدمة. أن لم تحب مخدوميك لا تستطيع أن تخدمهم، وأن لم يحبوك لا يمكن أن يستفيدوا منك".
وأطرقت في خجل مرير وقد تكشّفَت لي حقيقتي بينما نظر إلى الملاك نظرة كلها عطف ومحبة وقال:
* "أريد أن أصارحك بحقيقة هامة وهي انه كان يجب أن تقضي فترة طويلة في الاستعداد والامتلاء قبل أن تبدأ الخدمة – لأنك وقد بدأت مبكرًا ولم تكن لك اختبارات روحية كافية، وقعت في أخطاء كثيرة".
ونظرت إليه في تساؤل وكأنما شق عليَّ أن أخطئ وقد كلفت بإصلاح أخطاء الآخرين، فأجاب الملاك على نظرتي بقوله:
* "هناك ولد طردته من مدراس الأحد لعصيانه وعدم نظامه – فأوجد هذا الطرد عنده لونا من العناد وقذف به إلى أحضان الشارع والصحبة الشريرة، فأصبح أسوأ من ذي قبل، وحاقت به من تصرفك أضرار جسيمة، خاصة أنه في حالته الجديدة فقد المرشد والعناية، ولابد أنك مسئول عن هذا لأنه في حدود عملك".
فأجبت "ولكنه يا سيدي الملاك كان يفسد عليَّ الدرس، بل كان قدوة سيئة لغيره".
فأجاب الملاك في مرارة:
*"وهل من أجل ذلك طردته؟ يا لك من مسكين: هل أرسلك السيد المسيح لتدعوا أبرارا أم خطاة إلى التوبة؟؟ أن تلاميذك القديسين الذين كنت بسببهم تحارب نفسك بالبر الذاتي، ترجع قداستهم إلى عمل الله فيهم، أما ذلك المشاكس فهو الذي كان يجب أن تتناوله بالرعاية. لمثل هذا النوع دعاك الله. ولو أنك كرست جهودك كلها لإصلاح هذا الولد فقط ولم يكن لك في حياة الخدمة غير هذا العمل، لكان هذا وحده كافيا لدخولك مدينة الخدمة... كان يجب أن تقدر قيمة النفس وأن يكون لك الكثير من طول الأناة.
فخادِم مدارس الأحد الذي تخلو مؤهلاته من هاتين الصفتين لا يستحق أن يكون خادمًا.
فقلت للملاك في رجاء: "وماذا كنت تريدني أن أعمل مع هذا الولد؟" فأجاب:
* "تخدمه بقدر ما تستطيع، وتختبر نفسيته وتعالجه بحسب ظروفه، وتصلي كثيرًا من أجله – فإذا ما فشلت فلا تطرده وإنما حوله إلى فصل آخر، فقد ينجح زميل لك من المدرسين فيما فشلت أنت فيه – فإذا لم ينفع هذا أيضًا يمكنكم أن تخصصوا فصلًا أو أكثر من مدراس الأحد للأولاد المشاغبين، يعامل فيها هؤلاء الأولاد معاملة خاصة وفق طبائعهم – ويمكن أن تكثروا من افتقادهم ومن تقريبهم إلى قلوبكم على ألا يطرد واحد منهم مهما أدى الأمر. أنهم ليسوا بأكثر شرا من الحالة الأولى لزكا أو المرأة السامرية أو مدينة نينوى. وخادم الله لا يعرف اليأس مطلقا ما دامت له الصلاة المنسحقة والقلب المحب".
وشعرت بندم على تصرفاتي القديمة، ولكن الملاك استطرد:
* "ثم هناك ولد آخر غاب عن فصلك أسبوعًا ثم أسبوعين فلم تفتقده وكل ما فعلته كموظف رسمي في مدارس الأحد"!!!" أنك رصدته في سجلك ضمن الغائبين، واستغل الولد عدم افتقادك فاستمر في غيابه، وانتهزت أنت فرصة غيابه المستمر: فشطبت أسمه من قائمتك".
ونظر إليَّ الملاك في صرامة وقال:
"لماذا لم تفتقِده؟!" وضعفت أمام حدة ونظرته. فصمت خوفا. بينما كرر سؤاله مرة أخرى في عنف " لماذا لم تفتقده؟" وشعرت بعاصفة تجتاح رأسي ولم اجب، بينما أرتعش الملاك في اضطراب:
* "إن حالته الروحية تدعو الآن إلى الرثاء، ولو استمر على هذه الحالة فأنه سوف.." واختلج صوت الملاك وصمت قليلا ثم قال:
* "إنني وكثير من الملائكة نصلي من أجله حتى ينقذه الله... وعندما يستجيب الله صلاتنا ويرسل إليه خادمًا آخر أمينًا في خدمته، وعندما ينقذ الولد، فإن إنقاذه سوف لا يخليك من المسئولية".
وكان صوته خافتًا متألمًا لم أحتمل سماعه، فشعرت بالمناظر تدور أمام عيني ثم وقعت مغشيًّا عليَّ...
وعندما أفقت كان الملاك ينظر إليَّ في إشفاق، وساعدتني نظرته على التكلم فقلت:
"سامحني يا سيدي الملاك فقد كان في فصلي ثلاثون ولدًا لم أستطع أن أفتقدهم جميعهم" فأجابني: "وحتى أنت وقعت في هذه التجربة؟ في أغراء العدد؟ أن الله لا يقيس الخدمة بعدد التلاميذ، وإنما بعدد المتجددين الخالصين منهم... أنا أعرف أنه كان صعبًا عليك أن تهتم بثلاثين ولدا من ناحية النظام والافتقاد والرعاية والتعليم، بل كان من الصعب عليك أن تحفظ مجرد أسمائهم، فلم تستطع أن تقول مع المسيح "خرافي تعرفني وأنا أعرفها". ولكن لماذا لم تقتصر في خدمتك على عشرة أولاد مثلًا".
وفضَّلت الصمت لأني لم أجد جوابًا. أما الملاك فإنه قال في إشفاق:
* "هل تعلم ما هو أهم سبب في فشلك غير ما قلناه؟ أنه اعتمادك على نفسك. وهكذا نسيت أن تصلي وتصوم من أجل الخدمة. إن زملاءك مدرسي مدارس الأحد الذين في مدينة الخدام كانوا يقيمون صلاة وصومًا خصيصًا من أجل فصولهم، وكانوا في كل يوم من أيام الأسبوع يذكرون أولادهم واحدًا واحدًا أمام الله طالبين طلبة خاصة من اجل كل واحد، بل كانوا يطلبون من آبائهم الكهنة إقامة قداسات خاصة من أجل الأولاد فهل كنت كذلك؟
"هذا كله عن الخدمة الروحية، ثم ماذا عن خدمتك المادية؟ هل ظننتها أمرًا ثانويًا؟ الم تعلم أن الغني الذي عاصر أليعازر هلك لأنه لم يشفق على اليعازر المسكين؟ ألم تسمع المسيح يقول للهالكين "كنت جوعانا فلم تطعموني، كنت عطشانًا... كنت عريانًا... كنت مريضًا.." فماذا فعلت أنت؟ ألم تتمسك ببعض الكماليات بينما كان أخوتك محتاجين إلى الضروريات؟ ألم...."
ولم أحتمل أكثر من ذلك فصرخت في ألم: "كفي يا سيدي الملاك، الآن عرفت أنني غير مستحق مطلقًا لدخول مدينة الخدام -فقد كنت مغرورًا يا سيدي جدًا- أما الآن وقد عرفت كل شيء فأني أطلب فرصة أخرى أعمل فيها كخادم حقيقي".
فقال لي الملاك: "لقد أعطيت لك الفرصة ولم تستغلها ثم انتهت أيامك على الأرض..."
فألححت عليه وظللت أبكي وأرجوه، أما هو فنظر إلى فوق إشفاق ومحبة وتركني ومضي وأنا ما أزال أصرخ "أريد فرصة أخرى – أريد فرصة أخرى". فلما اختفي عن بصري وقعت على قدمي وأنا اصرخ "أريد فرصة أخرى" ثم دار الفضاء أمامي ولم أحس بشيء.
ومرَّت عليَّ مدة وأنا في غيبوبة طويلة، ثم استفقت أخيرًا وفتحت عيني ولكني دهشت. وازدادت دهشتي جدًا... وظللت أنظر حولي وأنا لا أصدق، ثم دققت النظر إلى نفسي فإذ بي ما أزال وحيدا في غرفتي الخاصة متمددًا على مقعدي. يا لرحمة الله... أحقا أعطيت لي فرصة أخرى لأكون خادمًا صالحًا...؟ وقمت فقدمت لله صلاة شكر عميقة، ثم عزمت أن أخبر أخوتي بكل شيء ليستحقوا هم أيضًا الدخول إلى مدينة الخدام. وهكذا أمسكت بعض أوراق بيضاء، وأخذت أكتب "حدث في تلك الليلة..".
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/3ct6xgj