باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد آمين.
يا أخوتي، في بداية عام جديد، أود أن نتذكر حقيقة هامة وهي:
الحياة هي وقت. والذي يضيع وقته، يضيع حياته.
كما أن الذي يستفيد من الوقت، إنما يستفيد من حياته.
حياتك هي أيام وساعات ودقائق. وكما قال الشاعر:
دقات قلب المرء قائلة له: إن الحياة دقائق وثواني
وأنا اليوم أود أن أقول لكم: كل عام وأنتم بخير. وها قد مضى عام، ونحن نستقبل عامًا جديدًا...
ولست أدري، هل أبارك لكم في العام الجديد،
أم أعزيكم بمناسبة العام الذي مضي..؟!
فالعام المنقضي، هو عام من حياة كل إنسان قد أنقضي، هو جزء من حياته قد مضي. هو خطوة قد خطاها نحو الأبدية، وأقترب بها نحو العالم الآخر... هو سجل من صفحات حياته سوف يعطي حسابًا عنه أمام الله وملائكته.
وكل عام يمضي من حياتنا، لا نستطيع أن نسترجعه مرة أخرى.
أصبح أمرًا واقعًا، مستحيلًا علينا، لا نستطيع تغييره.
ربما كانت لنا في العام الماضي أخطاء: قد نندم عليها، أو نتبرم بها، أو نتركها، أو نتوب عنها وتغفر لنا. ولكن مع ذلك لا نستطيع أن نلغي حدوثها. لقد حدثت وانتهى الأمر، ولا نستطيع أن نغير هذا أو ننكره. لقد أصبح تاريخًا، ولم يعد في إمكاننا أن نتصرف فيه...
لقد أنكر بطرس سيده. وتاب، وَغُفِرَت له هذه الخطية. ولكنها أصبحت تاريخًا. غفرانها لم يمنع أنها حدثت، بل يثبت حدوثها.
وقد عاش أوغسطنيوس حياة فاسدة. ثم تاب وتغيرت حياته إلى العكس وأصبح كنزًا من روحيات. ولكن هذه التوبة وهذه القداسة لم تمنع ما قد تسجل في صفحات تاريخه...
لذلك علينا أن ندقق في كل دقيقة وكل تصرف.
فكل دقيقة هي جزء من حياتنا. وكل تصرف هو جزء من تاريخنا. وكل دقيقة تمضي، لا نستطيع أن نسترجعها. وكل تاريخ لنا، لا نستطيع أن نلغيه أو ننكر وقوعه. ولقد أعطانا الله العمر، لكي نستغله للخير، ونحب الله فيه
وأعطانا هذا العام الجديد، ليكون عامًا للحب والخير.
وإذا ضاع هذا العام بغير ثمر، يكون هدف الله من إعطائه لنا لم يتحقق. ترى كيف سنسلك في هذا العام؟
هو صفحة بيضاء، لم نكتب فيها شيئًا بعد.
تُرَى ما الذي سنكتبه في هذه الصفحة من صفحات تاريخنا؟ ماذا سنسجله على أنفسنا؟ ماذا سنحاسب عليه، عندما يقول الله لكل منا "أنا عارف أعمالك" (رؤ 2: 2)؟ هل سنرضيه في السنة المقبلة، ونفعل مشيئته، نكون أفضل حالًا مما سبق؟
هل سنعتبر العام الجديد، وزنه نتاجر بها ونربح؟
هل ستكون كل دقيقة من دقائقه دسمة ومثمرة، ومملوءة بالخير والبركة، لنا وللآخرين؟ أترانا حريصين على كل دقيقة تمر من عمرنا؟ وهل كل ساعة من حياتنا ثمينة في نظرنا، عزيزة علينا؟
هل نعتبر أنفسنا مجرد وكلاء على هذه الحياة؟
هذه الحياة، حياتنا، ليست ملكًا لنا، إنما هي ملك لله، وهبها لنا. ونحن مجرد وكلاء عليها. إنها مجرد وديعة منه في أيدينا، ينبغي أن نكون أمناء عليها وسنقدم حسابًا عنها-جملة وتفصيلًا-حينما يقول لكل منا "أعطني حساب وكالتك" (لو 16: 2).
فلنراجع أنفسنا إذن، ولننظر إلى حياتنا كيف هي؟
كل وقت مملوء بالخير، هو الذي سيحسب من عمرنا.
هو الوقت الحي في حياتنا. أما الأوقات التي لا تستغل في الخير، فهي ميتة لا تحسب من الحياة، بل قد تميت غيرها معها. فعلى ذلك أسألكم: كم هي الأوقات التي ضاعت من عمركم ولم تحسب لكم. وكم هي الأوقات المحسوبة من عمركم، الحية المثمرة؟
كم هي سنو حياتكم الحقيقة على الأرض؟
انظروا إلى حياتكم، وليسأل كل منكم نفسه: كم ساعة من العمر كانت لي مع الله؟ وكم ساعة كانت للشيطان وللمادة وللجسد؟ كم ساعة كانت مثمرة، خيرة نيرة؟ ليتنا نواجه أنفسنا في صراحة وصدق ونسألها: كم هو الوقت الذي كان لنا في عمرنا، وكم هو الوقت الذي كان علينا وضدنا؟
إني أعجب ممن يبحث عن طريقه لقتل الوقت!
الذي يقتل الوقت، إنما يقتل حياته، لأن حياته هي بهذا الوقت. مثل هذا الإنسان الذي يبحث عن أية طريقة يقضي بها وقته، لكي يمر الوقت عليه بلا ملل... مثل هذا الإنسان، لا يشعر بأن هناك قيمة لحياته! إنه يعيش بلا هدف، وبلا رسالة. حياته رخيصة في عينيه، لذلك يبحث عن وسيلة يقتل بها وقته!
وعكس ذلك الذين يقدرون حياتهم، فيكون وقتهم مثمرًا.
هناك قديسون عاشوا فترة قصيرة جدًا على الأرض.
ولكنها فترة عجيبة الثمر، اقتدرت كثيرًا في فعلها.
كل دقيقة من حياتهم، كانت لها قيمة. وكان الله يعمل فيها.
خذوا مثالًا لذلك القديس يوحنا المعمدان: لقد بدأ رسالته وهو في سن الثلاثين، قبل بدء خدمة السيد المسيح بسته أشهر، وانتهت خدمته باستشهاده بعد ذلك بقليل. كم كانت فترة خدمته إذن؟ حوالي سنة على الأكثر.
وفي هذه الفترة القصيرة، استطاع أن يعد الطريق للرب، ويهيئ له شعبًا مستعدًا، ويكرز بمعمودية التوبة، ويعمد آلافًا من الناس، ويشهد للحق ويموت شهيدًا، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى. ويستحق أن يُدْعَى "أعظم من ولدته النساء" (مت 11: 11)، كما دعي ملاكًا...
إن الشهور التي قضاها يوحنا في الخدمة، كانت أثمن وأعمق بكثير من عشرات السنوات في حياة خدام آخرين. كان وقته غاليًا جدًا ومثمرًا، ونافعًا لجيله كله...
متوشالح الذي عاش 969 سنة، أطول عمر لإنسان على الأرض، لم نسمع عنه أنه عمل أعمالًا عظيمة خلال مئات السنوات، كبعض أعمال يوحنا المعمدان في شهور..!
وكما تحدثت عن الحياة المثمرة القصيرة التي للمعمدان،
يمكن أن أتحدث عن قديسين آخرين كبوليس الرسول...
الذي لو أتيح له أن يزور عالمنا، ولو ليوم واحد، لاستطاع في هذا اليوم الواحد أن يعمل عملًا لا نستطيع نحن مثله في مئات السنين... هذا القديس الذي تعب أكثر من جميع الرسل (1كو 15: 10)، وأسس كنائس عديدة في أقطار كثيرة، ونشر الإيمان. وكان يكتب الرسائل حتى وهو في السجن... كم كان وقت هذا القديس ثمينًا، له وللكنيسة كلها، عبر الأجيال الطويلة...
خذوا مثالًا أخر لساعة واحدة من حياة بطرس الرسول، ألقي فيها عظة فآمن على يديه ثلاث آلاف من اليهود، واعتمدوا (أع 2).. كم كانت تلك الساعة ثمينة، ليست مثل باقي ساعات الناس، وفاعليتها أكثر من فاعليه سنوات في حياة الآخرين
وهناك قديسون قضوا أوقاتهم بجدية فنموا نموًا مبكرًا:
كالقديس تادرس تلميذ الأنبا باخوميوس، الذي صار مرشدًا لكثيرين وهو لا يزال شابًا. وفي سنه الصغير أسس عددًا كبيرًا من الأديرة وأشرف عليها، وصار الساعد الأيمن للقديس باخوميوس، وأعتبره الكل كطاقة روحية جبارة، وهو بعد شاب... ويشبهه في نموه المبكر القديس يوحنا القصير، الذي قيل عنه إن الإسقيط كله كان متعلقًا بأصابعه، وكان شابًا، ومرشدًا لكثيرين...
نعم كثيرون كهؤلاء عاشوا حياة قصيرة ولكنها غالية.
عاشوا حياة مثالية، قدموا فيها صورة حية لأولاد الله، وأدوا فيها رسالات عظيمة، وقدموا للعالم قدوة ومثالًا ونفعًا. وقيست حياتهم بمفعولها وليس بطولها. وكان مفعولها عجيبًا...
ومثل تادرس ويوحنا القصير، نذكر الأنبا ميصائيل السائح.
هذا الذي كانت كل دقيقة من حياته الرهبانية لها عمقها الروحي وفاعليتها، حتى انه صار سائحًا وهو في حوالي الثامنة عشرة من عمره... وهكذا نما بسرعة كبيرة، لأن وقته كان ثمينًا، لم يضيعه، بل استغله في حياة النمو، بجدية لا تعرف التهاون مطلقًا...
ولعلكم وسط هذه الأمثلة تسألون: ما هو أعجب وقت عرفه التاريخ في تأثيره وفاعليته، فأجيبكم إنها الثلاث ساعات التي قضاها المسيح على الصليب، من السادسة إلى التاسعة:
ثلاث ساعات على الصليب، كانت كافية لخلاص العالم!
لا يوجد بالنسبة إلينا، وقت أثمن من هذه الساعات الثلاث، التي فيها سفك السيد المسيح دمه وقدم حياته كفارة عن خلاص العالم كله... إن آلاف السنين لا يمكن أن تتوازن مع هذه الساعات الثلاث، التي كانت بركة لكل الأجيال من آدم إلى آخر الدهور، والتي محيت فيها خطايا العالم كله، التي حملها المسيح عمن آمنوا به... حقًا هذه الساعات الثلاث لا توازيها أجيال البشرية كلها.
وجزء من هذه الساعات، كان لخلاص اللص اليمين.
إن كل العمر الذي عاشه ديماس اللص، لا يمكن أن يقارن بهذه الساعات التي قضاها مع المسيح على الصليب. وكل أنواع اللذة والسعادة التي تمتع بها في حياته، لا يمكن أن تقاس باللحظة التي سمع فيها من فم الرب عبارة "اليوم تكون معي في الفردوس".. إنها أسعد لحظة في حياته. عمره كله لا يساويها.
حقًا أن مقاييس الوقت، تختلف في طولها وعمقها.
إن ساعات قليلة من حياة إنسان، قد تكون أطول وأعمق في مفعولها، من عمر كامل لإنسان آخر، سواء من جهة الخير أو الشر، النفع أو الضرر...
ساعة من حياة بطرس الرسول، كانت سببًا لخلاص ثلاثة آلاف.
وساعة عكسية في حياة داود النبي، أخطأ فيها، وظل يبكي بسببها حياته كلها، ويبلل فراشه بدموعه، وصارت دموعه شرابًا له نهارًا وليلًا...
وأنت: هل وقتك صديق لك أم عدو؟
هل هو لك أم عليك؟ هل تكسب فيه الحياة أم تخسرها؟ هل تنمو فيه روحيًا، أم ترجع فيه إلى الوراء؟ أسأل نفسك.
هل مر عليك يوم قلت عنه ندم: ليت هذا اليوم لم يكن من حياتي... فمشاكلي طول العمر هي من نتاج هذا اليوم، الذي فيه ضيعت عمري..!
ومن الناحية الأخرى: هل مر عليك وقت آخر كان له تأثيره الجميل في حياتك وحياة الناس!
هناك أناس كانت حياتهم بركة لأجيالهم...
لدرجة تجعل بعض الناس يقولون "لقد عشنا في زمن فلان، عشنا في جيله وعاصرناه". فهل أنت هكذا، يفرح الناس لأنهم عاشوا في أيامك وعاصروك وتأثروا بك؟ هل لك تأثير وفاعلية وبركة؟ هل وقتك ترك خاتمة على غيرك؟
كثيرًا ما يرتبط الجيل بالشخص، وتسمَّى باسمه، كما قلنا...
ليس في النطاق الروحي فقط، بل والمدني أيضًا.
فكثيرون يذكرون مثلًا عصر شكسبير، الشاعر المعروف، دون أن يعرفوا القادة الذين عاشوا في عصره، إلا الذين أرتبط بهم تاريخه، فأعطاهم تاريخه شهرة... أو قد يتحدث البعض عن عصر مايكل أنجلو الرسام الإيطالي المعروف، دون أن يعرفوا البابوات الذين عاشوا في زمنه، أو الأباطرة الذين عاصروه. لقد كان هو أشهر من في الجيل كله، فعرف الجيل كله به، لأن وقت ميشيل أنجلو ترك آثارًا عميقة استمرت حتى جيلنا هذا...
نقول هذا هؤلاء المشهورين، ونقول من الناحية الأخرى:
هناك أشخاص آخرون، عاشوا وكأنهم لم يولدوا!
قضوا فترة على الأرض، وكأنهم غير موجودين، كأنهم لم يخلقوا. لم يَسْتَفِد العالم شيئًا من وجودهم، ولم يحدثوا تأثيرًا حتى في الدائرة الضيقة التي عاشوا فيها كان وقتهم بلا ثمر، لم يستغلوه لمنفعتهم ولا لمنفعة أحد. لذلك صارت حياتهم فراغًا.فحاذروا أن تكونوا من هذا النوع، بل استفيدوا من وقتكم، لبنيانكم وبنيان الآخرين... ولا أقصد أن يكون تأثيركم في المجتمع الذي تعيشون فيه، هو من أجل لفت الأنظار، إنما من أجل أيمانكم بأن تكون لكم رسالة، في بناء ملكوت الله على الأرض...
إن كانت أيامكم السابقة بهذا الثمر، فطوباكم. وإن لم تكن فاهتموا من بداية هذا العام الجديد أن تكون حياتكم مثمرة، وأن يكون وقتكم غاليًا، وله فاعليته...
احرصوا أن يكون هذا العام مثالي...
لو كانت أعوام حياتكم تتنافس فيما بينها، فأي عام من هذه الأعوام يكون أفضلها..؟ لا تتبعوا أنفسكم في فحص الماضي، إنما ليت هذا العام الجديد يكون هو الأفضل وهو العام المثالي.
ليت هذه السنة الجديدة تكون أحسن سنوات العمر.
وليتنا نقول هذه العبارة في كل عام جديد يطل علينا. وكما يدرب البعض أنفسهم على يوم مثالي يقضونه في أجمل وضع روحي، هكذا فليكن لنا تدريب العام المثالي، كل يوم من أيام هذا العام المثالي، لنجعل كل يوم من أيام هذه العام يومًا مثاليًا، وكل ساعة فلتكن ساعة مثالية.
فليعطينا الرب هذه النعمة، له المجد الدائم إلى الأبد آمين.
_____
* مختصرة عن محاضرتين ألقيتا في الكاتدرائية الكبرى بالعباسية "أحدهما مساء الجمعة 31/12/1971 والأخرى مساء الجمعة 25/2/1977.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/new-year/time.html
تقصير الرابط:
tak.la/v5vbmd6