إن الإنسان الضيق القلب يتأثر بسرعة، ويتضايق بسرعة، ويندفع في الانتقام لنفسه. أما صاحب القلب الكبير، فإنه واسع الصدر، يحتضن في داخله جميع المسيئين مع إساءاتهم. فلا تتعبه أخطاء الغير، ولا يقابل الإساءة بالإساءة. إنما تذوب جميع الإساءات في خضم محبته، وفي لجة احتماله...
القلب الكبير أقوى من الشر. فالخير الذي فيه أقوى من الشر الذي يحاربه. فهو دائم الحب -مهما حدث- ودائم السلام يشبه الصخرة التي تلطمها الرياح وهى ثابتة لا تتزعزع. ويرى أن الخطاة عبارة عن أشخاص ضعفاء قد غلبهم الشر الذي يحاربهم. فهم يحتاجون إلى من يأخذ بأيديهم، وينقذهم مما هم فيه...
فهو يعلم علم اليقين أن المسيء، إنما يسئ إلى نفسه قبل أن يسئ إلى غيره. وإذ هو يسئ إلى مستواه الروحي، وإلى نقاوة قلبه، وإلى سمعته، وإلى مصيره الأبدي. وفي نفس الوقت لا يستطيع أن يضر غيره ضررًا حقيقيًا... فالذي يشتم غيره مثلًا، إنما يعلن نوع أخلاقياته هو، دون أن يضر المشتوم في شيء. ويبقى المشتوم في مستواه العالي، لا تقلل الشتيمة من جوهر معدنه الكريم. بل تدل على خطأ مقترفها. والذي أصابته الإهانة -فإن كان قلبه كبيرًا- نراه لا يتأثر. بل يأخذ موقف المتفرج وليس موقف المنفعل..! وفي أعماق نفسه يشفق على المخطئ!
وهنا تتضح أمامنا درجات روحية في مواجهة الإساءة: وهى احتمال الإساءة، ومغفرة الإساءة، ونسيان الإساءة، والعطف على المسيء وإنقاذه مما هو فيه، كما يشفق الطبيب على مريض ويعمل على علاجه مهما ساءت حالته.. ففي أية درجة من هذه الدرجات، تضع نفسك أيها القارئ العزيز؟.
كل إنسان يستطيع أن يحب من يحبه، ويحترم من يحترمه، ويكرم من يكرمه. كل هذا سهل لا يحتاج إلى مجهود. ولكن نبيل هو الإنسان الذي يقابل الإساءة بالإحسان. ويحب المسيء لكي ينقذه من طباعه الميالة إلى الإساءة.
هنا -بدون شك- تكون المحبة بلا مقابل. أي أن هذا الإنسان النبيل لم يأخذ محبة في مقابل محبته. وإذ لم يأخذ أجرًا على الأرض، يكون أجره محفوظًا في السماء..
إن القلب الكبير ليس تاجرًا، يعطى حبًا لمن يقدّم له حبًا! أو يعمل خيرًا مع الذي ينقذه شكرًا!! بل هو يصنع الخير مع الكل، بلا مقابل. إنه يعمل الخير، لأن هذه هي طبيعته. فهو يعمل الخير مع من يستحقه، ومع الذي لا يستحقه أيضًا، مع المحب ومع المسيء، مع الصديق ومع العدو... مثل الشمس التي تشرق على الأبرار والأشرار، ومثل السماء التي تمطر على الصالحين والطالحين.. وهذا أيضًا درس نتعلمه من الله تبارك اسمه، الذي يحسن إلينا ونحن خطاة نكسر وصاياه!
وهكذا نرى أن القلب الكبير لا يعامل الناس كما يعاملونه. وإنما يعاملهم حب سموه وحب نبل. وهو لا يتغير في سموه وفي نبله طبقًا لتصرفات الناس حياله. فهو لا يرد على الإساءة بإساءة. لأنه لا يقبل أن تصدر عنه إساءة نحو أحد، حتى لو كان ذلك في مجال الرد عليه..
أما ضعاف القلوب، فإنهم يتأثرون بتصرفات الناس، ويتغيرون تبعًا لها...
كذلك فإن القلب الكبير يعيش على الدوام في سلام داخلي، يملك عليه الهدوء. وكل ضيقات العالم لا تزعجه. إنه يستمد سلامه من داخل نفسه، وليس من الظروف المحيطة به...
حقًا، إنه ليس من صالح الإنسان أن يجعل سلامه يتوقف على أسباب خارجية: إن اضطربت الأحوال، يضطرب معها، وإن هدأت يهدأ. فسبب خارجي يجعله يثور، وسبب آخر يجعله يفرح! سبب يبكيه وسبب يبهجه. ويكون في هذا كما قال الشاعر:
كريشة في مهب الريح طائرة لا تستقر على حالٍ من القلقِ
إن صاحب القلب الكبير يجعل الظروف الخارجية تخضع لمشاعره ولقوة صلابته، ولحسن تحكمه في انفعالاته. ولا يخضع هو لها...
إن حدث حادث معين، يتناوله في هدوء. يفحصه بفكر مستقر، ويبحث عن حلّ له. كل ذلك وهو متمالك لأعصابه، متحكم في انفعالاته. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). وبهذا ينتصر، ويكون أقوى من الأحداث، ويحتفظ بسلامه الداخلي... ذلك لأن قلبه أقوى من الظروف، وأكبر من الأحداث.
لذلك أيها القارئ العزيز، ليكن قلبك كبيرًا، وصدرك رحبًا. وقل لنفسك في ثقة: لا يليق بي أن أضعف، أو أن تنهار معنوياتي أمام الأخبار المثيرة، أو أمام الضغطات الخارجية، مهما حدث. سأحاول أني لا أنفعل. وإن انفعلت، سأحاول أن أسيطر على انفعالاتي... وبنعمة الله سوف أصمد إلى أن تمر العاصفة...
لا تفكر في الضيقة التي أصابتك، ولا في أضرارها ومتاعبها. بل فكّر في إيجاد حلّ لها. إن كثرة التفكير في الضيقة هي التي تحطم الأعصاب وتتعب النفس. وأحيانًا يكون التفكير في الضيقة أشد إيلامًا من الضيقة ذاتها. أما التفكير في الحل فهو الذي يُوجد سلامًا...
ضع في نفسك أن كل ضيقة لها حلّ، ولها مدى زمني تنتهي فيه. فإن وصلت إلى حلّ سوف تستريح. وإن لم تصل، ثق بروح الإيمان إن الله عنده حلول كثيرة، وإنه سوف يعينك ويحل إشكالاتك... وتذكّر ضيقات سابقة قد حلّها الله ومرت بسلام... واحذر من أن يوقعك الشيطان في اليأس، وأن يصّور لك الأمر معقدًا لا حل له. فإن الإنسان المؤمن لا ييأس. والذي يستسلم لليأس قد يتصرف تصرفًا خاطئًا ربما يكون أكثر ضررًا من المشكلة نفسها...
إن القلب الكبير لا يستسلم للضيقات. بل قد لا يشعر بالضيقة، لأنها لم تضايقه. وأتذكر أنني قلت من قبل إن الضيقة سُميت ضيقة، لأن القلب قد ضاق عن أن يتسع لها. ولو كان القلب متسعًا، ما شعر أنها ضيقة، وما تضايق منها. الضيق إذن في قلوبنا وليس في العوامل الخارجية: فإن تعكرنا نحن من الداخل، تبدو أمامنا كل الأمور متعكرة. وإن تعبنا في الداخل، تبدو الأمور متعبة! أليس حقًا أن أمرًا من الأمور قد يضايق إنسانًا ما، وفى نفس الوقت لا يتضايق منه إنسان آخر، وهو نفس الأمر؟!
ليس المهم إذن في نوع الأحداث التي تحدث لنا، بل المهم بالأكثر هو الطريقة التي نتقبل بها الأحداث ونتصرف معها...
القلب الكبير يصمد في قوة أمام الإشكالات فيزداد قوة. أما الضعيف فينهار أمامها ويزداد ضعفًا. والإشكالات هي نفس الإشكالات! فإن أحاطت بك المتاعب من الخارج، احرص إنها لا تدخل مطلقًا إلى داخل نفسك. فالمياه تحيط بالسفينة من الخارج فلا تؤذيها. أما إن زحفت إلى داخل السفينة بسبب ثقب فيها، حينئذ يكون الخطر! فاحذر جدًا من أن يوجد ثقب في نفسيتك، تدخل منه المياه إلى قلبك، فيتعب..
واعلم أن جميع التجارب والضيقات والمشاكل تؤول إلى الخير، إذا أمكننا الاستفادة منها.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/dks64t8