إنه عدد لا يُحصى، إن كنا صادقين مع أنفسنا. ولست في ذلك أقصد أساتذتنا الذين تتلمذنا عليهم في المدارس أو في الكليات والجامعات وفي باقي دور العلم. إنما أقصد بالأكثر مَن تتلمذنا عليهم في الحياة، سواء عرفوا ذلك أو لم يعرفوا... ونحن لا يمكن أن ننكر فضل الذين استفدنا منهم دروسًا عملية. فمَن هم كل أولئك؟
أولًا نذكر مَن ألَّفوا لنا كتبًا نافعة، أو مَن كتبوا لنا مقالات في الصحف أو المجلات، واستفدنا منها دروسًا وكانت نافعة لنا، أو الذين نشروا بحوثًا علمية في كافة مناحي الحياة. وقرأنا في كل ذلك، وشعرنا بيقين أننا زدنا علمًا، واستطاع ذلك الفكر أن يؤثِّر فينا، وأن يقود حياتنا إلى أفضل. فهل ننكر فضل كل أولئك علينا، وقد يكون عددهم كبيرًا جدًا؟! ألا نضمهم إلى مُعلِّمينا، وإن كانوا لا يدَّعون هذا!
ألا يمكن أن نضم إلى هؤلاء الذين نشروا بعض القصص والروايات الهادفة، وقد وجّهت أفكارنا إلى معانٍ وقيم لها عُمقها وتأثيرها وتوجيهها؟ ونضم إلى ذلك أيضًا ما تقوم به وسائل الإعلام من لقاءات تناقش وتبحث أمورًا نحن في حاجة إلى معرفتها. وهكذا تصبح بعض برامج الإعلام من مصادر المعرفة والتعليم. وحتى مُجرَّد اسمها (الإعلام) يوحي بشيء من هذا.
إننا نأخذ أيضًا دروسًا مما يحدث لنا أو لغيرنا:
حُكي أن أسدًا وذئبًا وثعلبًا تجولوا في الغابة لكي يصطادوا. فتمكنوا من أن يصطادوا حمارًا وخروفًا وديكًا. وهنا قال الأسد: "قسّم أيها الذئب". فأجاب: "الأمر واضح يا مولاي: الحمار الأكبر في الحجم هو لك. والخروف المتوسط حجمًا هو لي. والديك الصغير للثعلب". فاغتاظ الأسد كيف يكون الحمار الأسوأ لحمًا وطعمًا هو له. ويكون الألذ طعمًا للباقين. وهنا ضرب الذئب ضربة أطارت رأسه. ثم قال للثعلب: "قسّم أنت أيها الثعلب". فأجابه: "الأمر واضح يا مولاي: الحمار لغذائك، والخروف لعشائك، والديك تتسلَّى به ما بين الأكلتين". فسُرّ الأسد بهذا، وقال: "مَن علَّمك الحكمة أيها الثعلب؟". فأجابه: "تعلَّمتها من رأس الذئب الطائر عن جثته"...
وفي هذه القصة أرانا الثعلب أنه يمكن للشخص أن يتعلَّم من الأحداث. فيأخذ درسًا مما يحدث لغيره...
الإنسان الحكيم لا يترك الأحداث تمر عليه عابرة دون أن يستفيد منها. بل يحاول أن يأخذ من كل حدث درسًا. إنَّ أحداث الحياة مدرسة عملية نتلقَّى فيها علومًا عملية، إن كنا نتأمَّلها في عُمق، ونحاول أن ندرك ما تحمله في طيَّاتها من دروس. هذا إن كنا نريد أن نتعلَّم...
ونحن نتعلَّم أيضًا من التاريخ. وجميل هو قول الشاعر:
ومَن وَعَى التاريخ في صدره أضاف أعمارًا إلى عُمره
إنَّ التاريخ أستاذ كبير، يُلقي دروسًا لِمَن يريد أن يستفيد... والدول بالذات تستفيد من دروس التاريخ، سواء من جهة ما حدث في الحروب، أو السياسة، أو العلاقات بين الدول، أو اتجاهات وأهداف كل دولة ومدى قدرتها...
ونحن نستفيد من التاريخ، سواء كان تاريخ الشعوب، أو تاريخ الجماعات أو الأفراد، وندرك كيف نتعامل مع كُلٍّ من هؤلاءِ.
ومن الطبيعة أيضًا نأخذ دروسًا. الفلك يعطينا درسًا في النظام، وفي العمل الهادئ، وفي التكامل، وفي خدمة الغير بدون ضجيج، وبدون تباهٍ بما يُقدِّمه.
كما أنَّ مَن يريد أن يتعلَّم، يمكنه أن يأخذ درسًا من الشجرة التي تُقدِّم ظلًا لأي أحد دون أن تسأله عن جنسه أو دينه أو مذهبه. وكذلك الورود والأزهار التي تُقدِّم رائحتها وعطرها للكل، حتى لِمَن يقطفها ويفركها بين يديه. والأنهار تعطينا درسًا في تقديم الخير للناس بلا ثمن، ودرسًا آخر في الرضى بحواجزها يمينًا وشمالًا دون أن تعتبر ذلك قيدًا على حريتها. وكل الأشجار تعطينا دروسًا في أننا نأخذ ثمارها منها دون أن تحتج. بل أن تنمو وتثمر لأجل الغير وليس لذاتها...
حقًا، إنَّ مَن يتأمَّل، يأخذ دروسًا من كل عناصر الطبيعة التي تُعلِّم في صمت. ونشكر اللَّه الذي منحنا إيَّاها لتعليمنا...
يمكننا أيضًا أن نتعلَّم من بعض الحشرات والحيوانات: فنأخذ درسًا من النحلة التي تجتهد لكي تُقدِّم لنا شهدًا، نأخذه منها دون أن نشكرها.
كما أننا نتعلَّم من النحل نظامه العجيب. وما أجمل قول أحمد شوقي -أمير الشعراء- عن مملكة النحل:
مملكة مُدبَّرة بامرأة مؤمَّرة
تحمل في العمال والصناع عبء السيطرة
أعجب لعمال يولُّون عليهم قيصرة
كذلك نحن نتعلَّم النشاط من النمل، الذي هو دائم العمل والحركة لا يكسل مُطلقًا. إنني في طول حياتي في البرية، لم أشاهد أبدًا نملة واقفة بدون عمل. بل دائمًا تسير النملة ولا تقف، وتتعاون مع زميلاتها... إنها درس في النشاط.
نحن نتعلَّم أيضًا الذكاء من الثعلب، والوفاء من الكلب، والشجاعة من الأسد، والصبر والصوم من الجمل... كلهم يقدِّمون دروسًا لِمَن يريد أن يتعلَّم.
كذلك من مُعلِّمينا الأشخاص الذين يكونون قدوة في الحياة. فنتعلَّم من سلوكهم الطيب، ومن فضائلهم، دون أن ينطقوا بكلمة. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). إنهم يزوِّدونا بنماذج من الحياة تصلح لإرشادنا. فنأخذ دروسًا من أسلوبهم في الكلام، وطريقتهم في التعامل، أو في حل المشاكل.
بل أننا أيضًا يمكن أن نأخذ دروسًا من أخطاء الآخرين ونتائج تلك الأخطاء وردود فعلها. إنها أجراس عالية الصوت تُحذِّرنا وتنذرنا وتخيفنا، لكي نتجنَّب تلك الأخطاء. وصدق مَن قال: "تعلَّمت الصمت من الببغاء" أي دفعني إلى الصمت لمعرفتي بضرر ثرثرته.
وكما نأخذ دروسًا من أخطاء الآخرين، نأخذ دروسًا من أخطائنا.
هل بعد كل ما ذكرناه، نستطيع أن نُحصي عدد الذين قد تعلَّمنا منهم؟!
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/8rr9236