ليست هناك أيَّة صعوبة في معرفة أن العروس هي المتحدثة في البداية. وكلماتها ليست لشخص مائت في الخطية وإنما لشخص يبدو له الرب كجذر حي في أرض جافة لا شكل لها ولا جمال - إن المتحدثة قد انفتحت عيناها فرأت جماله وهي متلهفة على فرح أكثر امتلاء. [فليقبلني بقبلات فمه لأن حبه أحلى من الخمر]: "لِيُقَبِّلْنِي بِقُبْلاَتِ فَمِهِ، لأَنَّ حُبَّكَ أَطْيَبُ مِنَ الْخَمْرِ." (نش 1: 2).. ومثل هذا التعبير يبين مرحلة واضحة في نمو حياة النعمة داخل النفس. وهذا الاختبار المسجل لنا يعطينا ضمانًا للرغبة الإلهية في الاستعلان المحسوس لحضرته فينا، أو بعبارة أخرى للتواصل المحسوس لحبه، ولم يكن هذا حالها من قبل إذ كانت راضية بغيابه ومكتفية بانشغالات ومعاشرات أخرى. أما الآن فلن تستطع ذلك إطلاقًا. فالعالم لن يمكنه أن يكون ما كانه لها من قبل. لأن العروس المخطوبة قد تعلمت أن تحب ربها ولن ترضيها غير عشرته. قد تكون زياراته من وقت لآخر وقد تكون قصيرة، ولكنها أوقات غالية مليئة بالسعادة. وستظل ذكراها معززة خلال فترات ابتعاده، كما ستظل اللهفة شديدة على سرعة عودته، إذ ليس هناك رِضَى في غيابه. ولكن أواه! إنه ليس معها. إنه يأتي ويذهب. والآن أصبح فرحها فيه هو السماء هنا. وأيضا أواه! فهي مشوقة لحضرته - عبثًا! واختبارها أشبه بالمد والجزر. وَمَنْ يدري؟ فقد تكون عدم الراحة هي القاعدة والرضى هو الشواذ. ولكن أليس هناك مَخْرَج من هذا الموقف؟ وهل من الممكن أن يكون الله قد خلق هذه اللهفة الظامئة لا لغرض سوى استنارتها؟ إن صَحَّ هذا يكون مُسْتَغْرَبًا جدًا. ولكن أليس هناك الكثير من أولاد الله تتفق اختبارًاتهم مع اختبارًات العروس؟ فهم لا يعرفون الراحة ولا الفرح في الثبات في المسيح ولا يعرفون كيفية الوصول إلى هذا الفرح وهذا الثبات، ولا لماذا لا يمكنهم الحصول عليهما. فكم منهم ينظرون إلى الأوقات السعيدة لبداية خطوبتهم وبدلًا من أن يجدوا تزايدًا لميراثهم في السيد المسيح يحسون بأنهم قد فقدوا حبهم الأول ولا يستطيعون إلا أن يرددوا في حزن: أين البهجة التي عرفتها في بداية مسيرتي مع الرب؟ وهناك مَن لم يفقدوا حبهم الأول ومع ذلك يحسون بأن فترات التباعُد أصبحت ثقيلة الاحتمال لتزایُد ضآلة العالم أمامهم. فغيابه مؤلم للغاية: "ليتني أعرف أين أجده. ليته لا يسحب نور وجهه عني مطلقًا!" يا للنفس المسكينة! فهناك حب أقوى من حبك. متلهف ظامئ إليك. إن العريس منتظر طول الوقت، والظروف التي تَحُول دون اقترابه كلها من صنعك. اتخذي مكانك الصحيح أمامه فتجديه مستعدًا كل الاستعداد، فرحًا كل الفرح لأن يشبع كل احتياجاتك وأعمق تلهفاتك. ولنفكر: ماذا يكون حُكمنا على مخطوبة أعاق غرورها وتعنتها إتمام بهجتها وبهجة ذاك الذي منحها قلبه؟ فمع كونها قَلِقَة لغيابه لا تستطيع الوثوق فيه تمامًا، وهي لا تريد أن تفرط في اسمها وفي حقوقها وفي ممتلكاتها وفي إرادتها إكرامًا لذاك الذي أصبح ضرورة لسعادتها. إنها تتوق أن يكون لها من غير أن تعطيه نفسها بالكلية. ولكن هذا غير ممكن. فطالما هي مُحتفظة باسمها لا يمكنها اتخاذ اسمه. ولن تستطيع الوعد بأن تحبه وتكرمه ما لم تَعِد بأن تطيعه. وإلى أن يبلغ حبها تلك النقطة من الاستسلام، عليها أن تظل المحبوبة من بعيد ولن يمكنها أن تكون العروس الراضية في بيت زوجها. وما دامت متشبثه بإرادتها وبحق التصرف في ممتلكاتها عليها أن تعيش على حسابها الخاص ولن تكون له.
فهل هناك دليل أشد بؤسًا على واقعية سقوط الإنسان ومدى هذا السقوط من عدم الثقة المتأصل داخلنا ضد ربنا الحبيب، مما يجعلنا نتردد في أن نعطيه ذواتنا بكليتها، خوفًا من أن يطالبنا بما هو فوق طاقتنا؟ إن السر الحقيقي للحياة القَلِقَة هو عدم تسليم إرادتنا لله. فهل نزعم أننا أكثر حكمة منه؟ أو أن حبنا لأنفسنا أكثر حنانًا وقوة من حبه لنا؟ أم أننا نعرف أنفسنا أكثر مما يعرفها؟ كم تتسبب عدم ثقتنا في جرح وإیلام القلب الحنين لذلك الذي ارتضى أن يكون رجل الآلام من أجلنا. ماذا تكون أحاسيس العريس الأرضي لو أنه اكتشف أن العروس التي اختارها مرتعبة من الزواج به، لئلا يجعل حياتها غير مُحتملة حين تصبح له السلطة؟ ومع ذلك فكم من المفديين يعاملون ربهم على هذا النحو، أفلا غرابة في أنهم قلقون غير راضين.
← انظر كتب أخرى للمؤلفة هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
على أن المحبة الحقيقية لا يمكن أن تقف مكانها، فهي إما أن تنمو وإما أن تنكمش، لهذا فبالرغم من مخاوف قلوبنا الهزيلة لا بُد من أن تنتصر المحبة الإلهية - فتهتف العروس: "لِرَائِحَةِ أَدْهَانِكَ الطَّيِّبَةِ. اسْمُكَ دُهْنٌ مُهْرَاقٌ، لِذلِكَ أَحَبَّتْكَ الْعَذَارَى." (نش 1: 3). وقديمًا لم يكن هناك دهن يشابه الدهن الذي يُمْسَح به رئيس الكهنة. وعريسنا كاهن وملك معًا. ورغم العروس غير قادرة أن تصرف مخاوفها بالتمام إلا أن القلق والتلهف يصبحان غير محتملين فتقرر أن تسلم بكليتها وأن تتبع عريسها مهما حدث ستسلم له ذاتها: قلبها ويدها ونفوذها وممتلكاتها. فليس ما هو أشق على نفسها من بعاده. وحتى إن قادها إلى الجلجثة فستتبعه: "اُجْذُبْنِي وَرَاءَكَ فَنَجْرِيَ" (نش 1: 4). فماذا يحدث؟ مفاجئة بهيجة. فهو لا يقودها إلى الجلجثة وإنما نجده ملكًا. فحين يخضع القلب يملك يسوع المسيح. وحين يملك تسود الراحة.
وإلى أين يقود عروسه؟ - "أَدْخَلَنِي الْمَلِكُ إِلَى حِجَالِهِ".
لم يأخذها أولًا إلى الوليمة بل أخذها لتخلو معه. ما هذا الكمال؟ ولكن - هل يرضى أحدنا بلقاء حبيبه في مكان عام فقط؟ طبعًا لا. إننا نريد أن يأخذ هذا الحبيب على حدة. هكذا سیدنا إنه يأخذ عروسه المُستسلمة له كلية إلى حجاله لتتذوق قدسية محبته العجيبة. وعريس كنيسته متلهف على التواصل بشعبه أكثر مما يتوقون هم إلى الألفة معه، وكثيرًا ما يصرخ: "أَرِينِي وَجْهَكِ، أَسْمِعِينِي صَوْتَكِ، لأَنَّ صَوْتَكِ لَطِيفٌ وَوَجْهَكِ جَمِيلٌ." (نش 2: 14).
ألسنا جميعًا أَمْيَل إلى طلبه لحاجتنا إليه مما نحن لإعطائه الفرح؟ وهذا غير لائق البتة. فنحن نستنكِر تصرف الطفل الذي لا يفكر إلا فيما يمكنه أخذ من والديه، غير مُبال بالفرح الذي يمكنه إدخاله على قلبيهما ولا بقيمة خدماتهما. ولكن ألسنا في خطر التناسي بأن إرضاء الله معنا تفريحه؟ وكثيرًا ما يظن البعض أن إرضاء الله لا يزيد على عدم إغضابه. ولكن هل يكتفي حُب الوالدين الأرضيين بعدم العصيان؟ وهل يرضى عريس بعروس لم تقبله إلا لأنه يعطيها ما تحتاج إليه؟
وهنا يَصِح الحديث عن ساعة الصبح. فليس هناك وقت أَعَم فائدة من إعطاء الساعة المبكرة للرب وحده. فهل نولي هذه الساعة انتباهنا؟ إن كنا أهملناها للآن فعلينا المُبادرة لأنه يجب أن نعطي أنفسنا الوقت لنكون مقدسین. وحين نأتي إلى الله بمشاكلنا - ألا نندفع إلى تكديسها أمامه دون أن ننتظر الرد؟ ألا يبين مثل هذا المَسْلَك أننا غير متوقعين إجابته أو أنه ليست لدينا الرغبة فيها؟ هل يرضينا هذا التعامل؟ إن الانتظار الصامت أمام الله ضروري.
ولقد وجدنا أن العروس اكتشفت اكتشافًا مفرحًا: اكتشفت ملكها بدلًا من الصليب الذي كانت تخشاه. علی أن هناك اكتشافًا آخر ينتظرها. لقد رأت وجه الملك، وكما تظهر الشمس ما كان يخفيه الظلام، هكذا كشف نوره عن سوادها فتهتف: "أَنَا سَوْدَاءُ" (نش 1: 5)، ويقاطعها العريس بنعمة لا تباری وحنين متناه "بَلْ جَمِيلَةٌ". فتجيبه "سَوْدَاءُ.. كَخِيَامِ قِيدَارَ" فيؤكد ولكنك لي [كستائر سلیمان]: "كَشُقَقِ سُلَيْمَانَ"! وليس هناك ما يجعل النفس تتواضع غير الصلة الباطنية القدسية بالله، ورغم ذلك فهناك فرح حلو في الإحساس بأنه يعرف كل شيء ومع ذلك يحبنا. وما كنا نحسبه من قبل هفوات صغيرة نراه الآن بعيون استنارت بحضرته الخفية فتمكنت من رؤية الخطية في عدم عنایتنا بكرمنا. وهذا ما تهتف به العروس لغورها قائلة: "لاَ تَنْظُرْنَ إِلَيَّ لِكَوْنِي سَوْدَاءَ، لأَنَّ الشَّمْسَ قَدْ لَوَّحَتْنِي. بَنُو أُمِّي غَضِبُوا عَلَيَّ. جَعَلُونِي نَاطُورَةَ الْكُرُومِ. أَمَّا كَرْمِي فَلَمْ أَنْطُرْهُ." (نش 1: 6).
والآية الأخيرة توجه نظرنا إلى خطر شائع في أيامنا: فكثيرًا ما ننشغل بمختلف الأمور وحتى بالخدمة الاجتماعية إلى حد أننا نُهمل الاختلاء الشخصي بالله. وهذا الإهمال لا يقلل من قيمة خدمتنا فقط بل غالبًا ما يجعلنا عاجزين عن أَسْمَى خدمة. فإن نحن سهرنا على نفوس الآخرين وغفلنا عن نفسنا، إن سعينا إلى إخراج القذى من عيون إخوتنا متغاضين عن الخشبة التي في عيننا، فسوف نَحِس بخيبة الأمل لِمَا أصابنا من ضعف في معاونة إخوتنا. وفي الوقت عينه سيتألم ربنا لضعفنا، فيجب أن نَتَيَقَّن دائمًا أن ما نحن عليه أهم ما نعمله، أو بعبارة أخرى أن بِناء شخصيتنا يأتي أولًا إن شئنا بناء شخصيًّات الآخرين، وأن كل ثمار نجنيها ونحن بعيدون عن السيد المسيح هي ثِمار جسدية وليست ثِمَارًا روحية. وحتى عندما ننال المغفرة على هذا الإهمال، فلَا بُد لنا من السعي إلى إزالة آثاره بأسرع ما نستطيع.
وفي هذه المرحلة نرى دليلًا حلوًا على حقيقة الوحدة القلبية بين العروس وسيدها: إنها الآن واحدة مع الراعي الصالح - فيندفع قلبها تلقائيًا نحو رعاية الغنم لذلك تستهدف السير في أثر خطواته ولا تعمل بمفردها أو بصحبة غيره فتطلب إليه قائلة: "أَخْبِرْنِي يَا مَنْ تُحِبُّهُ نَفْسِي، أَيْنَ تَرْعَى، أَيْنَ تُرْبِضُ عِنْدَ الظَّهِيرَةِ. لِمَاذَا أَنَا أَكُونُ كَمُقَنَّعَةٍ عِنْدَ قُطْعَانِ أَصْحَابِكَ؟" (نش 1: 7). واستجابةً لرغبتها تهيب بها بنات أورشليم: "إِنْ لَمْ تَعْرِفِي أَيَّتُهَا الْجَمِيلَةُ بَيْنَ النِّسَاءِ، فَاخْرُجِي عَلَى آثَارِ الْغَنَمِ، وَارْعَيْ جِدَاءَكِ عِنْدَ مَسَاكِنِ الرُّعَاةِ." (نش 1: 8). وإجابتهن معناها أن عليها أن تُبَيِّن حبها لربها برعاية خرافه والاهتمام بِحِمْلَانه - وساعتئذٍ لن تخشى من فُقدان حضرته. لأنها حينما تَتَشَارَك مع رعاة آخرين العناية بالقطعان، ستجد الراعي الأعظم إلى جانبها وتبتهج بعلامات رِضاه عنها لأن خدمتها ستكون آنذاك معه وله.
← انظر كتب أخرى للمؤلفة هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
على أن الأحلى من إجابة بنات أورشليم هو صوت العريس نفسه. فإجابته هي الثمرة الحية لوحدتها القلبية معه. وتتدفق كلماته في تعبيرات بهيجة. لأن الواقع أن رعاية خِراف سیدنا هي التعبير الصحيح عن محبتنا له. وبما أنه أعلن أن ما نفعله بأحد إخوته الأصاغر نفعله به فإن عملنا يبهج قلبه وبالتالي يعلن لنا عن نفسه. وتحيته للعروس هنا ذات جمال خاص: "لَقَدْ شَبَّهْتُكِ يَا حَبِيبَتِي بِفَرَسٍ فِي مَرْكَبَاتِ فِرْعَوْنَ." (نش 1: 9). وتذكرنا هذه التحية بأن الخيول المُنْتَقَاة لمركبات فرعون لم تكن أصيلة جميلة فقط، بل كانت أيضًا مُدَرَّبَة تدريبًا دقيقًا جعلها وَديعة مُطيعة لا تعرف غير إرادة سائقها، ولا عمل لها غير حَمْل الملك إلى أية جهة يشاءها. وهذا ما يجب أن تكونه كنيسة السيد المسيح: جسدًا واحدًا ذا أعضاء كثيرة، حالًا فيها الروح القدس الذي يرشدها، حاملة الرأس، لا تعرف سوى إرادته، لكي تؤدي تحركاتها السريعة المتناسقة إلى تقدم ملكوته في أنحاء العالم كله.
ويستطرد العريس حديثه بصورة أخرى لا تقل جمالًا عن الأولى: "مَا أَجْمَلَ خَدَّيْكِ بِسُمُوطٍ، وَعُنُقَكِ بِقَلاَئِدَ! نَصْنَعُ لَكِ سَلاَسِلَ مِنْ ذَهَبٍ مَعَ جُمَانٍ مِنْ فِضَّةٍ." (نش 1: 10-11). فالعروس لیست جميلة ونافعة لسيدها فقط بل هي مُزينة أيضًا، ويفرحه أن يضيف إلى زينتها ويختار لها الذهب الخالص والفضة المُنتقاة. وتبتهج العروس برعاية محبوبها لها فتهتف: "مَا دَامَ الْمَلِكُ فِي مَجْلِسِهِ، أَفَاحَ نَارِدِينِي رَائِحَتَهُ." (نش 1: 12). وهذه الحقيقة الرائعة هي أن حضرة الملك ونعمتهُ تؤديان إلى إظهار ما يكون في داخلنا من عِطر أو جمال، لأنه هو مصدر العِطْر وهذا الجمال، ومن خلاله يبرزان وإليه ينتهيان، ولكنه هو ذاته أسمَى وأعلى من كل ما تغدقه علينا نعمته. وهذا ما تعلنه العروس: "صُرَّةُ الْمُرِّ حَبِيبِي لِي. بَيْنَ ثَدْيَيَّ يَبِيتُ. طَاقَةُ فَاغِيَةٍ حَبِيبِي لِي فِي كُرُومِ عَيْنِ جَدْيٍ." (نش 1: 13-14). فما أحلى أن تمتلئ عيوننا بجماله وتنشغل قلوبنا بشخصه. وبمدى ما تفيض به قلوبنا ندرك الحقيقة المقابلة وهي انشغال قلبه الأعظم بنا. وتتضح لنا هذه الروعة من استجابته إذ يعلن: "هَا أَنْتِ جَمِيلَةٌ يَا حَبِيبَتِي، هَا أَنْتِ جَمِيلَةٌ. عَيْنَاكِ حَمَامَتَانِ." (نش 1: 15). ويردد تقديره لها بصيغة أقوى بعد ذلك: "كُلُّكِ جَمِيلٌ يَا حَبِيبَتِي لَيْسَ فِيكِ عَيْبَةٌ" (نش 4: 7).
ولكن كيف يقول العريس هذه الكلمات لِمَنْ أعلنت عن نفسها أنها سَوْدَاءُ كَخِيَامِ قِيدَارَ؟ إن بولس الرسول يوضح لنا هذه الحقيقة المذهلة في الأصحاح الثالث من رسالته الثانية إلى الكورنثيين (2 كو 3). إذ فيه يحدثنا عن لمعان وجه موسی لِتَأَمُّله المجد الإلهي لمعانًا اضطره إلى وضع بُرْقُع، لأن الشعب لم يستطع التحديق فيه. أما نحن فنهتف في تهليل مع رسول الأمم: "وَنَحْنُ جميعًا نَاظِرِينَ مَجْدَ الرَّبِّ بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ، كَمَا في مِرْآةٍ، نَتَغَيَّرُ إِلَى تِلْكَ الصُّورَةِ عَيْنِهَا، مِنْ مَجْدٍ إِلَى مَجْدٍ، كَمَا مِنَ الرَّبِّ الرُّوحِ." (2 كو 3: 18) والمرآة هنا ذات وجهين: أحدهما أَغْبَر لا يعكس شيئًا، وبالتالي فكله بقع. وثانيهما مصقول، وبالتالي يعكس ما هو أمامه. فبينما تُهَلِّل العروس بجمال عريسها يبصر هو صورته فيها، وهذه الصورة كلها جميل ليس فيها عيبة. فليعطنا الله أن نَعْكِس صورته دومًا للعالم الذي نعيش فيه ليتمكن من رؤية جماله الساطِع.
ويكرر العريس قوله "عَيْنَاكِ حَمَامَتَانِ." (نش 1: 15؛ 4: 1). ولنتمعن هذا التشبيه. فالصقر مثلًا ذو عينين براقتين سریعتي الاختراق. ولكن العريس لا يريد العينين اللتين لا تتميزان إلا بالبريق، إنه يريد العينين الممتلئتين وداعة. فلقد نزل عليه الروح القدس مثل حمامة وهو صاعد من نهر الأردن (يوحنا 1: 32). وهو يطلب من كل المتتلمذين له أن يكونوا ودعاء كالحمام. ولأنه يستهدف هذه الوداعة، فقد حَرَمَ الملك داود من بناء الهيكل لأنه كان رجل حرب وَصِدام، وأعطى لسليمان نعمة بنائه لأنه كان رجل سلام. فكل مَنْ يرغب في اجتذاب الناس إلى ربه عليه أن يعكس صورة السيد المسيح في محبة ووداعة.
ونأتي الآن إلى إجابة العروس. لقد دعاها العريس جميلة. وهي تجيبه بحكمة وتوازن:
"هَا أَنْتَ جَمِيلٌ يَا حَبِيبِي وَحُلْوٌ، وَسَرِيرُنَا أَخْضَرُ. جَوَائِزُ بَيْتِنَا أَرْزٌ، وَرَوَافِدُنَا سَرْوٌ. أَنَا (لست سوى) نَرْجِسُ شَارُونَ، سَوْسَنَةُ الأَوْدِيَةِ" (نش 1: 16-17؛ 2: 1). وكثيرًا ما يفسر البعض الآيتين الأخيرتين على أنهما من حديث العريس، ولكن يبدو لنا أن العروس قالتهما مؤيدة ما أعلنته سابقًا من أن الجمال كله لحبيبها وأنها هي ليست سوی زهرة برية. ويستكمل العريس إعجابه فيقول: [حتى إن كنتِ زهرة برية فأنتِ] "كَالسَّوْسَنَةِ بَيْنَ الشَّوْكِ كَذلِكَ حَبِيبَتِي بَيْنَ الْبَنَاتِ." (نش 2: 2). وعندما تنساب كلماتها تترقرق: "كَالتُّفَّاحِ بَيْنَ شَجَرِ الْوَعْرِ كَذلِكَ حَبِيبِي بَيْنَ الْبَنِينَ. تَحْتَ ظِلِّهِ اشْتَهَيْتُ أَنْ أَجْلِسَ، وَثَمَرَتُهُ حُلْوَةٌ لِحَلْقِي." (نش 2: 3). فهي -بعد اعترافها بأنها مجرد زهرة برية- تعلن أن حبيبها شجرة نبيلة جمعت بين الجمال والإثمار، إنه ظل لها يقيها حرارة الشمس وينعش نفسها. وموقفها هنا يتعارض مع ما كانت عليه. لقد عرف عريسها تمامًا سبب مخاوفها النابعة من جهلها به. فأخذها على حدة. ومن خلال الأحاديث الحلوة والمحبة المُتَبَادَلة بَدَّد مخاوفها وأزال عدم ثقتها كما تبدد الشمس المشرقة ضباب الليل.
وبما أنها تعلمت أن تعرفه فهو يعطيها اختيارًا جديدًا لمحبته وذلك باعترافه بها جهارًا: "أَدْخَلَنِي إِلَى بَيْتِ الْخَمْرِ، وَعَلَمُهُ فَوْقِي مَحَبَّةٌ." (نش 2: 4). لقد أصبحت الآن بلا مخاوف ولا قلق فتستطيع أن تجلس إلى جانبه بوصفها العروس المُختارة. ولفيض محبته التي غمرتها لا يسعها إلا أن تهتف: "أَسْنِدُونِي بِأَقْرَاصِ الزَّبِيبِ. أَنْعِشُونِي بِالتُّفَّاحِ، فَإِنِّي مَرِيضَةٌ حُبًّا. شِمَالُهُ تَحْتَ رَأْسِي وَيَمِينُهُ تُعَانِقُنِي." (نش 2: 5-6). وبهذه الكلمات تعبر عن البركة التي تستمتِع بها من كونها مملوكة إذ لم تَعُد ملكًا لنفسها وقلبها مستريح فيه. وهذا ما يبتغيه الملك لذلك يقول: "أُحَلِّفُكُنَّ يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ بِالظِّبَاءِ وَبِأَيَائِلِ الْحُقُولِ، أَلاَّ تُيَقِّظْنَ وَلاَ تُنَبِّهْنَ الْحَبِيبَ حَتَّى يَشَاءَ." (نش 2: 7). هنا أيضًا يظن عدد من المفسرين أن هذه كلمات العروس. ولكن بالتأمل فيها نری أن الكلمات صادرة عن العريس، لأن ربنا يرغب في أن تكون راحتنا فيه دائمًا فلا يقلقنا أحد، وهو هو لا يتغير مطلقًا: إنه أَمْسًا وَالْيَوْمَ وَإِلَى الأَبَدِ (عب 13: 8) على محبته لنا. وقد وعدنا "لاَ أَتْرُكُكَ وَلاَ أُهْمِلُكَ" (يش 1: 5). ووصيته لنا هي "اُثْبُتُوا فِيَّ وَأَنَا فِيكُمْ" (يو 15: 4).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/iris-habib-elmasry/song-of-songs/dissatisfaction.html
تقصير الرابط:
tak.la/49a7rrz