الفصل الخامس:
دوافع أخرى للتوبة:
هناك دوافع للتوبة، تصدر من داخل الإنسان، من مشاعر قلبه، ذكرنا الكثير منها. وهناك دوافع أخرى للتوبة تكون من الخارج، تأتي إلى الإنسان حتى دون ان يطلب. ونذكر من بين هذه الدوافع:
إن الله "يريد أن الجميع يخلصون، وإلى معرفة الحق يقبلون" (1 تي 2: 4). ولذلك فهو يسعى إلى الخلاص الكل. ونعمته تعمل في الخطاة لكي يتوبوا، لكي يريدوا ولكي يعملوا (في 2: 13).
كل إنسان لابد أن تأتيه زيارات النعمة...
شاول الطرسوسي كمثال:
لقد شهد عن نفسه أنه كان من قبل مجدفًا ومفتريًا ومضطهدًا للكنيسة (1تي 1: 13). وكانت مناخس تنجس ضميره لكي يترك هذه القسوة وهذا العنف ولكنه كان يرفس هذه المناخس ولا يستجيب... وأخيرًا ظهر له الرب في طريق دمشق وعاتبه بقوله "شاول شاول، لماذا تضطهدني؟ صعب عليك أن ترفس مناخس" (أع 26: 4، 9:5).
وواضح أن قيادة شاول إلى التوبة وإلى ترك اضطهاده للكنيسة، لم تبدأ من داخل نفسه، إنما أتاه الدافع من الخارج من زيارة النعمة بلقاء الرب له، الذي صالحه وأصلحه ودعاه لخدمته...
نفس الوضع حدث مع يونان النبي...
كان هاربًا من الرب، وكان غير موافق على المناداة لنينوى، لئلا تدركها رحمة الله فتسقط كلمته(1)... وفعلًا لما قبل الرب توبة نينوى وخلص هذه المدينة جلس يونان شرق المدينة مغتاظًا...! بل أنه أغتاظ حتى الموت وقال "موتي من حياتي" (يون 4: 1-3).
وفيما هو هكذا، زارته نعمة الرب لتخلصه من غمه الخاطئ... كلمه الرب بنفسه لكي يصالحه، لكي يشرح له، ويغير قلبه، ويقوده إلى التوبة...
وهكذا كانت النعمة بصوت الله وصلت إلى النبي، كما حدث مع شاول... ولكني لا يشترط في النعمة أن يكلم الله الإنسان...
إنما قد يرسل الله شخصًا، يُبَكِّت هذا الخاطئ لكي يتوب...
كما حدث حينما أرسل الرب ناثان لكي يبكت داود ليتوب...
لم يكن داود يحس ما هو فيه، بل كان يتدرج من خطية إلى أخرى من الشهوة إلى الزنى إلى القتل... إلى أن زارته النعمة بمجيء ناثان إليه، وتعريفه بخطورة ما حدث منه...حينئذ فقط بدأت تستيقظ نفسه الغافلة، وقال "أخطأت إلى الرب" (2 صم 12: 13). ثم بدأ قصة توبة عميقة، بلل فيها فراشة بدموعه (مز 6).
وهكذا لم تبدأ توبة داود من دوافعه الداخلية، إذ كانت نفسه في غفوة مستمرة في الخطية، إنما بدأت التوبة بدافع خارجي، بتبكيت من الخارج. وهنا دخلت مشاعر التوبة إليه، وبدأ العمل الداخلي فيه...
وأنت أيها القارئ العزيز، هل تدري... ربما الإنسان الذي يبكتك على خطية، هو مرسل من نعمة الله إليك، ليقودك إلى التوبة...
فإن رفضته ورفضت توبيخه -حتى لو كان قاسيًا- تكون رافضًا لنعمة الله العاملة فيك. وتكون زيارة النعمة قد افتقدتك ولم تستفيد منها.
لا تظن أن زيارة النعمة، لا تأتي إلا عن طريق صوت الله أو صوت نبي، أو عن طريق حلم أ رؤيا، أو أمثال هذه الأمور الفائقة، إنما قد يكون الأمر أبسط من هذا بكثير...
فقد تفتقدك النعمة بمرض مثلًا، يكون هو صوت الله إليك...
كالمرض الذي افتقد به الرب مار أوغريس، وقاده ليس فقط إلى التوبة، وإنما إلى الرهبنة أيضًا. وكالمرض الذي افتقد به الرب الأنبا تيموثاوس السائح وكقصص أمراض عديدة وردت في الكتاب وفي التاريخ...
وقد يكون المرض الذي يفتقدك الرب به، مرضًا لا يصيبك أنت، إنما يصيب أحد أحبائك المقربين إليك جدًا. ويستطيع هذا المرض أن يشد ركبتيك إلى أسفل، ويرفع يديك إلى فوق، فتصرخ من أعماقك إلى الرب. وقد استطاع المرض أن يعصر قلبك عصرًا، فيتجه إلى الله ويصطلح معه من أجل هذا الذي تحبه...
وقد تكون زيارة النعمة على شكل ضيقة أو مشكلة...
تكون هي أيضًا صوت الله إليك، يناديك أن تتوب، لكي يتراءف الرب عليك ويخرجك من هذه الضيقة(2).
وقد يدفعك الرب إلى أيدي أعدائك، فيقوون عليك، فترجع إلى الرب، لكي ينقذك، وأمثلة هذا الأمر كثيرة في سفر القضاة... (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى).
المهم أن تكون حواسك الروحية مدربة، تستطيع أن تميز بها صوت الله الذي يناديك لكي ترجع إليه...
لذلك في كل ما يمر بك من أمراض ومن ضيقات ومن مشاكل، لا تفصل شيئًا من هذا عن علاقتك بالله. اجعلها كلها تقوِّي علاقتك به، وتعمق صلواتك، وتزيد محبتك للرب...
وقد تأتيك زيارة النعمة، أثناء قراءتك لكتاب روحي، أو أثناء سماعك عظة روحية أو لحن مؤثر...
فتجد شعورًا في داخلك، يحثك أن تعمل شيئًا من جهة علاقتك بالله... تجد قلبك في حالة غير طبيعية، يتحرك داخلك، أو يتحرك عمل الروح داخله. وتجد الروح القدس يبكتك على خطية، أو يشوقك إلى الحياة مع الله، وإلى التصالح معه... إنها زيارة من النعمة. احرص ألا تفلت منك...
إن زيارة النعمة افتقدت فيلكس الوالي حينما كان القديس بولس الرسول يتكلم عن البر والتعفف والدينونة العتيدة أن تكون، فاتعب فيلكس (أع 24: 25). ولكنه للأسف لم يستغل زيارة النعمة لمنفعته. بل قال لبولس "اذهب الآن، ومتى حصلت على وقت استدعيتك".
أما أنت فإن زارتك النعمة، لا تنس قلبك، ولا تؤجل التوبة...
استفد من كل شعور روحي تحدثه النعمة في داخلك، وبخاصة حينما تشعر بثورة في داخلك على حياة الخطية، وبمحبة طارئة نحو الله، ربما لم تكن موجودة في داخلك من قبل...
لقد زارت النعمة أغريباس الملك فيما كان القديس بولس يتكلم، فقال أغريباس لبولس "بقليل تقنعني أن أصير مسيحيًا" (أع 26: 28).
واكتفي أغريباس بمجرد الاقتناع، دون أن يخطو خطوة أخرى...
أما أنت فإن زارتك النعمة، لا تكتف بمجرد الإقناع...
لأنه ماذا يفيدك إن اقتنعت أن طريقك خاطئ... دون أن تقوم عمليًا بتغيير هذا الطريق...
لا تجعل زيارة النعمة في عقلك فقط، أو حتى في قلبك فقط، إنما يجب أن تعمل أيضًا في إرادتك، فتقوم وتعمل عملًا.
على أن زيارات النعمة تقدم لنا حقيقة جميلة ومعزية وهي:
حتى إن كنت أنت لا تسعى إلى خلاص نفسك، فإن الله المُحِب يسعَى بنعمته لكي يخلصك، وهو الذي يبدأ...
كل ما يريده الرب منك هو الاستجابة لصوته في داخلك،
يريدك أن تعمل معه، حينما يبدأ هو أن يعمل فيك،
يريدك حينما تسمع صوته أن لا تقسي قلبك،
وحينئذ تقودك زيارة النعمة إلى التوبة، كما قادت كثيرين...
إن زيارات النعمة تعطي لكل خاطئ دفعة من رجاء...
يثق بها أن الله يحبه، وأنه لا ينساه أبدًا في رعايته، ويبحث عنه كما بحث عن خروفه الضال. وان لم تكن في قلب هذا الخاطئ مشاعر تقوده إلى التوبة، فإن الرب يغرس في قلبه هذه المشاعر بعمل نعمته، ويمهد كل الوسائط التي تجعل قلبه يتحرك نحو التوبة...
_____
(1) انظر كتابنا "تأملات في سفر يونان النبي"
(2) انظر كتابنا "اليقظة الروحية"، فهو في الواقع جزء من سلسلة موضوع "حياة التوبة والنقاوة"، وفيه باب عن "دوافع اليقظة الروحية" من 28 صفحة، يصلح أن ينضم إلى موضوعنا هذا الذي نطرقه الآن.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/7cww7jc