أخطر عبارة في ذلك، قالها القديس الأنبا رويس:
قال: "يليق بالذي يتناول جسد الرب ودمه في داخله، أن يكون من الداخل في نقاوة أحشاء العذراء التي كان في داخلها جسد الرب". ما أخطر هذه العبارة؟! ما أخطر هذه العبارة؟! من ذا الذي يستطيعها؟! لذلك سأكلمكم عن السهل المستطاع. يلزمنا إذا الاستعداد الروحي للتناول:
وبمقدار استعدادنا للتناول، تكون استفادتنا منه...
كثيرون يتناولون... آلاف، بل مئات الآلاف... ولكن ليس الجميع يستفيدون نفس الفائدة الروحية!! ولنضرب مثالًا بالرسل الأحد عشر الذين تناولوا في يوم خميس العهد ومن يد الرب نفسه:
واحد منهم فقط، تبع المسيح حتى الصليب، هو القديس يوحنا الحبيب، واستحق أن يكلمه الرب، وأن يعهد إليه بالسيدة العذراء قائلًا "هذه أمك" (يو 19: 27). فأخذها إلى بيته، وصارت بركة له...
وتلميذ من الذين تناولوا، تبع المسيح حتى بيت رئيس الكهنة. وكان قد تحمس أيضًا وقطع أذن عبد رئيس الكهنة، دفاعًا عن المسيح (يو 18: 25 – 27). ولكنه عاد فأنكر الرب ثلاث مرات!!
وباقي التلاميذ التسعة هربوا وقت القبض على معلمهم وسيدهم!! والكل كانوا قد تناولوا معًا...
إن التناول يُذَكِّرنا بمثل الزارع (مت 13).
الزارع هو نفس الزارع، البذار هي نفس البذار. ولكن حسب طبيعة الأرض اختلفت النتائج: فالبعض سقط على الطريق فأكلته الطيور. والبعض سقط على الأرض المُحْجِرَة، وإذ لم يكن له عمق أرض جف. والبعض سقط على أرض فيها شوك، فطلع الشوك وخنقه... وحتى الذي سقط على الأرض، لم يعط ثمرًا بمستوى واحد. بل أعطى بعض مائة، آخر ستين، وآخر ثلاثين (مت 13: 3 9)...
هكذا التناول أيضًا، حسب حالة قلب الإنسان، وحسب استعداده الروحي، هكذا تكون استفادته الروحية.
فهو من الوسائط الروحية، ولكن تختلف فائدته من شخص لآخر، حسب استعداده له...
كثيرون يتناولون كثيرًا، بل قد يتناولون كل يوم وفي كل قداس. وربما لا يستفيدون!! وربما من كثرة التناول بلا استعداد، قد يتحول الأمر إلى مجرد عادة، وتسقط هيبة الأسرار من قلوبهم! وغير هؤلاء قليلون يستطيعون الاحتفاظ بهيبة السر ودوام الاستعداد له... لذلك اختبر نفسك وانظر: هل المداومة على التناول في مواعيد متقاربة جدًا، تساعدك على دوام الحرص أم لا؟ الأمر يختلف من شخص لآخر...
هنا ونسأل ما هو الاستعداد للتناول؟ (اقرأ مقالًا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في قسم الأسئلة والمقالات)
من أجمل قطع القداس الإلهي في هذا الانسحاق، صلاة سرية يتلوها الأب الكاهن، قبل القداس وهو يفرش المذبح، تُسَمَّى (صلاة الاستعداد) يقول فيها: أيها الرب العارف قلب كل أحد، القدوس المستريح في قديسيه، الذي بلا خطية وحده، القادر على مغفرة الخطايا... أنت يا رب تعرف أني غير مستحق ولا مستعد ولا مستوجب لهذه الخدمة المقدسة التي لك، وليس لي وجه أن اقترب وافتح أمام مجدك الأقدس. ولكن من أجل كثرة رأفاتك، اغفر لي أنا الخاطئ، وامنحني أن أجد نعمة ورأفة في هذه الساعة..".
فإن كان الأب الكاهن في القداس الإلهي بهذا الانسحاق،فكم بالأكثر يكون باقي الشعب؟!
وهنا نرى الأب الكاهن نفسه يقوم بعدة أمور:
* يلبس هو والشمامسة الملابس البيضاء (التونيات) الخاصة بالخدمة، والتي ترمز إلى النقاوة الداخلية. مثلما يلبس المعتمد بعد عماده ملابس بيضاء ترمز إلى الحياة الطاهرة النقية التي نالها بالمعمودية، إذ لبس بر المسيح (غل 3: 27). وكما يقول السيد الرب "مَنْ يغلب، فذلك سيلبس ثيابًا بيضًا..." (رؤ 3: 5) إشارة إلى الحياة المقدسة في الملكوت الأبدي... وكما قيل عن ملائكة القيامة إنهم كانوا "بثيابٍ بيضٍ" (يو 20: 12)(مر 16: 5) (مت 28: 3)... وذلك يرمز إلى قداسة الملائكة وطهارتهم. وهكذا يكون خدام المذبح الذين يتقدمون للتناول... ويكون في هذه الملابس البيضاء قدوة للشعب ومثالًا...
* وكما يلبس الكاهن، يغسل أيضًا يديه قبل القداس، ويقول "انضح على بزوفاك فاطهر، واغسلني فابيض أكثر من الثلج".
ويقول أيضًا "اغسل يديّ بالنقاوة، وأطوف بمذبحك يا رب..."
إنه درسٌ يقدمه الأب الكاهن للشعب قبل التناول أن تغتسل نفوسهم بالتوبة، وتصير أبيض من الثلج...
* إن التوبة لازمة جدًا للتناول. ولعلنا نلاحظ أن السيد المسيح له المجد، قبل أن يناول تلاميذه في يوم الخميس الكبير غسل أرجلهم أولًا وقال لهم "أنتم الآن طاهرون، ولكن ليس كلكم" (يو 3: 10). وكان يعني يهوذا مُسَلِّمه، ولذلك لم يناوله من الجسد والدم.
* ولعل من أخطر العبارات التي تقال في هذا المجال في القداس الإلهي، قبل التناول:
"القُدسات للقديسين" أي السرائر المقدسة هي للقديسين.
لذلك يسمي القداس الذي يتناول فيه المؤمنون (قداس القديسين)، لتمييزه عن الجزء السابق له الذي كان يُسَمَّى (قداس الموعوظين). وفيه يستمع أولئك للقراءات والعظة وينصرفون قبل بداية قداس القديسين الذي يتناول فيه هؤلاء القديسون...
إذن يحتاج الإنسان إلى قداسة لكي يستحق التناول من الأسرار المقدسة. وهذا يذكرني بعبارة جميلة قالها صموئيل النبي لأسرة يسى البيتلحمي حينما أراد أن يقدم ذبيحة... قال لهم:
"تقدسوا وتعالوا معي إلى الذبيحة" (1صم 16: 5).
وهكذا "قدس يسى وبنيه، ودعاهم إلى الذبيحة"... ليتنا نحفظ تلك العبارات ونرددها في يوم التناول، العبارات الخاصة بقدسية المتناولين من تلك السرائر المقدسة وإن لم نستطع أن نصل إلى تلك القداسة في إيجابياتها الروحية، فعلى الأقل نتقدم إلى التناول بالتوبة والاعتراف، وبعزم أكيد على ترك الخطية، والبعد عن كل الأسباب التي توصلنا إليها والتي توصلها إلينا. وإن اعترفنا بخطايانا، لا يكون اعترافنا مجرد كلام، بل يكون ندمًا حقيقيًا، وتوبة عمليه، حتى تكون أنفسنا وأجسادنا مستحقة لحلول تلك الأسرار المقدسة فيها، فنقبلها بقلوب طاهرة، ونفوس مستحقة، وأرواح متصلة بالله... وماذا أيضًا؟
نستعد للتناول بطهارة الجسد وصومه ونظافته. ولنتذكر كمثال: استعداد الشعب لتقبل كلام الله في العهد القديم، أعني استلام الوصايا العشر، وإذ "قال الرب لموسى: اذهب إلى الشعب، وقدسهم اليوم وغدًا. وليغسلوا ثيابهم، ويكونوا مستعدين لليوم الثالث" (خر 19: 10، 11)... "فانحدر موسى من الجبل إلى الشعب وقدس الشعب، وغسلوا ثيابهم. وقال للشعب: كونوا مستعدين لليوم الثالث. لا تقربوا امرأة" (خر 19: 14، 15).
لذلك فالاتصال الجنسي، والاحتلام، ونزيف الدم، وما أشبه، أمور تمنع التناول.
ينبغي أن يكون المتقدم للتناول طاهرًا، جسدًا وروحًا. وهكذا أيضًا يحسن الاستحمام في اليوم السابق للتناول، أو على الأقل الاغتسال لمن يتناول باستمرار. مجرد هذا الأمر -إلى جوار نظافة الجسد الذي يستقبل التناول- يعطي الإنسان إحساسًا بأنه يستعد يلزمه لون من اللياقة.
كذلك نستعد جسديًا بالصوم.
وحسب نظام كنيستنا نصوم منقطعين عن الطعام والشراب فترة لا تقل عن تسع ساعات نكون قد دخلنا في يوم جديد (يوم التناول) الذي يجب أن نبدأه صائمين.
والصوم ليس مجرد عمل جسدي، فهو من ناحية أخرى عمل روحي. وهو استعداد لكل نعمة نتلقاها في كل سر من أسرار الكنيسة، إلا في في الاستثناء المانع كالمرض الشديد، وحاليًا يستثنى سر الزواج أيضًا حسب قول السيد الرب "هل يستطيع بنو العرس أن يصوموا ما دام العريس معهم؟! ما دام العريس معهم لا يستطيعوا أن يصوموا" (مر 2: 19). ولكن حينما كان سر الزواج يجري بعد رفع بخور باكر، كان يقترن بالصوم أيضًا... كم بالأولى التناول.
وهكذا قبل بدء قداس القديسين، قبل أن يرفع الأبروسفارين procverin، يصلي الكاهن صلاة الصلح، التي يقول فيها "اجعلنا مستحقين كلنا يا سيدنا أن نقبل بعضا بعضًا بقبلة مقدسة، لكي ننال بغير وقوع في دينونة من موهبتك غير المائتة السمائية"... لاحظ هنا عبارة "لكي ننال بغير وقوع في دينونة"... (إذن الذي يتناول بغير مصالحة يقع في دينونة).
ثم ينادي الشماس قائلًا "قَبِّلوا بعضكم بعضًا..." وهذه القبلة المقدسة تعني كمال الحب بين الناس. وعبارة "مقدسة" تعني أنها طاهرة وبغير رياء، وليس مثل قبلة يهوذا، التي تذكارًا لها يمتنع التقبيل في أسبوع الآلام.
ينبغي قبل التناول أن نكون في صلح مع الله والناس.
مع الله بالتوبة، حسب قول الرسول "... تصالحوا مع الله" (2كو 5: 20)... ومع الناس حسب قول الرب "فإن قدمت قربانك على المذبح، وهناك تذكرت أن لأخيك شيئًا عليك، فاترك قربانك قدام المذبح، واذهب أولًا تصالح مع أخيك..." (مت 5: 23، 24). وعبارة "شيئًا عليك" تعني أنك في موقف المذنب. أما الذي يبغضك بغير سبب منك، كما أبغض شاول داود، وكما قال داود "أكثر من شعر رأسي، الذين يبغضونني بلا سبب" (مز 69: 4)... فذلك طبعًا لست مطالبًا بأن تترك قربانك لمصالحته... السيد المسيح نفسه كان يبغضونه بلا سبب (يو 15: 18، 24، 25)... أنت أيضًا لست مطالبًا بالذهاب لمصالحة من يضطهدونك ومن يحسدونك ويعادونك. ولكن هناك قاعدة:
إن كنت أنت المسيء، اذهب وصالح من أسأت إليه وإن كنت المساء إليه، فاحفظ قلبك من البغضة.
كذلك لست مطالبًا بأن تصالح من يعثرك روحيًا أو أخلاقيًا أو فكريًا، الذي ينطبق عليه قول الكتاب "المعاشرات الردية تفسد الأخلاق الجيدة" (1كو 15: 33). والكتاب يطالبنا أن نبعد عن العثرات، لا أن نذهب لنصالح أصحابها، ونرجع معهم علاقات تسبب الخطية...
كذلك لست مطالبًا بأن تذهب لتصالح أصحاب البدع والهرطقات. أولئك الذين قال عنهم الرسول "إن كان أحد يأتيكم ولا يجئ بهذا التعليم، فلا تقبلوه في البيت، ولا نقول له سلام. لأن من يسلم عليه يشترك في أعماله الشريرة" (2يو 10، 11)... ولا تسلم على من قال عنه الكتاب "اعزلوا الخبيث من بينكم" (1كو 5: 13)...
وعمومًا، لا يكون صلحك مع الناس على حساب صلحك مع الله...
تحدثنا عن الاستعداد للتناول، بقى أن نقول:
فيقول الرسول عن التناول إذن أي من أكل هذا الخبز أو شرب كأس الرب بدون استحقاق، يكون مجرمًا في جسد الرب ودمه. ولكن ليمتحن الإنسان نفسه... لأن الذي يأكل ويشرب بدون استحقاق، يأكل ويشرب دينونة لنفسه غير مميز جسد الرب. من أجل هذا فيكم كثيرون ضعفاء ومرضى وكثيرون يرقدون. لأننا لو حكمنا على أنفسنا، لما حكم علينا" (1كو 11: 27-31)... عبارات خطيرة ومحذرة. لذلك اعتدت أن أقول قبل التناول، وانصح من يتناولون أن يقولوا:
ليس يا رب من أجل استحقاقي أتناول، إنما من أجل احتياجي. ليس لاستحقاقي بل لعلاجي.
ليست لي القداسة التي أتناول بها إنما أنا أتناول ليساعدني التناول على حياة القداسة، إذ أنال به قوة روحية، ودفعة إلى قدام.
فالذي يتناول يشعر بهيبة هذا السر، ويخجل من ارتكاب الخطية بسبب قداسة التناول. فإن كان يتناول كل أسبوع مثلًا، يظل الأيام التالية لتناوله لتناوله مبتعدًا عن الخطية بسبب قداسة السر... وكذلك في الأيام السابقة للتناول التالي يكون محترسًا مستعدًا للتناول في الأسبوع المقبل... فيتعود الحرص.
من أهمية التناول، فإن الكنيسة تشعرك بأن يوم التناول يوم غير عادي، بوسائل كثيرة.
الاستعداد له بالصوم، طهارة الجسد، وبالاعتراف والتوبة، والمصالحة مع الناس، والدخول إليه بانسحاق، والصلاة قبل التناول وبعده، والكنيسة تعد الشخص للتناول بأكثر من تحليل للمغفرة: تحليل في رفع بخور عشية، وتحليل في رفع بخور باكر، وتحليل الخدام، وتحليل سرى في نهاية القداس. كما تعد ذهنه روحيًّا بالقراءات الكتابية الكثيرة، والطقوس الروحية وكل ما في القداس من تأثير.
وبعد التناول تجعله يحترس من أن يخرج، أو أن يبصق، احترامًا لتناوله.
أتذكر أنني ذات يوم في بدء رهبنتي، كتبت في مذكرتي في يوم تناولي:
"هذا الفم الذي تقدس بتناول جسد الرب ودمه: كلمة زائدة لا تخرج منه. ولقمة زائدة لا تدخل فيه".
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/awc5h2z