ليس الخير عملًا مفردًا أو طارئًا، إنما هو حياة:
فالشخص الرحيم مثلًا، ليس هو الذي تظهر رحمته أحيانًا في حادث معين. إنما الرحيم هو الذي تتصف حياته كلها بالرحمة. وتظهر الرحمة في كل أعماله وفي كل معاملاته، وفي أقواله وفي مشاعره، وفي أحكامه على تصرفات الناس. بل تبدو الرحمة أيضًا في ملامح وجهه... الخير هو اقتناع داخلي بحياة القداسة، مع إرادة مثابرة على عمل الخير وتنفيذه. هو حب صادق للفضيلة، تعبر عنه حياة فاضلة..
والذي يحب الخير، يسعد بأن جميع الناس يعملون الخير، بدون غيره من أحد. فالذي يغار يدل على أن فيه شيء من الذاتية. أما محب الخير، فإنه يفرح حتى لو رأى أن جميع الناس يفوقونه في عمل الخير.. ويكون بذلك سعيدًا. المهم عنده أن يرى الخير، وليس المهم أن يتم الخير بواسطته أو بواسطة غيره، بعيدًا عن كل مشاعر الحسد...
والإنسان الخيرّ يقيم تناسقًا في حياته بين فضائله. فلا تكون واحده على حساب الأخرى! خدمته مثلًا للمجتمع، لا تطغى على اهتمامه بأسرته. ونشاطه لا يطغى على أمانته لعمله. كما أن أمانته تجاه كل مسئولياته لا تعطل شيئًا من صلاته وعبادته...
وهو يدرك أن الفضيلة التي تفقده فضيلة أخرى، ليست هي فضيلة كاملة أو خيرّة. لأن الفضائل تتعاون معًا، ويتداخل بعضها في البعض...
فهكذا نتعلم من الله نفسه تبارك اسمه: فعدل الله مثلًا لا يمكن أن يتعارض مع رحمته، بل ولا ينفصل عنها. عدل الله عدل رحيم. ورحمته رحمة عادلة. عدل الله مملوء رحمة. ورحمة الله مملوءة عدلًا. ولا نستطيع أن نفصل بينهما. وعندما نقول عدل الله ورحمة الله، فلسنا من جهة الفصل بينهما نتكلم، إنما من جهة التفاصيل، لكي نفهم...
ليس هو سلبية تهدف إلى البعد عن الشر، إنما هو إيجابية في عمل الصلاح ومحبته. فالإنسان الخيرّ ليس هو فقط الذي لا يؤذى غيره، بل هو بالحري الذي يبذل ذاته عن غيره. ليس هو فقط من لا يرتكب خطيئة، بل هو الذي يعمل برًا.
والإنسان الخيرّ هو الذي يصنع الخير مع الجميع.
حتى مع الذين يختلفون معه في الجنس أو اللون أو اللغة أو المذهب أو العقيدة.
إنه كالينبوع الصافي يشرب منه الكل. وكالشجرة الوارفة يستظل تحتها الكل. إن الينبوع والشجرة لا يسألان أحدًا: ما هو جنسك؟ أو ما هو لونك؟ أو ما هو مذهبك. وهكذا الخير يعطى دون أن يتفرس في وجه من يعطيه. ويحب دون أن يحلل دم من يحبه..
والإنسان الخيرّ يعمل باستمرار على توسيع طاقاته في عمل الخير...
ولا يرضى على الخير الذي يعمله من أجل اتجاهه نحو خير أكبر. وفي اشتياقه إلى اللامحدود، يشعر أن هناك آفاقًا في الخير أبعد بكثير مما يفهمه حاليًا.. ويقينًا أننا عندما ندخل إلى عالم الروح في الأبدية، سننظر إلى ما عملناه من خير في العالم، فنذوب خجلًا ونتوارى في حياء!
على أن كل ما نعمله من خير، إنما هو نتيجة لعمل نعمة الله فينا،
أو هي نتيجة لتسليم أنفسنا إلى عمل نعمة الله. لذلك فالإنسان يبعد عن الخير، عندما يعلن انفصاله عن نعمة الله. أي عندما يرفض أن تقود النعمة حياته، وتبدأ إرادته البشرية أن تعمل منفردة!!
حياة الخير إذن، هي حياة تسليم الإرادة لله، أي حينما يسلّم الإنسان لله كل فكره وكل مشاعره وكل عمله. ولعل هذا الإنسان حينما يقف في يوم الدينونة أمام الله، يقول في دالة الحب لله: على أي شيء سوف أدان يا رب؟ وأنا من ذاتي لم أعمل شيئًا! وإنما حياتي كلها كانت بين يديك. وكل شيء بك كان. وبغيرك لم تكن شيء مما كان!!
فهل أعمالك أيها القارئ العزيز هي كذلك؟ أي هي مجرد عمل النعمة فيك. أم هي أعمال بشرية بحتة، قابلة للزلل وللخطأ والسقوط؟!
واعلم أن الخير كالماء، الذي هو دائمًا يمشى ولا يقف...
فإن وقف أصابه الركود... لذلك فإن الخير، باستمرار يمتد إلى قدام، يتحرك نحو الله ونحو الناس. فهو لا ينتظر حتى يجئ الناس إليه، يخطبون ودّه، بل هو الذي يتحرك اليهم دون أن يطلبوه. ولذلك -فلأنه الخير- فيه دائمًا عنصر المبادرة...
وعمل الخير، على الدوام فيه لذة.
حتى إن كان أحيانًا مملوءًا من الآلام. فآلامه حلوة المذاق، تريح القلب وتريح الضمير... فالذي ينقذ غريقًا يشعر بلذة في إنقاذه. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). والتي ترضع طفلها، تشعر بلذة في إرضاعه. والذي يحسن إلى فقير، يشعر بسعادة فيما يسعده. والذي يضحى في سبيل وطنه، يجد كل المتعة والفخر في تضحيته...
والخير لا يشترك إطلاقًا مع الشر. لأنه أية شركة بين النور والظلمة؟! لذلك نحن لا نوافق إطلاقًا على المبدأ المكيافيللي Machiavelli القائل بأن الغاية تبرر الواسطة the end justifies the means. أي أن الغاية الخيرة يمكن أن تكون تبريرًا للوسيلة الخاطئة! فوسيلة الخير ينبغي أن تكون خيرًا مثله. والخير لا يقبل أية وسيلة شريرة توصل إليه. إذ كيف يجتمع الضدان معًا؟!
فالذي يلجأ إلى الكذب لكي ينقذ إنسانًا، والذي يلجأ إلى القسوة والعنف لكي ينشر بهما الحق أو ما يظنه حقًا.. والذي يلجأ إلى الرشوة لكي يحقق لنفسه خيرًا. والذي يلجأ إلى الإجهاض لكي يستر سمعة فتاة... كل أولئك قد استخدموا وسائل شريرة، لكي يصلوا بها إلى الخير، أو إلى ما يظنونه خيرًا!
ولعل البعض يسأل: ماذا نفعل إذا كنا مضطرين إلى هذه الوسائل؟
نجيب بأن هذه كلها وسائل سهلة وسريعة، يلجأ اليها الإنسان بطريقة تلقائية، دون أن يحاول بذل مجهود للوصول إلى الخير، ودون أن يبذل تضحية، ودون أن يتعب أو يحتمل...
فالكذب مثلًا حلّ سريع وسهل. أما الإنسان الحكيم الخيرّ، فإنه يفكر ويجتهد ذهنه بعيدًا عن هذه الوسيلة. ويقينًا انه سيصل إلى وسيلة أخرى تريح ضميره. كذلك العنف والقسوة، كل منها حلّ سهل يلجأ إليه إنسان لا يريد أن يتعب في الوصول إلى حل آخر يكون وديعًا ولطيفًا...
إن الخير يريدك أن تتعب من أجله، ولا تلجأ إلى الحلول السهلة السريعة ولكنها خاطئة...
وبقدر تعبك من أجل الخير، تكون مكافأتك عند الله.. وبهذا المقياس تُقاس خيريتك. إن الحل السهل يستطيعه كل إنسان. أما الذي يكد ويتعب للوصول إلى تصرف سليم، فإنه يدل على سلامة ضميره وحبه للخير. عليك إذن أن تفحص الوسائل التي تستخدمها للوصول إلى الخير، وتتأكد أنها وسائل خيرّة.
إن الشيطان حينما يفشل في إقناعك بطريق الشر، ويجدك مصرًا على الخير. فإذ يفشل في السيطرة على الهدف أو نوع العمل، قد يقنع بالسيطرة على الوسيلة، فيقدم لك خططًا للوصول... فاحذر إذن، ولا تجعله يكسب أية جولة في صراعه معك.
أخيرًا، اطلب من الله أن تكون نتائج عملك خيرًا أيضًا:
لاشك أنك قد لا تستطيع أن تتحكم في النتائج. وقد تتدخل في الأمر عوامل شريرة خارجة عن إرادتك، محاولة أن تفسد نتائج مجهوداتك الخيرّة... إنك كما تجاهد بكل قوتك أن تعمل خيرًا، فإن الشيطان -من جهته- يعمل بكل قوته لكيما يعرقل عملك. ولكن لا تيأس، فإن الله يتدخل لإعانتك.
لهذا قلت لك إن العمل الخير تكون نتائجه -بقدر الإمكان- خيرًا.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/jn932cp