كمال التوبة ليس هو مجرد عدم فعل الخطية، إنما هو كراهية الخطية. أي أن القلب يكون قد تنقَّى تمامًا من كل محبة للخطية أو تجاوب معها. وهكذا يكون القلب نقيًا. إذن فالتوبة الكاملة هي علامة على نقاء القلب. ولكن ما هو المقياس الذي يثبت كمال التوبة؟
** قد يظن إنسان أنه تائب، بسبب أنه ترك الخطية الرئيسية التي تتعب ضميره، ولم يعد يسقط فيها الآن. أي أنه لم يعد يزنِ مثلًا، أو يسرق، أو يغش، أو يسكر، أو يرتشي. ولم يعد يرتكب خطايا في هذا المستوى. لذلك استراح ضميره، وظنَّ أنه تاب...! وربما في نفس الوقت يكون واقعًا في خطايا كثيرة يعتبرها طفيفة، ولا تدخل في مقاييسه الخاصة بالتوبة. مثل الحديث بافتخار عن النفس، والفرح لمديح الناس، وتبرير الذات باستمرار، والتشبُّث بالرأي الذي يقود إلى العناد، مع إهمال بعض عناصر العبادة كالصلاة مثلًا، وربما عدم احتمال الإساءة، وعدم دفع نصيب اللَّه في ماله... ومع هذا كله، ضميره لا يوبِّخه. لأنه لم يصل إلى المستوى الذي يتبكَّت فيه على أمثال هذه الأمور.
** أنه ولا شك مُحتاج إلى أن ترتقي مقاييسه الروحية، لكي يتوب عن أمثال هذه الخطايا التي يعتبرها طفيفة أو لا يلتفت إليها باهتمام! وعليه أن يطردها جميعها من قلبه ومن فكره. وهنا يصعد الإنسان درجة في سلم التوبة لكيما ينضج روحيًا، ويصير ضميره حساسًا جدًا. فهل إذا وصل إلى هذه الدرجة نحكم عليه بأنه وصل إلى نقاوة القلب؟ هنا نبدى ملاحظة هامة، لكي تكون لنا دقة في الحُكم وهى:
** رُبَّما هو لا يُخطئ، لأنَّ الشيطان قد تركه إلى حين. والشيطان حكيم في المحاربة بالخطيئة. يعرف متى يُحارب، وكيف يُحارب، وفي أيَّة خطية يُركِّز قتاله... فإن وجد شخصًا مُتحمِّسًا جدًا لحياة البِرّ، ومستعدًا، يتركه فترة حتى يثق هذا الإنسان بنفسه ثقة كاملة رُبَّما تدفعه إلى التهاون والتراخي وعدم التدقيق. ثم يرجع الشيطان إليه في وقت يكون فيه أقل استعدادًا وحرصًا فيسهل إسقاطه.
وهذه الفترة لا تكون فترة انتصار على الخطية، إنما فترة عدم قتال. إنها فترة راحة من الحروب الروحية، وليست انتصارًا من اللَّه. فإن وجدت نفسك لا تسقط في خطية مُعيَّنة، رُبَّما لا يعني هذا إنك تنقيت منها تمامًا. ورُبَّما يرجع السبب إلى أن الشيطان لا يُقاتلك بها حاليًا، أو رُبَّما الظروف الحالية غير مواتية، ولا توجد عثرات ومُسبِّبات للخطية، ولا ما يثيرك من جهتها! والشيطان لا يُقاتلك الآن، ليس حبًا في إراحتك، وإنما لأنه يجهز لك فخًا من نوع آخر. ورُبَّما يكون هذا الفخ هو الافتخار بنقاوتك.
** ومن الملاحظ أن بعض الخطايا لها مواسم، وليست دائمة. إنها مثل دورات الألم أو الوجع. تلف دورتها في عنف وشدة، ثم تهدأ، ثم تلف دورة أخرى، وهكذا... أو مثل نبات له أحيانًا موسم رقود وفي وقت آخر موسم أزهار وإثمار.
** أو من الجائز أن اللَّه تبارك اسمه أراد أن يريحك فترة من إرهاق الخطية حتى لا تبتلع نفسك من اليأس. لذلك تدركك مراحم الله، وتحفظك النعمة وتسندك ولو إلى حين. فتمُر عليك فترة هدوء لا تزعجك الخطية، لأنك غير مقاتل بها حاليًا.
أو من الجائز أنك مستريح الآن لأن صلوات قد رُفِعَت لأجلك، سواء من قديسين في السماء، أو من أحباء لك على الأرض. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). واستجاب الرب لهم، واسترحت من الخطية وضغطاتها.
** ولذلك نقول إن هناك فرقًا بين نقاوة الأطفال، ونقاوة الناضجين سِنًّا وروحًا. حقًا إن الأطفال لهم قلب نقي بسيط لم يعرف الخطية بعد، ولم يدخلوا بعد في حرب روحية، ولم تختبر إرادتهم بعد. أي أنهم لم يصلوا إلى السن التي تختبر فيها إرادتهم. وهم غير الكبار الناضجين الذين دخلوا في حروب العدو وقاتلوا وانتصروا، ورفضت إرادتهم الحرة كل إغراءات الخطية. هؤلاء لهم مكافأة الغالبين التي ليست للأطفال. وما أعظم الذين يصلون إلى نقاوة مثل نقاوة الأطفال بعد صراعات وحروب روحية خرجوا منها منتصرين.
والنقاوة الكاملة هي نقاوة من جميع الخطايا بكل صورها وأنواعها. سواء كانت بالعمل، أو بالفكر، أو بالحواس، أو بمشاعر القلب، أو بسقطات اللسان. ولا تظن إذن إنك قد وصلت إلى درجة نقاء القلب، إن كنت قد تخلَّصت من بعض الخطايا التي كان لها سلطان عليك، إنما النقاوة الحقيقية هي النقاوة الكاملة الشاملة بحيث لا يكون لأية خطية من الخطايا سلطان عليك، فهل أنت كذلك؟ وهل تنقيت من جميع الخطايا حتى التي تتنكر في كل فضيلة لتخدعك.
والنقاوة الحقيقية تكون نابعة من القلب وليست مظهرية خارجية. يذكرني هذا الأمر بأن كثيرًا من الوعاظ حينما يتكلمون عن حشمة المرأة، يركزون على ملابسها وزينتها وشكلها الخارجي، دون أن يهتموا بالقلب ومحبة العفة والحشمة فيه، هذا الذي إذا وصلت إليه المرأة، يكون من نتائجه تلقائيًا حشمة الملابس والزينة. كذلك ينبغي للعمل النقي، أن يكون نقيًا أيضًا في أهدافه ووسائله، ويحكم عليه ضمير صالح غير منحرف. ويعتبر الإنسان نقيًا تمامًا لو دخل في كل حرب مع الخطية في عمقها وشدتها ولم يهتز. فاختبار نقاوة القلب يأتي من الحروب الروحية الشديدة في استمرارها وإلحاحها. لأن الشخص قد ينتصر مرة، ولكنه لو استمرت الضغوط مدة طويلة ربما يضعف أمامها ولا يقوَ على المقاومة. والشيطان يختبر كل شخص، ويدرس نواحي الضعف فيه، ويضغط بشدة على نقط الضعف، وتزداد حروبه قسوة.
إن نقاوة القلب درجة عالية جدًا، لا تكون في بدء الحياة الروحية، إنما قد يصل إليها الإنسان بعد اختبارات طويلة منتصرًا على كل أنواع الخطايا، فكرًا، وقلبًا وحواسًا ولسانًا وجسدًا وعملًا.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/d9cf49m