هذه الفضيلة يسمونها أيضًا طول الأناة، وطول الروح، وسعة الصدر، والحليم، وفي ذلك قيل عن موسى النبي "وكان الرجل موسى حليمًا جدًا أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض".
وإلهنا الصالح تبارك اسمه طويل الأناة، وينبع ذلك من عمق رحمته. ولولا طول أناته علينا ? مع كثرة أخطائنا ? لهلكنا جميعًا. إنها طول أناة الله تقتاد الناس إلى التوبة.
وبطول أناته صبر على عبدة الأصنام زمانًا طويلًا، حتى رجعوا أخيرًا إلى الإيمان وعبدوه. كما صبر على الشيوعيين الذين وقعوا في الإلحاد، وبعد سبعين سنة عادوا إلى الإيمان. كما أطال الله أناته على أغوسطينس في خطاياه، حتى تأب أخيرًا وصار قديسًا... وبالمثل أطال الرب أناته على فلاسفة الوثنية حتى آمن البعض منهم.
طول أناة الله تقود إلى التوبة أو إلى الدينونة أي العقاب. فلا تظن يا أخي القارئ العزيز، أذا أطال الرب أناته عليك في كل أخطائك وخطاياك المتكررة أنك بعيد عن العدل الإلهي، إنما هي فرصة تُمنح لك لكي تغيّر مسلكك، وإلا...
كذلك إذا أحاطت بك التجارب والضيقات، ولم يسرع الله إلى معونتك، لا تظن أنه قد تخلّى عنك. كلا، بل هو بطول أناته يعدّ الوقت المناسب الذي يُبعد فيه كل ضيقة عنك. تأمل مثلًا قصة يوسف الصديق، وكيف طال به الزمن في عديد من الضيقات. وأخيرًا دبّر الله الفرصة المناسبة التي جعله فيها الرجل الثاني في مصر، ورفع من شأنه جدًا.
إن قصة يوسف الصديق هي درس لنا. لذلك أطل أنت أناتك في كل ضيقاتك. وثق أن معونة الله لابد ستأتيك في الوقت الذي يراه مناسبًا. كما أن الله? بطول أناته? إنما يعطينا نحن أيضًا درسًا في الصبر وفي التعامل مع الناس...
قد يتضايق البعض من معاملات الناس له، ومن أسلوبهم الذي لا يحتمله، ويطلب إليهم أن يغيروا أسلوبهم فلا يغيرونه. وربما تطلب الزوجة هذا الطلب من زوجها فيظل كما هو...
ولكن علينا أن نعرف أن طباع الناس تحتاج إلى وقت لكي يمكنهم أن يغيروها، وليس من السهل عليهم أن يغيروا أسلوبهم بسرعة. والأمر يحتاج منا إلى طول بال. وبخاصة لو كان أسلوب الناس قد تحول إلى طباع فيهم. فالبعض منهم لا يشعر أنه على خطأ، ولا يريد أن يتغير. والبعض يريد ولا يستطيع.
كذلك فإن طول البال يحررنا من الغضب على الناس، ويعطى العقل فرصة أن يتدبر الأمر. وعمومًا فالإنسان الطويل البال، هو إنسان بطئ الغضب.
نفس الوضع بالنسبة إلى التعليم والإرشاد، يحتاج ذلك أيضًا إلى طول بال مع التلميذ حتى يقبل الدرس، وحتى يتفهمه ويهضمه، ثم يغرسه في ذاكرته، ثم لا ينساه. إن المدرس الضيق الصدر لا يمكنه أن يفيد تلاميذه. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). فبعضهم لا يفهم بسرعة، ويحتاج مدرسه إلى أن يطيل أناته عليه حتى يفهم، وحتى يحفظ. والمدارس تطيل أناتها على الراسبين أيضًا. فالذي لا ينجح من الدور الأول يعطونه فرصة في الدور الثاني لكي ينجح ويعوض ما قد فشل فيه من قبل.
أتذكر أنني منذ ستين عامًا أخذت درسًا روحيًا في طول البال من أحد تلاميذي. كان طالبًا في إحدى المدارس الأجنبية التي كنت مدرسًا فيها. وقد طلب منى أن أعطيه درسًا خاصًا في مادة هو ضعيف في استذكارها. فأعطيته الدرس الأول ومعه واجب كانت نتيجة إجابته صفرًا. ثم أخذ الدرس الثاني ومعه أيضًا واجب ليحله، وبالمثل كانت نتيجته صفرًا كسابقه. فتضايقت وقلت له "أنت بهذا الشكل لا يمكن أن تنفع". فعاتبني هذا التلميذ وقال لي "لماذا تثبط همتي، وأنا بذلت كل جهدي وتحسنت؟!". فتعجبت من كلامه وسألته أي تحسن هذا وقد أخذت صفرين متتالين؟! فقال لي "في الواجب الأول كانت لي 18 غلطة فأخذت صفرًا. وفي الواجب الثاني كانت لي 12 غلطة فقط فأخذت صفرًا. إنه بلا شك تحسن ولو أنه تحت الصفر، إذ قلّت الأخطاء. فبشيء من التشجيع يمكن أن أتحسن أكثر، وأصعد من تحت الصفر وآخذ درجة".
ومن ذلك الحين، وحتى الآن، مازالت في ذهني عبارة "التحسن تحت الصفر". فأطلت بالى على ذلك التلميذ الذي صار فيما بعد مهندسًا كبيرًا.
إننا نحتاج أيضًا أن نطيل بالنا على الأطفال حتى ينمو تفكيرهم، وينضج إدراكهم، فيتحولون من مرحلة اللهو إلى الجدية. ولا شك لابد أن يأخذ ذلك زمنًا. وهكذا تخطئ الأم التي تضجر من تصرفات طفلها، فتنتهره أو تضربه على أخطاء هو لا يعرف أنها أخطاء. ومن المفروض أن تتصف بطول البال حتى يمكنها أن تتعامل مع الطفل بما يناسب عقليته ونفسيته في تلك السن.
بالمثل الصبى في الصناعة التي يتدرب عليها، يحتاج إلى طول بال، حتى يتقن تلك الصنعة. فقد يخطئ في فترة التدريب مرة أو مرتين أو أكثر، وهذا شيء طبيعي. فلا يجوز لمعلمه أن ييأس منه. بل يطيل باله عليه، حتى يكمل تدريبه.
وبالمثل في الارشاد الروحي: قد يبذل المرشد وقتًا وجهدًا في قيادة شخص إلى التوبة. ثم يلاحظ أنه لم يتب بعد، فيدركه اليأس منه. وهذا خطأ، لأن التوبة لا تأتى هكذا بسرعة. إذ توجد معوقات كثيرة من التعود السابق على الخطية، ومن شهوات القلب، ومن المحاربات الخارجية. والأمر يحتاج إلى طول بال من المرشد، ومداومة التشجيع.
إن يئس المرشد من إمكانية توبة الخاطئ، فسوف يتركه إلى الضياع والهلاك وهكذا إذا يئس الطبيب من علاج مريضه فسيتركه إلى الموت لا محالة. الأمر في الحالين يحتاج إلى طول بال. وكثير من الأمراض تحتاج إلى صبر من المريض والطبيب حتى يتم الشفاء منها، أو على الأقل حتى تتحسن الحال ويمكن احتمالها...
في مجال العمل أيضًا: إذا قام شخص بمشروع، ليس له أن ينتظر نجاح مشروعه من أول خطوة. بل عليه أن يطيل أناته حتى يُعرف مشروعه وينتشر، وتنفتح أمامه الأسواق، وتنتصر على المنافسات، ويدخل في تجربة الربح والخسارة، ويستقر أخيرًا.
إن طول البال يلزم في كل المجالات: في العلاقات السياسية والاجتماعية، وفي السياسة والاقتصاد، وفي الحصول على عمل. بل وفي الوصول إلى كما الديمقراطية. وكقاعدة عامة لا يمكن الوصول إلى الكمال من أول خطوة، إنما بالتدرج والصبر.
والإنسان الذي ليس له طول بال، ما أسهل أن يقع في القلق والضجر والانزعاج، وتتعب نفسيته ويفقد سلامه الداخلي. وقد يصاب بالاندفاع والتسرع مما تكون له نتائج سيئة. وربما في تسرعه يأخذ قرارات أو مواقف ارتجاليه أو عشوائية. وبعض أناس ليس لهم طول بال في حل مشاكلهم، فيلجأون إلى السحرة والمشعوذين لعلهم يجدون عندهم حلًا.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/rsjthy9