← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16 - 17
في عام 594 ق.م. كان لإرميا النبي مقابلة مع حننيا بن عزور أحد الأنبياء الكذبة، هذا الذي نسب لله كلامًا باطلًا حيث نادَى بأن نير ملك بابل ينكسر في خلال سنتين، وستُرد آنية بيت الرب ويرجع يكنيا الملك وكل المسبيين من يهوذا. كان يظن أنه بهذا يواسي الشعب ويرفع من روحه المعنوية، كما يكسب شعبية على حساب الحق الإلهي.
[1 -4]. |
||
[5 -9]. |
||
[10 -11]. |
||
[12 -14]. |
||
[15 -17]. |
||
من وحي إرميا 28 |
1 وَحَدَثَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ فِي ابْتِدَاءِ مُلْكِ صِدْقِيَّا مَلِكِ يَهُوذَا، فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةِ، فِي الشَّهْرِ الْخَامِسِ، أَنَّ حَنَنِيَّا بْنَ عَزُورَ النَّبِيَّ الَّذِي مِنْ جِبْعُونَ: كَلَّمَنِي فِي بَيْتِ الرَّبِّ أَمَامَ الْكَهَنَةِ وَكُلِّ الشَّعْبِ قَائِلًا:
2 «هكَذَا تَكَلَّمَ رَبُّ الْجُنُودِ إِلهُ إِسْرَائِيلَ قَائِلًا:
قَدْ كَسَرْتُ نِيرَ مَلِكِ بَابِلَ.
3 فِي سَنَتَيْنِ مِنَ الزَّمَانِ أَرُدُّ إِلَى هذَا الْمَوْضِعِ كُلَّ آنِيَةِ بَيْتِ الرَّبِّ الَّتِي أَخَذَهَا نَبُوخَذْنَاصَّرُ مَلِكُ بَابِلَ مِنْ هذَا الْمَوْضِعِ، وَذَهَبَ بِهَا إِلَى بَابِلَ.
4 وَأَرُدُّ إِلَى هذَا الْمَوْضِعِ يَكُنْيَا بْنَ يَهُويَاقِيمَ مَلِكَ يَهُوذَا وَكُلَّ سَبْيِ يَهُوذَا الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى بَابِلَ، يَقُولُ الرَّبُّ، لأَنِّي أَكْسِرُ نِيرَ مَلِكِ بَابِلَ». [1-4].
غالبًا ما كان اليهود يقسمون أية فترة إلى قسمين: البداية والنهاية، لهذا تُحسب السنة الرابعة من ملك صدقيا هنا بداية ملكه، لأنه ملك إحدى عشر سنة، فالسنة الرابعة تقع في النصف الأول أو بداية ملكه؛ خاصة وأن الثلاث سنوات الأولى كانت مملوءة اضطرابات، وكان الملك بلا سلطان أو قوة، خاضعًا للجزية.
تم هذا الحدث حوالي عام 3-594 ق.م. بعد حوار إرميا النبي مع رسل الملوك بمدة قصيرة(523). وكان إرميا لا يزال يضع النير على عنقه بأربطته حتى يذكّر الكل بما تنبأ عنه، الأمر الذي لم يحتمله الأنبياء الكذبة.
كان حننيا من جبعون إحدى مدن الكهنة (يش 8: 17) لذا يرى البعض أنه كان كاهنًا(524)، يجتمع بالكهنة والشعب في بيت الرب ليتحدث باسم الرب كذبًا في بنيامين. وهي مدينة تبعد حوالي خمسة أميال شمال غرب أورشليم تسمى حاليًا قرية "الجيب El-Jib ، قد وُجدت حفريات حديثة فيها تحمل ذكريات تاريخية هامة. خدع الجبعونيون الإسرائيليين في أيام يشوع (يش 9: 1-15)، وكانت جبعون مسرحًا للنزاع بين رجال شاول ورجال داود (2 صم 20: 12-17)؛ وفيها قتل يوآب عماسا (2 صم 20: 8-10). في جبعون حكم داود في نهاية أيامه، وحكم سليمان في بداية ملكه، وفيها نُصبت خيمة الاجتماع ومذبح النحاس. وقبل أن يُبنى الهيكل قدم سليمان هناك ذبائح، وهناك أخذ في الحلم رسالة الله (1 مل 3: 4-15؛ 1 أي 16: 39-40؛ 21: 29؛ 2 أي 1: 3، 6-3).
كلمة "حننيا" تعني "يهوه حنان" أو "واهب نعمة"، لكن حننيا أعلن حنان الله بطريقة خاطئة، حيث قاوم نبوات إرميا الصادقة.
يرى البعض أن ذكر حننيا "نير بابل" [2] أمام إرميا فيه نوع من السخرية، إذ كان لايزال يلبس النير.
إذ حلّ السبي لم يعد ممكنًا للأنبياء الكذبة إنكاره كما فعلوا قبلًا في مقاومتهم الأنبياء الحقيقيين ومن بينهم إرميا، لذلك نادي حننيا بأنه وإن كان قد تم السبي لكنه لن يستمر أكثر من عامين فقط. بتحديده الرقم حاول الإيحاء بتأكيد نبواته، إذ يتكلم كما بأرقام ثابتة ودقيقة كمن هو واثق من صدق رسالته. هذا بجانب استخدامه نفس تعبيرات إرميا النبي بقوله: "هكذا تكلم رب الجنود إله إسرائيل" [2]. بينما يتكلم بروح الكذب، إذا به يتستر باسم الرب وروح الحق.
يلاحظ في حديث حننيا أنه يعطي لآنية بيت الرب أولوية عن الملك وكل الشعب، وكأن ما يشغله بالأكثر هي الآنية الثمينة. حقًا لهذه الآنية قدسيتها حتى في عيني الله، لكنه يقدسها من أجل شعبه، فإن استهان الشعب بأن يكون مقدسًا كهيكل حيّ للرب، هل يهتم الله بالأواني؟! أنه يطلبنا نحن أولًا بكوننا الآنية الفخارية التي تحمله في داخلها، كنزنا السماوي!
5 فَكَلَّمَ إِرْمِيَا النَّبِيُّ حَنَنِيَّا النَّبِيَّ أَمَامَ الْكَهَنَةِ وَأَمَامَ كُلِّ الشَّعْبِ الْوَاقِفِينَ فِي بَيْتِ الرَّبِّ،
6 وَقَالَ إِرْمِيَا النَّبِيُّ: «آمِينَ. هكَذَا لِيَصْنَعِ الرَّبُّ. لِيُقِمِ الرَّبُّ كَلاَمَكَ الَّذِي تَنَبَّأْتَ بِهِ، فَيَرُدَّ آنِيَةَ بَيْتِ الرَّبِّ وَكُلَّ السَّبْيِ مِنْ بَابِلَ إِلَى هذَا الْمَوْضِعِ.
7 وَلكِنِ اسْمَعْ هذِهِ الْكَلِمَةَ الَّتِي أَتَكَلَّمُ أَنَا بِهَا فِي أُذُنَيْكَ وَفِي آذَانِ كُلِّ الشَّعْبِ.
8 إِنَّ الأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلِي وَقَبْلَكَ مُنْذُ الْقَدِيمِ وَتَنَبَّأُوا عَلَى أَرَاضٍ كَثِيرَةٍ وَعَلَى مَمَالِكَ عَظِيمَةٍ بِالْحَرْبِ وَالشَّرِّ وَالْوَبَإِ.
9 النَّبِيُّ الَّذِي تَنَبَّأَ بِالسَّلاَمِ، فَعِنْدَ حُصُولِ كَلِمَةِ النَّبِيِّ عُرِفَ ذلِكَ النَّبِيُّ أَنَّ الرَّبَّ قَدْ أَرْسَلَهُ حَقًّا». [5-9].
أغلب الظن أن جواب إرميا تهكمي فيه استخفاف بما ينطق به النبي الكاذب. مع أنه كان له بحق أن يضيف "آمين" إلى كلام حننيا، لأنه كان يحب شعبه والهيكل ويتمنى لهما الخير. إرميا النبي كمحبٍ لشعبه ورجل وطني كان يشتهي أن ما قاله حننيا يكون صادقًا، فعندما كان يقول: "آمين" يقصدها من كل قلبه، لكنه كان يدرك أنها نبوة كاذبة تناقض الحق الإلهي! لقد سبق فأعلن عن حبه لشعبه أمام الرب، قائلًا: "أما أنا فلم أعتزل عن أن أكون راعيًا وراءك ولا اشتهيت يوم البلية. أنت عرفت! ما خرج من شفتى كان مقابل وجهك" (إر 17: 16).
يرى البعض إنه بهذا أوضح إرميا النبي أن ما يتنبأ به هو (أي بقاء السبي سبعين عامًا) لا يحمل تحديًا للشعب ولا شماتة، لأنه يشتهي سلام شعبه وحريته. أنه يشفع فيهم لسلامهم.
لم يكن ممكنًا للشعب أن يميز بين النبيين أيهما صادق وأيهما كاذب، فقد تنبأ الاثنان باسم الرب.
قدم إرميا برهانين على صدق نبوته:
أولًا: اعتمد على كلمات الأنبياء السابقين له، موضحًا أن ما قاله حننيا مناقض لنبواتهم. هؤلاء الأنبياء هم يوئيل وعاموس وهوشع وميخا وصفنيا وناحوم وحبقوق وغيرهم. هؤلاء جميعًا أعلنوا أن شرًا سيحل بالشعب الذي سلك في الفساد ولم يتب.
ثانيًا: أعلن أن الزمن وحده يكشف الحق من الباطل.
يرى إرميا النبي أن إسرائيل كشعبٍ خاصٍ منتسب لله يلزمه الطاعة والحياة المقدسة مع الشعور بالمسئولية والالتزام.
10 ثُمَّ أَخَذَ حَنَنِيَّا النَّبِيُّ النِّيرَ عَنْ عُنُقِ إِرْمِيَا النَّبِيِّ وَكَسَرَهُ.
11 وَتَكَلَّمَ حَنَنِيَّا أَمَامَ كُلِّ الشَّعْبِ قَائِلًا:
«هكَذَا قَالَ الرَّبُّ:
هكَذَا أَكْسِرُ نِيرَ نَبُوخَذْنَاصَّرَ مَلِكِ بَابِلَ فِي سَنَتَيْنِ مِنَ الزَّمَانِ عَنْ عُنُقِ كُلِّ الشُّعُوبِ».
وَانْطَلَقَ إِرْمِيَا النَّبِيُّ فِي سَبِيلِهِ. [10-11].
قاوم حننيا إرميا بالكلام كما بالعمل الرمزي (كسر النير الخشبي)، بهذا شجع الشعب على الثورة ضد إرميا كنبيٍ كاذبٍ، ودفعهم للعصيان والتمرد على الكلمات النبوية، ظانين أن يكنيا يعود حتمًا مع بقية المسبيين، ويسترد الهيكل آنيته قريبًا.
كان حننيا واثقًا في نفسه لكنه كان غاضبًا من كلمات إرميا، وقد عبر عن رأيه بكسر النير الخشبي الذي وضعه إرميا على عنقه (إر 27: 2). لا بُد أن حننيا قد جذب إليه بهذا العمل انتباه الناس جميعًا ورضاهم، هؤلاء الذين كانوا في حالة ثورة، خاصة وأن عامة الشعب يميلون إلى تصديق ما يريدون أن يسمعوه. وقف إرميا صامتًا وهو يعلم أن الكبرياء والتفاخر يجذبان الانتباه أكثر من تقديم الحقيقة القاسية المرّة. وقد صدق هذا في كثير من أحداث التاريخ.
لقد ظن حننيا أنه بحماسه الشخصي يغلب إرميا.
12 ثُمَّ صَارَ كَلاَمُ الرَّبِّ إِلَى إِرْمِيَا النَّبِيِّ، بَعْدَ مَا كَسَرَ حَنَنِيَّا النَّبِيُّ النِّيرَ عَنْ عُنُقِ إِرْمِيَا النَّبِيِّ، قَائِلًا:
13 «اذْهَبْ وَكَلِّمْ حَنَنِيَّا قَائِلًا:
هكَذَا قَالَ الرَّبُّ:
قَدْ كَسَرْتَ أَنْيَارَ الْخَشَبِ وَعَمِلْتَ عِوَضًا عَنْهَا أَنْيَارًا مِنْ حَدِيدٍ.
14 لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ إِلهُ إِسْرَائِيلَ: قَدْ جَعَلْتُ نِيرًا مِنْ حَدِيدٍ عَلَى عُنُقِ كُلِّ هؤُلاَءِ الشُّعُوبِ لِيَخْدِمُوا نَبُوخَذْنَاصَّرَ مَلِكَ بَابِلَ، فَيَخْدِمُونَهُ وَقَدْ أَعْطَيْتُهُ أَيْضًا حَيَوَانَ الْحَقْلِ». [12-14].
لم يجب إرميا النبي على تصرفات حننيا بسرعةٍ ربما لأنه قد ذُهل لموقفه إذ كسر النير الخشبي الموضوع على عنق إرميا كأن حننيا كان متأكدًا مما يقوله. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والتفاسير الأخرى). أو كعبدٍ للرب لم يرد أن يدخل مع النبي الكذاب في حوار وخصومة، بل في هدوء يسمع له، كنبي حقيقي لم يتصرف من ذاته، بل رفع الأمر إلى الله في غير تسرعٍ أو انفعالٍ بشري، حتى إذ جاءته الإجابة وقف في شجاعة يجيب حننيا بكلمات الرب نفسه.
لم يكن النبي الحقيقي حالمًا ولا رجل سياسة لكنه استلم الإجابة من يهوه مباشرة، وهي ذات الكلمة التي سبق فاستلمها. إن كان حننيا قد كسر النير الخشبي هوذا الله يقدم نيرًا حديديًا لا ينكسر، يضعه على عنق جميع الأمم.
الرد الذي جاء لإرميا أكثر حدة في النبرة عن ذي قبل. النير الحديدي يعني أن الله يعاقب يهوذا والدول المحيطة بها بعمل نيرٍ أقوى بسبب محاولتهم القيام بالثورة، وعدم الخضوع للتأديب الإلهي.
إن كانوا بالتمرد قد ألقوا عنهم النير الخشبي وكسروه لكنهم عوض التمتع بالراحة والحرية انحنوا لنير حديدي لا ينكسر!
يؤكد إرميا النبي أن الله يقيم نيرًا حديديًا ليس فقط على عنق يهوذا والأمم المحيطة بل وأيضًا على عنق حيوانات الحقل [14] أو الوحوش. إن كان الأنبياء الكذبة قد فقدوا عقولهم فصاروا كالحيوانات أو فقدوا لطفهم فصاروا كالوحوش فإنهم لن يفلتوا من التأديب الإلهي!
بينما يتنبأ حننيا كذبًا أنه خلال عامين تُرد أواني بيت الرب ويرجع الملك والشعب المسبي، إذا بإرميا يؤكد أنه في خلال سنة يعود نبوخذنصر ليستولي على بقية أواني بيت الرب ويسبي البقية، ولن يتم أي إصلاح إلا بعد سبعين عامًا من السبي. هذا ولم يعش حننيا عامين ليرى النصرة كما ظن إنما مات بعد شهرين وانحدر بكذبه إلى الهلاك.
15 فَقَالَ إِرْمِيَا النَّبِيُّ لِحَنَنِيَّا النَّبِيِّ: «اسْمَعْ يَا حَنَنِيَّا.
إِنَّ الرَّبَّ لَمْ يُرْسِلْكَ، وَأَنْتَ قَدْ جَعَلْتَ هذَا الشَّعْبَ يَتَّكِلُ عَلَى الْكَذِبِ.
16 لِذلِكَ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ:
هأَنَذَا طَارِدُكَ عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ.
هذِهِ السَّنَةَ تَمُوتُ، لأَنَّكَ تَكَلَّمْتَ بِعِصْيَانٍ عَلَى الرَّبِّ».
17 فَمَاتَ حَنَنِيَّا النَّبِيُّ فِي تِلْكَ السَّنَةِ فِي الشَّهْرِ السَّابعِ. [15-17].
أكد إرميا عمليًا أن الله لم يرسل حننيا ليتنبأ وسط شعبه إنما ها هو يرسله سريعًا إلى الموت مطرودًا حتى من وجه الأرض. أنه غير مستحقٍ لخدمة الكهنوت، ولا حتى لممارسة الحياة اليومية كإنسان، لأنه يقاوم الحق الإلهي باسم الله نفسه وبادعاءات كاذبة. وقد مات فعلًا بعد حوالي شهرين من الحوار، فثبت صدق نبوة إرميا، ولم يعد هناك عذر لمن سمع لحننيا.
عوض السبعين عامًا للسبي التي أعلنها إرميا النبي أكد حننيا أن السبي لن يبقى أكثر من عامين، ولم يدرِ أن حياته تُنزع عنه ليس بعد السبعين عامًا ولا بعد العامين وإنما بعد شهرين فقط. عوض انتظار الحرية بعد عامين فقد حننيا حياته خلال شهرين.
لعل الرسول بولس اقتدى بإرميا النبي، إذ قال لحنانيا رئيس الكهنة: "سيضربك الله أيها الحائط المبيض؛ أفأنت جالس تحكم عليَّ حسب الناموس، وأنت تأمر بضربي مخالفًا للناموس؟!" (أع 23: 3).
موت حننيا السريع [17] يظهر خطورة العصيان [17]، أوالتمرد على الإرادة الإلهية (تث 13: 5)، كما حدث مع فلطيا بن بنايا (حز 11: 13)، وحننيا وسفيرة (أع 5: 1-11).
كأنه قد أخطأ خطية للموت، لأنه أقام نفسه نبيًا كذبًا وضلل الكثيرين بكلماته المعسولة، خادعًا قلوب البسطاء، لقد انتحل اسم الرب باطلًا.
لماذا صدر الحكم: "هأنذا طاردك عن وجه الأرضّ؟" قال أحد آباء البرية: "من لا يصلح لموضع فالموضع نفسه يطرده". هكذا إذ صار حننيا مفسدًا على الأرض بسبب عصيانه لله ونسب النبوة إليه كذبًا، لم تحتمله الأرض بل أرادت أن تتقيأه... صار أشبه بطعامٍ فاسدٍ لا يستحق أن يبقى في المعدة، لأنه ضار. إنه يُطرد عن وجه الأرض، كأن الأرض لا تطيق أن تراه بوجهها بل تعطيه ظهرها.
إذ صدر هذا الحكم علينا نحن الخطاة، وحُسبنا مطرودين حتى من الأرض التي خُلقت لأجلنا، تعطينا ظهرها لا وجهها، جاء مسيحنا إلى أرضنا، وعاش بيننا، فتهللت الأرض بجبالها وتلالها ووديانها وأشجارها وكل حيواناتها مع الأنهار والبحار والمحيطات... إنها تسبح ابن الإنسان... تشتهي أن تعطيه وجهها، تخضع له وتطيعه بل وتتهلل بمجيئه. لقد قيل:
"تفرح البرية والأرض اليابسة، ويبتهج القفر... يبتهج ابتهاجًا ويرنم... هم يرون مجد الرب بهاء إلهنا" (إش 35: 1-2).
"الأنهار لتصفق بالأيادي، الجبال لترنم معًا" (مز 98: 8).
"نهر سواقيه تفرح مدينة الله مقدس مساكن الله" (مز 46: 4).
جاء ابن الإنسان إلى أرضنا ليقيم مصالحة بين إله السماء والأرض وبيننا، فيصير المؤمنون بركة للأرض، كما قيل للقديس أنبا أنطونيوس إنه بسبب أنبا بولا تَتَبَارَك أرض مصر ونيلها وزرعها. أينما وجد المؤمنون تتبارك الأرض والساكنون عليها... تعطينا الأرض وجهها إذ نشعر أن الأرض وملؤها للرب ولمسيحه... ومع فرحنا بتقديس الأرض نرتفع مع مسيحنا إلى سمواته حيث ننعم بالأرض الجديدة والسماء الجديدة (رؤ 21: 1). يرفع روحه القدوس قلوبنا إلى حضن الآب السماوي، فلا نصير مطرودين من وجه الأرض بل منطلقين إلى خالقنا ومقدسنا!
على أي الأحوال لم يمت حننيا في الحال بل خلال شهرين، وكأنه قد أُعطيت له فرصة كافية لمراجعة نفسه والتوبة حتى يستعد لملاقاة الديان الذي نسب إليه أقوالًا كاذبة.
*
يا له من مشهدٍ خطيرٍ:إرميا يحمل نيرًا وأربطة مؤكدًا السبي سبعين عامًا،
وحننيا يكسر النير مؤكدًا تحقق الحرية سريعًا!
إرميا يبدو متشائمًا يثبط الهمم،
وحننيا يبدو مواطنًا يرفع الروح المعنوية!
* حننيا يعلن عن ردّ آنية بيت الرب أولًا،
كأنها أهم من الملكِ والشعب!
أما إرميا وهي يئن من أجل بيت الرب وأثاثاته،
فمنشغل بالبيت الحيّ،
بشعب الله الذي أسرته الخطية،
واستعبده عدو الخير!
* هب لقلبي أن ينصت لإرميا في داخلي،
فأحمل نيرك الخشبي يا مخلصي المصلوب!
لأقبل صليبك الذي يحملني إليك،
فأجدك تحتضني وسط الآلام!
لا ترفع آلامي بل تحولها إلى عذوبةٍ ومجدٍ فائقٍ!
* ليمت حننيا فلا تكون له حياة فيّ!
لا أريد كلماته الناعمة!
لا أطلب حكمته البشرية وخداعه!
لا أطلب حرية شكلية وترفًا زمنيًا!
لئلا يتحول نيري الخشبي إلى نيرٍ حديدي،
أهلك مع ذاك المنحدر إلى الهاوية!
* لتتكلم أنت يا رب في!
تكلم أيها المصلوب!
فإنني أشتهي أن أشاركك آلامك،
فتحملني آلامك إلى خبرة مجد قيامتك!
لأنتصر بك أيها الغالب،
ولا أقبل كلمات العدو المخادعة الناعمة!
_____
(523) New Jerome Biblical Comm., p. 287.
(524) keil, p. 405.
← تفاسير أصحاحات إرمياء: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | 51 | 52
الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح
تفسير إرميا 29 |
قسم
تفاسير العهد القديم القمص تادرس يعقوب ملطي (اقرأ إصحاح 28 من سفر إرميا) |
تفسير إرميا 27 |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/h8h3w7n