ما هو الخير؟ وما هي مقاييسه؟
لكي نحكم على أي عمل بأنه خير، ينبغي أن يكون هذا العمل خيرًا في ذاته، وخيرًا في وسيلته، وخيرًا في هدفه. وبقدر الإمكان يكون أيضًا خيرًا في نتيجته...
فما معنى أن يكون العمل خيرًا في ذاته؟ إننا نطرح هذا السؤال لأن كثيرين -بنية طيبة- قد يعملون أعمالًا يظنونها خيرًا، وهى على عكس ذلك ربما تكون شرًا خالصًا!
مثال ذلك الذي يقتل ابنته التي أخطأت، بحجة أنه يريد أن يغسل شرف الأسرة ويمحو عارها! وفى نفس الوقت يكون قد حرم ابنته من الحياة، وحرمها من إعطائها فرصة للتوبة... ومثله من يقسو على ابنته قسوة تجعلها تطلب الحنان من مصدر آخر ربما يقودها إلى الانحراف. وقد يظن هذا الأب أنه في شدته وقسوته يكون حازمًا في تربيته وحريصًا على عفة ابنته بينما أسلوبه الخاطئ يؤدى إلى عكس ما يطلب...
إن الناس يختلفون فيما بينهم في معنى الخير وفي الحكم على الأعمال. وقد يعمل أحدهم عملًا فيعجب به البعض ويمتدحونه، بينما يتضايق غيرهم من نفس هذا العمل. ويتجادل الفريقان، وكل منهما يؤيد وجهة نظره بأدلة وبراهين. ويبقى الحق حائرًا بين هؤلاء وأولئك! ولعلنا نلاحظ هذا الصراع في تصرفات الأحزاب السياسية، وفي النظرة إلى أمور عديدة تتعلق بالفن وبأنواع من الملاهي والترفيهات...
لذلك -من أجل التأكد من خيرية العمل- علي كل إنسان أن يتروي ويتمهل في حكمه علي الأمور... ومن أجل هذا أيضًا أوجد الله المشيرين وذوي الخبرة والفهم كإدلاء في طريق الحياة يشرحون أين هو اتجاه الغير.
ولكن يشترط في المرشد أن يكون حكيمًا دارسًا وصافيًا في روحه وعميقًا قي فهمه، لئلا يضل غيره من حيث لا يدري ولا يقصد. ولئلا ينطبق حينئذ المثل القائل "أعمي يقود أعمي، كلاهما يسقطان في حفرة"... كذلك فإن من يسترشد، عليه أن يدقق في اختيار من يرشده، ولا يجري وراء كل نصيحة مهما كان قائلها، بل يتبع الحق.
علي أن سؤالك قد يقف أمامنا، وهو: هل الضمير هو الحكم في معرفة الخير؟ وهل نتبعه بلا نقاش؟
أجيب وأقول: يجب علي الإنسان أن يطيع ضميره، ولكن يُشترط أن يكون ضميره صالحًا، فهناك ضمائر تحتاج إلى هداية، وضمائر قد شوهها مرشدون مضلون، وضمائر لا تسندها عقول فهيمة حكيمة. ولنعلم أن الضمير يستنير بالمعرفة: بالوعظ والتعليم والقراءة والنصح. وما أكثر ما يعمل البعض عملًا بضمير مستريح، ثم يتضح أنه كان عملًا خاطئًا!
إن الإنسان الصالح ينمو يومًا بعد يوم في معرفته الروحية، وبهذا النمو يستنير ضميره أكثر، فيعرف ما لم يكن يعرف، ويدرك أعماق من الخير لم يكن يدركها قبلًا. وربما فضائله السابقة التي كان يفتخر بها، تتضح كأنها لا شيء في ضوء نموه...
الخير أيضًا يرتبط بنسيانه، إذ ننسي الخير الذي عملناه، من فرط انشغالنا بالسعي وراء خير آخر أعظم منه وأكبر. كما أننا نري أن الخير الذي تم، لم نعمله نحن، وإنما عمله الله بواسطتنا. وكان يمكن أن يعمله بواسطة غيرنا، غير أنه من محبة الله لنا، أنه أعطانا الفرصة أن نعمل، وفي الواقع أن نعمته هي التي كانت تعمل بنا...
وعمومًا فالخير هو أن يرتفع الإنسان فوق مستوي ذاته ولذاته، وأن يطلب الحق أينما وُجد، ويثبت فيه ويحتمل من أجله. والخير لا يتجزأ ولا يتناقض. فلا يكون إنسان خيّرًا وغير خيّر في وقت واحد.
والإنسان الخيّر ليس هو الذي تزيد حسناته علي سيئاته. فربما سيئة واحدة تتلف نقاوته وتضيّعه! إن نقطة حبر واحدة كافية لأن تعكر كوبًا مملوءًا من ماء نقي صافٍ. وميكروبًا واحدًا كافٍ لأن يلقي شخصًا علي فراش المرض. فليس هو محتاجًا إلي مجموعات متعددة من الجراثيم لكي يُحسب مريضًا. وبنفس المنطق، فإن خطيئة واحدة تضيع نقاوة الإنسان.
وهكذا فإن الإنسان الشرير ليس هو الذي يرتكب كل أنواع الشرور، إنما بواسطة شر واحد لا يصبح إنسانًا خيّرًا مهما كانت له فضائل، ولكن يفسد قيمتها هذا الشر الواحد..
فإن أردت أن تكون خيّرًا، سر في طريق الخير كله. ولا تترك في نفسك شائبة واحده تعكر نقاء قلبك. ولا تظن أنك تستطيع أن تغطي رذيلة بفضيلة، أو أنك تعوّض سقوطك في خطيئة معينة، بنجاحك في زاوية أخري من زوايا الخير. بل في المكان الذي هزمك الشيطان فيه، يجب أن تنتصر... علي نفس الخطيئة ونفس نقطة الضعف. ونحن مطالبون إذن بأن نسير في طريق الكمال النسبي المتاح لنا كبشر، لأن النقص ليس خيرًا.
والخير ليس هو فقط أن نعمل الخير، بل بالأحرى أن نحب الخير الذي نفعله. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). فقد يوجد إنسان يفعل الخير دون أن يريده. أو أن يعمل الخير بدافع الخوف، أو بدافع الرياء لكي ينظره الناس ويكتسب مديحًا. أو لكي يهرب من انتقاد الآخرين. وقد يوجد من يفعل الخير وهو متذمر ومتضايق: كمن يقول الصدق ونفسيته مُتعبه، وكان يود لو يكذب وينجو. وكمن يتصدق علي فقير وهو ساخط ويود ألا يدفع.. فهل نسمي كل ذلك خيرًا؟!
وقد يوجد من يفعل الخير لمجرد إطاعة وصية الله، دون أن يصل قلبه إلى محبة تلك الوصية. مثل الذي لا يرتكب الزنا والفحشاء لمجرد وصية الله التي تقول: لا تزنِ، دون أن تكون في قلبه محبة العفة والطهر. وفي ذلك فال القديس جيروم: "يوجد أشخاص عفيفون بأجسادهم فقط، بينما نفوسهم زانية"! أمثال هؤلاء اهتموا بالخير في شكلياته وليس في روحه. والخير ليس مجرد شكليات، وليس لونًا من المظاهر الزائفة.
من أجل هذا -لكي نحكم علي العمل بأنه خير- يجب أولًا أن نفحص دوافعه وأسبابه وأهدافه.
فقد يوبخك اثنان: أحداهما بدافع الحب، والآخر بدافع الإهانة. ويكون عمل أحداهما خيرًا، والآخر شرًا...
وقد يشترك اثنان في تنظيم سياسي وطني: أحداهما من أجل حب الوطن وخدمته، والثاني من أجل حب المناصب والظهور!
الخير إذن هو شهوة في القلب لعمل الصلاح، تعبر عن ذاتها وعن وجودها بعمل صالح. وليس هو مجرد روتين آلي للعمل الصالح.
ماذا إذن عن باقي الأمور الخاصة بالخير، وبخاصة في وسائله ونتائجه؟ أستسمحك أيها القارئ العزيز في أن نكمل هذا الموضوع في عدد مقبل.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/yybt44c