في تقسيم قداسة البابا أثناسيوس الرسولي للأسفار (في الرسالة الفصحية 39)(1)، يبدو أنه كما عرض العهد الجديد من وجهة النظر المسيحية، عرض العهد القديم من وجهة النظر اليهودية (حيث أن اليهود يقبلون الأسفار التي جمعها عزرا الكاهن، وليس أسفار أخرى). والسائِل يقصد ذِكر باروخ من ضمن المجموعة الأولى المذكورة في الرسالة، في حين أن باقي الأسفار القانونية الثانية ذُكِرَت أيضًا في الرسالة (ومعها سفر أستير)، وبتبجيل كبير كما سنوضح.
وقد تعرَّضنا لموضوع قانونية الأسفار القانونية الثانية في الموقع هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في القسم الخاص بذلك، مع مقدمات في تفاسير كل سفر من الأسفار القانونية الثانية.
وحين عرض البابا الأسفار الغير مُقنَّنة ولكن ينبغي قراءتها، مثل طوبيا ويهوديت وخلافه، وضع من ضمنها سفر أستير، ولم يضع على سبيل المثال سفري المكابيين بالاسم.
فمن ناحية التسميات، فقد مرَّت تسميات وتقسيمات الأسفار بِعِدَّة مراحل، فتجده مثلًا لا يذكر سفر نحميا من الأساس، بل يذكره باسم "عزرا الثاني"(10)، ويذكر أربعة كتب للملوك (ويقصد الملوك الأول والثاني، وصموئيل الأول والثاني).. وسفرا المكابيين كانا أحيانًا يُضمَّا إلى الأسفار التاريخية كسفر واحد، أو كجزء من جملة الأسفار التاريخية وهكذا.
ومع ذِكره لسفر باروخ ذكر أيضًا "الرسالة"، وهي الأصحاح السادس في السفر، مما يوضح اختلاف التسميات والترقيمات كما قلنا.
وفي حين ظهر من الكلام نوعًا من التفرقة بين تلك الأسفار، إلا أننا إذا نظرنا بِتَفَحُّص لباقي كِتابات البابا أثناسيوس، سنجده يضع هذه الأسفار في نفس مرتبة الأسفار المقدسة المُوحَى بها، مما يوضح أن التفرقة هي تفرقة لها غرض معين، أو لها علاقة بتقسيم يهودي أو تسميات وخلافه.. وليس كنص كِتابي.
كما أنه وضع هذه الأسفار ضمن الأسفار التي "تَقَرَّرَت بواسطة آبائنا، لكي يقرأها الذين ينضمون حديثًا للإيمان، ويريدون أن يتعلَّموا كلمة التقوى الإلهية instruction in the word of godliness" حسب النص المذكور في الرسالة. ولاحظ كذلك طريقة تَفْرِقَة البابا في الحديث عن الأسفار المرفوضة الأخرى apocryphal writings (الأبوكريفا الهرطوقية)، عنه في تلك الحالة، لدرجة أنه يطلب من حديثي الإيمان قراءتها والتعلم منها. فكيف يطلب من الموعوظين (المؤمنين الجدد) التعلم الديني على غير ما هو ديني أو مرفوض أو غير سليم عقائديًّا؟! حيث أن هذه مرحلة تتطلَّب فِكرًا سليمًا لأنها فترة مهمة جدًا للمؤمن الجديد.
هناك نقطة أخرى كذلك في عَرْض قداسة البابا للأسفار القانونية الثانية، فقد قال: "لكي أجعلكم أكثر تَيَقُّنًا (طمأنينة)، سأضيف لما قلته هذه الكلمة الضرورية الأخرى"(5).. فهو أمر ضروري للتيقن أو لاستكمال الموضوع.
ولاحظ أيضًا كيف يتحدَّث عن التقوى الإلهية godliness في الأسفار المقدسة، وكذلك يستخدم نفس المصطلح بالضبط عند كلامه عن الأسفار القانونية الثانية.
وفي الرسالة إلى الوثنيين كتب البابا أثناسيوس(6): "على أن هذه وأمثالها من اختراعات العبادة الوثنية الجنونية سبق أن حدثنا عنها الكتاب المقدس منذ زمن طويل حين قال: (لأَنَّ اخْتِرَاعَ الأَصْنَامِ هُوَ أَصْلُ الْفِسْقِ، وَوِجْدَانَهَا فَسَادُ الْحَيَاةِ"(7).. والنص الكتابي الذي يستشهد به هنا القديس أثناسيوس هو من الأسفار القانونية الثانية، بل وقد استشهد بحوالي ثلث الأصحاح (حك 14: 12-21) في ذلك الجزء. وهو يقول صراحة أن هذا من الكتاب المقدس Scripture.
وقد أكَّد الباحِث ج. ليمنز J. Leemans كذلك على أنه لا فرق بين استخدام القديس أثناسيوس لنصوص كل الأسفار بما فيها الأسفار القانونية الثانية كنص مقدس كتابي(9).
سيراخ: وعلى سبيل المثال ستجد البابا أثناسيوس يستشهد بسفر يشوع ابن سيراخ كوحي إلهي (وهو من القائمة الثانية التي ذكرها) في دفاعه ضد الأريوسية(2) (في نهاية الفصل الأخير Documents connected with the Council of Tyre).
أستير: في الرسالة العاشرة للبابا أثناسيوس عن حياته استشهد بسفر أستير وقصته(3). كذلك في رسالة فصحية أخرى استشهد بسفري أستير ويهوديت(4).
تتمة سفر دانيال: ذكر قداسة البابا في رسالته إلى مارسللینوس عن معنى المزامير قصة سوسنة العفيفة، وقال صراحة أنها في سفر دانيال(11). كما ذكر كيف أن دانيال هو الذي أنقذ سوسنة بروح الله، وهي من تتمة سفر دانيال كذلك، وذلك في الرسالة الأولى عن الروح القدس للأسقف سرابيون(12). وذكر القديس ترنيمة الثلاثة فتية وسط الأتون من (تتمة دا 3: 86)(13)، وآيات أخرى منها في الرسالة الثانية(16).
المكابيين: وقد مدح قداسته استشهاد وسفك دم المكابيين وسط تأملاته في المزامير(8). كما ذُكِر أنه استشهد بسفري المكابيين كثيرًا في تفسيره لسفر دانيال(؟).
باروخ: في الرسالة الأولى عن الروح القدس للأسقف سرابيون(14)، ذكر القديس صلاة باروخ (با 3: 1)، وآيات أخرى من سفر باروخ في نفس الرسالة كذلك، مثل: (با 3: 10، 12)(15).
حكمة سليمان: في الرسالة الثالثة عن الروح القدس للأسقف سرابيون استشهد بسفر الحكمة (حكمة 1: 7)(17).
أسفار أخرى: ولقداسته عشرات الاستشهادات الأخرى في كِتاباته المنشورة هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت بالإنجليزية في مجموعة آباء نيقية وما بعد نيقية من الأسفار القانونية الثانية الأخرى مثل طوبيا، يهوديت، سيراخ..
وربما نقوم لاحقًا بإعداد قائمة بالاستشهادات بالأسفار القانونية الثانية من الآباء القُدامى المُعتبرين، ووضعها بالشواهد والمراجع في مقال منفصل لتفيد الباحثين.
والخلاصة أن كل الأسفار موحَى بها من الله، وكلها في مرتبة واحدة، وتسمية أو وضع سفر في ترتيب معين لا يقلل من شأن السفر ولا من شأن الكاتِب الذي يعرض كلامه بغرض معين، وبصيغة عصره حسبما يراه مناسبًا. ويتضِح إيمانه بهذا وذاك من استشهاداته الكثيرة بهذه الأسفار وغيرها. وأيضًا، فمع التقدير الكامل للقديس أثناسيوس حامي الإيمان -الذي لولاه لانحرف إيمان العالم كله- فإن أقوال الآباء هي في مرتبة أخرى بخلاف الوحي الإلهي، أي أنه لا ينبغي أن تضعها في مستوى معصوم من الخطأ أو السهو في الكتابة أو غيره. فإن كان الكتاب المقدس نفسه لا ينبغي أن تستقطع فيه جزء من آية وتقع في خطأ إن اعتمدت على آية واحدة فقط لإثبات عقيدة أو مفهوم ما، ويجب عليك أن تجمع كل الآيات التي تتحدث عن موضوع معين لتخرج منها بعقيدة سليمة. فما هو الحال في استقطاع فِكر معين من أقوال قديس، عن باقي أفكاره حول نفس الموضوع. وقد أوضحنا أن قداسة البابا كان مؤمنًا بجميع الأسفار إيمانًا واحدًا كوحي إلهي ونص كتابي مقدس، واستشهد بكثير منها بنفس المستوى والتقديس.
_____
(*) المصدر: من مقالات وأبحاث موقع الأنبا تكلاهيمانوت www.st-takla.org (م. غ.) - مراجعة لغوية: سامي فانوس.
(1) Letter XXXIX of Athanasius of Alexandria, Nicene and Post-Nicene Fathers, Ser. II, Vol. IV.
Athanasis: Defence Against the Arians. (Apologia Contra Arianos), Nicene and Post-Nicene Fathers, Ser. II, Vol. IV.(3) Letters of Athanasius with Two Ancient Chronicles of His Life.: Letter X
, Nicene and Post-Nicene Fathers, Ser. II, Vol. IV.(4) Letters of Athanasius with Two Ancient Chronicles of His Life.: For 332. Easter-day vii Pharmuthi, iv Non. Apr.; Æra Dioclet. 48; Coss. Fabius Pacatianus, Mæcilius Hilarianus; Præfect, Hyginus; Indict. v.
- Nicene and Post-Nicene Fathers, Ser. II, Vol. IV.(5) مقال: القديس أثناسيوس الرسولي: الرسالة الفصحية 39 لعام 367 م. مجلة مدرسة الإسكندرية، السنة الخامسة، العدد الثالث، 2013 م. - ترجمها عن اللغتين السريانية والقبطية وقدَّم لها: القس زكا فايز، ود. صموئيل قزمان معوض.
(6) رسالة إلى الوثنيين للقديس أثناسيوس الرسولي - تعريب القمص مرقس داود - الفصل 11.
(7) Against the Heathen. (Contra Gentes.): The deeds of heathen deities, and particularly of Zeus.
- Nicene and Post-Nicene Fathers, Ser. II, Vol. IV.(8) Athanasius Alexandrinus - Magnus - Expositiones in Psalmos
, line 05667.(9) Auwers, Jean-Marie; de Jonge, H. J., eds. (2003). The Biblical Canons. Peeters Publishers. p. 267. ISBN 978-90-4291154-3.
(10) وهو يختلف عن كتب أسدراس المرفوضة Esdras
.(11) كتاب رسالة القديس أثناسيوس الرسولي في معنى المزامير - ترجمة أ. إيريس حبيب المصري، مقال 9.
(12) كتاب الرسائل عن الروح القدس إلى الأسقف سرابيون للقديس أثناسيوس الرسولي - موريس تاوضروس، نصحي عبد الشهيد، مقال 5 من الرسالة الأولى.
(13) المرجع السابق، مقال 7 من الرسالة الأولى.
(15) المرجع السابق، مقال 19 من الرسالة الأولى.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/faq/bible/athanasius-canon.html
تقصير الرابط:
tak.la/4b7592g