"لذلك ينبغي أن ننتبه إلى ما سمعنا لئلا نفوته" (عبرانيين 2: 1) - لقد رأينا العروس راضية ومرتاحة بين ذراعي حبيبها الذي نَاشَد بنات أورشليم لا تيقظنها ولا تنبهنها حتى تشاء (نش 2: 7). ويحق لنا أن نظن أن واحدة بلغت هذا الحد من الكمال والرضى لن يمكن أن يعترضها أي فشل من جانب العروس السعيدة، ولكن يا للأسف! فقد عرفنا بالاختبار الشخصي كم هو سهل أن نقطع تواصلنا مع السيد المسيح، وما أحوجنا إلى الإصغاء إلى وصية مخلصنا بأن نظل أغصانًا ثابتة في الكرمة. والفشل من ناحيتنا دائمًا لأنه هو أمين إلى المنتهى، وقد أكد لنا هذا [هَا أَنَا مَعَكُمْ إِلَى الانْقِضَاءِ] (مت 28: 20). وللأسف أن العروس نسيت الوصية المُعْطَاة لها: [اسمعي يا ابنتي وانظري وأمیلي بسمعك انسي شعبك وبيت أبيكِ لأن الملك قد اشتهى حسنك. فهو ربك وله تسجدین] (مز 45: 10-11). فنراها هنا قد انزلقت من حالتها الطوباوية إلى مُجَاراة العالم. وَمَنْ يدري؟ فقد تكون راحتها الناتجة عما وجدت من بهجة جعلتها تزعم بأنها في مأمن، أو أنه بالنسبة لها ليست في حاجة إلى الوصية: [أَيُّهَا الأَوْلاَدُ احْفَظُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ الأوثان] (1 يو 5: 21). أو قد يرجع انزلاقها إلى أنها زعمت أن محبة العالم قد تلاشَت تمامًا من قلبها، فتستطيع أن تعود إلى العالم من غير خوف، أو أن قليلًا من التنازلات من جانبها قد يمكنها من اجتذاب أصدقائها إلى سيدها! وقد يكون أنها في فرحتها بالخلاص والحرية، نسيت أن تيارات العالم عنيفة في مُضادتها لها، فانزلقت عن عدم وعي وعادت مرة أخرى إلى المركز الذي نوديت منه.
أواه! كم من مرة ينجح العدو بوسيلة أو بأخرى في أن يُغري المؤمن بعيدًا عن موقفه التكريسي التام للسيد المسيح الذي فيه ننال مِلء قوته ومحبته. وَتَبَاعُد المؤمن لا يعني أنه كَفَّ عن محبة فاديه. فنحن نجد أن العروس ما زالت تحبه بإخلاص، وأن هناك سلطة في كلمته تهزها ولو أنها لا تطيعه على الفور، وهي -في هذه الحال- لا تدرك مدى الألم الذي تُحْدِثهُ في نفس سیدها، ولا واقعية الحاجز الذي يفصل بينهما. فالعالم يبدو لها تافهًا، ولكنها ما زالت لا تَتَفَهَّم تمامًا المعنى الكامِن في الكثير من الآيات المقدسة التي تشير إلى خطر مُصادقة العالم. "لاَ تُحِبُّوا الْعَالَمَ وَلاَ الأَشْيَاءَ الَّتِي فِي الْعَالَمِ" (1 يو 2: 15) وغيرها من التوجيهات المُمَاثِلة. كذلك فعلينا الاختيار، إذ ليس من الممكن أن نستمتع بالعالم وبالسيد المسيح معًا. والعروس لم تَتَعَلَّم هذا الدرس بعد، فهي تبتغي الاستمتاع بالاثنين من غير التفكير في عدم تناغُمهُمَا. وهي تراقب اقتراب العريس بفرح فتهتف: "صَوْتُ حَبِيبِي. هُوَذَا آتٍ طَافِرًا عَلَى الْجِبَالِ، قَافِزًا عَلَى التِّلاَلِ. حَبِيبِي هُوَ شَبِيهٌ بِالظَّبْيِ أَوْ بِغُفْرِ الأَيَائِلِ. هُوَذَا وَاقِفٌ وَرَاءَ حَائِطِنَا، يَتَطَلَّعُ مِنَ الْكُوَى، يُوَصْوِصُ مِنَ الشَّبَابِيكِ." (نش 2: 8-9). ويهتز قلبها فرحًا عند سماعها صوته وهو آتٍ يطلبها. لقد اجتاز التلال واقترب منها، بل إنه واقف خلف حائطها يتطلع من خلف الشبابيك. ولا يلفظ كلمة عِتاب بل إن كلماته كلها حنان وحرارة، فتغوص تضرعاته في أعماق ذاكرتها. "أَجَابَ حَبِيبِي وَقَالَ لِي: «قُومِي يَا حَبِيبَتِي، يَا جَمِيلَتِي وَتَعَالَيْ. لأَنَّ الشِّتَاءَ قَدْ مَضَى، وَالْمَطَرَ مَرَّ وَزَالَ. الزُّهُورُ ظَهَرَتْ فِي الأَرْضِ. بَلَغَ أَوَانُ الْقَضْبِ، وَصَوْتُ الْيَمَامَةِ سُمِعَ فِي أَرْضِنَا. التِّينَةُ أَخْرَجَتْ فِجَّهَا، وَقُعَالُ الْكُرُومِ تُفِيحُ رَائِحَتَهَا. قُومِي يَا حَبِيبَتِي، يَا جَمِيلَتِي وَتَعَالَيْ." (نش 2: 10-13). وكأنه يهيب بها: إن الطبيعة كلها قد استجابت لعودة الصيف، فهل لا تستجيبين لحبي يا عروستي؟ أَتُرَى من الممكن أن يضيع هذا الاستعطاف؟ نعم، مع الأسف قد ضاع! ولكن العريس يستمر بأكثر رقة: "يَا حَمَامَتِي فِي مَحَاجِئِ الصَّخْرِ، فِي سِتْرِ الْمَعَاقِلِ، أَرِينِي وَجْهَكِ، أَسْمِعِينِي صَوْتَكِ، لأَنَّ صَوْتَكِ لَطِيفٌ وَوَجْهَكِ جَمِيلٌ" (نش 2: 14). يا للعجب! أن يتمنى الله صوتنا(*)! وأن ذاك الذي لأجلنا كان رجل الأوجاع يمكنه الآن أن يصبح رجل الأفراح بالقلوب المُحِبَّة المُكَرَّسَة له. ولكن مع أن حبه قوي ورغبته في عروسة شديدة، إلا أنه لا يستطيع أن يخطو خطوة أخرى. فهو لا يمكنه مطلقًا أن يذهب حيث هي الآن. ولكن أليس من المؤكد أن تذهب إليه؟ ألا حق له عليها؟ إنها تحِس بحبه وتفرح به، فهل تدع رغبته فيها تضيع هباء؟ ولنذكر هنا أن العروس ليست هي التي تتلهف على سيدها، بل أن العريس هو الذي يطلبها. أواه! إنه يطلبها دون جدوى.
"خُذُوا لَنَا الثَّعَالِبَ، الثَّعَالِبَ الصِّغَارَ الْمُفْسِدَةَ الْكُرُومِ، لأَنَّ كُرُومَنَا قَدْ أَقْعَلَتْ" (نش 2: 15). ويستمر العريس في ندائه: أن الأعداء قد يكونون صغارًا ولكن أذاهم كبير، وما أكثر الثعالب الصغيرة! تنازُلات صغيرة من أجل العالم؛ عدم الإصغاء إلى صوت الضمير في أمور نعتبرها تافهة؛ القليل من الانغماس في مطالِب الجسد على حساب الواجب، بعض اللباقة التي نسميها "دبلوماسية"، كذبة بيضاء في في سبيل هدف له قيمته.. وإذا بجمال الكرم وأثماره قد تلف! وأمامنا صورة مُحزِنَة لِخِدَاع الخطية في إجابة العروس، فبدلًا من أن تطفر لاستقباله، تبدأ بتطمين نفسها بِتِذْكَار وفائه ووحدتها معه: "حَبِيبِي لِي وَأَنَا لَهُ. الرَّاعِي بَيْنَ السَّوْسَنِ." (نش 2: 16)، - هذا مركزي وهو أمين، فلا داعي لأن أقلق. إنه لي وأنا له، وليست هناك قوة تستطيع أن تُغَيِّر هذه الصلة. فأنا أستطيع الآن أن أجده كلما شِئت. إنه يرعَى قطيعه بين السوسن. وما دامت الشمس مُشرقة، يمكنني أن أستمتع بنفسي في أمان بعيدًا عنه. فإن حَلَّت الظُّلْمَة أو التجربة فهو لن يخذلني: "إِلَى أَنْ يَفِيحَ النَّهَارُ وَتَنْهَزِمَ الظِّلاَلُ، ارْجعْ وَأَشْبِهْ يَا حَبِيبِي الظَّبْيَ أَوْ غُفْرَ الأَيَائِلِ عَلَى الْجِبَالِ الْمُشَعَّبَةِ." (نش 2: 17)، وهكذا تصرفه بلا مبالاتها وتطمئن نفسها بالزعم: بعد قليل يمكنني الاستمتاع بحبه! ولكن العريس المحزون يبتعد.
← انظر كتب أخرى للمؤلفة هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
يا للعروس المسكينة الجاهلة! إنها ستكتشف بعد قليل أن الأشياء التي أرْضَتها لم تَعُد كافية لإرضائها، وأنه لأسهل أن تَصُمّ أذينها عن ندائه الحنون من أن تَجِده عند غيابه. وفاح النهار وانهزمت الظلال ولكن العريس لم يَعُد، وفي دُجَی الليل اكتشفت خطأها. لقد سيطر الظلام وهي وحيدة فانزوت إلى مخدعها آمِلَة في أن يعود إليها. ولكنها لم تكن قد أدركت تمامًا أن الاندفاع وراء العالم عائِق للتواصل الكامل معه: "فِي اللَّيْلِ عَلَى فِرَاشِي طَلَبْتُ مَنْ تُحِبُّهُ نَفْسِي. طَلَبْتُهُ فَمَا وَجَدْتُهُ." (نش 3: 1). إنها تنتظر وتقلق. لقد أصبح غيابه غير مُحْتَمَل. فقالت لنفسها: "إِنِّي أَقُومُ وَأَطُوفُ فِي الْمَدِينَةِ، فِي الأَسْوَاقِ وَفِي الشَّوَارِعِ، أَطْلُبُ مَنْ تُحِبُّهُ نَفْسِي. طَلَبْتُهُ فَمَا وَجَدْتُهُ." (نش 3: 2). ما أَبْعَد موقفها الآن عما كان يمكن أن يكونه! فبدلًا من أن تبحث عنه في الظلام بمفردها، كان يمكنها أن تسير معه في ضوء الشمس الساطعة متأبطة ذراعه. أما الآن فهي تسأل حرس المدينة: "«أَرَأَيْتُمْ مَنْ تُحِبُّهُ نَفْسِي؟» فَمَا جَاوَزْتُهُمْ إِلاَّ قليلًا حَتَّى وَجَدْتُ مَنْ تُحِبُّهُ نَفْسِي" (نش 3: 3). لقد بدأت تطيع أمره "قُومِي وَتَعَالَيْ" (نش 2: 10، 13)، فقامَت في غير وَجَل وأخذت تبحث عنه في الظلام. وما أن بدأت أن تعترف بسيدها حتى وجدته وأعادها لفوره إلى خطوته. ولفرحتها تعلقت به "فَأَمْسَكْتُهُ وَلَمْ أَرْخِهِ، حَتَّى أَدْخَلْتُهُ بَيْتَ أُمِّي وَحُجْرَةَ مَنْ حَبِلَتْ بِي" (نش 3: 4)، وهكذا استُعِيد التواصل وعَاوَد الملك رجاءه: "أُحَلِّفُكُنَّ يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ بِالظِّبَاءِ وَبِأَيَائِلِ الْحَقْلِ، أَلاَّ تُيَقِّظْنَ وَلاَ تُنَبِّهْنَ الْحَبِيبَ حَتَّى يَشَاءَ." (نش 3: 5).
فَليُعْطِنَا الله جميعًا ونحن عائشون في العالم -ولكننا لسنا منه- أن نجد مسكننا في الأماكن السماوية التي رفعنا إليها السيد المسيح، وأعطانا أن نجلس فيها معه. فنحن مُرْسَلون منه إلى العالم لنكون شهودًا له. فليؤهلنا أن نكون غرباء وَنُزَلَاء على هذه الأرض، ومستعدين أن نعترف به دومًا سيدًا وربًا لنفوسنا.
_____
(*) توضيح من الموقع: كان مكتوبًا "صبتنا"، فتم تغييرها إلى "صوتنا" ليتضح المعنى (من المُمكن أن تُتَرْجَم كذلك: "رفقتنا"). والنص الإنجليزي: that GOD should desire fellowship with us.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/iris-habib-elmasry/song-of-songs/restore-communication.html
تقصير الرابط:
tak.la/z25xqnb