علاقتك بالكتاب المقدس تتركز في نقاط رئيسية أهمها: اقتناء الكتاب، اصطحابه، قراءته، فهمه، التأمل فيه، دراسته، حفظه. وفوق الكل: العمل به، والتدرب على وصاياه وتحويلها إلى حياة.
ينبغي على كل شخص أن يقتنى الكتاب المقدس، سواء أكان كتابًا كبيرًا على مكتبه للقراءة والدراسة، أو كتابًا صغيرًا يكون في الجيب أو حقيبة اليد: لا يفارقه. بل يصحبه في كل مشوار في كل رحلة، في كل مكان، أثناء وجوده في العمل، أو في وقت الراحة، أو أثناء الجلوس مع الناس.
يكون صديقه ورفيقه في دخوله وخروجه، في انتقاله وتِرحاله. يشعر أنه لا يستطيع الاستغناء عنه إطلاقًا. إن نسى أخذه معه، يحس أنه قد فقد شيئًا هامًا:
أخشى أن يكون الكتاب المقدس غريبًا في بيوتنا أو حياتنا "ليس له أين يسند رأسه" (لو 9: 58)، أو أنه يسند رأسه في مكتبتك أو على مكتبك وليس في ذهنك ولا قلبك! نعم، لست اقصد باقتناء الكتاب أن يكون تحفة في بيتك، أو تميمة في جيبك، إنما يجب أن يكون لاستعمالك الدائم. وأنت لا تصل إلى صداقة الكتاب هذه، إلا إذا كنت تحبه...
تحب الكتاب لأنه رسالة الله إليك، تتلقفها في حب...
تمامًا كما يصل الإنسان خطاب من حبيب له، يقرؤه ويعيد قراءته، لأنه كلام عزيز عليه... كما يقول داود النبي عن كلام الله إنه "أشهى من الذهب... وأحلى من العسل وقطر الشهاد" (مز 19: 10). ويقول عنه الرب في المزمور الكبير:
"إن كلماتك حلوة في حلقي. أفضل من العسل والشهد في فمي".
ويقول أيضًا "أحببت وصاياك أفضل من الذهب والجوهر"، "ممحص قولك جدًا. عبدك أحبه"، "أبتهج بكلامك كمن وجد غنائم كثيرة"، "اشتهيت وصاياك"، "أحببت وصاياك"، "أحببت شهاداتك"، "لكل كما رأيت منتهى. أما وصاياك فواسعة جدًا" (مز119). ويقول أيضًا:
"لو لم تكن شريعتك هي تلاوتي، لهلكت حينئذ في مذلتي" (مز119).
وهكذا إن أحببت الكتاب، تجد لذة في قراءته ومتعة.
وهذه اللذة تجعلك تداوم على القراءة وتلهج بها.
يقول المزمور الأول عن الإنسان الطيب المُطَوَّب:
" في ناموس الرب مسرته. وفي ناموسه يلهج نهارًا وليلًا".
وهذه هي الوصية التي قالها الرب ليشوع بن نون " لا يبرح سفر هذه الشريعة من فمك، بل تلهج فيه نهارًا وليلًا، لكي تتحفظ للعمل بكل ما هو مكتوب فيه " (يش 1: 8).
إن قراءة الكتاب تكون أفيد، إن كانت بمواظبة ومداومة. وبطريقة منتظمة، كل يوم...
وذلك لكي تتشبع بروح الكتاب، ويثبت تأثيرها فيك، وتصبح قراءته عادة عندك. ويمكن أن تضع لنفسك أن تقرأ فقرات من كتاب في كل صباح قبل أن تخرج من بيتك، لتكون مجالًا لتفكيرك وتأملاتك خلال اليوم، وتملأ ذهنك في مشيك وفي دخولك وخروجك. كما تقرأ أيضًا فصلًا آخر قبل النوم، لكي تفكر في هذه الآيات قبل النوم، فتصحبك حتى في أحلامك...
إن القراءة المنتظمة في الكتاب تساعد على الهذيذ فيه، أو اللهج به، واستمراره في الفكر...
وهكذا تستطيع أن "تلهج به نهارًا وليلًا" حسب الوصية. وإن كان هذا اللهج ممكنًا لملك عظيم مثل داود النبي، أو قائد عظيم مثل يشوع، على الرغم من كثرة مسئولياتهما، فكم بالأولى نحن ولا شك أننا أقل منهما مشغولية بكثير..؟!
ولقراءة الكتاب عناصر هامة تساعد على الاستفادة منه، نذكر من بينها:
أنت في القراءة تستمع إلى الله يكلمك، فاسمعه بخشوع...
وبقدر خشوعك في القراءة، يكون تأثير كلام الله عليك.
لأن قلبك يكون في ذلك الوقت مستعدًا، شاعرًا بأنه في حضرة الله... ولذلك فإن الكنيسة حينما تتلو علينا قراءات من الكتاب في القداس الإلهي، يصيح الشماس قائلًا "قفوا بخوف من الله، وأنصتوا لسماع الإنجيل المقدس"... والأب الكاهن قبل قراءة الإنجيل، يرفع البخور ويصلي أوشية يقول فيها:
"اجعلنا مستحقين أن نسمع ونعمل بأناجيلك المقدسة..."
إن مجرد السماع يحتاج إلى استحقاق، ويحتاج إلى استعداد، ونحن نذكر أن موسى النبي -قبل سماع الوصايا العشر- دعا الشعب أن يتطهروا ويتقدسوا مدة ثلاثة أيام، لكي يستحقوا أن يسمعوا كلمة الله إليهم" (خر 19: 10 – 15).
فالذي يقرأ كلمة الله باستهانة وإهمال، لا يتأثر ولا يستفيد.
تَعَوَّد إذن أن تقرأ الكتاب بهيبة واحترام... تذكر أنك في الكنيسة تقف، ويخلع رئيس الكهنة تاجه أثناء القراءة احترامًا لكلمة الله، فلا تكن أنت في الكنيسة بروح، وفي البيت بروح آخر... وماذا أيضًا في عناصر القراءة؟
ادخل إلى عمق الكلام الإلهي، وفهم المقصود منه...
اقرأ بتأمل وعمق. فـ"الْفَاهِمُونَ يَضِيئُونَ كَضِيَاءِ الْجَلَدِ" (سفر دانيال 12: 3).
كان الكتبة والفريسيون من علماء اليهود، ومع ذلك ما كانوا يفهمون معنى وصية تقديس السبت. وما كانوا يفهمون معنى كلمة (القريب)، حتى شرح الرب مثال السامري الصالح...
وأهمية الفهم لازمة جدًا، حتى أن الرب يقول:
"هلك شعبي من عدم المعرفة" (هو 4: 6) (اقرأ مقالًا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في قسم الأسئلة والمقالات).
ومن لوازِم المعرفة، عدم الاعتماد على آية واحدة. فالإنجيل ليس آية واحدة. وإنما هو كتاب. ومجرد آية، لا يعطي معنى متكاملًا لقصد الله ووصيته... ولذلك:
اجمع الآيات التي تخص موضوعًا واحدًا، واخرج بمعنى متكامل.
ومن ضمن الشروط التي تساعدك على فهم كلمة الله:
أن تقرأ بروح، وبعمق...
فليس المهم في كثرة ما تقرأه، ولو بغير فهم أو بغير تأمل!! وإنما تكمن استفادتك في العمق الذي تقرأ به، حيث تدخل كلمة الله إلى أعماق فكرك وإلى أعماق قلبك وتجعلها تمس مشاعرك
لذلك اهتم بروح الوصية، وليس بمجرد النص.
فكلام الله -كما قال- "هو روح وحياة" (يو 6: 63).
لذلك عليك أن تعرف روح الوصية، ولا تتمسك بحرفيتها، لأن القديس بولس الرسول يقول في هذا المعنى:
"لا الحرف بل الروح. لأن الحرف يقتل لكن الروح يحيي" (2كو 3: 6).
والشخص الروحي يسلك بروح الوصية، وليس بمجرد حرفيتها، كما كان يفعل الكتبة والفريسيون...
وفهم الكتاب لازم جدًا، سواء من جهة الروحيات أو من جهة العقيدة والإيمان.
كثيرون كانوا يقرأون الكتاب، ولكنهم ضلوا لأنهم ما كانوا يعرفون المفهوم السليم، فلم يدركوا "ما يقوله الروح للكنائس" (رؤ2؛ رؤ3). وهكذا يقول السيد المسيح له المجد " تضلون إذ لا تعرفون الكتب" (مت 22: 29). لذلك حاول أن تعرف، استشر واسأل...
كثيرون من الهراطقة كانوا يقرأون الكتاب، بل حسبهم البعض علماء ولكنهم ضلوا لعدم الفهم.
أو أنهم كانوا أحيانًا يأخذون آية من الكتاب، ويتركون باقي الآيات التي تكمل الفهم. فمثلًا يوردون قول الرب "لأن أبي أعظم مني" (يو 14: 28)، ولا يضعون إلى جوارها "أنا والآب واحد" (يو 10: 30). أو يقول البعض: قال الرسول "آمن بالرب يسوع فتخلص أنت وأهل بيتك" (أع 16: 31). ولا يذكرون معها قول الرب "من آمن وأعتمد خلص" (مر 16: 16).
لذلك إن قال لك البعض: مكتوب "كذا"، قل له كما قال الرب "ومكتوب أيضًا" (مت 4: 7).
إن قال لك أحد المتزمتين: مكتوب "بكآبة الوجه يصلح القلب" (جا 7: 3). قل له ومكتوب أيضًا افرحوا" (في 4: 4). ومكتوب كذلك "لكل شيء تحت السموات وقت... للبكاء وقت، وللضحك وقت" (جا 3: 1، 4)... هكذا كن حكيمًا في فهم ما تقرأ...
إن حاربك السبتيون بحفظ السبت قائلين: مكتوب "اذكر يوم السبت لتقدسه" (خر 20: 8). قل لهم ومكتوب أيضًا "لا يحكم عليكم أحد في أكل أو شرب أو من جهة عيد أو هلال أو سبت، التي هي ظل الأمور العتيدة" (كو 2: 16، 17).
إن آيات الكتاب -إذا اجتمعت معًا- تكون تكاملًا وتناسقًا وعمقًا للفهم، واستخدامًا لكل شيء في موضعه.
ماذا أيضًا عن علاقتك بالكتاب؟ هناك نقطة هامة أخرى وهي:
حاول أن تحفظ آيات من الكتاب تمثل مبادئ روحية معينة، أو أسسًا في العقيدة والإيمان، أو وعودًا من الله تشجعك وتعزيك، أو تشمل ردودًا على مسائل تشغلك وهذه الآيات وترددها كثيرًا في ذهنك وقلبك، بلون من الهذيذ الذي يلصقها بروحك وأعماقها، ويدخلها في عقلك الباطن، ويحفرها في ذاكرتك فتخرج منها حين تحتاج إليها...
والأمثلة على حفظ آيات الكتاب كثيرة:
البعض يحفظ مثلًا العظة على الجبل (مت 5-7). أو صفات المحبة (1كو 13)، أو توصيات روحية كثيرة في (رو 12) وفي (1تس 5). أو أجزاء من سفر الأمثال أو سفر الجامعة. أو الوصايا العشر في (خر 20، تث 5). أو يحفظ عددًا كبيرًا من المزامير، ومن صلوات الأنبياء في الكتاب المقدس. أو آيات متفرقة تترك تأثيرًا في قلبه حين قراءتها. أو آيات خاصة بفضائل معينة، أو خاصة بعقائد إيمانية، أو تمثل ردودًا على حروب روحية... والأمثلة في هذا المجال عديدة جدًا...
لو أن الإنسان الروحي حفظ آية واحدة كل يوم، كم ستكون محفوظاته في عام كامل؟
بل كم ستكون محفوظاته في عدة أعوام؟! وحتى إن حفظ واحدة كل أسبوع، لا شك سيحفظ 52 آية في العام، أو 520 آية في عشرة أعوام. ويعتبر هذا قدر ضئيل جدًا يتعبه بسببه ضميره.
ويبقى بعد ذلك استخدام الآية التي يحفظها... وقد كنت كثيرًا ما أقول لأبنائي في هذا الصدد:
احفظوا الإنجيل، يحفظكم الإنجيل...
احفظوا المزامير، تحفظكم المزامير...
ولكن كيف تحفظكم؟ ولداود النبي تأملات كثيرة في هذا الموضوع.
انتقل الآن إلى نقطة أخرى وهي:
ما تقرأه من الكتاب، وما تحفظه من آياته، يمكن أن يكون مجالًا لتأملاتك. تخلط به روحك وفكرك، وستجد نتيجة ذلك بما يوحي به إليك. وترى أن لكل كلمة معاني ودلائل، تتجدد في قلبك وتتعدد، وتدخلك في جو روحي.
نصيحتي لك إذن، أنك لا تقتصر على مجرد القراءة، وإنما أدخل إلى أعماقها بالتأمل، وقد كتبت لك موضوعًا عن التأمل يمكن أن تقرأه.
نصيحة أخرى خاصة بقراءة الكتاب وهي:
ابدأ القراءة بالصلاة، طالبًا من الله أن يعطيك فهمًا، ويكشف لك مشيئته. وقل كما قال داود النبي في المزمور الكبير:
"اكشف يا رب عن عيني، لأرى عجائب من شريعتك" (مز 119).
واختم القراءة بالصلاة، طالبًا من الرب أن يعطيك قوة للتنفيذ. وكما أعطاك فهمًا، يعطيك رغبة وإرادة.
بل اصحب القراءة أيضًا بالصلاة، وكما يقول الكتاب "وعلى فهمك لا تعتمد" (أم 3: 5). حاول بالصلاة أن تستلم رسالة الله إليك.
البعض يضع في ذهنه فكرة مسبقة استقر عليها، ثم يقرأ ليبحث عن آية تثبت له ما قد استقر فكره عليه. أو يحاول أن يطوِّع كلام الكتاب لأفكاره!! أما أنت فلا تكن هكذا، إنما اقرأ لكي تتعلم ولكي تعرف.
ويلزمك لذلك روح الاتضاع في صلاتك...
الاتضاع الذي تخضع به لتعليم الكتاب، وتغير وتصحح به فكرك... والاتضاع الذي تطلب به المعرفة، قائلًا مع داود النبي "علمني يا رب طرقك. فهمني سبلك"، وكأنك وأنت تقرأ تقول له:
"ماذا تريد يا رب أن أفعل؟" (أع 9: 16).
أما ماذا تفعل، فهذا ما أريد أن أُحَدِّثك عنه فيما بعد.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/av7526z