الباب السادس: الإنسان الروحي: لا يعتمد على ذراعه البشري:
كما بالغ البعض في أهمية النعمة، حتى أهملوا جانب الجهاد والعمل، كذلك بالغ البعض في أهمية العمل والجهاد، حتى تجاهلوا أهمية يد الله في حياتهم! واعتمدوا في روحياتهم على ذراعهم البشري.
أما الإنسان الروحي فيؤمن في أعماق بخطورة الاعتماد على ذراعه البشري. إنه يبذل كل جهده، ولكنه لا يعتمد على جهده، بل على عمل الله فيه. وكما قال المرتل في المزمور:
إن لم يَبْن الرب البيت، فباطلًا تعب البناؤون وإن لم يحرس الرب المدينة، فباطل هو سهر الحراس.
حقًا إن كل عمل يعمله الإنسان وحده، دون أن يشترك الله فيه، لا بد سيكون مصيره إلى المجد الباطل وافتخار الذات. أما العمل الذي تشعر أن الله هو الذي عمل فيك، وهو بنعمته قد منحك القوة لإتمامه، وأنك كنت مجرد أداة في يديه الإلهيتين... فإن هذا العمل هو الذي يكون لتمجيد الله وتسبيحه وشكره.
وتختفي الذات في هذا العمل الإلهي، ويظهر الله وحده...
ولذلك عليك أن تدخل الله في عملك، لأنه يقول "بدوني لا تقدرون أ تعملوا شيئًا". إياك أن تعمل وحدك، وبدون الله! فإنك سترجع النجاح إلى عزيمتك، وإلى نجاحك في تداريبك... وهكذا تتركز ذاتك ويختفي الله!!
لا شك أن هناك أعمالًا يعملها الله كلها، دون أي تدخل للعامل البشري فيها وسنضرب لذلك أمثلة:
+ معجزات إقامة الموتى: واضح فيها أن الميت لم يقم ذاته، وإنما الرب قد أقامه، لا دخل للقوة البشرية هنا. وأنت أيضًا ميت أيضًا بالخطية، وقد أقامك المسيح... ومثال آخر الأمراض المستعصية التي كانت ترمز للخطية، مثل مرض الأبرص، وصاحب اليد اليابسة، والمفلوج، والأشل، والمقعد، والأعمى. كلهم قد شفاهم الرب بغير ذراعهم البشري. لذلك فالإنسان الروحي يقول:
"اعتبرني يا رب مثل الميت، الذي لا يقدر على إقامة نفسه، ومثل الأبرص الذي لا يستطيع تطهير ذاته".
أنت يا رب الذي تقدر أن تقيم الميت، وتشفى الأبرص.
أنت يا رب عملت مع كثيرين كانوا فاقدي القدرة، ولم يقووا على تخليص نفوسهم، وأنت قد خلصتهم. مثال ذلك أبونا إسحق... لقد وضع على الحطب فوق المذبح، وأعدت النار، وارتفعت السكين فوقه. ولكنك أنت الذي تدخلت في اللحظة الحاسمة، وأنقذت اسحق.
الإنسان الروحي يذكر أيضًا مثال العاقر. التي لم تستطع من ذاتها أن تنجب ولكنها بنعمة الله صارت مثمرة أكثر من الجميع (أش 54). ويقول للرب:
أنت الذي فتحت رحمها المغلق، وقلت لها في رفق "ترنمي أيتها العاقر التي لم تلد... لأنك تمتدين إلى اليمين وإلى اليسار. ويرث نسلك معًا، ويعمر مدنا خربه... لحيظة تركتك، وبمراحم عظيمة سأجمعك" (اش 54).
نعم إن نفسك قد تكون عاقرًا، لم تنجب من ذاتها فضيلة واحدة. ولكنها بالروح القدس سيكون لها بنون كثيرون، ويبارك الله بنيها فيها.
ولكنها بدون روح الرب، تنجب، ولن تثمر. إن "البنين ميراث من الرب" كما قال الكتاب. وهو وحده الذي يستطيع أن يفتح رحم العاقر، كما فعل مع سارة، ورفقة وراحيل وحنة وأليصابات.
اعتبر نفسك مثل "الميت الذي لا يقدر على القيامة من ذاته، وكالأرض الذي يحتاج إلى الرب لتطهيره، وكالعاقر التي من ذاتها لا تلد، بل الرب يفتح رحمها، فاطلب الرب إذن من كل قلبك.
انظر إلى شمشون، في اعتماده على قوته، واعتماده على الرب...
ما مصير قوته البشرية الجبارة، التي استطاعت أن تخلع باب المدينة، ة تقتل الأسد، وتخيف الناس... لقد انتهى بها الأمر إلى الضياع. فقبض الأعداء على شمشون وفقأوا عينيه، جعلوه يجر الطاحون كالحيوان. ولكنه أخيرًا عندما قال "يا سيدي الرب، اذكرني، وشددني هذه المرة فقط، فأنتقم نقمة واحدة عن عيني" (قض 16: 28)، عندئذ أعطاه الرب قوة، فكان الذين أماتهم في تلك المرة، أكثر من الذين أماتهم طول حياته... لأن يد الرب عملت معه.
اطلب إذن تدخل الرب في حياتك. ولكن ليس معنى هذا أن تنام وتكسل، وتطلب الرب. ولكن جاهد بكل قدرتك، دون أن تعتمد على هذه القدرة وحدها، لأنها بدون الرب لا تستطيع شيئاَ...
اعمل. ولكن لا تعمل وحدك. لا تعتمد على ذراعك البشري، وعلى قوتك وذكائك وتقواك. اعرف أنك بدون الله لا يمكن أن تنجح. وإن نجحت، يكون نجاحك فشلا، لأنه سيصير طعامًا للذاتية والمجد الباطل.
+ تعجبني عبارة قالها بطرس الرسول، عندما شفى الله على يديه الرجل المقعد عند باب الهيكل، والتف الناس مندهشين حول بطرس ويوحنا، حينئذ قال لهم بطرس:
"ما بالكم تتعجبون من هذا؟ ولماذا تشخصون إلينا، كأننا بقوتنا أو بتقوانا جعلنا هذا يمشي؟ إن إله إبراهيم وإسحق ويعقوب، إله آبائنا مجد فتاه يسوع..." (أع 3: 12).
+ لقد قال بطرس هذا الكلام، لأنه جرب الذراع البشري من قبل، ولم ينتفع شيئًا: على الأقل في حادثتين هامتين:
الأولى في صيد السمك: لقد سهر الليل كله، بكل ما عنده من فن في الصيد، ومن خبرة وقدرة. وكانت نتيجة ذلك للرب:
"تَعِبْنا الليل كله، ولم نصطد شيئًا".
ولكنه، عندما دخل الرب في سفينته، وعندما أرشده أين يلقى الشبكة وألقاها حسب مشيئته في الأعماق، حينئذ أتت بصيد كثير، حتى كادت تتخرق.
والخبرة الثانية التي اختبرها التي اختبرها بطرس كانت في حادثة إنكاره للمسيح، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. لقد اعتمد على ذاته كثيرًا، وعلى محبته للرب، وعلى تصميماته: قال للرب: لو أنكرك الجميع، فأنا لا أنكرك... ولو أدى الأمر أن أموت معك...
ولكن بطرس المعتمد على ذاته، أنكر المسيح أمام جارية...
لم تنفعه نيته الطيبة ولا عزيمته، ولا مجرد محبته، ولا تصميماته، ولا حماسته التي قطع بها إذن العبد...
ليته حول تصميماته إلى صلاة. ليته قال: أعطني يا رب أنا الضعيف قوة لكي لا أنكرك، قوة أستطيع بها -إذا ما غربلني الشيطان- أن صمد...
كثيرون يجاهدون بمفردهم، يتعبون، ويفكرون، ويدبرون، ويخططون لحياتهم الروحية، دون أن يعنوا بإدخال الرب معهم.
سأضرب لكم أمثلة أراد الله بها إثبات فشل الذات في كافة مواهبها ونواحي قوتها.
شمشون الذي فُقِئَت عيناه وهو مثال لفشل الذراع البشري في القوة، وسليمان الذي بخر للأصنام مثال لفشل الذراع البشري في الحكمة، وداود الذي زنى وقتل مثال لفشل الذراع البشري على الرغم من كثرة مواهبه. وبطرس الرسول في إنكاره للسيد المسيح مثال الذراع البشري على الرغم من حماسة وغيرته وإخلاصه. وبطرس الذي سهر الليل كله ولم يصطد شيئًا مثال لفشل الذراع البشري عل الرغم من خبرته وفنه.
لذلك إذ عرفت فشل الذراع البشري، في كل قوته، وحكمته، مواهبه، وحماسه وغيرته، وفنه وخبرته... إن عرفت هذا، لا تَعِش مستقلًا عن الله، ولا تجاهد بغير معونته.
أدْخِل الله معك في الصغيرة والكبيرة...
كثيرون يطلبون الله فقط في الأمور الخطيرة، أما الأمور الصغيرة فيثقون بقوتهم فيها، وفيها يفشلون ويسقطون. لهذا يهتم الشيطان بهذه الأمور الصغيرة ويركز عليها ليسقطهم بها.
ولذلك يحذر القديسون من شيطان يُسَمَّى "شيطان الأمور الصغيرة".
من أجل هذا قال النشيد "خذوا لنا الثعالب، الثعالب الصغيرة المفسدة للكروم". أما أنت فادخل الرب حتى في الصغائر. لا تثق بقوتك، مهما بدا لك الأمر تافها.
كثير من القديسين سقطوا في خطايا ظنوها "خطايا المبتدئين". أما أنت فلا تحتقر خطية معينة، ولا يظن أن هناك خطية تافهة لا تحتاج إلى معونة من الرب. اطلب الرب باستمرار ليعمل معك في كل أمر، صعبًا كان أم سهلًا.
لا تقل هذا الأمر سهل، اعمله بنفسي. ذاك أمر صعب، احتاج فيه إلى معونة إلهية، فالأمر السهل هو الذي يقف فيه الله معك، وإلا صار صعبًا. والأمر الصعب هو الذي تعمله وحدك بدون الله مهما بدًا سهلًا.
تعجبني قصة خيالية قيلت عن فلك نوح. كان فيه ثمانية أفراد: نوح وزوجته، وأولاده الثلاثة وزوجاتهم الثلاث... ولكن...
قيل أن هناك تاسعًا كان في الفلك، وكان يدير دفته... ولولاه ما خلص الفلك. هذا التاسع هو الله.
نعم، هل يُعْقَل أن يكون نوح قد دخل الفلك دون أن يدخل الله معه؟!
لا شك أن العناية الإلهية هي التي تقودنا. بدونها لا يمكن لذراعنا البشري أن يعمل... نحن نغرس، ونسقى. ولكن الله هو الذي ينمي. إذن ليس الغرس شيئًا، ولا الساقي، بل الله الذي ينمي" (1كو 3: 7-9).
لوط لو لم ينقذه الملاكان، لهلك في سدوم... لقد أمسكا بيديه، وكانا يدفعانه عندما يتوانى، ويعجلان بخروجه...
دانيال لو لم يرسل الله ملاكه ليسد أفواه الأسود، لضاع في الجب. ولولا ملاك الله لبقى بطرس في السجن.
لذلك لا تركز تفكيرك في ذاتك، وفي مواهبك وقدرتك وفهمك، وفي إرادتك وعزيمتك وتدابيرك، وخبرتك وطهارتك. خف جدًا لئلا تكون معتمدًا على ذراع بشري...
جاهِد، ولكن ليس بمفردك... واعمل، ولا يعتمد على عملك. وفكر، ولكن "على فهمك لا تعتمد" انظر إلى لمبات الكهرباء: قد تكون قوية وجميلة، ومن أجود الأصناف، وكذلك أسلاكها جيدة، وتوصيلاتها سليمة. ولكن إن لم يسر فيها التيار، فلن تضيء، كذلك أنت...
هناك آية أحب أن تضعها أمامك باستمرار، كشعار وهي:
"إن لم بين الرب البيت، فباطلًا تعب البناؤون. وإن لم يحرس الرب المدينة، فباطلًا سهر الحارس" (مز 127: 1).
صحيح يجب أن تعمل مع الله. هو يبني. وأنت تناوله الطوب والحجارة والمونة، أو أنت تكون حجرًا صالحًا في يديه. ولكن لا تظن أنك أنت الذي تبني حياتك، وحدك، بدونه، استمع إلى بولس الرسول، هو يقول "استطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني".
إنه يستطيع كل شيء، ولكن ليس وحده، بل في المسيح الذي يقويه. وإن لم يقوه المسيح، لن يستطيع شيئًا.
لذلك نحن في الترتيلة نقول له "امسك يدي وقدني". قل له يا رب أنا بدونك لا استطيع شيئًا. قدني أرشدني. "علمني يا رب طرقك، فهمني سبلك"، "افتح عيني الغلام ليرى "أعطني القوة والمعونة. اعمل في ضعفي.
كلمة جميلة قالها المسيح لتلاميذه الذين دربهم بنفسه: "لا تبرحوا أورشليم، حتى تلبسوا قوة من الأعالي"...
وماذا عن كل خبراتنا ومعرفتنا وروحياتنا؟ أو ماذا عن تلمذتنا الطويلة، لك أنت؟... لا تعتمدوا على ذواتكم. انتظروا موعد الآب انتظروا حتى تلبسوا قوة من الأعالي... "ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم، وحينئذ تكونون لي شهودًا حينئذ، وليس قبل...
هكذا أنت، لا تعمل إلا بعد أن تناول قوة من فوق. اسع وراء هذه القوة، بكل ضعفك، بكل صلواتك وتصرفاتك، وحينئذ تشهد له...
إذن ليس بذراعك البشري، حتى لو كنت رسولًا ومن الاثني عشر، بل بالقوة التي تلبسها من الأعالي. ليس بقوتك، ولا بتقواك، بل باسم يسوع المسيح، يمكن لهذا المُقْعَد أن يمشي. إن لم يبن الرب البيت، فباطلًا تعب البناءون.
كل خطية تقابلك، قل لها "أنا آتيك باسم رب الجنود" مثلما قال داود لجليات. أدْخِل إلى الرب في المعركة، لأن الحرب للرب. تأكد أن الرب يحارب معك. وإن لم تشعر به، صارعه حتى الفجر، وقل له لا أتركك حتى تذهب معي وإن لم تذهب معي فلن أحارب ولن اذهب مثلما قال القائد باراق لدبورة النبية (قص 4: 8)
كُن كالبيت المبني على الصخر، "والصخرة كانت المسيح"، وحينئذ لا تسقط. ولا تبن بيتك على ذاتك، لأن ذاتك تراب ورماد والبيت المبني على التراب يكون سقوطه عظيمًا...
ملائكة الكنائس السبع كانوا في يمين المسيح" (رؤ2). في يمين الرب التي صنعت قوة (مز 117). كن أنت أيضًا في يد الله. كن كالطفل الذي يسير في الطريق مطمئنًا، لأن أباه ممسك بيده. قل له "لا تتركني يا رب لذاتي وذكائي امسك بيده". "آه يا رب لو انفرد بي عقلي وذكائي بعيدًا عنك "إذن لكنت هلكت"!!
هوذا الرسول يقول "لا تستكبر، بل خف" (رو 11: 20). إن خفت، قل له "إن سرت في وادي ظل الموت، لا أخاف شيئًا، لأنك أنت معي. عصاك وعكازك هما يعزيانني" (مز 23).
هذا هو الإنسان الروحي، الذي يسير في طريقه المقدس، معتمدًا على قوة الله التي تسنده، والتي ترشده، والتي تحميه، والتي تعمل فيه...
لا يعتمد إطلاقًا على ذراعه البشري... ولا أي ذراع بشري، بعيدًا عن الله...
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/spiritual/arm.html
تقصير الرابط:
tak.la/kktj8f7