محتويات
الروحانية هي أولًا سلوك بالروح.
وقد ورد الكثير عن هذا الأمر في رسالة بولس الرسول إلى رومية إذ قال (لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع، السالكين ليس حسب الجسد، بل حسب الروح) (رو1:8). وقال أيضًا "فإن الذين هم حسب الجسد، فبما للجسد يهتمون. ولكن الذين حسب الروح، فبما للروح (يهتمون). لأن اهتمام هو موت ولكن اهتمام الروح هو حياة وسلام. ولأن اهتمام الجسد هو عداوة لله"... فالذين هم في الجسد لا يستطيعون أن يرضوا الله.
إذن الروحانية هنا هي ارتفاع عن مستوى السلوك بالجسد.
هنا واجب أن أقول لكم إن الإنسان يتكون من ثلاثة عناصر: الروح والنفس والجسد. وقد وضح القديس بولس هذا الأمر، حينما قال في رسالته الأولى إلى أهل تسالونيكي "إله السلام نفسه يقدسكم بالتمام. ولتحفظ روحكم ونفسكم وجسدكم كاملة بلا لوم..." (1تس23:5).
إن الإنسان تكون من روح ونفس وجسد. وهنا نقول إن الإنسان الروحاني لا يسلك حسب الجسد، ولا حسب النفس. السلوك حسب الجسد واضح جدًا للجميع...
كالإنسان الذي يسلك في شهوات الجسد كشهوة الزنى، أو شهوة الطعام، أو شهوة الملبس... إلخ. ولكن ماذا إذن عن السلوك النفساني؟ نقول اولًا:
لقد حارَب الآباء الرسل السلوك النفساني وأدانوه.
فالقديس يهوذا الرسول يقول في رسالته "إنه في الزمان الأخير سيكون قوم مستهزئون سالكون بحسب شهوات فجورهم. هؤلاء هم المعتزلون بأنفسهم نفسانيون لا روح لهم" (يه19:18). لاحظوا إذن قوله:
نفسانيون لا روح لهم.
هؤلاء "سالكون بحسب شهوات فجورهم"، ولعله يُفْهَم من هذا أن شهوات الجسد تقودها عوامل نفسانية خاطئة، بعيدة عن اتجاه الروح...
والقديس يعقوب الرسول يفرق بين الحكمة الإلهية، وحكمة أخرى يقول عنها إنها "ليست نازلة من فوق بل هي أرضية نفسانية شيطانية" وإنها تسبب الغيرة المرة والتخرب والتشويش وكل أمر رديء (يع3: 14-16). لاحظوا أن صف نفسانية ارتبط أيضًا بعبارة "أرضية شيطانية"... ما أصعب هذا الوصف...
ربما هذا التفصيل غير مستخدم كثيرًا. فالناس غالبًا ما يتحدثون فقط عن السلوك الروحاني، والسلوك الجسدي. ونادرًا ما يتحدثون عن السلوك النفساني الممقوت...
الإنسان النفساني تقوده النفس وغرائز النفس وعقلية النفس ومشاعرها بدون روح.
وهذا أمر فيه أخطاء وخطايا كما سنري.
والإنسان الجسداني تقوده شهوات الجسد ورغباته.
فماذا إذن عن الإنسان الروحاني؟
الإنسان الروحاني يتصف بصفتين وهما:
1- ينتصر على الجسد وعلى النفس، ويسلك حسب الروح.
2- الصفة الثانية أن روحه تخضع لروح الله...
يوجد إنسان في داخله صراع بين شهوات الجسد وشهوات الروح (غل5: 17، 16). أما الروحاني فقد خضع فيه الجسد تمامًا للروح. ولكن هذا وحده لا يكفي، لأن أخطاء الإنسان ليس سببها فقط شهوات الجسد. فهو قد يخطئ بروحه وحدها... ولا تتعجبوا من هذا فالشيطان روح، ومع ذلك فقد أخطأ. فهو روح متمردة وروح شريرة.
والكتاب يتحدث كثيرًا عن الأرواح الشريرة.
والسيد المسيح أعطى تلاميذه سلطانًا على إخراج الأرواح الشريرة، أي أرواح الشياطين. إذن ممكن أن الأرواح تخطئ. وممكن أن الإنسان يخطئ بروحه...
إذن الإنسان الروحي، إنه لا يخطي بروحه، لأن روحه خاضعة تمامًا لروح الله...
إذن الإنسان الروحي: نفسه وجسده يخضعانه لوحه، وروحه تخضع لروح الله.
ولذلك نقرًا في الرسالة إلى رومية عبارة جميلة جدًا وهي "لأن كل الذين ينقادون بروح اله، فأولئك هم أولاد الله" (رو14:8). هؤلاء هم الروحانيون، الخاضعون لروح الله. الذين يقودهم روح الله، وهم طائعون لقيادة روح الله. ولكن تنقاد بروح الله ينبغي أن يكون روح الله ساكنًا فيك.
من أجل هذا، جعل الله روحه يسكن فينا.
فقال الكتاب "أما تعلمون أنكم هيكل الله، وروح الله ساكن فيكم" (1كو16:3). وروح الله الذي فيك يعطي روحك معرفة، ويعطيها إرشادًا. ويقودها في الطريق... يوبخها على خطية، ويحثها على الخير، ويذكرها بكل ما قاله الرب ويعلمها كل شيء (يو26:14).
لذلك الكنيسة تمنحك المسحة المقدسة، مسحة الروح.
وعن هذه المسحة تحدث القديس يوحنا الحبيب مرتين في رسالته الأولى، فقال "وأما أنتم فلكم مسحة من القدوس وتعلمون كل شيء" (وأما أنتم فالمسحة التي أخذتموها منه ثابتة فيكم) (1يو2: 27، 20). ونحن ننال هذه المسحة في سر الميرون المقدس. وكانوا ينالونها في بداية العصر الرسولي بوضع اليد.
إذن تعتمد على قيادة روح الله لك، وليس على الحكمة البشرية وحدها...
الحكمة البشرية وحدها هي جهالة عند الله (1كو19:3). وقد شرح القديس بولس الرسول هذا الأمر بعمق شديد وتفصيل، في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس، في الإصحاح الثاني...
هناك شهوات للجسد والنفس والروح.
شهوة الجسد هي الخطية كشهوة الحواس، وشهوة الزنى، وشهوة البطن.
وشهوة النفس أحيانًا تكون نوعًا من الذات وحب النفس. ولنضرب مثالًا في كل ذلك بسليمان الحكيم.
لقد سلك في هذه الشهوات فقال "مهما اشتهته عيناي، لم أمنعه عنهما" (جا10:2)، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وشرح تفاصيل ذلك فقال "بنيت لنفسي بيوتًا. غرست كرومًا. عملت لنفسي جنات وفراديس، وغرست فيها أشجارًا من كل ثمر. عملت لنفسي برك مياه. قنيت عبيدًا وجواري... جمعت لنفسي فضة وذهبًا... اتخذت لنفسي مغنين ومغنيات وتنعمات بني البشر: سيدة وسيدات" (جا2: 4-8).
هنا شهوة الجسد، وشهوة العيون، وشهوات باقي الحواس... هذه هي شهوة الجسد، ووجدها باطلة وقبض الريح.
وماذا إذن عن شهوات النفس؟ يقول "لم أمنع قلبي من كل فرح. لأن قلبي فرح بكل تعبي. وهذا كان نصيبي من كل تعبي. وهاذ كان نصيبي من كل تعبي..."... وهنا نقول:
فرح سليمان بكل غناه وشهوات جسده كان فرحًا نفسانيًا.
ولم يكن فرحًا روحيًّا على الإطلاق. فما هو الفرح الروحي.
الفرح النفساني، هو فرح بشهوات الجسد، كما فرح سليمان بكل متعه وغناه. أما فرح الروح فهو الذي يقول عنه الكتاب:
"أفرحوا في الرب كل حين..." (في4:4).
الفرح بالرب هو فرح روحاني.
تفرح لأنك عرفت الله، تفرح لأن لك صلة بالله وعشرة، تفرح بسكني روح الله فيك وإرشاده لك. تفرح لأنك نلت مذاقة الملكوت، تفرح لانتصار روحك التي حررها الله (يو36:8). تفرح لأنك استطعت أن توصل الناس إلى الله.
تقرأ عن فرح سليمان في (جا). فلا تجد اسم الرب إطلاقًا...! إنه فرح بالجنات والفراديس، والشجر، والبقر، والذهب، والفضة، والسيدات والمغنيات. وليس بروح وصله روحه بالله. إنه مجرد نفساني، باطل وقبض الريح... لهذا نحن نفرق في أمور الفرح بين تعبيرات عديدة مثل اللذة (وهي خاصة بالجسد والحواس). والسرور والفرح (وبعضها خاص بالنفس والآخر بالروح).
تلاميذ المسيح وقعوا أحيانًا في الفرح النفساني.
إنه فرح ليس من نوع فرح سليمان، بل هو نوع ارقي منه، ولكنه مرفوض أيضًا.
رجع السبعون إلى الرب فرحين، بعد إرساليتهم التبشيرية، وقالوا له "حتى الشياطين يا رب تخضع لنا باسمك" (لو17:1). فوبخهم الرب على هذا الفرح النفساني، وقال لهم "لا تفرحوا بهذا أن الأرواح تخضع لكم. بل افرحوا بالحري أن أسماءكم قد كتبت في السموات" (لو20:10). وهكذا فرق الرب بين نوعين من الفرح: نوع وبخ عليه ونوع دعا إليه.
مثال آخر وهو الفرح البعض بموهبة الألسنة وما يشابهها.
إنه فرح بشيء يمجده أمام الناس ويرفع شأنه!! يريد أن يتعظم على حساب مواهب الله... وكان الأفضل أن يهتم بنقاوة قلبه وامتلأ القلب بثمار الروح. وفي ذلك قال الرسول "لو كنت أتكلم بألسنة الناس والملائكة، وليس لي محبة، فقد صرت نحاسًا يطن وصنجًا يرن" (1كو13).
إذن افرح بثمار الروح، أكثر مما تفرح بالمواهب.
ثمار الروح التي هي "محبة وفرح وسلام، وطول أناة ولطف صلاح إيمان وداعة تعفف" (غل5: 23، 22). وهذه توصلت إلى الملكوت بينما المواهب والآيات والرؤى ربما لا توصل...! يقول السيد الرب:
"كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم يا رب يا رب، أليس باسمك تنبأنا وباسمك أخرجنا شياطين، وباسمك صنعنا قوات كثيرة، فحينئذ أصرح لهم: إني لم أعرفكم قط اذهبوا عني يا فاعلي الآثم" (مت7: 23، 22).
قيل عن القديس يوحنا المعمدان أنه لم يصنع آية واحدة (يو41:10) ومع ذلك شهد له الرب إنه أعظم من ولدته النساء (يو11:11). وفي التبشير بمولده قيل عنه إنه "من بطن أمه يمتلئ من الروح القدس (لو15:1). فلا تفرح إذن بالآيات.
القديس بولس الرسول خاف من كثرة الرؤى والاستعلانات.
لأنها خطيرة، ربما ترفع قلبه. ولذلك قال "ولئلا أرتفع بفرط الإعلانات، أعطيت شوكة في الجسد، ملاك الشيطان ليلطمني لئلا أرتفع" (2كو7:12). وصلي ثلاث مرات أن يرفع الله عنه هذه الضربة، ولم يقبل صلاته في ذلك...
أم يعقوب ويوحنا الرسولين وقعت في الفرح النفساني الباطل.
فجاءت إلى السيد تطلب أن يجلس أحد ابنتيها عن يمينه، والآخر عن يساره في ملكوت (مت20: 20، 21). ولكن الرب لم يشأ أن يكون لها فرح بالعظمة، بل أن يكون لابنيها فرح بالألم. فقال لهما "لستما تعلمان ما تطلبان. أتستطيعان أن تشربا الكأس التي اشربها، وأن تصطبغًا بالصبغة التي أصطبغ بها" (مت22:20).
واستجاب الرب لطلبة هذه القديسة، فكان ابنها أول الشهداء من الرسل الاثني عشر (أع2:12)، وجلس مع الرب عن يمينه...
حقًا إن الفرح بالألم هو جزء من الفرح الروحي.
ولذلك بعدما سجنوا التلاميذ وجلدوهم، يقول الكتاب عنهم "وأما هم فذهبوا فرحين، لنهم حسبوا مستأهلين أن يهانوا من أجل اسمه" (أ41:5).
ويقول القديس بولس الرسول "لذلك أسر بالضعفات والشتائم والضربات والاضطهادات لأجل المسيح" (2كو10:12). وهكذا كان سرور الشهداء والمعترفين القديسين بملاقاة العذابات والموت. إنه فرح روحاني.
ولعل من الأمثلة البارزة تلك القديسة العظيمة التي ذبحوا أبناءها الخمسة على حجرها وهي تشجعهم على الاستشهاد، لكي يفرحوا مع الرب في ملكوته. وهي أيضًا فرحت باستشهادهم.
إن الذي يفرح بأن ينال موهبة المعجزات والآيات، هو ما يزال في مستوى الفرح النفساني. أما الفرح الروحاني، فهو بالرب وليس بمواهبه، وما تجلبه المواهب من عظمة...
إن المستوى الروحي، والمستوى النفساني، والمستوى الجسداني يمكن تطبيقها على كثير من المشاعر والعمال، وعلى كثير من اتجاهات البشر وأعمالهم.
ولكننا ذكرنا ما ذكرنا كمثال... والأمثلة كثيرة...
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/righteousness/spiritual.html
تقصير الرابط:
tak.la/rnk82mx