محتويات |
هناك ثلاثة مستويات يسلك فيها غالبية البشر من جهة الفضيلة أو الطموحات، وهي المستوى الفردي، والمستوى الاجتماعي، والمستوى الروحي.
قد يختار البعض مستوى واحدًا منها، وقد يجمع البعض بين مستويين. والقليل من يحسن السلوك في المستويات الثلاثة. والبعض قد يكون سلوكه في هذه المستويات أو بعضها بحكمة، والبعض قد ينحرف. وسنحاول أن تشرح هذه المستويات...
فيه يحاول الإنسان أن يبني ذاته في فضائل معينة، أو في طموحات أو صفات فاضلة، ترفع مستواه من الناحية الفردية.
كأن يهتم بعقله وذكائه وفهمه.
وينمي مواهبه في ذلك، أو يعمل على اكتساب مواهب أخرى. وربما يدخل في تدريبات عقليه لتنمية الذاكرة، أو الفهم أو الاستنتاج، أو سرعة البديهة، أو حل مشكلان عقلية أو ألغاز لتنمية الذكاء، أو قوة الملاحظة. فيصير شخصًا لمحًا، يدرك بشرعة ما لا يدركه غيره، ويظهر إلى الأمر الواحد من عدة زوايا، ويعمل حسابات وتوقعات لكل ردود الفعل لي عمل يقوم به. وبهذا يكتسب فراسة في أمور متعددة...
وقد يهتم الإنسان بثقافته ومعرفته.
فيضيف إلى عقله وذكائه كثيرًا من المعلومات والمعارف. في كثير من العلوم والفنون. ويصبح واسع الإطلاع. له دراية بكثير من الأمور، سواء من الناحية النظرية، أو الناحية العلمية والخبرة.
وقد يهتم أيضًا بأن تكون له نفسية سوية.
نفسية بعيدة عن الخوف والقلق والاضطراب والتردد والشك. وما إلى ذلك من الأمراض النفسية. وإن كان فيه شيء من هذا كله، يحاول أن يحلله ويعرف أسبابه، ويعالجه حتى لا يقع. بل يضل إلى الصفاء النفسي. وطبعًا في كل ذلك يمارس الحكمة التي تقول "اعرف نفسك".
وقد يهتم البعض برفاهية هذه النفس ومتعتها.
ويحيط نفسه بكل ما يمكنه من أسباب التسلية والمتعة، ويحرص أن تكون بريئة، بحيث يقضي وقته فيها يلذه نفسيًا من مصادر الترفيه، من قراءة والعاب وموسيقي، وسائر أنواع الفنون التي يمارسها أو يشاهدها, والبعض يجد متعة في أنواع من الرياضة يتدرب عليها شخصيًا، وقد ينبغ فيها، أو يعجب بأبطالها، ويجد متعته في مجرد الفرجة أو تتبع أخبارها.
وقد يهتم البعض بقوة جسده أو صحته.
ويرى أن العقل السليم في الجسم السليم، وأن صحة الجسد تساعد على رفاهية الحياة والبعد عن المرض والألم. وهذا النوع قد يضع لنفسه نظامًا ثابتًا في الراحة، لا يتعداه مهما كانت الأسباب، أو نظامًا في الرياضة يقوم به يوميًا، أو نظامًا في التغذية يضبط نفسه فيه إلى ابعد الحدود، وكذلك يتبع نظامًا في الصحة وفي تقوية جسده.
إن كان رجلًا، يهمه قوة جسده وصحته. وإن كانت امرأة، يهمها جمال الجسد ورشاقته. وكل من الاثنين يبذل وقتًا من أجل الجسد والاهتمام به.
وغالبية الناس -من الناحية الفردية- يهمهم النجاح في الحياة.
سواء الطالب في دراسته، أو الموظف في عمله، أو رجل الأعمال في مشروعاته، وبالمثل العالم والمفكر. كذلك بر الأسرة يهمه أن يكون ناجحًا في حياته العائلية. وصاحب كل مسئولية يهمه النجاح في مسئوليته.
ولكن يختلف الناس في مستوى النجاح الذي يسعون إليه: هل هو نجاح عادي، أو متفوق، أو نجاح عبقري له رقم قياسي. كما يختلف الناس أيضًا في طريقة الوصول إلى هذا النجاح.
البعض قد يقيس نجاحه بالمركز الذي يصل إليه في حياته العلمية. والبعض الآخر يقيس نجاحه إتقانه للعمل الذي يعمله، مجردًا من عنصر المكافأة عليه...
كل هذا وما يشبهه يدخل في المستوى الفردي.
الفضائل التي يمارسها الإنسان على المستوى الاجتماعي، هي الفضائل التي تمارسها وسط الناس أو في العلاقات مع الناس. ولها أمثلة كثيرة منها:
سواء الغضب داخل نفسه من تصرفات تحدث له من آخرين، أعني الغضب المكبوت أو غضب ثائر لا يستطيع ضبطه، ويكون له أثره في علاقاته مع غيره، مع ما يصاحب هذا الغضب من أخطاء ومن قرارات لها خطورتها.
فالإنسان الفاضل على المستوى الاجتماعي يضبط نفسه وقت الغضب.
ويحرص على ألا تصدر منه إهانة لغيرة أثناء غضبه، ولا جرح لشعور. لا بكلمة شتيمة ولا بكلمة تهديد. كما يحرص ألا يعلي صوته، ولا يفقد أعصابه. إنما يكون متزنا مالكًا لنفسه، لا تزعزعه إساءة غيره ولا تهبط بمستواه. كذلك في غضبه لا يستخدم العنف الجسماني، كالذي يدخل في عراك يستعمل فيه الضرب واللكم أو ما هو أسوأ من ذلك.
فإن هذا كله يهبط بمستواه الاجتماعي. وبعض الناس -حتى من غير المتدينين- يحترسون جدًا، فلا يهبطون إلى هذا المستوى من النرفزة، حرصًا على كرامتهم الاجتماعية وسمعتهم وسط الناس.
فالإنسان الفاضل اجتماعيًا يكون بشوشًا، له ملامح مريحة تجعل الآخرين يحبونه. وقد يتصف بالمرح البريء وباللطف وبروح الدعابة، فيفرح من يختلط به، وتلذ له عشرته. وتتبسط على جلسته مع الآخرين روح الصفاء والود.
ويتصِف بالوداعة وطيبة القلب. وسعة الصدر في التعامل من الآخرين. ولا يسمح بأن تتأزم الأمور بينه وبين غيره. وما أسهل أن يرد على إساءة الغير بفكاهة تجعله يبتسم، وينصرف روح التوتر. وهكذا ينطبق عليه الوصف العامي (إنسان بحبوح).
وعكس ذلك كله -من الناحية الاجتماعية- الإنسان النِّكَدي.
الذي بروح النكد يخسر لناس، ويبعد الآخرين عن عشرته خوفًا من أن يفقدوا سلامهم الداخلي، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. ومن أمثله ذلك الزوجة النكدية التي تقابل زوجها بالبكاء والحزن، والتحقيقات الكثيرة، والعتاب الشديد على أتفه الأمور... وبهذا تجعل زوجها يهرب من منزله، ويفضل قضاء الوقت مع أصدقائه بعيدًا عن النكد...
فهو لا يعيش لنفسه فقط، إنما يكون خدومًا، يساهم مع الآخرين في أمورهم، ويتعاون معهم. ولا يدخل في مشاكل مع أحد، ويتحاشى كل ما يضر بالغير. بل يجدون فيه حسن التعامل، فيطمئنون إليه ويحبونه، ويتبادلون معه نفسه الروح والأسلوب ويرتبط بالصداقة مع كثيرين.
طبعًا فضائل اللسان لا تكون إطلاقًا على المستوى الفردي، لأن الكلام يكون مع الآخرين. والكلام له خطورته كما قال الرب "بكلامك تتبرر، وبكلامك تدان" (مت37:12). فإنسان بكلامه يدخل نفسه في مشاكل، وتكرهه الناس أو تتحاشاه. وإنسان آخر له الكلمة الحلوة التي يجذب الناس إليه. فهو اللسان النقي، الذي لا يجرح ولا يحرج...
فالإنسان الصادق هو موضع ثقة الناس، يطمئنون إلى صحة كلامه وشهادته، وإلى صحة ما ينقله من أخبار، وبخاصة إذا كان يتصف بالدقة التامة وبعدم المبالغة. أما
الكذوب فيفقد ثقة الآخرين، وبخاصة إذا انكشف، فصار يغطي كل كذبة يقولها بكذبة أخرى. والكاذب يفقد احترام الآخرين، مهما كان مركزه. بينما الإنسان الصادق يحترم الناس شخصيته، كما يحترمون كلمته.
فهناك ألفاظ لا يستطيع الإنسان العفيف أن ينطق بها، إن كانت خارجة عن حدود الأدب أو الذوق، أو تخدش مسامع الآخرين.
ولذلك فالإنسان الفاضل اجتماعيًا يكون مهذبًا في ألفاظه، ينتقيها انتقاء... حتى إن تحدث عن شيء رديء، ينتقي اللفظ الهادئ غير المكشوف غير الجارح. ومن أمثلة ذلك قول السيد المسيح للمرأة السامرية "كان لك خمسة أزواج. والذي لك الآن، ليس هو زوجك" (يو18:4). وكلمة الرب هنا لها عمقها الاجتماعي، وعمقها الروحي أيضًا...
وعفة اللسان أيضًا، تبعد عن الألفاظ الجنسية، وعن الفكاهات الرديئة، وعن الشتيمة والسباب، وعن التشهير ومسك سيرة الآخرين، وتبعد عن ألفاظ المجون، وعن تناول الآخرين بالتهكم والحط من قيمتهم...
كل هذه يبعد عنها الإنسان الاجتماعي الفاضل، حتى لو لم يكن متدينًا.
والاجتماعي الفاضل تكون للسانه أيضًا إيجابيات.
فالذي يسمع إليه، يستفيد من عمله ومعرفته، بل ومن أسلوب كلامه أيضًا. وهو لا يضيع وقت غيره في ثرثرة، ولا يتحدث في أمور ليست من تخصصه، بل يقول الكلمة المتزنة، الكلمة الموثوق بها التي لها مراجعها، والكلمة التي تضيف إلى سامعه نفعًا يحتاج إليه، ربما وصل غليه المتكلم بعد دراسة وفحص وتحقق...
كما لو كان هذا الإنسان الاجتماعي كل من يقابله يأخذ منه شيئًا... إن لم يكن نفعًا ماديًا، فعلى الأقل يدرك أنه يشعر به وباحتياجه، ويحس ظروفه ويتعاطف معه في إشفاق. ويعامله بكل إخلاص.
ونحن نرى أن المؤسسات الاجتماعية هدفها هو الإشفاق على الناس، وسداد احتياجاتهم، ووسيلتها العطاء باستمرار، في غير إحراج، وفي غير بخل وتقتير...
يعطي كل ذي حق حقه، لا يظلم أحدًا، ولا ينحاز إلى أحد ضد أحد. بل يكون مُنْصِفًا في كل أحكامه ومعاملاته. ويأخذ حق الآخرين حتى من نفسه. ولا يمكن أن يرتفع على حساب غيره، أو يرتاح على تعب غيره. وهو مستعد أن يعتذر لأي إنسان له حق عليه، وينصفه ويعطيه حقه. وبهذا يكون محترمًا ومحبوبًا...
ما أكثر الفضائل الاجتماعية التي ترتبط بالتعامل. ولكن هناك صفة ترتبط بالشخص الاجتماعي نفسه وهي:
فلا يكون أبدًا في المجتمع الذي يعيش فيه. إنه هو شعله من نشاط، أينما حل يملًا المكان حركة وبركة. وكل مسئولية يقوم بها، يظهر فيها إنجازه وإنتاجه. ويشعر الكل أنه دائمًا يعمل، لا يكسل ولا يبحث عن راحته بقد ما يبحث عن نجاح العمل. وهكذا يعجب الناس بحيويته، فيصبح موضع ثقة في كل ما يتولاه من مسئوليات، ويرشحونه لمسئوليات أكبر.
ننتقل بعد هذا إلى المستوى الروحي:
وهو يختص بالقلب ونقاوته. وبالروح ومدى علاقتها بالله.
غير أن البعض قد يهتم في حياته الروحية وبعلاقات خارجية مع الله في الصلاة والصوم، وقراءة الكتاب المقدس، وحضور الكنيسة وممارسة أسرارها، مع بقاء القلب بعيدًا لا صلة له بالله، ولا مشاعر حب، ولا حتى مشاعر خشوع، بل ينطبق عليهم قول الرب:
"هذا الشعب يكرمني بشفتيه. أما قلبه فمبتعد عني بعيدًا" (أش13:29) (مت8:15).
هذا الوضع رفضه الرب في العهد القديم أيام إشعياء النبي (اش1-11 -16). وأيضًا هذه المظاهر الزائفة ورفضها السيد المسيح من الكتبة والفريسيين المرائين، الذين "لعلة يطيلون صلواتهم" (مت14:23). وقال عنهم أنهم "مثل قبور مبيضة تظهر من الخارج جميلة، وهي من الداخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة" (مت27:23).
وهذا النوع الذي يهتم بالمظاهر، وربما يركز اهتمامه في الخير الخارجي، إما لمجرد أن يكون قدرة لغيره، أو ينال مديحًا من غيره، أو يبعد عن نقد الناس، ولا يكون عثرة لهم... بينما محبة الخير ليست في قلبه!! مثل الذي يقدم إحسانًا لفقير، ومحبة الفقير ليست في قلبه ولا أيضًا محبة الإحسان...أو مثل الذي يصوم في شكلية الصوم دون روحانية، وتظهر محبة الطعام أثناء صومه - بأنواع وطرق شتَّى...
هذه المظاهر التي تأخذ شكلًا روحيًا، ليست هي المستوى الروحي الذي تعنيه...!
إنما المستوى الروحي الذي يرتكز في محبة الله، ومحبة الخير، ومحبة الناس محبة عملية.
هذا هو المستوى الذي يصلي فيه الإنسان في حب لله، وفي خشوع قدامه، وبكل حرارة وبكل إيمان. كما يقول المرتل في المزمور (محبوب هي أسمك يا رب، فهو طول النهار تلاوتي) (مز119). ويقول له أيضًا (كما يشتاق الإيل إلى جداول المياه، كذلك اشتاقت نفسي إليك يا الله) (مز1:42). (عطشت نفسي إليك). (مز1:63).
وهو حينما يصوم، يكون ذلك زهدًا في الطعام، وليس مجرد امتناع عنه. فتصوم نفسه كما يصوم جسده، ويرتفع عن مستوى المادة لكي تسبح روحه في الإلهيات والسماويات...
وهذا المستوى الروحي تكون العبادة فيه مجرد ثمرة للإيمان الذي في القلب. ولا يكتفي الإنسان في هذا المستوى بالعبادة، بل تكون له ثمار الروح أيضًا (غل5: 22، 23).
نقول ذلك لأن البعض يظن أن الروحيات هي مجرد الصلاة والصوم في الكنيسة. وينسى ما قاله الرسول (ثمر الروح: محبة فرح سلام، طول أناه، لطف، صلاح، إيمان، وداعة، تعفف) (5: 23، 22)... هذه الثمار هي تعبير عن الإيمان الحي. لأنه كما يقول السيد الرب (من ثمارهم تعرفونهم) (مت20:7). لأن كل شجرة جيده لا بُد تصنع ثمرًا جيدًا...
والمستوى الروحي هو حياة القداسة التي تنمو حتى تصل إلى حياة الكمال.
ولا تقتصر محبتها لله على ذاتها، بل تنشر محبته أيضًا وسط الآخرين.
وإذا وصل الإنسان إلى المستوى الروحي، يأخذ عنده المستوى الفردي والمستوى الاجتماعي معني أعمق... فيصبح المستوى الفردي عنده من أجل ملكوت الله. ويصل به الاهتمام بالذات إلى بذل هذه الذات. ويضع أمامه قول السيد الرب:
(مَن وجد نفسه يضيعها. ومَن أضاع ذاته من أجلي يجدها) (مت39:10).
والمستوى الروحي أيضًا يعطي المستوى الاجتماعي طابعًا روحيًا.
يكون الشخص الروحي في المجتمع، إنسانًا خدومًا عن حب، يتعاون مع الكل ولكن في كل ما هو خير وبر. ويعطي كل من يقابله حبًا روحيًا، وأمثولة طيبة، ومعونة بكل كرم بل وبكل بذل، وفي الخفاء أيضًا. ويكون محترمًا من الكل لنقاوة قلبه وعفة لسانه، ليس لطلب مديح من الناس وإنما لأن: الرجل الصالح من كنز قلبه الصالح يخرج الصالحات" (مت35:12).
المستوى الروحي هو المستوى العالي الذي يمهد له المستوى الفردي والمستوى الاجتماعي. فيعلو فوقها دون أن يلغيها، بل يمنحه مسحة من روحانيته.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/righteousness/three.html
تقصير الرابط:
tak.la/d5fd6mr