تحدثنا في المقال السابق عن النقاوة من الخطية ونود أن نتحدث اليوم عن نقاوة الأفكار.
والأفكار ليست عواقر بينما هي تلد أفكارًا أخرى من نوعها أو بأنواع شتى. والذي يريد النقاوة لأفكاره، ينبغي أن تنتقى حواسه أيضًا. فالحواس تلد الفكر: فما يراه الإنسان وما يسمعه وما يلمسه... يفكر فيه أيضًا. فإن أردت النقاء لفكرك، ولتكن حواسك نقية أيضًا، لا تجلب للفكر ما يدنسه.
** ونقاوة الفكر يلزمها أيضًا نقاوة القلب. وما يختزن في هذا القلب من مشاعر ومن رغبات ومن شهوات وما يكُنز فيه. فالإنسان الصالح من الكنز الصالح الذي في قلبه يخرج الصلاح. والإنسان الشرير من المكنوز الشرير الذي في قلبه يخرج الشر. وهكذا كما يقول المثل "كل إناء بما فيه ينضح".
** والأفكار إذا تعمقت في الإنسان تختزن في عقله الباطن. وربما تخرج من العقل الباطن على هيئة ظنون أو أحلام أو تفاهات كثيرة. فإن كانت لك ظنون سيئة، أي تظن في بعض الناس ظنونًا تسئ إليهم على غير حقيقتهم، فاعرف حينئذ أن قلبك لم يتنقى بعد، وأن عقلك الباطن لم يتنقى أيضًا. لأن الإنسان صاحب القلب النقي، دائمًا تكون أفكاره نقية، ولا يظن السوء. وعلى قدر إمكانه يأخذ الأمور ببراءة وطهارة، ولا يحكم بالسوء على أحد إلا إذا كانت الخطية واضحة تحمل دينونتها في ذاتها. أما الأمور التي تحمل وجهين، لأنه يأخذ الوجه المنير منها. من أجل هذا، فإن أمثال هؤلاء الأشخاص يكونون في علاقة حسنة مع الناس. لأنهم لا ينسون خطئًا لأحد، كما يعزرون الناس في تصرفاتهم.
** ولعلك تسأل: هل معنى هذا أن القلب النقي لا تحاربه ظنون وأفكار شريرة؟ نقول: نعم قد تحاربه الأفكار من الخارج، دون أن تنبع من داخله. بل على العكس يكون من الداخل رافضًا لها، لا يقبلها، بل يطردها بسرعة. والخديعة التي يتعرض لها البعض هنا، هي أن يستبقى الفكر الشرير، ولو بحجة فحصه أو محاربته، أو بنوع من الفضول ليرى إلى أين ينتهي! فتكون النتيجة أن يدنسه الفكر ويفقده نقاوته. والوضع السليم هو طرد الفكر بسرعة، لأن القلب النقي يشمئز من الأفكار الخاطئة، ولا يقبل حتى مجرد فحصها.
** ولا يفوتنا إذن أن نتحدث عن الأحلام. والأحلام على أنواع منها أحلام نجسة، وأحلام مرعبة مخيفة، وأحلام بأنواع أخطاء كثيرة، وأحلام تحوى قصصًا أو أفكارًا تافهة. فهل الأحلام الدنسة أو الأحلام الخاطئة، تعتبر خطيئة يُحاسب الإنسان عليها أمام الله وأمام الضمير؟ المعروف أن الإنسان لا يُحاسب إلا على الأعمال الإرادية. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). والبعض يظن أن الأحلام غير إرادية لأن الإنسان يكون أثناءها ليس في وعيه ولا في إرادته!! ولكننا نقول إن الأحلام وإن كانت غير إرادية أثناء النوم، ولكنها ترجع إلى إرادة سابقة قبل النوم ولو بأيام. ولا يمكن أن يحلم الإنسان بأشياء ضد إرادته. وهكذا يمكن أن نعتبر الأحلام شبه إرادية، لأنها تتعلق بإرادة سابقة. فالإنسان مثلًا لا يمكن أن يحلم بأنه يزنى أو يقتل أو يسرق ويشتم، إلا لو كان في قلبه ميل لهذه الأمور. والأحلام تنبع أيضًا من صور وقصص ورغبات كامنة في العقل الباطن.
** وماذا إذن عن الأحلام المخيفة؟ كإنسان يحلم مثلًا بأسد يفترس... نجيب بأن هذا الإنسان لابد أنه رأى أسدًا في حديقة الحيوان أو في سيرك أو صورة أسد في مجلة أو أسد يفترس في فيلم أو في قصة. ومن مجموعة هذا كله يحلم بشيء من هذا مما يخيفه. يضاف إلى هذا عنصر الخوف الذي في قلبه وفي طبعه. ويمتزج كل هذا معًا ليظهر في حلم مخيف لأسد يفترس. ونفس الوضع نقول عن الخوف من القتل، أو الخوف من اعتداء الغير، أو الخوف من أحداث مرعبة ربما مصدرها قصص اختزنت في العقل الباطن نتيجة قراءات أو سماعات.
** الأحلام الخاطئة بصفة عامة، تدل على أن العقل الباطن يحوى رصيدًا قديمًا من الخطايًا، لم يتنقى بعد من صورها وقصصها وذكرياتها. فأما أن تكون ذاكرته لا تزال مدنسة بخزينها الرديء، أو أن هناك بعض مشاعر في القلب، كامنة في أعماقه لم تتنقى بعد. وهى مصدر أحلامه الخاطئة التي تعكر نقاوة ذهنه.
يحتاج مثل هذا الشخص أن يتنقى من ماضيه مثلما يتنقى من حاضره. وعلى أية الحالات قد تحتاج نقاوة الأحلام إلى فترة من الزمن، إلى أن يصبح الإنسان في وضع بعيد تمامًا عن الأحلام الشريرة. فبالوقت وعدم التكرار، تختفي مصادر هذه الأحلام من الذاكرة. ويختزن العقل الباطن بدلًا منها أمورًا نقية طاهرة، تتناسب مع حياة التوبة والنقاوة التي يحياها. وتكون مصدرًا لأحلام نقية تمامًا.
علينا إذن أن نسعى إلى تنقية العقل الباطن، بطرد ما فيه من خزين لأخطاء ماضية. ثم إلى تقديس هذا العقل الباطن، بما يشحن أو نشحنه فيه من أمور طاهرة نقية، تكون مصدرًا لظنون نقية، ولأحلام نقية. كذلك علينا أن ننقى فكرنا من حشوه بالأمور التافهة التي إن لم تكن خطية في ذاتها، لكنها مضيعة للوقت وسبب في طياشة الأفكار. لأننا أحيانًا قد نقف ونصلى، فتطيش عقولنا أثناء الصلاة بأفكار كثيرة. ذلك لأننا أعطينا تلك الأفكار عمقًا فينا، فأخذت سلطانًا علينا. لذلك احذر ولا تعطِ أمثال تلك الأمور عمقًا في فكرك أو في مشاعرك أو في وقتك. وإن سرقك الاعتياد القديم، استيقظ بسرعة. فإن يقظة العقل والجهاد مع الأفكار، يسبقان نقاوة العقل.
** أصعب درجة في النقاوة هي النقاوة من معرفة الخطية. فعندما خلق الإنسان كان بسيطًا طاهرًا لا يعرف إلا الخير فقط. وبالسقوط بدأ يعرف الخطية. وبمرور الوقت بدأت الخطية تتسلط عليه. وعاش في ثنائية الخير والشر. فمتى يأتي الوقت الذي نتخلص فيه تمامًا من معرفة الخطية. اعتقد أن هذه بركة لا ننالها إلا في الأبدية في العالم الآخر حيث لا معرفة للخطية على الإطلاق.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/a42bk3v